«حزب مانديلا» مضطر لتقاسم السلطة للمرة الأولى في تاريخه

«المؤتمر الوطني الأفريقي» يسعى لائتلاف حكومي إثر نكسته الانتخابية

لافتات انتخابية من مختلف الأنواع في الشوارع (آ ب)
لافتات انتخابية من مختلف الأنواع في الشوارع (آ ب)
TT

«حزب مانديلا» مضطر لتقاسم السلطة للمرة الأولى في تاريخه

لافتات انتخابية من مختلف الأنواع في الشوارع (آ ب)
لافتات انتخابية من مختلف الأنواع في الشوارع (آ ب)

بعد 30 سنة من احتكار الحكم في جنوب أفريقيا بات حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» مضطراً إلى تقاسم السلطة مع حزب أو أكثر من أحزاب المعارضة، إثر انتخابات تشريعية أفقدته الأغلبية المطلقة في البرلمان للمرة الأولى في تاريخه؛ ما يثير مخاوف بشأن إمكانية حدوث اضطرابات سياسية «غير مسبوقة» في الأشهر المقبلة، إثر تحول سياسي وصفه مراقبون بأنه «الأكثر دراماتيكية» في تاريخ البلاد منذ القضاء على الفصل العنصري. إذ أعلنت اللجنة الانتخابية النتائج الرسمية، الأحد الماضي، حصول «المؤتمر الوطني الأفريقي» على 159 مقعداً فقط من أصل 400؛ ما يُشكل تراجعاً قاسياً للحزب الذي كان يمتلك 230 مقعداً في البرلمان المنتهية ولايته، لا سيما وأن الحزب اعتاد حصد الغالبية المطلقة منذ انتخابات عام 1994، التي كتبت نهاية الفصل العنصري، ودفعت بزعيمه التاريخي نيلسون مانديلا لرئاسة البلاد.

فاز حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، في الانتخابات العامة الأخيرة بجنوب أفريقيا، بنحو 42 في المائة من مقاعد البرلمان، متراجعاً عن نسبة الـ57.5 في المائة التي حازها في انتخابات عام 2019. ولقد احتفظ حزب المعارضة الرئيس «التحالف الديمقراطي» اليميني المؤيد لقطاع الأعمال، بالمركز الثاني بـ21.6 في المائة – مترجماً بـ87 مقعداً. حل ثالثاً حزب «أومكونتو وي سيزوي» (إم كيه) - أو «رمح الأمة» - الذي انتزع نسبة 14.7 في المائة (49 مقعداً) في مفاجأة لكثيرين كونه حزباً جديداً شكّله الرئيس السابق جاكوب زوما، وجاء رابعاً حزب «مناضلون من أجل الحرية الاقتصادية» الماركسي بنحو 9 في المائة من مقاعد البرلمان.

في ضوء هذا النتيجة، سيضطر «المؤتمر الوطني الأفريقي» إلى تشكيل حكومة ائتلافية؛ كون النتائج لا تؤهله منفرداً لذلك، رغم تصدّره عدد المقاعد في البرلمان. ولذا؛ دعا الرئيس الجنوب الأفريقي سيريل رامافوزا، عقب إعلان النتائج، جميع القوى السياسية إلى «العمل معاً»، كما أكّد «المؤتمر»، الذي يتزعمه رامافوزا «اعتزامه إجراء مناقشات مع أحزاب سياسية أخرى بهدف تشكيل حكومة ائتلافية».

ناخبة تدلي بصوتها في أحد مراكز الاقتراع (آ ب)

ظروف غير مواتية

النتيجة النهائية التي شكّلت منعطفاً سياسياً في تاريخ البلاد السياسي، جاءت في الواقع متماشية مع استطلاعات الرأي العام؛ إذ شهدت الأسابيع الأخيرة السابقة على إجرائها تحذيرات من احتمال فقدان الحزب الحاكم غالبيته البرلمانية.

