السودان: معركة «كسر عظم» في الفاشر

الجيش والحركات المسلحة يدافعان... وقوات «الدعم السريع» تهاجم بإصرار

آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)
آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)
TT

السودان: معركة «كسر عظم» في الفاشر

آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)
آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)

الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور بأقصى غرب السودان، هي المدينة الوحيدة في الإقليم الكبير، الذي تضاهي مساحته مساحة فرنسا، التي لا تزال في يد الجيش والميليشيات المسلحة الموالية له، وذلك بعد سيطرة «قوات الدعم السريع» على أكثر من 90 في المائة من إقليم دارفور ما عداها. ولقد استقرّ في الفاشر مئات الآلاف من الفارين بمَن فيهم الجنود والضباط الذين سيطرت «الدعم السريع» على «فرقهم» العسكرية، وبذا أضحت المدينة ذات الكثافة السكانية العالية تؤوي مئات الآلاف من النازحين منذ «حرب دارفور» عام 2003. وما يُذكر أن مدينة الفاشر تقع على بُعد 900 كيلومتر تقريباً غرب العاصمة الخرطوم، وتعدّ مركزاً تجارياً وزراعياً، وهي مركز «سلطنة الفور» التاريخية، وتلقب تحبّباً بـ«الفاشر أبو زكريا» تيمّناً بالسلطان زكريا والد سلطانها الشهير علي دينار. وأكثر من هذا، هذه المدينة العريقة هي حاضرة إثنية (أو شعب) الفور، التي تسمى بها الإقليم، وظل الفور يحكمونها طوال الفترة بين عامَي 1445 و1916.

تُقدّر كثافة سكان مدينة الفاشر حالياً بقرابة 900 ألف نسمة، يتوزّعون بين قبائل وإثنيات الإقليم والسودان المختلفة، وإن كانت الكثافة الأعلى لجماعة الزغاوة الإثنية. وإلى جانب السكان الأصليين، تضم الفاشر اليوم عدداً من معسكرات النازحين هي: «معسكر أبوشوك»، و«معسكر زمزم»، و«معسكر السلام»، وهي تؤوي المواطنين الذين نزحوا إلى حاضرة الإقليم إثر اندلاع الحرب بين الجيش والحركات المسلحة الدارفورية 2003. ومن ثم ازداد العدد كثيراً بعد استيلاء «قوات الدعم السريع» على مناطق ومدن الإقليم الأخرى؛ هرباً من القتال ومن الانتهاكات التي ترتكبها «الدعم السريع» إبان معارك السيطرة.

يشار إلى أنه قبل اندلاع الحرب في السودان، كان هناك شبه «اتفاق سكوتي» بين الجيش و«الدعم السريع» والحركات المسلحة على إبقاء الفاشر بعيدة عن النزاع، وعلى أن تحميها «القوات المشتركة» المكوّنة من قوات الحركات المسلحة الموقّعة على «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وهي «حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان» بزعامة مني أركو مناوي، و«تجمع قوى تحرير السودان» بقيادة الطاهر حجر، و«التحالف السوداني» بقيادة خميس عبد الله أبكر، و«حركة تحرير السودان - المجلس الانتقالي» بقيادة الهادي إدريس، وذلك إلى جانب الجيش و«الدعم السريع».

الهادي إدريس (سونا)

الفاشر «منطقة عسكرية»

ولكن، في أواخر أبريل (نيسان) 2023، أي بعد نحو أسبوعين من اندلاع الحرب، أُعيد تشكيل القوات المشتركة من قوات الحركات المسلحة كي تتولى مهمة تأمين انسياب المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين والطرق الرابطة بين المدن وبقية أنحاء البلاد، بعدما أعلنت هذه القوات «الحياد» بين الجيش و«الدعم السريع». وهذا الأمر أبقى المدينة بمنأى عن القتال على الرغم من سيطرة «الدعم السريع» على 4 ولايات من ولايات الإقليم الخمس، وأجزاء واسعة من الولاية الخامسة شمال دارفور.

