ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

وسط تخوّف القاصي والداني من انتصار كبير لليمين المتطرف

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
TT

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

لا يخفى على أحد مصدر القلق في العاصمة الألمانية برلين من النتائج المحتملة للانتخابات النيابية الفرنسية. فأولاً، هناك الثقل الذي تمثله فرنسا باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي. وثانياً، فرنسا هي عضو الاتحاد الأوروبي الدائم الوحيد في مجلس الأمن الدولي المتمتع بحق النقض (الفيتو). وثالثاً لأنها تمتلك وحدها القوة النووية.

فضلاً عما سبق، لطالما شكّل محور برلين - باريس الحاضنة للمشروع الأوروبي الذي جاء لقلب سنوات الحروب بين البلدين. وطيلة العقود المنصرمة، شكّل «الثنائي» الألماني - الفرنسي القاطرة التي دفعته إلى الأمام، وأفضت به لأن يضم راهناً 27 دولة أوروبية ويتأهب لفتح ذراعيه أمام أوكرانيا ومولدوفا، وثمة مجموعة دول أوروبية أخرى تنتظر أن يفتح لها الباب لولوج جنة الاتحاد.

القفز إلى المجهول

هذا ليست المرة الأولى التي قرّر فيها رئيس فرنسي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة»، فعل ذلك مرتين، وسار على دربه الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، وتبعه خليفته في قصر الإليزيه، جاك شيراك.

إلا أن ثمة فروقاً تجعل الوضع الراهن مختلفاً إلى حد كبير مع ما عرفته فرنسا في السابق. فخلال العقود المنصرمة، كانت الانتخابات تفضي إمّا إلى فوز اليمين التقليدي متحالفاً مع الوسط أو اليسار المسمّى «حكومي» وعَصَبه الحزب الاشتراكي. وعند فوز الأخير بالرئاسة للمرة الأولى في العام 1981، بناءً على «برنامج حُكم مشترك» يضم كل تلاوين اليسار، بما في ذلك الحزب الشيوعي، لم يتردّد ميتران في ضم وزيرين شيوعيين إلى حكومته مع أن فرنسا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والعالم غارق وقتها في «الحرب الباردة».

ولكن، رغم ذلك، سارت الأمور بسلاسة وبعيداً عن الهزّات لا في الداخل ولا في الخارج.

بعكس ذلك، أحدث قرار ماكرون زلزالاً سياسياً ستكون له تبعات لعقود على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فرنسا. واللافت، أن أقرب المقرّبين من ماكرون، مثل رئيس الحكومة غبريال أتال ورئيسة مجلس النواب يائيل براون - بيفيه وشركائه في السلطة ورئيس حكومته السابق أدوار فيليب... كلهم صبّوا جام غضبهم على قراره لأنه «غير مبرّر»، ولأن لا شيء كان يُلزمه بحل البرلمان، وبالأخص، بعد نجاح منقطع النظير لحزب «التجمع الوطني» في الانتخابات الأوروبية حين حصد ضِعفي ما حصل عليه تحالف الأحزاب الثلاثة الداعمة للعهد والحكومة، أي «تجدد» و«الحركة الديمقراطية» و«هورايزون».

زعيم جبهة اليسار جان لوك ميلونشون (آ ف ب)

قرار ماكرون أحدث صدمة عامة. ولذا؛ سعى غير مرة، لشرح دوافعه وإقناع مواطنيه بصوابية قراره من غير أن يفلح. إذ بينت تقارير صحافية أنه اتخذ قراره بعيداً عن أي تشاور ضارباً عرض الحائط بما ينصّ عليه الدستور، الذي يفرض عليه التشاور مع رئيسي مجلسي النواب والشيوخ، مكتفياً بـ«نصائح» مجموعة ضيقة قريبة من المقربين منه.

رهانات ماكرون الخاطئة

لقد بدا واضحاً في الأيام القليلة التي انقضت بعد حل البرلمان، أن «رهانات» الرئيس الفرنسي جاءت خاطئة. ولفهم قراره، تتعين الإشارة إلى أن الانتخابات النيابية (التشريعية) السابقة لم تعط ماكرون سوى أكثرية نسبية في البرلمان، بعكس ما كانت عليه الأمور في ولايته السابقة حين تمتعت حكوماته المتعاقبة بأكثريات فضفاضة صادقت على كل مشاريع القوانين التي قُدّمت إلى البرلمان.

