جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف

احترف السياسة باكراً وتبنّى استراتيجيات انتهازية للوصول إلى دوائر النفوذ

جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف
TT

جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف

جوردان بارديلا.... الورقة الرابحة لليمين الفرنسي المتطرّف

فوز حزب «التجمع الوطني» الفرنسي في الانتخابات الأوروبية، التي أجريت أخيراً، باللائحة التي قادها رئيسه جوردان بارديلا لم يكن يحمل أي مفاجأة. والسبب هو أنه منذ أشهر عدة توقّعت كل معاهد الإحصاء ومؤسسات استطلاع الرأي في فرنسا فوز المرشح الشاب، الذي أصبح في ظرف أشهر قليلة، على الرغم من قلة خبرته من أكثر الشخصيات السياسية الفرنسية شعبية، ونجماً من نجوم أبرز منصّات التواصل الاجتماعي، وخاصة منصة «تيك توك».

ولد جوردان بارديلا يوم 13 من شهر سبتمبر (أيلول) عام 1995 في ضاحية درانسي بشمال شرقي العاصمة الفرنسية باريس. وهناك عاش مع والدته ذات الأصول الإيطالية، التي كانت عاملة بسيطة في مدرسة ابتدائية. أما والده فصاحب شركة لتوزيع آلات بيع المشروبات وهو يتحدّر من أصول إيطالية وجزائرية؛ إذ إن أمه – أي جدّة جوردان - راجان مادا ابنة مهاجر جزائري من منطقة القبائل بشمال الجزائر إلى الشرق من الجزائر العاصمة.

النشأة والمسيرة

عاش جوردان بارديلا معظم الوقت مع والدته وجدته بعد طلاق والديه. ولقد تلقى تعليمه في المدارس الخاصّة وحاول الالتحاق بالمعهد العالي للعلوم السياسية «سيانس بو» المرموق بعد حصوله على البكالوريا، غير أنه فشل في مسابقة الدخول مرتين. ومن ثم، أوقف دراسته الجامعية في تخصّص الجغرافيا بعد سنة فقط، ليتفرّغ بصفة نهائية للسياسة من دون أن يحصل على أي شهادة جامعية. والواقع أن رئيس حزب «التجمع الوطني» - الذي هو عملياً الوريث السياسي لحزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف - قد بدأ نشاطه السياسي وهو لا يزال في سن السادسة عشرة. وفي أعقاب التحاقه بصفوف الحزب، تسلّق سلم المسؤوليات بسرعة فائقة؛ إذ اختير بارديلا مساعد نائب في البرلمان عام 2015، ثم عُيّن ناطقاً باسم الحزب بين العامين 2017 و2019.

الصعود السريع

المحطة التالية لجوردان بارديلا تمثلت بدخوله معترك الانتخابات الأوروبية لأول مرة في العام 2019، وفي حينه ما كان يتعدى عمره الثالثة والعشرين. ويومذاك، فاز بمقعد نيابي في البرلمان الأوروبي ليصبح أصغر نائب في تاريخ البرلمان الأوروبي. وبعد ذلك اختير ليكون نائب رئيسة «التجمع الوطني» مارين لوبان عام 2022، بعدما اضطرت إلى الانسحاب بسبب مشاركتها في الانتخابات الرئاسية، وبعد فشلها الذريع في تلك الانتخابات واتهامها بالتورّط في قضية اختلاس أموال عامة؛ الأمر الذي كان من شأنه جعلها غير مؤهلة للترشح. وفي السنة ذاتها، واصل السياسي الشاب الطموح صعوده الصاروخي مع اختياره رئيساً للحزب خلفاً لمارين لوبان التي هي ابنة السياسي المخضرم جان ماري لوبان مؤسس حزب «الجبهة الوطنية» وعميده.

الورقة الرابحة لليمين المتطرف

تقارير صحافية عدة أكدّت أن قرار اختيار جوردان بارديلا رئيساً لـ«التجمع الوطني» كان نابعاً من مارين لوبان نفسها. ذلك أن الرئيسة السابقة للحزب اليميني المتطرف معجبة جداً بطموح هذا الشاب وذكائه، حتى أنها لم تتردّد في وصفه بـ«الحيوان السياسي» حين سألها أحد الصحافيين عن رأيها فيه.