وبالفعل، ظلت الحركات المسلحة محايدة بين الجيش و«الدعم السريع» طوال 7 أشهر، وممتنعة عن مناصرة أي منهما. إلا أن اثنتين من كبريات هذه الحركات هما «حركة العدل والمساواة» و«حركة تحرير السودان» أعلنتا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، إنهاء حالة الحياد، و«الانحياز» للجيش والقتال إلى جانبه ضد «الدعم السريع». وجاءت هذه الخطوة إثر اتهامهما «الدعم السريع» باستهداف المدنيين ونهب الممتلكات، والاستعانة بـ«أيادٍ أجنبية» اتهمتها بالسعي إلى تفتيت البلاد، بينما احتفظت حركة «تجمع قوى تحرير السودان» (بقيادة عضو مجلس السيادة السابق الطاهر حجر)، و«حركة تحرير السودان - المجلس الانتقالي» (بقيادة عضو مجلس السيادة الانتقالي الهادي إدريس) بموقفيهما المحايدَين، واختارتا الالتحاق بالقوى المدنية التي تطالب بوقف الحرب.

وبالتالي، تحوّلت الفاشر إلى منطقة عسكرية مكتظة بالجنود والآليات العسكرية والسكان والنازحين بإعلان الحركتين الكبيرتين الانحياز للجيش والقتال مع آخر القواعد العسكرية للجيش السوداني في إقليم دارفور «الفرقة السادسة - مشاة» في المدينة، التي انضم إليها الجنود الفارون من «الفرقة 15» في الجنينة، و«الفرقة 21» في زالنجي، و«الفرقة 16» في نيالا، و«الفرقة 21» في الضعين، والمعسكرات الأخرى التابعة للجيش التي كانت سيطرت عليها «الدعم السريع».

بعدها، منذ أبريل الماضي، حشدت «الدعم السريع» قوات كبيرة حول الفاشر، وطوّقت المدينة من الجهات كلها، وبدأت عمليات عسكرية في محاولة منها للسيطرة عليها. إذ شرعت في قصف المدينة بالمدفعية الثقيلة مع شنّ هجمات متفرقة، مستهدفة مقرّ قيادة الجيش والقوات المتحالفة معه؛ ما أدى إلى حركة نزوح كبيرة خارج المدينة نحو القرى والمعسكرات المتاخمة لها، وخلق أزمة إنسانية كبيرة للمدنيين الذين وجدوا أنفسهم تحت حصار مطبق.

آلاف المدنيين في الفاشر ومحيطها يعيشون أياماً عصيبة وسط أزدياد المخاوف من أن تتطور المواجهات إلى عنف دام ومعارك إثنية

كارثة إنسانية

أثار حصار الفاشر والكارثة الإنسانية المتوقعة، في حال استمرار الحرب في المدينة أو اجتياح «الدعم السريع» لها، مخاوف المجتمعَين الإقليمي والدولي من كارثة إنسانية كبيرة قد تتجاوز الكارثة التي حلّت بالإقليم إبان الحرب بين القوات الحكومية والحركات المسلحة 2003. وحقاً، حذّرت الأمم المتحدة يوم 26 أبريل الماضي من «عواقب وخيمة تطال السكان المدنيين» في الفاشر، بوصفها منطقةً على «حافة المجاعة». وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة أن مبعوثه إلى السودان، وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة، يسعى مع الأطراف للتهدئة في الفاشر، ودعا الأطراف للامتناع عن القتال فيها.