لقد شكّلت الانتخابات، وفق حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد في دولة الإمارات العربية المتحدة، «نقطة تحوّل في تاريخ جنوب أفريقيا منذ نهاية الفصل العنصري». وأوضح عبد الرحمن في تقرير نشره أخيراً «مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة»، أن الأمر «يرتبط في أحد جوانبه بأنها تصادف الذكرى الثلاثين لأول انتخابات تُجرى بعد سقوط نظام الفصل العنصري عام 1994»، وأن هذه الانتخابات كانت «الأكثر تنافسية منذ تولي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي السلطة».

وبدورها، قالت الدكتورة نرمين توفيق، الباحثة في الشأن الأفريقي والمنسق العام في مركز «فاروس» للاستشارات والدراسات الاستراتيجية في مصر، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن الانتخابات «أُجريت وسط زخم على المستوى الداخلي في جنوب أفريقيا أو على مستوى تحركاتها الدولية في دعم فلسطين».

وحقاً، تزامنت الانتخابات الجنوب أفريقية هذه المرة مع ظروف «غير مواتية» للحزب الحاكم، بحسب الباحث المصري في الشؤون الأفريقية الدكتور عطية عيسوي، الذي أشار لـ«الشرق الأوسط»، إلى «تراجع شعبية المؤتمر الوطني الأفريقي؛ نظراً لعجزه عن تحقيق آمال الشعب وتطلعاته، لا سيما مع تفاقم مشاكل المياه والكهرباء والمساكن، وارتفاع معدلات الجريمة، وكذلك ارتفاع معدل البطالة إلى ما بين 32 و46 في المائة في بعض المناطق».

وفي حين أذكر عيسوي أن «النتائج جاءت كما كان متوقعاً»، فهو استدرك قائلاً إنه «لم يكن يتوقع هبوط شعبية المؤتمر الوطني بهذا القدر الكبير، وحصول حزب (جاكوب) زوما على نحو 15 في المائة من الأصوات، وانخفاض نسبة تأييد حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية إلى 9 في المائة فقط».

أزمات وتحديات

في الواقع، تسود حالة من الإحباط وخيبة الأمل الشارع الجنوب أفريقي، بسبب تضاؤل قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية، بحسب مراقبين يلقون باللوم على «الفساد»، كسبب رئيسي لـ«التدهور السريع» في البنية التحتية. ويُظهِر استطلاع أجرته أخيراً مؤسسة «أفروباروميتر» أن «ثلاثة أرباع المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و20 سنة متشائمون بشأن مستقبل بلادهم، بسبب الفساد والبطالة».

هذا، وأصبحت موجة الاستياء من أداء «المؤتمر الوطني الأفريقي» واضحة، خصوصاً بين سكان المدن عام 2021، عندما أظهرت استطلاعات الرأي الحكومية المحلية عام 2021 أن الحزب يخسر غالبيته في العديد من البلديات الكبيرة.

في المقابل، ترى بولين باكس، نائب مدير برنامج أفريقيا في «مجموعة الأزمات الدولية»، أن أداء الحزب ليس «قاتماً في المطلق»، بحسب تقرير للبرنامج نشره موقع المجموعة أخيراً. وهو يلفت إلى «نجاح حزب المؤتمر في اعتماد نظام رعاية اجتماعية واسع النطاق، وحصده دعماً شعبياً على جبهة السياسة الخارجية».

انتصار للديمقراطية

وفي الاتجاه الإيجابي ذاته، اعتبر إبراهيم إدريس، الباحث المتخصص في الشأن الأفريقي المقيم في الولايات المتحدة، نتائج الانتخابات «انعكاساً للديمقراطية في جنوب أفريقيا». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنه «على الرغم من خسارة الحزب الحاكم غالبيته المطلقة، تُعدّ النتائج انتصاراً للديمقراطية تؤهل الحزب لتصحيح مساره». وتتفق نرمين توفيق، هنا، في أن «الانتخابات عكست مستوى ديمقراطية مرتفعاً يُسجّل لرامافوزا». وما يُذكر، أن الرئيس رامافوزا، كان قد وعد بانتخابات «حرة وعادلة وذات مصداقية وسلمية». وعلّق بعد إعلان النتائج «لقد تكلّم شعبنا، وسواءً أحببنا ذلك أم لا، علينا أن نحترم اختياراته».