وحقاً، خلال السنتين المنصرمتين من ولايته الثانية، كان على حكومة إليزابيث بورن ثم حكومة غبرييل أتال التفاوض والمساومة، أحياناً مع اليمين وأحياناً أخرى مع اليسار و«الخضر»، لتوفير الأكثرية اللازمة. وكان «سيف» سحب الثقة منها دائماً قريباً من عنقها لدرجة أنه كان يمكن أن تسقط في حال توافقت المعارضة يميناً ويساراً على التخلص منها.

ولكن رغم هشاشة الوضع السياسي، انقضت سنتان من عمر العهد واستمرت الحياة السياسية على وتيرتها المعتادة. ومن هنا، فإن المحللين السياسيين اعتبروا بادرة ماكرون «متهوّرة» وقائمة على حسابات غير دقيقة. لا، بل إن كثيرين قارنوا بين ما حصل في ألمانيا، حيث حصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على النسبة نفسها التي حصل عليها تحالف أحزاب ماكرون، ومع ذلك، لم ينخرط المستشار أولاف شولتس في مغامرة شبيهة بمغامرة ماكرون رداً على القفزة الانتخابية الكبيرة التي حققها حزب «البديل» اليميني المتطرف. وها هي الحياة السياسية في ألمانيا قد عادت إلى سابق عهدها بانتظار الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

جوردان بارديلا... مرشح اليمين المتطرف لرئاسة الحكومة العتيدة (رويترز)

أزمة نظام

يقول العارفون إن ماكرون راهن - في قراره - على أمرين: الأول، الانقسامات العميقة داخل اليسار الفرنسي بين حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون من جهة، وبين المكوّنات الأخرى من جهة ثانية... وتحديداً الحزب الاشتراكي و«الخضر». والآخر، ضَعف اليمين الفرنسي التقليدي ممثلاً بحزب «الجمهوريون» - وريث الديغولية -، واعتباره أن ثمة فرصة لتشكيل «ائتلاف وسطي» يضم الأحزاب الثلاثة الداعمة له تقليدياً، والتي يمكن أن ينضم إليها مرشحون قادمون من اليسار المعتدل ومن اليمين التقليدي.

غير أن الرهانين سقطا: فاليسار نجح خلال زمن قياسي في طي صفحة الخلافات وتشكيل «جبهة شعبية جديدة» مع برنامج انتخابي محدّد. أما اليمين التقليدي، فإن رئيسه أريك سيوتي التحق باليمين المتطرف، في حين رفض أركانه المتبقّون العرض الرئاسي. ثم أن ستيفان سيجورنيه، وزير الخارجية ورئيس حزب ماكرون المسمّى «تجدد»، سارع إلى الإعلان عن أن «الائتلاف الوسطي» سيمتنع عن تقديم منافسين لمرشحي اليمين «الوسطيين» لتسهيل إعادة انتخابهم ولتشجيعهم لاحقاً للتعاون في حكومة قادمة.

خلال الأيام العشرين المنقضية منذ حلّ البرلمان، كانت الدعاية الرئاسية (أي... الرئيس ماكرون نفسه) تركّز على التخويف من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وأيضاً على إبراز التناقضات داخل اليسار، وخصوصاً على «التهويل» بسيطرة حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد عليه... فضلاً عن التنديد بزعيمه ميلونشون الذي اتهمته الدعاية الرئاسية بـ«معاداة السامية» بسبب مواقفه من الحرب الإسرائيلية على غزة. وبالفعل، تحوّل هذا الاتهام «لازمة»... تتكرّر إلى ما لا نهاية في التجمعات الانتخابية وعلى شاشات التلفزيون.

أنا... أو «الحرب الأهلية»

وهكذا، رست صورة الوضع السياسي في فرنسا على الصورة التالية: ثمة ثلاث مجموعات سياسية تتقدمها مجموعة اليمين المتطرف - أي «التجمع الوطني» - بزعامة مارين لوبن ورئاسة جوردان بارديلا (مرشح «التجمع» لرئاسة الحكومة) التي ترجّح استطلاعات الرأي المتعاقبة على حصولها على 35 في المائة من الأصوات. المرتبة الثانية تحتلها وفق الاستطلاعات «الجبهة الشعبية الجديدة» (اليسار) التي تتأرجح نسبة أصواتها حول 30 في المائة. أما «الائتلاف الوسطي» فقد عجز عن تخطي عتبة الـ20 في المائة.