وأبدت وزارة الخارجية الأميركية هي الأخرى، تخوّفها من تفاقم الصراع في الفاشر، ودعت الأطراف إلى الكف عن مهاجمة المدينة، ووقف هجوم وشيك عليها من قبل «الدعم السريع» من شأنه تعريض مئات الآلاف من المدنيين والنازحين للخطر. وفي خطوة تأتي في سياق مزيد من الضغط على «الدعم السريع» لوقف هجماتها على الفاشر، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات مالية يوم 15 مايو (أيار) الماضي على اثنين من قادة «الدعم السريع» الميدانيين هما: علي يعقوب جبريل وعثمان محمد حميد محمد، لدوريهما في العملية العسكرية في الفاشر وحصارها، وتعريض حياة مئات الآلاف من المدنيين للخطر، والتسبب بسقوط ضحايا في صفوف المدنيين.الأوضاع الميدانية

آدم رجال، الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، قال في رسالة لـ«الشرق الأوسط» الاثنين الماضي، إن قتالاً شرساً لا يزال يدور في إقليم دارفور، خصوصاً في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور. ووصف ما يحدث هناك بأنها «جريمة حرب»، و«جريمة ضد الإنسانية»، و«عقاب جماعي ضد المدنيين». وأردف رجال: «الجميع محكوم عليهم بالموت جوعاً، أو بسبب القصف المتعمد من قبل أطراف النزاع»، داعياً إلى «وقف فوري للقتال في الفاشر، وفتح الممرات الإنسانية دون تأخير، والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المحتاجين الذين أنهكهم الجوع ويعيشون في ظروف مروّعة لا يحيط بها الوصف»، بحسب عبارته.

من جهة ثانية، وفقاً لمنصة «عاين» المستقلة، فإن آلاف المدنيين في الفاشر ومحيطها يعيشون أياماً عصيبة، وموجات نزوح مستمرة، في حين تزداد المخاوف من أن تتطوّر المواجهات إلى عنف وإراقة للدماء بدوافع عرقية، على غرار ما شهدته مدينة الجنينة وبلدة أردمتا في غرب دارفور.

ومن جانبها، أفادت «منظمة أطباء بلا حدود» بأن أكثر من 130 مدنياً قُتلوا جرّاء القتال في الفاشر، مع تقديرات بأن أعداد القتلى أعلى بكثير من هذا الرقم، في وقت لا يعمل فيه إلاّ مستشفى واحد هو الآخر تعرّض للقصف. وفي حين تتواصل هجمات «الدعم السريع» على المدينة وأحيائها، تقول مصادر الجيش والحركات المسلحة التابعة له، إنه صدّ الهجمات التي شُنّت على المدينة. وفي المقابل، يرى محللون أن العمليات التي تقوم بها «قوات الدعم السريع» راهناً هدفها «تليين» دفاعات الجيش وحلفائه قبل هجوم كبير قد تشنّه قريباً. وفعلاً، تحشد «الدعم السريع» قوات كبيرة حول الفاشر من الجهات الأربع، وتنشر مزيداً منها؛ ما أدى إلى عزل المدينة كلياً عن العالم، وأدى إلى نقص كبير في المواد الغذائية والمياه والدواء. ولذا يضطر الجيش إلى تزويد قواته المتمركزة في مقر «الفرقة السادسة - مشاة»، - أحد أكبر معاقل الجيش المتبقية في الإقليم - عن طريق «الإسقاط الجوي».

رمطان لعمامرة (آ ف ب)

