ياسر العطا... «المحارب القديم» المثير لـ«الجدل» في الحرب السودانية

شارك في عزل البشير... واتهم بأنه «أداة البرهان» ضد «القوى المدنية»

يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»
يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»
TT

ياسر العطا... «المحارب القديم» المثير لـ«الجدل» في الحرب السودانية

يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»
يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة لكنه لم يغامر من أجلها»

بزيٍّ عسكري، ونبرة صوت حادة مصحوبة بـ«ابتسامة تشجيع»، يحرص الذي يلقبه زملاؤه بـ«المحارب القديم»، على التجوّل بين الجنود في مختلف المناطق. يظهر العطا في مقاطع مصوّرة عدة، وهو يتلقى التحية من الضباط والجنود، فرداً فرداً، في لقطات تعبر عن «حميمية واضحة». يتجول في المدن لإظهار سيطرة الجيش، مستمتعاً بهتافات المواطنين عن «الجيش الواحد... والشعب الواحد». ويخاطب العطا الجماهير والجنود بعبارات «حماسية»، مؤكداً أن «المعركة قاربت على الانتهاء»، آملاً في محاكمة قيادات «قوات الدعم السريع»، وعلى رأسها محمد حمدان دقلو الشهير بـ«حميدتي»؛ كونه «غدر» بالجيش، وأدخل السودان في حرب بدأت عامها الثاني، وأودت بحياة ما يقارب 15 ألف قتيل، إضافة إلى أكثر من 8 ملايين نازح ولاجئ، بحسب إحصائيات أممية.

ياسر عبد الرحمن العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني، طامح في إنهاء الحرب الحالية بانتصار الجيش مهما بلغت التضحيات، وهو يؤكد باستمرار أنه «لا يوجد إنسان عزيز على وطنه»، مشيراً إلى أن «روح المواطن فداء لوطنه»، وأن «قتلى المعارك مصيرهم الجنة».

ولكن، رغم حرص المقاطع المصوّرة على إظهار العطا في صورة القائد العسكري المحبوب بين الجنود، وحتى المواطنين، والقائد الواثق من النصر، الذي يبث الحماس في الجنود، فإن تصريحاته - بجانب ظهوره الإعلامي المتزايد أخيراً - أخذت تثير «الجدل والغضب» أحياناً، لا سيما بين القوى المدنية الراغبة في إنهاء سيطرة الجيش على السلطة؛ إذ بلغت حد اتهامه بأنه «أداة سياسية» يستخدمها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان لـ«استفزاز القوى المدنية».

ابن عائلة عسكرية

ينتمي ياسر العطا إلى أسرة معروفة بارتباطها بالمؤسسة العسكرية. فقد كان عمه الأكبر هاشم العطا، أحد زملاء الرئيس الأسبق جعفر النميري، قبل أن ينشق عن حكمه ويُتهَم بالمشاركة في محاولة انقلابية بالتحالف مع «الحزب الشيوعي» انتهت بإعدامه عام 1971 مع زميليه فاروق حمد الله وبابكر النور عثمان وعدد من كبار القادة الشيوعيين على رأسهم أمين عام الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب، والنقابي البارز الشفيع أحمد الشيخ.

جاءت العائلة من وادي بشارة بوادي النيل إلى حوش العطا ببيت المال، وجاورت العديد من الأسر في حي عريق بمدينة أم درمان. والتحق ياسر العطا من ثم بالدفعة الـ33 في الكلية الحربية، ويقال إنه خلال اختبارات القبول بالكلية «دار حوار بينه وبين النميري، حيث سأله الأخير عما إذا كان سيقدم على إعدامه لو حدث انقلاب على السلطة كما فعل هو من قبل مع عمه»... وكانت إجابة العطا: «يا ريت». ولكن رغم ذلك قُبل في الكلية الحربية، وتخرّج فيها عام 1984، ليصبح ضابطاً في الجيش السوداني. ولاحقاً، حصل على شهادة الماجستير في العلوم العسكرية من جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا في العراق.

مسيرة ومناصب

تدرّج ياسر العطا في المناصب والمواقع العسكرية، وخدم في عدد من الوحدات بالقوات المسلحة، من بينها لواء القيادة العامة، والمناطق العسكرية الشرقية والجنوبية والغربية. وأيضاً، قاد الفرقة 14 مشاة، وتولى مواجهة «التمرّد» في جنوب كردفان.

