لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

على الرغم من معارضتي اليمين... ورعاته السياسيين اليساريين

 اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
TT

لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

 اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى

في صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، اقتحمت ناقلة جند مصفحة بوابة مقر رئاسة الحكومة البوليفية في العاصمة لاباز، وعلى متنها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال خوان خوسيه زونيغا، الذي ما إن ترجّل من الناقلة حتى وقف بين الضباط وبعض المدنيين الذين كانوا برفقته وقال: «إن حفنة من أفراد النخبة قد وضعت يدها على البلاد وأمعنت في تدميرها، لكن القوات المسلحة ستعيد تنظيم الديمقراطية، وتسترجع الوطن من الذين يتعاقبون على السلطة منذ أربعين سنة، وسنفرج عن جميع المعتقلين السياسيين من مدنيين وعسكريين. إن الجيش لا تنقصه الرجولة للاهتمام بمستقبل أطفالنا». ولكن، بينما كان «قائد الانقلاب» يصرّح أمام الصحافيين بأن تعبئة جميع الوحدات العسكرية تهدف «للإعراب عن استيائها من الأوضاع التي وصلت إليها البلاد»، مدّعياً أنه لا يزال «حتى الآن» يطيع أوامر رئيس الجمهورية لويس آرسي، إلا أنه «جاهز لاتخاذ التدابير اللازمة من أجل تغيير الحكومة». كان الرئيس آرسي يناشد المواطنين التحرك ضد الانقلابيين لمنعهم من قلب النظام الديمقراطي. وأيضاً كانت القوى والأحزاب السياسية جميعها تدين التمرد العسكري وتعلن تأييدها للرئيس حتى نهاية ولايته. وحقاً، لم تكد تنقضي ساعتان على ذلك الاقتحام حتى كانت الحشود المناهضة للمحاولة الانقلابية تملأ الساحات، والجنرال زونيغا قيد الاعتقال مع بعض الضباط الموالين له. في حين كان آرسي يعيّن قائداً جديداً للقوات المسلحة ويعلن فشل الانقلاب، محاطاً بجميع أعضاء الحكومة، ومتعهداً «قطع شهيّة الانقلابيين على التمرّد».

انقضت عشرة أيام على أقصر محاولة انقلابية شهدتها بوليفيا، التي تضرب الرقم القياسي للانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية، إذ تمرّد عسكرها مرتين على الرئيس المنتخب خلال السنوات الخمس الماضية، غير أن ملابسات هذا التمرد الأخير ما زالت غامضة، وتتقاطع فيها الاتهامات بين الرئيس الحالي و«مرشده» و«عرّابه» السياسي، الرئيس اليساري السابق إيفو موراليس... اللذين يشكّل الصراع الشخصي بينهما محور الحياة السياسية في بوليفيا منذ سنوات.

النشأة والمسيرة

وُلد لويس آرسي في أسرة بوليفية من الطبقة المتوسطة، وأنهى دراسته في المدارس الوطنية، ثم جامعة سان آندريس في العاصمة لاباز، حيث تخرّج مجازاً في العلوم الاقتصادية، ثم نال شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الأنديز بعدما كان تابعَ دراسته العليا وحاز الماجستير في الاقتصاد من جامعة ووريك البريطانية المرموقة.

بعدها، التحق آرسي بالإدارة العامة، حيث تولّى مناصب عدة في المصرف المركزي البوليفي، ممضياً معظم سنواته في الوظيفة العمومية. وبينما كان اسمه يلمع بصفته خبيراً اقتصادياً ومالياً ويتولّى مسؤوليات حساسة في المصرف المركزي، فإنه راح أيضاً يكتسب شهرة على الصعيدَين المحلي والدولي مُحاضراً في عدد من الجامعات البوليفية والأجنبية، ومنها كولومبيا، وهارفارد، وجورجتاون في الولايات المتحدة، وبوينوس آيرس في الأرجنتين.