جعفر حسن: ثمّة ذاكرة غربية ما زالت تختزن الانتهاكات الفظيعة في دارفور

* عزا جعفر حسن، الناطق باسم تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» السوداني التحذيرات الصادرة عن المجتمع الدولي ضد ما يحدث في الفاشر، إلى وجود «ذاكرة غربية مختزنة من الانتهاكات الفظيعة التي حدثت في دارفور إبان الحرب بين الحركات المسلحة والجيش في 2003». وأضاف: «الغرب يخشى أن توقظ ذاكرة وتاريخ ذلك الوقت في أذهان الناس هناك، وما يمكن أن يقود إليه هذا التذكار».وأوضح حسن أن الفاشر هي آخر مدينة في دارفور ظلت خارج دائرة الحرب. وبالتالي، غدت ملاذاً آمناً لكل حركات النزوح من مناطق دارفور الأخرى، ولكن «وجودها في قلب الصحراء بعيداً عن الحدود من تشاد وليبيا ووسط السودان، واقع يصعّب على المدنيين النزوح والهروب مرة أخرى، وهذا من الأسباب الرئيسية للاهتمام الدولي الكبير بما يدور في الفاشر».ومن ثم، حذّر حسن من مخاطر كبيرة تواجه الناس في المدينة ومحيطها، لافتاً إلى وجود «محاولات لإخراج المدنيين، وإيجاد مخارج آمنة لهم للهرب من الحرب التي تدور داخل الفاشر، والحؤول دون استخدام مدنيي المدينة ومعسكرات النازحين دروعاً بشرية أو أدوات حرب». وتابع: «لو أراد الناس الفرار من الفاشر، فإلى أين سيذهبون؟ لا توجد مدن قريبة تسع هذه الأعداد... صحيح هناك مدن صغيرة محيطة، لكنها لا تتّسع للأعداد الكبيرة التي قد تنزح». واستطرد شارحاً: «الخيار الأمثل بحسب الاتفاق السابق، أن يخرج الجيش و(الدعم السريع) من المدينة؛ لكي تُدار من قِبل القوات المشتركة. هذا هو الحل الصحيح، ولكن ما حدث قد حدث، والدانات تسقط على بيوت الناس من كل الأطراف المتقاتلة، والرصاصة لا تفرّق بين المدني والعسكري».وبالفعل، وفق التقارير، تحوّلت الفاشر مدينةً بحجم ثلاث مدن من حيث عدد السكان بعد لجوء الفارين من ثلاث ولايات إليها. غير أنه يبدو أن كلاً من الجيش و«الدعم السريع» سيخوضان معركة «نَفَس طويل» في المدينة؛ لأن مَن سيُسيطر عليها يكون قد كسر عظم غريمه.


مقالات ذات صلة

الجيش السوداني يعزز قواته في شمال البلاد

شمال افريقيا قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان يحيِّي مؤيديه في العاصمة الخرطوم (أرشيفية - أ.ب)

الجيش السوداني يعزز قواته في شمال البلاد

أفاد شهود بأن الجيش السوداني دفع فجر الخميس، بتعزيزات إلى الولاية الشمالية، بعد أقل من 24 ساعة على إعلان «الدعم السريع» السيطرة على مثلث حدودي مع مصر وليبيا.

شمال افريقيا «الدعم السريع» تعلن سيطرتها على مناطق قرب الحدود مع ليبيا ومصر

«الدعم السريع» تعلن سيطرتها على مناطق قرب الحدود مع ليبيا ومصر

أعلنت «قوات الدعم السريع» إكمال سيطرتها على مناطق سودانية في المثلث الحدودي مع ليبيا ومصر، بينما قال الجيش السوداني إنه أخلى قواته من المنطقة كترتيب دفاعي

أحمد يونس (كمبالا) وجدان طلحة (بورتسودان)
أوروبا فتاة فلسطينية تركض بين أنقاض المباني المدمَّرة على طول ساحل مدينة غزة (أ.ب) play-circle

دراسة: عام 2024 شهد أعلى عدد نزاعات مسلحة منذ 1946

سجّل العام الماضي 61 نزاعاً في 36 دولة يشهد بعضها نزاعات عدة في آنٍ.

«الشرق الأوسط» (أوسلو)
تحليل إخباري قوات «كتيبة السلام» التابعة للجيش الوطني الليبي خلال انتشار في جنوب شرقي ليبيا (الجيش الليبي)

تحليل إخباري هل تُقاتل قوات المشير حفتر فعلاً في السودان؟

أثارت اتهامات الجيش السوداني للجيش الوطني الليبي بـ«تقديم إسناد لـ(الدعم السريع) في اشتباكات مسلحة بمنطقة حدودية» تساؤلات بشأن تدخل قوات حفتر في الحرب السودانية

علاء حموده (القاهرة)
العالم العربي معارك بين «قوات الدعم السريع» والجيش السوداني (أرشيفية - أ.ف.ب)

«الدعم السريع» تسيطر على المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا

أعلن الجيش السوداني، اليوم (الأربعاء)، أن قواته أخلت منطقة المثلث المطلّة علي الحدود بين السودان ومصر وليبيا، في إطار «ترتيبات دفاعية».