بيد أن ترجمة هذه النسب إلى مقاعد في البرلمان القادم تبدو بالغة الصعوبة بالنسبة إلى المؤسسات المتخصصة؛ نظراً للنظام الانتخابي القائم على الدائرة الصغرى. إذ تضم فرنسا 577 دائرة انتخابية لكل منها معطياتها الخاصة، لكن المرجح وفق المعطيات المتوافرة حتى اليوم، أن أياً من المجموعات الثلاث لن تحصل على الأكثرية المطلقة في البرلمان القادم (289 نائباً). وبما أنه يصعب توقع تحالف أي مجموعتين من المجموعات الثلاث للحكم معاً، فإن تشكيل حكومة قادرة على حيازة ثقة البرلمان وتمرير القوانين وقيادة البلاد للسنوات الثلاث المتبقية للرئيس ماكرون في الإليزيه، سيكون بمثابة معجزة.

ينص الدستور الفرنسي على أنه لا يحق لرئيس الجمهورية أن يحل البرلمان مرة جديدة إلا بعد مرور سنة على حله للمرة الأولى. وهذا يعني أن ماكرون سيكون مقيد اليدين وعاجزاً عملياً عن إيجاد أكثرية برلمانية مطلقة أو أكثرية نسبية لن يحصل عليها بسبب طغيان اليمين المتطرف و«الجبهة الشعبية الجديدة». وهنا يبدو واضحاً أن فرنسا تسير باتجاه أزمة حقيقية، أبعد من أزمة سياسية. بل هي بالأحرى «أزمة نظام» بسبب الانسداد السياسي المتجهة إليه بسرعة... إلا في حال فوز اليمين المتطرف بالأكثرية المطلقة، وهذا أمر قد يحصل وفق عدد من المحللين.

في رسالة مكتوبة وجهها ماكرون إلى الفرنسيين بداية الأسبوع من خلال الصحافة الإقليمية، فإنه ركّز على أمرين: أحدهما أن برنامج الحكم لليمين المتطرف، ولما يسميه «اليسار المتطرف»، سيشرع الباب أمام فرنسا لولوج أزمات متنوعة. والآخر التأكيد أن لا خلاص لها إلا بتمكين «ائتلاف الوسط» من الحصول على الأكثرية.

بيد أن الرئيس ذهب في اليوم التالي أبعد من ذلك؛ إذ حذر في «بودكاست» من انزلاق فرنسا نحو «الحرب الأهلية» في حال وصل حزب «التجمع الوطني» أو حزب «فرنسا الأبية» (من خلال «الجبهة الشعبية الجديدة») إلى الحكم. فاليمين المتطرف، كما قال، يصنّف المواطنين وفق ديانتهم وأصلهم بينما «فرنسا الأبية» يتبع «نهجاً طوائفياً».

هذا التنبيه استدعى ردود فعل عنيفة اتهمت الرئيس بـ«اللامسؤولية»؛ إذ قال بارديلا إنه «لا يجوز أن يصدر عن رئيس للجمهورية مثل هذا القول»، في حين اتهمه ميلونشون بـ«السعي دوماً لإشعال النار». كذلك، أثار هذا الكلام استغراباً شديداً حتى في صفوف «الماكرونية»؛ إذ اتهمه أحد نوابها بأنه «فقد بوصلته السياسية» وأنه يسعى لإخافة المواطنين المتقدمين في السن لدفعهم للعودة إلى أحضان حزبه.

والواقع، أن استطلاعات الرأي تبيّن أن الانتخابات القادمة ستشكل نوعاً من الاستفتاء على اسم ماكرون الذي أمضى في الحكم، حتى اليوم، سبع سنوات. كما أنها مرجّح أن تفضي الانتخابات إلى مجلس نيابي تحكمه الفوضى بسبب هشاشة السيناريوهات الحكومية التي قد تكون متاحة بناء على نتائج الانتخابات.

...وأخيراً، ثمة أحجية على ماكرون و«ائتلاف الوسط» حلها، وهي تتناول الجولة الانتخابية الثانية يوم الأحد 7 يوليو (تموز)، ومضمون «النصيحة» التي سيقدّمانها لناخبيهما في حال انحصر التنافس بين مرشح يميني متطرف وآخر من «الجبهة الشعبية الجديدة»... وما الذي سيتعين عليهم اختياره «ما بين الكوليرا والطاعون»!


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.