السياسة والوزارة

دقّت ساعة دخول لويس آرسي المعترك السياسي مطالع عام 2006 يوم تعيينه وزيراً للمال في حكومة إيفو موراليس، أول رئيس من السكان الأصليين في تاريخ أميركا اللاتينية - وهو من شعب الآيمارا -. ثم عاد وتولّى بعد ذلك بثلاث سنوات حقيبة الاقتصاد والمال الجديدة، وفي حينه وصفته وسائل الإعلام الدولية المتخصصة بأنه «صانع المعجزة الاقتصادية البوليفية»، كما اختاره «منتدى خبراء الاقتصاد والمال في أميركا اللاتينية» عام 2011 من بين أفضل 10 وزراء للاقتصاد في تاريخ المنطقة.

وكانت بين أبرز التدابير التي اتخذها آرسي، وأسهمت في النمو الاقتصادي الذي شهدته بوليفيا، سلسلة المحفّزات لتشجيع السوق المحلية، وتحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة الوطنية، وسياسات التصنيع المستندة إلى الموارد الطبيعية الوطنية ضمن إطار إنمائي اجتماعي وإنتاجي يعطي الأولوية للسوق والموارد المحلية. وبالفعل، بفضل هذه السياسات تمكّنت بوليفيا من خفض مستوى الفقر لسكانها من 38 في المائة إلى 15 في المائة، وفق بيانات برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ما سمح بظهور طبقة متوسطة واسعة بين السكان الأصليين الذين يشكّلون 42 في المائة من مجموع السكان.

وأيضاً، استفاد آرسي من ارتفاع أسعار المواد الأولية في السوق الدولية، الأمر الذي سمح لبوليفيا بتحقيق نمو اقتصادي متوسطه السنوي 5 في المائة إبان فترة توليه وزارة الاقتصاد والمال. وعندما تراجعت أسعار المواد الأولية قرّر آرسي زيادة الإنفاق العام للتعويض عن انخفاض الصادرات، فأتاح للاقتصاد البوليفي مواصلة النمو بينما كانت الاقتصادات الأخرى في أميركا اللاتينية تتراجع. إلا أن تلك الاستراتيجية السياسية التي أطلق البعض عليها مسمى «سياسة الهروب إلى الأمام»، تسبّبت في ارتفاع العجز المالي العام وانخفاض احتياطي العملات الصعبة.

المرض والاستقالة

في أواسط عام 2017 اضطر لويس آرسي للاستقالة من منصبه؛ بسبب إصابته بسرطان في الكلية، وأمضى فترة سنتين يتلقى العلاج في البرازيل قبل أن يعود عام 2019 ليتولى مجدّداً وزارة الاقتصاد والمال. ومن ثم، في العام التالي اختاره حزب «الحركة من أجل الاشتراكية» اليساري مرشحاً عنه للانتخابات الرئاسية التي فاز فيها من الدورة الأولى. والواقع أن اختياره مرشحاً عن اليسار جاء بقرار من موراليس، الذي اضطر للفرار من بوليفيا بعد انتخابات عام 2019، وذلك على الرغم من اعتراض التنظيمات المحلية والقطاعية في التيار التي كانت تفضّل ترشيح وزير الخارجية السابق دافيد تشوكيوانكا، الذي اختاره آرسي نائباً له. بيد أن موراليس تمكّن من فرض رأيه على القاعدة، وفرض اختيار آرسي مع أنه لم يكن قد انضم إلى التيار سوى في عام 2005.

وللعلم، بعد تسلّم آرسي رئاسة الجمهورية في نوفمبر (تشرين الثاني)2021 كشفت معلومات سرّيّة لاحقاً عن أن وزير الدفاع (آنذاك) حاول مع بعض الضباط إجهاض توليّه الرئاسة، لكنه فشل في محاولته بعد اعتراض القيادات العسكرية ومعظم الأحزاب السياسية على المحاولة.