وما يستحق التنويه، وكما سبق القول، أنه رغم الخسارة لا يزال «المؤتمر» أكبر حزب في البرلمان الجديد، الذي سيكون عليه انتخاب الرئيس المقبل خلال يونيو (حزيران) الحالي.

الرئيس سيريل رامافوزا (آ ف ب)

«سيناريوهات» التحالف

بموجب النتائج؛ على «المؤتمر» بناء تحالفات تتيح له تشكيل الحكومة، وهنا يرى الدكتور عيسوي أنها «ستتحقق مقابل تنازلات مؤلمة ومساومات قبل التشكيل وبعده؛ إذ سيبقى سيف المتحالفين معه مسلطاً على رقبة حزب المؤتمر إن قاوم التنازلات مستقبلاً؛ ما سيعرّض الحكومة للانهيار».

وحذّر الباحث المصري من «احتمال هدر معظم الوقت في الخلافات بين الأحزاب ومحاولات تسويتها، لتبقى القضايا الملحّة بلا حلّ». وأردف: «تشكيل حكومة ائتلافية لن يكون أمراً سهلاً ما يجعل المؤتمر مضطراً إلى تقديم تنازلات كبيرة قد تصل إلى الإحجام عن إعادة ترشيح رامافوزا للرئاسة حال تحالفه مع حزب زوما». وسبق لحزب زوما الإعلان أنه لن يتفاوض مع المؤتمر طالما بقي رامافوزا رئيساً له. لكن الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني فيكيل مبالولا قال: «لن يُملي علينا أي حزب سياسي شروطاً كهذه».

وبدوره، أكد اتحاد النقابات العمالية، والمتحالف مع «المؤتمر الوطني الأفريقي» - وهو الاتحاد الأكبر نفوذاً في جنوب أفريقيا - أن أي ائتلاف سيُشكَّل من جانب الحزب يجب أن يضمن احتفاظ الرئيس رامافوزا بمنصبه. وبينما يحذّر إدريس من «تأثير حدة الصراع الشخصي بين رامافوزا وزوما»، فهو يلفت إلى «ضغوط عدة تدفع لإتمام التحالف بينهما، خاصةً، وأن مشاركة حزب التحالف الديمقراطي اليميني (بغالبيته البيضاء) في الحكومة قد يشكّل خطراً على البلاد، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب مناضلون من أجل الحرية الاقتصادية اليساري».

في هذه الأثناء، يأمل مجتمع الأعمال والمستثمرين، طبعاً، بتحالف بين المؤتمر الوطني الأفريقي والتحالف الديمقراطي؛ كون مثل هذا الاتفاق من شأنه أن «يعني الاستقرار والمسؤولية المالية والتحوّل إلى ما هو أبعد من إرث الفصل العنصري»، وفق تقرير نشره مركز «تشاتام هاوس» البريطاني للباحث في الشؤون الأفريقية كريستوفر فاندوم. لكن فاندوم يقول إنه «بينما يشكل الاتفاق مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي فرصة للتحالف الديمقراطي لدخول الحكومة، فهو في الوقت عينه يتناقض مع مبادئ الحزب، الذي قام أساساً على الدعوة للتخلص من المؤتمر الوطني لا دعم بقائه في السلطة».

من ناحية أخرى، في رسمه لسيناريوهات التحالف قال حمدي عبد الرحمن، الأستاذ بجامعة زايد، إن «التعاون مع التحالف الديمقراطي وحزب زوما، قد يؤدي إلى توترات داخل الحزب الحاكم يمكن أن تعمّق حالة اللايقين السياسي... أما الحلف مع حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية، فقد يدفع البلاد للابتعاد عن اتجاهات رامافوزا المؤيدة للأعمال التجارية وتشجيع القطاع الخاص؛ ما يهدّد بإثارة أزمة اقتصادية حادة في المدى المتوسط».