وأيضاً شغل العطا الذي يعده البعض من «الشخصيات المؤثرة والبارزة في القوات المسلحة السودانية» منصب قائد قوات حرس الحدود.

بعد ذلك رُقّي إلى رتبة عميد عام 2007، وعين ملحقاً عسكرياً بالسفارة السودانية في جيبوتي، ما عدّه مراقبون يومذاك «استبعاداً له»، لا سيما مع محاولات إحالته للتقاعد فيما بعد. ولم تُجد تلك المحاولات نفعاً ليعود العطا إلى السودان عام 2014، حيث أصبح معيداً في كلية الحرب العليا، قبل أن يعيّن قائداً لمنطقة العمليات بجنوب السودان.

وما يذكر أنه خلال مشاركة العطا في «حرب الجنوب» لأكثر من 8 سنوات، أجاد لغات القبائل الجنوبية (الرطانة). وفيما بعد تولى منصب مدير إدارة العمليات البرية، ورقّي إلى رتبة فريق خلال التعديلات التي أجراها الرئيس السابق عمر البشير في قيادات الجيش السوداني. وحصل على عدد من الأوسمة والنوط، من بينها «وسام الخدمة الطويلة الممتازة»، و«وسام الشجاعة» من الطبقة الأولى والثانية.

المحارب القديم

تاريخ العطا السياسي والعسكري مليء بالأحداث والمتناقضات، فهو يعد واحداً من قادة الجيش الذين شاركوا في عزل البشير في أبريل (نيسان) 2019، بل إنه شارك في عملية القبض عليه حين كان وقتها يشغل منصب قائد القوات البرية للجيش السوداني.

وبعد الإطاحة بالبشير، كان الفريق العطا واحداً من عشرة ضباط شكّلوا «المجلس العسكري الانتقالي»... إلا أن العدد تقلص فيما بعد إلى ستة ضباط.

ومن ثم، عين العطا نائباً لرئيس اللجنة السياسية بـ«المجلس العسكري الانتقالي». وظل في هذا المنصب، حتى 21 أغسطس (آب)، حين جرى تشكيل «المجلس السيادي» الذي أصبح عضواً به.

واختير العطا رئيساً للجنة تفكيك «نظام 30 يونيو»، لكن أداءه أثار انتقادات، ما دفعه للاستقالة من اللجنة. وحول هذا الموضوع قال العطا في حوار لصحيفة «السوداني» عام 2021، إنه استقال «لأن عمل اللجنة تنفيذي، وهناك انتقاد مستمر من كافة مستويات الحكم ومعظم مكوّنات الحاضنة السياسية لقانون ونهج عمل اللجنة».

وفي مارس (آذار) 2022، تحدثت وسائل إعلام سودانية عن طلب لرفع الحصانة عن العطا «على خلفية تخصيصه عربات مستردة بواسطة لجنة إزالة التمكين التي كان يترأسها». ولم يرد النائب العام على الطلب. ويوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، أصدر البرهان قراراً بتجميد عمل اللجنة.

مهنياً، يعد العطا من «العسكريين الملتزمين بقواعد العسكرية»؛ لذلك يوصف من قبل زملائه وضباط سابقين بـ«المحارب القديم».

آراء متباينة

تتباين الآراء بين أنصاره ومعارضيه، وفي حين يصفه أنصاره بأنه «رجل عسكري من الطراز الأول، مشهود بكفاءته، ونزاهته، وبعده عن الانتماءات الطائفية والحزبية»، فإنه على الجانب الآخر لا يسلم من الانتقادات. وتذكر مواقع سودانية واحدة من الوقائع التي تعرّض فيها العطا لانتقادات، عند حصار مدينة جوبا عام 1992، وكان وقتها برتبة نقيب، حيث اقترح أن يتولى مهمة فك الحصار.

ورغم «نجاحه في المهمة»، أحيل العطا للتحقيق بتهمة «العمالة والتجسس»، غير أن التحقيقات أثبتت بطلان تلك الاتهامات، ليلمع نجمه من جديد «قائداً عسكرياً قادراً على التخطيط وإدارة المعارك». لكن التبرئة لم تحل دون استمرار استهدافه والهجوم عليه من قِبل «أتباع نظام البشير»، ما دفع مراقبين حينئذٍ للقول إن «استهدافه راجع لدعمه مسار الانتقال الديمقراطي بشكل جدي وحقيقي»، وهو التفسير الذي تغير لاحقاً.