سياسات الرئيس

من القرارات الأولى التي اتخذها آرسي بعد توليه رئاسة الجمهورية، إعادة العلاقات الدبلوماسية مع حكومة نيكولاس مادورو الفنزويلية اليسارية التي كانت قرّرت قطعها الرئيسة اليمينية السابقة جانين آنيز، المعتقلة حالياً، كما أعاد العلاقات مع إيران، وفرض على مواطني الولايات المتحدة وإسرائيل شرط الحصول على تأشيرة لدخول بوليفيا بعدما كانت قد ألغته الحكومة السابقة. وكذلك، قرّر عودة بلاده للمشاركة في عديد من المؤسسات والمنظمات الإقليمية التي كانت حكومة آنيز قد قررت تعليق نشاطها فيها.

وعلى صعيد التدابير الاجتماعية البارزة، اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت، وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى. وأعاد قرضاً إلى صندوق النقد الدولي بقيمة 350 مليون دولار لاعتباره أنه كان مربوطاً بشروط تنتهك سيادة البلاد ومصالحها الاقتصادية.

ولكن في موازاة ذلك، انخفض إنتاج بوليفيا من الغاز الطبيعي الذي يشكّل عماد الصادرات الوطنية، وذلك لنقص الاستثمارات في البُنى التحتية اللازمة لاستخراجه وتسويقه. ولذا كثّف الجهود التصنيعية المحلية للحدّ من الاستيراد، ولتنويع مصادر الدخل القومي، مركزاً على مادة الليثيوم الاستراتيجية التي تملك بوليفيا أكبر احتياطي منها في العالم.

في عام 2022 سجلت بوليفيا أدنى نسبة تضخم في أميركا اللاتينية، ما أسهم في زيادة شعبية آرسي بين الطبقات الفقيرة مثل الفلاحين وعمال المناجم والسكان الأصليين، غير أن شعبيته كانت تنحسر في المقابل لدى الطبقات الأخرى والقوى الفاعلة، كالنخبة المالية والاقتصادية والكنيسة والجامعات والروابط المهنية ووسائل الإعلام الكبرى. وللعلم، في خريف عام 2021 كانت المعارضة قد نظّمت سلسلة من المظاهرات احتجاجاً على مشروع قانون «مكافحة تمويل الأنشطة غير المشروعة وتبييض رؤوس الأموال»، الذي رأى فيه القطاع غير المنتظم - ويضمّ أكثر من نصف اليد العاملة في البلاد - ذريعةً لمراقبة أنشطته. وتلت ذلك حملة واسعة شاركت فيها أطياف المعارضة جميعها؛ لقطع طرق المواصلات الرئيسة لفترة غير محدودة بهدف شل الحركة الاقتصادية، لا سيما في المراكز الصناعية الكبرى. وبالتالي، أمام تفاقم الوضع وحدوث مواجهات عنيفة، قررت الحكومة سحب مشروع القانون.

وعادت المعارضة في العام التالي لتنظيم مزيد من الاحتجاجات التي أدت إلى مواجهات دامية، واعتداءات على منظمات اجتماعية وهيئات عمالية مؤيدة للحكومة، خصوصاً، في مناطق السكان الأصليين.لكن متاعب آرسي لم تقتصر على الاحتجاجات المُمنهجة التي كانت تنظمها المعارضة، بل وصلت أيضاً إلى الدائرة السياسية التي رشّحته للانتخابات وكانت وراء وصوله إلى الرئاسة. ففي أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي قرّرت الهيئة التنفيذية لحزب «الحركة من أجل الاشتراكية» التي يرأسها إيفو موراليس طرد آرسي من الحزب لرفضه حضور المؤتمر الذي عقده ذلك العام، وبدأت تظهر علامات الانشقاق داخل التيّار اليساري بين مؤيدين للرئيس السابق، وأنصار الرئيس الحالي الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «كتلة التجديد»، والذين يتهمهم الحزب بخيانة مبادئه السياسية ومؤسسه موراليس.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)

خلافاً للانتخابات الرئاسية التونسية السابقة، التي تنافس في دورتها الأولى قبل خمس سنوات 26 شخصية وأسفرت في دورتها الثانية عن فوز قيس سعيّد، لا تتضمن قائمة المرشحين الرسميين هذه المرة إلا ثلاثة أسماء، هم: الرئيس الحالي سعيّد والبرلمانيان السابقان زهير المغزاوي (الأمين العام لحزب الشعب) «العروبي الناصري» (59 سنة) ورجل الأعمال المهندس الليبرالي العياشي زمال (47 سنة). وعلى غرار ما سجل في انتخابات 2019، التي شارك رجل الأعمال نبيل القروي في دورها الأول وهو في السجن، يستمر إيقاف العياشي زمال المرشح «المعتمد رسمياً» الذي أصدرت محاكم عديدة ضده أحكاماً بالسجن بتهمة «تزييف تزكيات الناخبين».