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
TT

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد، نظراً لحجم الشحن و«التسقيط» (الاستهداف السلبي) السياسي والضخّ المالي والتصعيد الطائفي. غير أن أهمية هذه الانتخابات، المقرّرة في نهاية العام الحالي، لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل لكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، خصوصاً أن هناك متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب العراقية في موسم الانتخابات.

في ظل المتغيرات الإقليمية المحيطة بالعراق، ينشغل السياسيون العراقيون مبكراً بالتخطيط لخوض الانتخابات النيابية المحددة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي يتوقع أن تحدث تغييراً جوهرياً في أوزان الأحزاب.وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد التي عقدت في مايو (أيار) الماضي، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار. وأهمية هذه الانتخابات لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل بكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، فيما يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى إحداث تغيير عبر خوضه الانتخابات مع أوسع تحالف.وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية، يكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية لخوض الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. فالسوداني يرى أن دور بغداد يكمن في «جمع الأشقاء، كما هو دورها التاريخي، من أجل صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل تضمن الأمن والاستقرار والتنمية والتكامل بين شعوبنا الشقيقة». وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية سيكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية وسط تأهب العراق خلال شهور لإجراء الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. مع هذا، بينما نجح خصوم السوداني في خلق جوّ مشحون أدّى في النهاية إلى تغيّب عدد من الزعماء العرب، فإن بغداد الرسمية التي هيّأت كل مستلزمات نجاح القمة نجحت في الخروج بقرارات مهمة على صعيد العمل العربي المشترك، في ظل تحديات غير مسبوقة.

وعلى الجانب الآخر، كان ضمن الإيجابيات ما كتبت عنه مئات من وسائل الإعلام العربية التي شاركت في القمة. إذ توزّع الإعلاميون العرب على 3 فنادق كبرى بالعاصمة العراقية بغداد، هي «الرشيد» و«قلب العالم» و«موفنبيك»، وتمكّنوا من تغطية وقائع القمة، من «القصر الرئاسي»، بفضل تسهيلات غير مسبوقة قدّمتها لهم الجهات العراقية الرسمية.

وكذلك غطّوا أجواء بغداد، التي لم تعد تنام الليل وسط حالة من الأمن والأمان بالقياس إلى فترات سابقة، خصوصاً أيام قمة بغداد السابقة عام 2012، حين أغلقت العاصمة تماماً، وفرض حظر التجوال لمدة 3 أيام تجنباً للتفجيرات والخروق الأمنية.

ملاعق القمة!

من جهة ثانية، عمليات «التسقيط» السياسي، التي سبقت القمة بأيام، استمرت بعدها بأيام، وكانت من قبل نوعين من الجهات داخل العراق. الجهة الأولى، هي التي لا تريد أي انفتاح عراقي على محيطه العربي أو أي انفتاح عربي على العراق. والجهة الثانية، هي التي لديها خصومات مع محمد شيّاع السوداني وحكومته نظراً لما تحقق خلال السنتين ونصف السنة الماضية من «لمسات»، سواء في بغداد أو في عدد من المحافظات، وهو ما قد يرفع أسهم رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية نهاية العام الحالي.

الجهة الأولى فشلت في تحقيق هدفها، أي منع أي انفتاح متبادل بين العراق ومحيطه العربي، نظراً لما تحقق خلال القمة التي لم تقاطعها أي دولة عربية، بصرف النظر عن مستوى التمثيل. أما الجهة الثانية، فراحت في سياق «حربها» ضد القمة إلى البحث عن تفاصيل لا تعني أحداً، كالكلام عن استيراد ملاعق طعام (باللهجة العراقية «خواشيق») بنحو 12 مليون دولار أميركي. وللعلم، عندما قدّمت وجبة الطعام الوحيدة للزعماء العرب بعد الجلسة الأولى لم يكن لافتاً وجود ملاعق ذات ميزة مختلفة عما يقدم من ملاعق في أي وجبة طعام رئاسية أو ملوكية.