وفي هذا الصدد، رأى عطية عيسوي «احتمال اتفاق المؤتمر الوطني مع حزب التحالف الديمقراطي، الأقرب له في السياسات؛ كونه لا ينتهج سياسيات درامية كحزب مناضلون من أجل الحرية الاقتصادية».

تراجع «حزب مانديلا» من 57.5% في عام 2019 إلى 42% في الانتخابات العامة الأخيرة

رامافوزا باقٍ

حيال مصير رئاسة سيريل رامافوزا، فإن خسارة «المؤتمر الوطني الأفريقي» غالبيته البرلمانية لا تعني بالضرورة خسارته مقعد الرئيس، وهنا يرجح عيسوي «استمرار رامافوزا كونه المرشح المفضل من القليلين الباقين من القيادات التي كافحت الفصل العنصري، وهو شخص هادئ ومتواضع ويعرف كيف يخاطب الداخل والخارج».

لكن صحيفة «النيويورك تايمز» الأميركية اعتبرت أن «رامافوزا يواجه تهديداً خطيراً لطموحه بتولي فترة ولاية ثانية... ومن المتوقع أن يلقي المنتقدون باللوم في التعثر الأخير على رامافوزا، كما قد يحاولون تغييره، لا سيما أنه من دون الغالبية البرلمانية المطلقة لن يستطيع المؤتمر بمفرده اختيار الرئيس».

وعليه، تثير النتائج مخاوف من اندلاع أعمال عنف في الفترة المقبلة، بل رجّحت باكس، من مجموعة الأزمات الدولية، «اندلاع أعمال عنف خلال الأسبوعين التاليين للانتخابات بالتوازي مع محاولات تشكيل ائتلاف حكومي».

في مطلق الأحوال، بحسب مراقبين، قد تدفع الانتخابات الأخيرة إلى تحول سياسي في جنوب أفريقيا يسير نحو اعتماد نظام التعددية الحزبية بدلاً من نموذج «الحزب المهيمن»، وأن الفترة المقبلة ستشهد «اختباراً لقدرة البلاد على استخدام الديمقراطية في تشكيل تحالفات محلية ومعالجة الأزمات».

 

جاكوب زوما (آ ب)