في هذه الأثناء، أكّد القاضي فاروق بوعسكر، رئيس «الهيئة العليا للانتخابات» ومحمد التليلي المنصري الناطق الرسمي باسمها، أن اسم زمال سيظل مُدرجاً في قوائم المرشحين وسيعرض على الـ9 ملايين و700 ألف ناخب المرسّمين في القوائم الرسمية. وما يجدر ذكره هنا أن «الهيئة» كانت قد أسقطت رسمياً 3 مرشحين بارزين أعادتهم «الجلسة العامة للمحكمة الإدارية» للسباق، هم على التوالي: المنذر الزنادي، وزير التجارة والسياحة والنقل والصحة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعبد اللطيف المكي، وزير الصحة لفترتين في العشرية الماضية، وعماد الدايمي، الوزير والبرلماني السابق ما بين 2011 و2019.

معارك قانونية وسياسية

بعد اختلاط الأمور و«الأجندات»، تباينت التقييمات داخل النخب والأوساط الدبلوماسية والسياسية في تونس للعملية الانتخابية الحالية، التي أعلن رسمياً أنها انطلقت يوم 14 يوليو (تموز) الماضي.

فقد انتقد قياديون في «الاتحاد العام التونسي للشغل» بينهم أمينه العام نور الدين الطبوبي، وفي «منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان» بينهم رئيسها المحامي سامي الطريفي، «المناخ السياسي والإعلامي والحقوقي في البلاد»، واعتبروا أنه «غير ملائم لتنظيم انتخابات تعدّدية نزيهة وفق المقاييس الدولية»، خلافاً لمناخ انتخابات 2014 و2019. ولفت سامي الطاهري، الناطق الرسمي باسم «الاتحاد العام التونسي للشغل» - الذي يعدّ أكبر قوة نقابية وسياسية في تونس - خصوصاً إلى «الأجواء التي تجري فيها العملية الانتخابية»، وذلك إثر استبعاد عشرات من زعماء المعارضة والنشطاء المستقلين بسبب إيقافهم وفتح قضايا أمنية عدلية ضدهم بتهم خطيرة، بينها «التآمر على أمن الدولة» و«الفساد».

كذلك، لوّحت بلاغات رسمية باسم اتحاد النقابات بـ«سيناريو» تنظيم إضراب عام في البلاد للضغط على السلطات.

قضايا التآمر على أمن الدولة

في سياق متصل، كشف المحامي والأكاديمي اليساري والوزير السابق عبد الوهاب معطر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن نحو 15 قضية «تآمر على أمن الدولة» فُتحت ضد شخصيات سياسية محسوبة على المعارضة، بعضها كان معنياً بالترشح للانتخابات.

في الوقت نفسه، قال المحامي عبد الرؤوف العيادي، زعيم حزب «وفاء»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن الإيقافات والتحقيقات شملت خلال الأشهر الماضية عشرات من أبرز السياسيين وحرمتهم من فرصة الترشح، وعدّد بين هؤلاء: القيادي في «جبهة الخلاص» المعارضة جوهر بن مبارك، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي الوزير غازي الشواشي، والمدير التنفيذي لحزب «أمل» ومدير مكتب رئاسة الجمهورية سابقاً الوزير رضا بالحاج، إلى جانب عدد من القياديين في أحزاب «حركة النهضة» (إسلامي محافظ) و«قلب تونس» (ليبرالي) وائتلاف «الكرامة» (محافظ) وحزب «حراك تونس – الإرادة» (الذي يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) وحزب المؤتمر (الذي يتزعمه المحامي والوزير السابق سمير بن عمر).