وطبعاً، كان الجانب الآخر من مساعي هذه الجهة زعمها أنها هي التي «منعت مشاركة عدد من الزعماء العرب» الذين تناوئهم أطرافها في بغداد، وفي مقدمهم الرئيس السوري أحمد الشرع، فضلاً عن الرئيس اللبناني جوزيف عون، الذي زار العراق بعد القمة، إثر تسوية، ما بدا أنها تصريحات أثارت لغطاً داخل العراق عن «الحشد الشعبي».

أجواء «التسخين»

في أي حال، لا يمرّ شيء مروراً عابراً في العراق. فبعد انتهاء القمة، وعودة الأجواء إلى طبيعتها، تلقت بغداد الرسمية عشرات التقارير عمّا يمكن عدّه وقائع مهمّة، إن كان على صعيد الرصد الإعلامي، أو المواقف السياسية. هذا الأمر بات يهيئ لمخرجات جديدة، تمثلت أساساً في رهانات بغداد لربطها جذرياً مع محيطها العربي والإقليمي في شراكات سياسية أو اقتصادية. وفي الوقت عينه، بدأت معركة موازية، بدأت بين مختلف الأطراف المناوئة لتطلعات السوداني للفوز بولاية ثانية. هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار.

أزمة حكم أم سلطة؟

في الواقع، ثمة «أزمة حكم» في العراق يراها مراقبون الآن «أزمة سلطة». والسبب تعدد الولاءات، وكون الآيديولوجيات والعقائد ليست وليدة الظروف الراهنة التي يمرّ بها العراق لدى تأهبه للاستحقاق الانتخابي السادس، بل أضحت عنواناً بارزاً لكل المراحل السابقة بعد عام 2003. وخصوصاً مع إسقاط دبابة أميركية تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، صبيحة 9 أبريل (نيسان) 2003. مع سقوط التمثال، انتهت حقبة من أزمة الحكم والسلطة الفردية في العراق، لتبدأ البلاد جولة جديدة من الأزمات السياسية.

هذه الجولة احتوت ظاهراً كل عناصر النجاح؛ من تداول سلمي للسلطة، وإجراء انتخابات في موعدها، وانتخاب برلمان، وتشكيل حكومة. إلا أنها حقّاً حملت وتحمل كثيراً من بذور الفشل بسبب الديمقراطية المشوهة والانقسامين الطائفي والعرقي، ما انعكس في توزيع المناصب على ضوء هذه المعادلة المذهبية العرقية، بدءاً من منصب رئيس الجمهورية، وصولاً إلى «فرّاشي» المدارس الابتدائية.

لذا، مع بدء التحضير للجولة السادسة من الانتخابات، باتت أزمة الحكم تلقي بظلالها الثقيلة على إمكانية تعديل طبيعة النظام الديمقراطي الذي توافق عليه العراقيون بعد عام 2003. ومع أن الانتخابات المقبلة، وهي السادسة بعد أول انتخابات عام 2005، إثر إقرار أول دستور دائم في العام ذاته، فإن التحضيرات لإجرائها تبدو اختباراً حاسماً يثير سؤالاً محورياً في مختلف الأوساط، هو؛ هل ستكون هذه الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير... أم مجرّد حلقة إضافية في تكريس أزمة الحكم؟

للطائفية عنوان

المؤشرات المتاحة، ولغة الأرقام بشأن حجم الأموال التي تضخّ في هذه الانتخابات، والتصاعد الواضح في الخطابين الطائفي والعرقي، كلها ترجّح كفة التشاؤم. إذ تبدو فرص التغيير أمنية بعيدة المنال، بينما تزداد المؤشرات على استمرار «سمات الفشل» التي حكمت المشهد السياسي في العقدَيْن الماضيين.