وأيضاً، في مناسبات عدة ظهرت لوبان وهي تعامل «تلميذها» كالأم الحنون؛ إذ شوهدت، مثلاً، في تحقيق تلفزيوني وهي تنصحه بتناول السكّريات قبل انطلاق المؤتمر لشحن الطاقة، أو وهي تمازحه بينما يتمرّن على الخطاب الذي سيلقيه.

بل أنها، حسب شهادة الصحافي بيار ستيفان فور في كتابه «البديل الكبير... أو الوجه الخفي لبارديلا»، كانت قد سجلّته في هاتفها الجوال تحت اسم «الليث الصغير» ثم «الأسد» بعد فوزه في انتخابات العام 2019. وأضاف المصدر نفسه القول إن العلاقة التي تجمع بين الاثنين هي بمثابة «علبة سوداء» فيها، بالتأكيد، شيء من العاطفة، لكنها تظل مسألة «مصلحة سياسية مشتركة» قبل كل شيء. وتابع المصدر أن كلاً من لوبان وبارديلا يحتاج إلى الآخر... وكلاهما يكمل الأخر. فهو نجح في الوصول إلى شرائح ناخبين كانت هي قد فشلت في الوصول إليها كالناخبين الشباب وأبناء الطبقة المتوسطة وسكان الضواحي... وفي الوقت عينه، تظل هي زعيمة الحزب ولا يمر قرار إلا بموافقتها. ولكن النقطة الأهم، على الإطلاق، هي أن مارين لوبان أيقنت أن «تلميذها الشاطر» صار الورقة الرابحة التي قد توصلها إلى حلم حياتها... ألا وهو قصر «الإليزيه» مقر الرئاسة الفرنسية.

مرحلة الرعاية والتأهيل!

بناءً على ما سبق؛ وجدت مارين لوبان أنه كان من الضروري الاهتمام ببارديلا؛ كونه ورقتها الحزبية الرابحة. وبالفعل، خُصصت دورات تدريبية للقيادي الشاب منذ عام 2018 ولمدة أربع سنوات، ولا سيما في مجالات التواصل السياسي والتعامل مع وسائل الإعلام. وهنا نقرأ في مقال نشرته صحيفة «الليبراسيون» ما يلي: «لقد تلّقى جوردان بارديلا تدريباً منتظماً في كيفية الحصول على الابتسامة المثالية، وكيف التكلم أو مراوغة الصحافيين لدى الرد عن أسئلتهم. ثم أنه كان يحضر أسبوعيّاً بمساعدة فريق خاص كلّ الأسئلة التي يمكن أن تُطرح عليه وأفضل الأجوبة الممكنة ويحفظها عن ظهر قلب. ويمكن أن نقول إنه ببساطة (منتج تسويق سياسي) جرى تحضيره وتدريبه والدعاية له كي يحقق الفوز». ولم ينس كاتب المقال أن ينقلّ أيضاَ عبارة باسكال أومو، خبير العلاقات السياسية الذي أوكلت إليه مهمة تدريب بارديلا؛ إذ قال: «كانت مهمتي أن أجعل منه فاشياً لطيفاً».

نجم الـ«تيك توك»

من جهة ثانية، فإن الوجه الجديد لبارديلا، الذي يجسّد اليمين المتطرف يختلف تماماً عما تعود عليه الفرنسيون. ذلك أن الرجل؛ أولاً ليس من عائلة لوبان وإن كان «رفيق» الحفيدة نولوين. وهو أيضاً بحكم شبابه بعيد كل البعد عن حقبة «الشيطنة» التي عرفها الحزب مع مؤسّسه جان ماري لوبان، المعروف بمواقفه العنصرية المتطرفة. فقد انضم بارديلا إلى الحزب وهو لا يزال في السادسة عشرة من العمر، أي في ذروة المنعطف الذي تبنّاه حزب «الجبهة الوطنية» ابتداءً من عام 2015... أولاً بتغيير الاسم إلى «التجمع الوطني» والتخلّص من جان ماري لوبان، الذي صار عبئاً ثقيلاً عليه، ثم انتهاج طريق أكثر سلاسة ومرونة.

وعلى الرغم من أن وصول مارين، ابنة لوبان المؤسس، فتح للحزب وتياره السياسي آفاقاً جديدة، فإن ماضيها العائلي ظل يعرقل مسيرة الفوز، إلى أن أخذت الأمور تتغير أخيراً مع الشعبية المتصاعدة للسياسي الشاب.