أبرز الأحزاب السياسية في جنوب أفريقيا

> في ظل انتخابات عامة وُصفت بأنها «الأكثر خطورة وسخونة» في جنوب أفريقيا منذ سنوات، برزت قوى سياسية فاعلة على السطح. ونافست هذه القوى الحزب الحاكم وقوّضت هيمنته المستمرة منذ 30 سنة. ولقد شهدت الانتخابات تنافس أعضاء من 52 حزباً على 400 مقعد في البرلمان، من بينهم أربع قوى رئيسية، هي:- حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي»الحزب الحاكم بزعامة الرئيس سيريل رامافوزا. أُسّس عام 1912 باسم «المؤتمر الوطني الأصلي لجنوب أفريقيا»، قبل أن يتغير اسمه إلى الاسم الحالي عام 1923. بدأ كحركة تحرّر وطني إبّان حقبة الفصل العنصري، وحشد الحزب الرأي العام الدولي بموازاة العمل المسلح. وانتُخب زعيمه نيلسون مانديلا رئيساً للبلاد عام 1994 في أول انتخابات ديمقراطية حصل فيها الحزب على 60 في المائة من الأصوات.ولكن، منذ عام 2009، تراجعت شعبية الحزب تدريجياً بسبب فضائح الفساد، ونكوصه بوعوده بشأن تحسين الأوضاع الاقتصادية. وشهد الحزب أيضاً انقسامات داخلية دفعت لتشكيل أحزاب جديدة، مثل «حزب مؤتمر الشعب» عام 2008، و«المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية» عام 2013، وأخيراً حزب زعيمه السابق جاكوب زوما في نهاية نهاية العام الماضي.- التحالف الديمقراطيأُسّس عام 2000، ويتزعمه جون ستينهوزن. وكان قد احتل المركز الثاني في الانتخابات التي أُجريت أعوام 2004 و2009 و2014 و2019.تعود جذور هذا الحزب إلى الحزب الديمقراطي الذي أُسّس عام 1989، وعارض الفصل العنصري. وهو يُعد حزباً ليبرالياً للسكان البيض، لكنه الآن يضم أعضاء من أعراق مختلفة. وكان قد رفع خلال الانتخابات الأخيرة شعار «أنقذوا جنوب أفريقيا»، وتضمن برنامجه مكافحة الفساد والجريمة، وتحسين الرعاية الصحية، والتعليم، وتوصيل الكهرباء والمياه النظيفة.- المناضلون من أجل الحرية الاقتصاديةأُسّس عام 2013، ويتزعمه يوليوس ماليما. احتل المركز الثالث في انتخابات 2014 و2019.كان ماليما، عضواً قيادياً ورئيساً لرابطة شباب «لمؤتمر الوطني الأفريقي»، لكنه طُرد من «المؤتمر» عام 2012 بسبب تصريحات أثارت جدلاَ وقتها. هذا، ويرتدي نواب الحزب المناضلون في البرلمان زياً أحمر للتعبير عن تعاطفهم مع محنة الطبقة العاملة. وهو يتبنى نهجاً يسارياً يدعو إلى تأميم المناجم والبنوك ومصادرة الأراضي لإعادة توزيعها.- حزب «أومكونتو وي سيزوي» (أم كي)أُسّس هذا الحزب رئيس جنوب أفريقيا السابق جاكوب زوما يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) 2023. وأطلق عليه نفس اسم الجناح العسكري لـ«المؤتمر الوطني الأفريقي»، أي «رمح الأمة».يتبنى الحزب خطاباً تحريضياً مشوباً بالتطرف الشعبوي. ويتكلم عن إبدال النظام الدستوري الحالي بالنظام البرلماني غير المقيد؛ الأمر الذي يثير مخاوف بشأن مستقبل الديمقراطية الدستورية في البلاد. وللعلم، ينظر كثيرون لحزب زوما على أنه فصيل سياسي لـ«المؤتمر الوطني الأفريقي»، ويرى آخرون أنه ربما يكون حيلة من جانب زوما لتفادي التُّهم الموجهة إليه، والتي قد تدفع به إلى السجن مرة أخرى.


مقالات ذات صلة

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع الرئيس عبد المجيد تبّون (رويترز)

فوز منتظر للرئيس عبد المجيد تبّون في انتخابات الرئاسة الجزائرية

يتوجه الجزائريون اليوم إلى مراكز الاقتراع لاختيار رئيس جديد. وهذه هي ثاني استحقاقات رئاسية بعد الحراك الذي طال سنتين تقريباً، وشهد خروج ملايين الجزائريين إلى

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع  تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة

إبراهيم تراوري... رئيس بوركينا فاسو وقائد حربها الشرسة ضد «الإرهاب»

رغم تعهّد النقيب إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، بألا يبقى في السلطة، فإنه مدّد فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، راهناً إجراء الانتخابات التي كان من

فتحية الدخاخني (القاهرة)

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان
TT

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان

لا يُعد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي سيبلغ السبعين من العمر الأحد المقبل، من ساسة الرعيل الأول الذين شاركوا في ثورة الخميني عام 1979 أو قادة الأحزاب السياسية، بما في ذلك التيار الإصلاحي، الذي ينتمي إليه. ثم إنه ليس من المحسوبين على الجهازين الأمني والعسكري، رغم حضوره في المشهد السياسي الإيراني، وتدرجه البطيء في المناصب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وكان بزشكيان، الذي أطل على العالم بالأمس من منبر «الأمم المتحدة»، قد فاز في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية المبكرة مدعوماً من الإصلاحيين، وفيها تغلب على المرشح المحافظ المتشدد سعيد جليلي، وحصل على أقل عدد من أصوات الناخبين بعد ثورة 1979، نظراً للمقاطعة التي وصلت إلى مستويات قياسية rnغير مسبوقة.