ويضاعف من حجم التساؤلات غياب التغيير الحقيقي، حتى في أبسط الجوانب الخدمية، كملف الكهرباء، وهو الشريان الحيوي للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. فمع أن العراق يُعدّ من أغنى دول المنطقة من حيث الموارد المالية، تشير التقارير الرسمية إلى أنه ينفق سنوياً ما يقارب 7 مليارات دولار على قطاع الكهرباء، في حين بلغ مجموع ما أُنفق على هذا القطاع منذ عام 2003 نحو 200 مليار دولار، من دون تحقيق تحسّن ملموس.

وإلى جانب أزمة الكهرباء، تعاني بقية القطاعات الخدمية والإنتاجية من ركود واضح، باستثناء تطوّرات محدودة شهدتها السنتان الأخيرتان من عمر حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. إذ نجحت هذه الحكومة في إحداث تحوّل ملحوظ في البنية الخدمية للعاصمة بغداد، نال إشادة واسعة من أوساط سياسية وإعلامية، خصوصاً خلال القمة العربية الأخيرة في بغداد.

وعلى الرغم من ذلك، للصورة جانب آخر، يتمثّل في طبيعة إدارة الحكم وآليات توزيع السلطة والمناصب في العراق، فضلاً عن التداخل بين القوات الرسمية للدولة وقوى مسلحة أخرى، بعضها اكتسب صفة رسمية مثل «الحشد الشعبي»، رغم استمرار الجدل حول موقع الفصائل المسلحة داخله، ومدى خضوعها للقيادة الرسمية. وأيضاً، هناك «فصائل مسلحة» لا تتلقى أوامرها من الحكومة العراقية، بل تعدّ نفسها مرتبطة بتكليف «شرعي» صادر عن القيادة الإيرانية، خصوصاً إبان مرحلة ما عُرف بـ«محور الممانعة» المنهار بعد نحو سنتين من عملية «طوفان الأقصى». واستطراداً، لا يمكن إغفال وجود قوات «البيشمركة» الكردية التي تُعدّ جزءاً آخر من هذا التعدد الأمني والعسكري المعقّد.

وهكذا، من أبرز الإشكاليات البنيوية التي تواجه السلطة العراقية، تعدّد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات، في ظل دستور عام 2005 الذي لم يمنح وضوحاً كافياً في توزيع السلطات والأدوار بين مختلف مستويات الحكم. وكمثال، لا يتعلق الخلاف بين بغداد وأربيل، بمسألة تحويل الأموال أو دفع رواتب موظفي إقليم كردستان فقط، بل يعود أساساً إلى إشكالية دستورية أعمق، ترتبط بطبيعة النظام الفيدرالي نفسه.

فعقب التغيير في عام 2003، كان الكرد والشيعة، لكونهما أبرز أطراف المعارضة لنظام صدام حسين، على توافق شبه كامل، تُرجم في صياغة سريعة لدستور عام 2005، وفي تبني نموذج فيدرالي للحكم من دون التعمّق في تبعاته المستقبلية، ومن دون أن يُحسب حساب ما قد تؤول إليه الأمور لاحقاً. ولكن بعد مرور عقدَيْن، تحولت العلاقة الثنائية من تحالف إلى خصومة مستحكمة دائمة.

الخلل في الدستور

السبب الجوهري لذلك يكمن في بنية النظام السياسي. إذ تبيّن أن الدستور الذي كان ثمرة اتفاق مرحلي، أصبح اليوم عبئاً مشتركاً بين الطرفَيْن. ثم إن الفيدرالية، التي منحت للكرد مرونة سياسية من قِبل الأطراف الشيعية في تلك المرحلة، تحولت إلى أزمة حكم، ولا سيما بعدما أحكمت القوى الشيعية، بحكم غالبيتها السكانية، سيطرتها الكاملة على مؤسسات الدولة، ما هزّ التوازن السياسي تماماً. في ظل هذه الأجواء يتجه العراقيون نحو الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة بنهاية العام الحالي، وسط أجواء مشحونة بالمال، باتت موضع جدل واسع حتى داخل أروقة الطبقة السياسية، ولا سيّما قيادات الصفّ الأول.