مما لا شك فيه أن بارديلا يتمتع بـ«كاريزما» لافتة، وهو شاب وسيم ومهذّب، يجيب عن أسئلة الصحافيين بهدوء ومن دون أي عصبية إلى درجة تذكّر بنجوم «سينما الخمسينات» في أناقته الكلاسيكية. وللعلم، دخل بارديلا في قائمة «الشخصيات الخمسين الأكثر شعبية في فرنسا»، حسب الدراسة السنوية التي تنشرها مجلة «جي دي دي»، مع أنه الشخصية السياسية الوحيدة في هذه القائمة. وبالتوازي مع هذا الواقع، يحظى القيادي الشاب بشعبية واسعة في منصات التواصل الاجتماعي، وبالأخص «تيك توك»، حيث يتابعه أكثر من مليون و300 شخص معظمهم من الشباب، ولعل في ذلك ما يفسر ارتفاع نسبة الناخبين من الشباب خلال الاستحقاق الانتخابي الأخير... وهي سابقة في تاريخ اليمين المتطرف.

بارديلا... ليس «كوزيت»!

استطراداً، في عدد خاص بمجلة «لوبوان» بعنوان «جوردان بارديلا الحقيقي»، كتب أحد صحافييها ما يلي: «منذ البداية قدّم التجمع الوطني نجمه الساطع جوردان بارديلا على أنه شاب عصّامي من أصول بسيطة، كوّن نفسه بنفسه، إلا أن الحقيقة مختلفة تماماً. فوالده الذي كان يقيم عنده في نهاية كل أسبوع صاحب شركة مزدهرة، ويسكن أحياء الضواحي الراقية ويصطحب ابنه في عطلة الصيف إلى مدينة ميامي الأميركية».

وواصل الصحافي: «بارديلا لم يكن (كوزيت) (الشخصية الروائية في مسلسل الصور المتحركة المقتبس يابانياً عن رواية «البؤساء» الشهيرة)، كما يريد أن يقدم نفسه للناخبين. وهو وإن كان يعيش في الضواحي فإنه كان بعيداً عن الأحياء الفقيرة التي يقطنها المهاجرون، الذين لم يختلط بهم، ولم يجرّب العمل في الإدارة ولا في قطاع الصناعة، كما لم يعرف البطالة؛ لأنه فضّل احتراف السياسة ورواتب كوادرها المرتفعة».

طموح وانتهازية...

وحقاً، حين وصل بارديلا إلى حزب «التجمع الوطني» تبّنى استراتيجية انتهازية تتمثل بالاقتراب من دوائر النفوذ للحصول على امتيازات، وبالأخص من عائلة لوبان.

في البداية، كان قريباً من فريديرك شاتيون، زعيم مجموعة اتحاد الدفاع (الغود) وهي منظمة راديكالية تُعرف بميولها النازية والعنصرية ودعواتها للعنف، حيث واعد لمدة سنتين ابنته كيريدوان شاتيون، المنخرطة في صفوف المنظمة نفسها. ومن ثم يقول أورليان لوغران، أحد أصدقائه السابقين لصحيفة «نوفل أوبزرفاتور» في لقاء معه: «كل شيء بدأ بالنسبة لجوردان حين شاهدته مارين لوبان وهو يتأبطّ ذراع كيريدوان ابنة صديق الطفولة فريديك... وقتها أحسّت بأنه شخص جدير بالثقة وسمحت له بالدخول في دائرة الحاشية المقرّبة».

بعدها، طموح السياسي الشاب دفعه إلى محاولة الاقتراب أكثر، وهو ما نجح فيه فعلاً حين أصبح عضواً في عائلة لوبان، مع دخوله حياة ومن ثم مصادقته نولوين أولفييه (حفيدة جان ماري لوبان وإبنة ماري كارولين أخت مارين وفيليب أولفييه العضو البارز في الحزب ومستشار مارين). في المقابل، قصّة صعود بارديلا هي أيضاً قصّة خيانات، أهمها قضية تخلّيه عن صديقه فلوريان فيليبو، العضو السابق في المكتب السياسي الذي كان يمثل «الجناح اليساري» في الحزب. إذ حمل بارديلا معه مشاريع إصلاحية للضواحي تستهدف مجال التربية والسكن والشغل، لكن عندما أقدمت مارين لوبان على عزل فيليبو بسبب خلافات داخلية، كان بارديلا أول من يتخلّى عن صديقه. وجدت مارين لوبان أنه كان من الضروري الاهتمام ببارديلا كونه ورقتها الحزبية الرابحة. وبالفعل خصّصت له دورات تدريبية منذ عام 2018 لمدة 4 سنوات


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.