ولد مسعود بزشكيان في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، لأب آذري تركي وأم كردية في مدينة مهاباد، بمحافظة أذربيجان الغربية، ثم انتقل إلى مدينة أورمية حيث أكمل دراسته الثانوية. والتحق بالتجنيد الإلزامي وأمضى سنتين في محافظة بلوشستان بجنوب شرقي البلاد، قبل أن ينتقل إلى طهران لدراسة الطب، وهناك توقفت دراسته في السنة الأولى بسبب أحداث الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. وخلال سنتين من تعطل الجامعات الإيرانية بسبب ما يعرف بـ«الثورة الثقافية»، تزوّج بزشكيان ورزق بـ4 أبناء، لكنه فقد زوجته وأحد أبنائه في حادث سير مؤلم في 1993، ورفض الزواج ثانية.

الحرب العراقية الإيرانية

تزامنت عودة بزشكيان للدراسة في السنة الجامعية الثانية مع بداية الحرب الإيرانية - العراقية، وكذلك المعارك بين «الحرس الثوري» والأحزاب الكردية المعارضة. وانضم إلى الطاقم الطبي في جبهات الحرب، بمحافظة كردستان، قبل أن يتوجه جنوباً إلى مدينة عبادان التي شهدت معارك شرسة وأصبح مسؤولاً عن الفرق الطبية في جبهات الحرب. وبعد سنوات قليلة، عاد لإكمال دراسته في 1985.

ساهم سجلّ الرجل في جبهات الحرب بتسهيل مشواره العلمي، مستفيداً من الامتيازات الخاصة التي تمنحها السلطات للعسكريين في الحرب. وبالفعل، حصل عام 1990 على شهادة الاختصاص في الجراحة العامة، واستغرق الأمر 3 سنوات لحصوله على الاختصاص في جراحة القلب. ومن ثم، التحق بمستشفى أمراض القلب في مدينة تبريز، وأصبح رئيساً له، وصار أستاذاً جامعياً بقسم القلب والشرايين في جامعة تبريز للعلوم الطبية، لكنه لم يُقبل في المجمع الطبي الإيراني إلا عام 2010.

المسار السياسي

أداء بزشكيان المهني، وخصوصاً رئاسة جامعة العلوم الطبية في تبريز، أسهم بشقّ طريق جراح القلب الناجح، نحو المناصب السياسية، فصار نائباً لوزير الصحة في حكومة الإصلاحي محمد خاتمي الأولى. وبعد فوز خاتمي، بفترة رئاسية ثانية عام 2001، تولى منصب وزير الصحة وبقي في المنصب لنهاية فترة خاتمي عام 2005.

خاتمي وصف بزشكيان عندما قدّمه إلى البرلمان بأنه «قوي التصميم وعلمي وحازم» وأن «اختياره جاء بسبب التزامه وإيمانه وإدارته المقبولة خلال السنوات الماضية». ومنذ دخوله الوزارة كان من صفاته البارزة أنه «عفوي وصادق، ويتحلى بالتواضع وروح الخدمة»، لكن بعد سنتين كاد يفقد منصبه، إثر استجوابه في البرلمان بسبب زياراته الخارجية وقفزة أسعار الخدمات الطبية والأدوية، وهي من المشاكل التي رآها الإصلاحيون متجذرة في المؤسسة الطبية الإيرانية. كذلك، اهتزت صورته وزيراً بعض الشيء بعد قضية المصوّرة الصحافية الكندية - الإيرانية زهراء كاظمي، التي توفيت في ظروف غامضة داخل سجن إيفين عام 2003 بعد 17 يوماً من اعتقالها، وذلك بسبب تقرير قدّمه عن أسباب الوفاة.

تجربة برلمانية غنية

بزشكيان ترشّح للانتخابات البرلمانية عن مدينة تبريز (كبرى المدن الآذرية في إيران) بعد سنتين من انتهاء مهمته الوزارية، وفاز ليغدو نائباً في البرلمان الثامن. وأعيد انتخابه في البرلمانات التاسع والعاشر والحادي عشر. ثم ترشح للمرة الخامسة في الانتخابات البرلمانية، قبل أن يترشح للرئاسة في الانتخابات المبكرة إثر مقتل الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة خلال مايو (أيار) الماضي.