لكن التمويل الانتخابي لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل امتدّ ليشمل التحريض الطائفي والعرقي، واستثمار قضايا اجتماعية وثقافية قابلة للتسييس، بهدف التأثير على جمهور متنوّع في وعيه وثقافته وانتماءاته، ما يجعله عرضة للاختراق والتوجيه.

كذلك يميّز المشهد الحالي، للمرة الأولى منذ 2003، أن الطبقة السياسية بدأت تشعر بوجود تهديد فعلي لمواقعها ونفوذها، في ضوء متغيرات إقليمية لافتة في محيط العراق، عربياً وإيرانياً. وعليه، تُشكل الانتخابات المقبلة نقطة مفصلية؛ فإما تكون فرصة لبعض القوى لإحداث تغيير حقيقي في معادلة توزيع المناصب السيادية العليا، أو تتحول كالعادة إلى «محطة» أخرى على «سكة» تكريس أزمة الحكم، التي لا تتجاوز كونها توزيعاً تقنياً لمقاعد البرلمان، تُبنى عليه محاصصة سياسية للوزارات والمناصب، من دون أي مساس جوهري ببنية النظام أو الدستور، ما يعني في نهاية المطاف بقاء الوضع على ما هو عليه.

محمد شياع السوداني (رووداو)

بغداد وأربيل... الإشكالية الدائمة

> في ضوء كل ما يمكن تسليط الضوء عليه عراقياً، يستحيل تخطي العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الحكومة العراقية وسلطة إقليم كردستان العراق. فهي تمثّل جوهر أزمة الحكم في ظل دولة تعددية اختارت طبقاً للدستور النظام الفيدرالي، لكنها أخفقت في تطبيقه كما يجب. وفي حين يقال إن القوى السياسية المهيمنة في بغداد تستغل الخلافات الحزبية - الحزبية في أربيل، فإنه وبالتزامن مع تحذير رئيس حكومة «الإقليم» مسرور بارزاني لبغداد - مذكراً إياها بنتائج «سياسة التجويع» - دخلت واشنطن على خط الأزمة، وإن بمنظور مختلف نسبياً. بغداد تراهن على خلافات بدأت تطفو على السطح بين الأحزاب الكردية بشأن أزمة الرواتب، بينما تراهن أربيل على المواقف الدولية، وخصوصاً موقف واشنطن الداعم، ولقد جاءت دعوة وزارة الخارجية الأميركية بشأن أزمة الرواتب موجهة، ليست للحكومة الاتحادية فقط، بل لحكومة الإقليم. وفي حين بدا موقف «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة بافل طالباني بشأن الأزمة مع بغداد مختلفاً عن موقف «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحكومة الإقليم، قررت بغداد عدم إرسالها الوفد الرسمي الحكومي والحزبي للتباحث بشأن أزمة الرواتب، بعد إعلانه الأسبوع الماضي عزمها على إرسال وفد رفيع المستوى بزعامة هادي العامري زعيم منظمة «بدر» المقرّب من الزعيم الكردي مسعود بارزاني. وفي سياق الجدل بين الطرفين، الذي يبدو أنه آخذ بالتصاعد، وبينما تنشط أطراف من «الإطار التنسيقي» في اللعب على وتر الخلاف بين الحزبين الكرديين الكبيرين في السليمانية وأربيل، دعا الموقف الأميركي الرسمي الطرفين إلى حل الخلاف، ورآه مراقبون حيادياً من شأنه تعزيز أوراق بغداد في سياق أي مباحثات رسمية أو موازية بين الجانبين.