أيضاً، انتقد حسام الحامي منسّق «ائتلاف صمود»، وهو تكتل للمعارضين اليساريين، رفض ترشّحات 14 شخصية سياسية وأكاديمية ممّن قدّموا رسمياً ملفاتهم للهيئة العليا للانتخابات، وجرى استبعادهم لأسباب «إجرائية» عدة، بينها عدم تقديم نسخة من بطاقة السوابق العدلية أو وثائق تثبت أنه وقع تزكيتهم من قبل 10 آلاف ناخب أو من قِبل 10 أعضاء في البرلمان.

وفي سياق متصل، كان بين المستبعدين لهذه الأسباب رئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي، والإعلامي والسياسي المخضرم الصافي سعيد والوزير السابق للتعليم المثير للجدل والناشط اليساري ناجي جلول.

أما المحامية عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحرّ، فقد استُبعدت بسبب تعرضها للإيقاف منذ سنة، إثر تحركات شاركت فيها رفقة عشرات من كوادر حزبها، واتهمت السلطات منظميها بـ«تهديد الأمن العام».

هذا، ولم تسفر المظاهرات التي نظمها أخيراً آلاف من أنصار هذا الحزب ومن ممثلي «الشبكة التونسية للحقوق والحرّيات» - التي تضم عشرات المنظمات والشخصية المستقلة والحزبية - عن الإفراج عن غالبية الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

كذلك فشلت ضغوط المعارضة في تغيير شروط الترشح للانتخابات، بل العكس هو الذي حصل، على حد تعبير المحامية والناشطة السياسية اليسارية دلية مصدق بن مبارك والحقوقي شاكر الحوكي والأكاديمية والناشطة النسوية اليسارية سناء بن عاشور.

معارك قضائية وسياسية

من جهة ثانية، في سياق التسارع الكبير للأحداث، فجّر السباق نحو قصر الرئاسة هذا العام سلسلة معقّدة من المعارك القانونية والقضائية والسياسية داخل البلاد، وفي أوساط الجالية التونسية في الخارج، التي تقدر بنحو مليونين، أي خُمس المواطنين.

ومن أبرز أسباب هذه المعارك، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية شاكر الحوكي، رفض «الهيئة العليا للانتخابات» تنفيذ قرار «نهائي وغير قابل للطعن» أصدرته الجلسة العامة للمحكمة الإدارية التي تضم 27 قاضياً من «أعلى رتبة» بينهم الرئيس الأول للمحكمة. ولقد نصّ هذا القرار على «قانونية ترشح الوزراء الثلاثة السابقين منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي وعماد الدايمي بعد قبول طعنهم في قرار إقصائهم» من قِبل ممثلي السلطة الانتخابية برئاسة القاضي فاروق بوعسكر.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الانخراط في هذه المعركة عبر الانحياز لموقف المحكمة الإدارية و«علوية قراراتها» شمل عشرات من أساتذة القانون والعلوم السياسية وعمداء الكليات وقادة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وهيئات نقابات المحامين والقضاة والصحافيين ومنظمات حقوقية عديدة.

وفي الإطار عينه، رفع عدد من الحقوقيين بينهم القاضي السابق والمحامي أحمد صواب والإعلامي والناشط السياسي زياد الهاني قضايا عدلية أمام محكمة تونسية ضد «الهيئة العليا للانتخابات»، وشكّك صواب والهاني في استقلالية رئاسة «الهيئة» وحياديتها، طالباً من القضاء استصدار قرار ينص على «إلزامية تنفيذ قرار الجلسة العامة للمحكمة الإدارية وقضاتها الـ27» حيال الزنايدي والدايمي والمكي.