هذا، ورغم اعتباره نائباً إصلاحياً عبر 5 دورات برلمانية، نأى بزشكيان بنفسه عن المواجهات الحادة بين الإصلاحيين والسلطة، وخصوصاً بعد الصدام الكبير في أعقاب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 2009، ورفض المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي الاعتراف بنتائج الانتخابات. وباستثناء حالات نادرة، فإن مواقفه لم تتعارض كثيراً مع النواب المعروفين بولائهم الشديد للمرشد الإيراني علي خامنئي، ومن ثم تحوّل تدريجياً إلى أحد النواب الأكثر نفوذاً في البرلمان.

الاتفاق النووي

تزامن إعادة انتخاب بزشكيان في البرلمان العاشر، مع حكومة حسن روحاني والتوصّل للاتفاق النووي. ويومذاك حصد الإصلاحيون غالبية المقاعد في العاصمة طهران وشكّلوا كتلة باسم «الأمل»، وحصل بزشكيان على الأصوات المطلوبة لتولي منصب نائب الرئيس الأول، لمدة 3 سنوات متتالية. وكان رئيس كتلة، نائبه الأول حالياً، محمد رضا عارف.

إجمالاً، دعم الرجل الاتفاق النووي قبل وبعد توقيعه في 2015، وأيضاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وعدّه السبيل الضروري لحل مشاكل إيران الاقتصادية والسياسية الناتجة عن العقوبات والعزلة الدولية، وآمن بأن الاتفاق «فرصة تاريخية» للعودة إلى الاقتصاد الدولي. كذلك أيّد بقوة قبول إيران قواعد «قوة مهمات العمل المالي» (فاتف)، المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وحينها، اقترح أن يقصر «الحرس الثوري» أنشطته المالية مع بنوك تابعة له للالتفاف على قوانين «فاتف»، منتقداً تدخل «الحرس» في بعض المجالات الاقتصادية. وفي المقابل، أشاد أكثر من مرة بدور الجهاز العسكري في الأمن الإيراني، ورأى أن البلاد لا يمكن أن تستمر من دون «الحرس الثوري»، ودعا إلى التركيز على هذا الدور، وارتدى الزي الرسمي لـ«الحرس الثوري» كغيره من النواب بعدما صنّفت الولايات المتحدة «الحرس» منظمة إرهابية. وبخلاف بعض النواب الإصلاحيين، كان بزشكيان من المؤيدين للتعاون العسكري الإيراني - الروسي في سوريا.

مع الإصغاء للناسإبان الاحتجاجات التي هزّت إيران أعوام 2017، و2019، و2021، كان بزشكيان جريئاً في طرح المشاكل، منتقداً تجاهل مطالب الشعب، خصوصاً حل الأزمة المعيشية. وأكد على ضرورة الاستماع إلى صوت الناس والاستجابة لاحتياجاتهم. ورأى أن قمع الاحتجاجات وحده ليس الحل، بل يجب معالجة الأسباب الجذرية للاستياء العام، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والبطالة والتمييز. وأشار مراراً إلى أن الفساد الإداري على مختلف المستويات قد فاقم الأزمات.

وبشكل عام، يؤمن بزشكيان بالحوار الوطني والإصلاحات التدريجية من خلال الآليات القانونية والسياسية، ومع التأكيد على احترام الحقوق المدنية، فإنه يسعى إلى إيجاد حلول سلمية للأزمات الداخلية. وحقاً، انتقد عدة مرات غياب لغة الحوار في الداخل الإيراني، لكنه نأى بنفسه عن الدعوات الإصلاحية لإجراء استفتاء لحل القضايا العالقة، ولا سيما السياسة الخارجية، ومنها تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

رئاسته وتحدياته

مواقف وقاموس بزشكيان النائب لا تختلف اليوم عن تطلعات بزشكيان الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، مع استبعاد أن يؤدي انتخابه إلى تغيير في موازين القوى بإيران. ويُذكر أن انتخابه أتى بعد 3 سنوات من رفض طلبه الترشّح للانتخابات الرئاسية في 2021، «لعدم أهليته السياسية» حسب «مجلس صيانة الدستور» حينذاك.