واعتبر صواب في تصريح لـ«لشرق الأوسط» أن «المحكمة الإدارية» أعلى سلطة في النزاعات الانتخابية في ظل غياب «المحكمة الدستورية»، وهي المكلفة البت في الخلافات بين المرشحين للانتخابات وسلطات الإشراف وبينها «الهيئة العليا للانتخابات». أما الهاني، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عبد السلام قريصيعة وأعضاء المحكمة الـ27 مطالبون قانوناً بضمان توسيع قائمة المرشحين، وإن لزم الأمر عبر مراجعة روزنامة الانتخابات، أي تأجيل موعد الاقتراع العام».

ناخبة تونسية داخل مركز اقتراع (آ ف ب)

اتهامات... ومحاكمات

في هذه الأثناء، شنّ برلمانيون مقرّبون من السلطات ومن فريق الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيّد حملة إعلامية ضد المعارضين الذين تحرّكوا في الكواليس ونظموا مظاهرات في الشوارع للمطالبة بتوسيع قائمة المرشحين في الانتخابات لتشمل «وزراء وشخصيات من المتهمين بالتآمر على أمن الدولة».

واتّهم هؤلاء، وبينهم البرلمانية سيرين مرابط والناشط السياسي اليساري السابق رياض جراد، بعض معارضي الرئيس سعيّد بالخيانة الوطنية و«محاولة توظيف أجواء العملية الانتخابية الحالية لتمرير مخطّطات وصاية أجنبية على البلاد، بالتعاون مع عدد من نشطاء الجمعيات والأحزاب التي تحصل على تمويلات أجنبية قدّرت قيمتها بمئات مليارات من المليمات».

كذلك، قدّم 34 نائباً من أعضاء مجلس النواب مشروع تعديل «استعجالي» للقانون الانتخابي الصادر عام 2014؛ بهدف إحالة مهمة البت في «النزاعات الانتخابية» إلى المحاكم العدلية العادية لا المحكمة الإدارية، التي لا تخضع إدارياً إلى سلطة وزارة العدل ورئاسة النيابة العمومية وتتمتع باستقلالية نسبية.

من جانبه، نشر الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية تصريحات عديدة للرئيس سعيّد شكّك فيها في «وطنية» عدد من المعارضين، واتهمهم «بالحصول على تمويلات أجنبية ضخمة وبالانخراط ضمن» مؤامرة «تستهدف أمن البلاد واستقرارها».

وشكك البلاغ الانتخابي لسعيّد في صدقية منظمي التحركات الاحتجاجية على المسار الانتخابي والسياسي الحالي في الشارع وفي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية. واتهم البلاغ هؤلاء المعارضين وبعض المرشحين «الافتراضيين» للرئاسة بـ«التبعية للخارج» وأنصارهم بكونهم «تحالف الأضداد». وأورد سعيّد على هامش اجتماعات عقدها مع وزيري الداخلية خالد النوري والعدل ليلى جفّال أن السلطات سمحت للمعارضين بتنظيم مسيرات رفعوا خلالها شعاراتهم بكل حرية «حمتها قوات الأمن»، على الرغم من كونها جمعت «خصوم الأمس» و«الأفرقاء».

فوز متوقع في انتخابات الغد للرئيس قيس سعيّد (أ ف ب/غيتي)

بدء العد التنازلي؟

وإذ ترجّح موازين القوى السياسية الحالية في تونس فوز الرئيس سعيّد بعهدة ثانية تمتد إلى 2029، تشهد كواليس السياسيين صراعاً بين تيارين كبيرين:

الأول يدعو إلى المقاطعة، وهو يضم القيادي المعارض أحمد نجيب الشابي وساسة بارزين حثّوا على مقاطعة الانتخابات، والتأهب لمعارك سياسية وإعلامية جديدة توقعوا أن تكون لصالح المعارضين، وتبدأ بعد «محطة» 6 أكتوبر التي يتوقعون أن تكون نسبة المشاركة فيها ضعيفة جداً على غرار انتخابات العامين الماضيين.

أما الآخر فيدعو إلى المشاركة بكثافة، وبين شخصياته ساسة وحقوقيون قريبون من جبهة الخلاص المعارضة، كالمحامية اليسارية دليلة مصدق بن مبارك، والحقوقية شيماء عيسى والزعيم اليساري السابق الوزير محمد عبو.