هذا، وكان قد ترشح لأول مرة لانتخابات الرئاسة عام 2013، لكنه انسحب لصالح حسن روحاني. ولكن في المرة الأخيرة، حصل على موافقة «مجلس صيانة الدستور»، في خطوة مفاجئة. وأدى القسم الدستورية يوم 27 مايو بعد أسبوع من مقتل رئيسي. وبعد 63 يوماً، وقف أمام البرلمان (30 يوليو - تموز) لأداء القسم رئيساً للجمهورية.

التوازن بين الولاء والإصلاح

حاول بزشكيان سواء في الانتخابات الرئاسية أو بعد تشكيل الحكومة، تقديم نفسه على أنه يؤمن بالحوار الداخلي، ويدافع عن حقوق المرأة، وعبّر عن انتقاد واضح للتدخلات الحكومية في الحياة الشخصية، والسياسات القمعية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وتعهّد أيضاً بإخراج إيران من العزلة الدولية، ورفع العقوبات عبر حلّ الأزمة النووية مع الغرب، كما تعهد بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وإعادة انخراط شبكة البنوك الإيرانية بالأسواق المالية العالمية، عبر قبول قواعد «فاتف». وأظهرت مواقفه أنه يتبنى نهجاً متوازناً يعتمد على الدبلوماسية لتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات. وفي المقابل، دأب على انتقاد السياسات القائمة على الشعارات التي لا تقدم حلولاً عملية.

لكن بزشكيان واجه انتقادات بأنه لم يقدم حتى الآن أي برنامج أو حلول للقضايا التي أثارها في الانتخابات الرئاسية. ورداً على الانتقادات، تعهد بتعزيز موقع الخبراء في فريقه التنفيذي، وأن يكون أداء حكومته متماشياً مع رؤية خطة التنمية السابعة، وهو برنامج لـ5 سنوات يغطي المجالات كافة، أقرّه البرلمان العام الماضي.

من جهة ثانية، خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه، حرص بزشكيان على إظهار تواضع كبير، سواء في مظهره أو خطابه المعتدل. وحاول تعزيز صورته رئيساً من خلال تبنيه للبساطة والابتعاد عن المغالاة في وعوده، ما يجعل أسلوبه مختلفاً عن كثير من السياسيين الإيرانيين الذين يفضلون التوجهات النخبوية أو الثورية.

أيضاً، اتخذ بزشكيان من «الوفاق الوطني» شعاراً لحكومته، وحذّر من خلافات داخلية تعرقل التآزر الوطني، حتى بعد انتخابه واصل التحذير من عواقب الخلافات على الاستقرار الداخلي، إذ يرى أن الصراعات الداخلية ستقود البلاد إلى مزيد من الفقر والمعاناة تحت العقوبات.

في أي حال، يواجه بزشكيان تحديات داخلية كبيرة، لأن المعسكر الإصلاحي المهمش يسعى لاستعادة تأثيره في الحياة السياسية، رغم خيبة الأمل الشعبية من الإصلاحيين بعد فترات حكمهم السابقة. وهو حتى الآن يدفع باتجاه التوازن بين الولاء الشديد للمرشد علي خامنئي ودعواته للتغيير والإصلاح. وبينما يظهر تمسكاً شديداً بمسار المؤسسة الحاكمة، ويؤكد أهمية المرشد ودوره، يزعم تبني أجندة إصلاحية تهدف إلى معالجة الفجوة بين الشعب والحكام، ما يعكس رغبته في التغيير ضمن إطار النظام الحالي، لا عبر مواجهته المباشرة.

هذه الازدواجية من رئيس يدرك حدود صلاحيات الرئاسة، تحت حكم المرشد، تعكس استراتيجيته للبقاء في المشهد السياسي الإيراني. ومن ثم إحداث تغييرات تدريجية، من دون التعرض للمصالح الاستراتيجية الأساسية التي تسيطر عليها السلطة العليا في إيران.