من ناحية أخرى، بينما يتكلم البعض عن شعبية العطا وقدراته العسكرية، فإن آخرين يزعمون العكس تماماً. وهذا ما أشار إليه تقرير نشر في صحيفة «الراكوبة» السودانية يتهم العطا بـ«ارتكاب أخطاء أودت بحياة عدد من الجنود، من بينها إرسال مجموعة في مهمة استطلاع خطيرة دون حاجة تكتيكية، رغم معارضة الضباط الآخرين، ما تسبب في مقتل المجموعة كلها».

وبالفعل، تختلف التقديرات بشأن انتماءات العطا؛ ففي حين تشير مواقع سودانية، نقلاً عن مراقبين، إلى أنه «لم ينتم إلى تنظيم الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية داخل الجيش»، وأنه «ملتزم بواجباته العسكرية، ولا يجنح للظهور والخطابات الجماهيرية»، فإنه جُوبه أخيراً بانتقادات تزعم «دعمه مشاركة الإسلاميين ضمن صفوف الجيش في الحرب الدائرة ضد (قوات الدعم السريع)، كما «أثار ظهوره الإعلامي المكثف في الآونة الأخيرة جدلاً وانتقادات».

تنافس أم توزيع أدوار؟

لعل أبرز محطات الجدل في تاريخ ياسر العطا، ما أحدثه تصريح له خلال الشهر الماضي، قال فيه إن «الجيش لن يسلّم السلطة لقوى سياسية أو مدنية أو أحزاب دون انتخابات».

وأضاف العطا، في كلمة مصوّرة بثّها تلفزيون السودان، أنه لا بد من فترة انتقالية يكون القائد العام للجيش «رأسَ الدولة ومشرفاً عليها»، تشارك فيها الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها الجيش والشرطة والأمن.

هذا التصريح أغضب «القوى المدنية» التي عدّته دليلاً على «رغبة الجيش في الاستئثار بالسلطة»، وأثار ضده اتهامات بأنه «أداة البرهان السياسية التي يستخدمها في استفزاز المعارضة»، بينما رأى آخرون أن «العطا وسيلة لإظهار مواقف البرهان الحقيقية الرامية للسيطرة على الحكم في البلاد».

في مطلق الأحوال، عزّز تصريح العطا الصراع بين الجيش و«القوى المدنية»، وزاد حدة التوترات السياسية في السودان الذي يشهد حرباً ضارية لا يعلم أحد متى ستنتهي، وإلى أين سيؤول مصير البلاد، وسط صراعات داخلية تجعل التوافق على عملية انتقال ديمقراطي أمراً صعباً.

وفي سياق التباينات والتناقضات هذا، يرى البعض أن العطا «ليس أداة في يد البرهان، بل على النقيض من ذلك... هو منافس له، لن يمانع من تولي السلطة إذا أتيحت له الفرصة، لكنه لن يغامر من أجلها».

ويشير مراقبون إلى أن «العطا يخدم أجندته الشخصية كخليفة محتمل للبرهان»، في حين يرى آخرون أن ما يصدر من جانب العطا من مواقف أو تصريحات يندرج تحت «سياسة توزيع الأدوار بينه وبين البرهان».

«سيناريو» البرهان ــ حميدتي

الواقع أن مواقف العطا تثير مخاوف من تكرار «سيناريو» البرهان وحميدتي، حيث تحولت صداقتهما إلى عداء، عملاً بالمثل المتداول بين العسكريين السودانيين «أخوّة الكاب حدّها الباب»، ما يعني أن الصداقة بينهم مؤقتة وقابلة للانقلاب إلى عداوة في أي وقت، متى تضاربت مصالحهم، وأن خصومتهم ستُحسم بالرصاص والحراب.

إن أحداً لا يستطيع الجزم بما إذا كان العطا طامحاً في الحكم أم لا. غير أن هذه المخاوف عزّزها موقف آخر، عقب تصريحات أدلى بها العطا، ونائب القائد العام للجيش السوداني الفريق أول شمس الدين كباشي، بشأن «المقاومة الشعبية»، والموقف من التفاوض من أجل وقف الحرب، وأظهرت تبايناً في المواقف، وأثارت تساؤلات بشأن «وجود صراع داخل قيادة الجيش»، أو «تبادل للأدوار» بين خطاب للداخل وآخر للخارج.

إذ بينما حذر الكباشي من «خطر عمل المقاومة الشعبية المسلحة خارج إمرة القوات المسلحة»، وندد باستغلال الأحزاب السياسية معسكرات الجيش، في كلام رآه موجهاً للإسلاميين، خرج العطا ليدعو إلى التوقف عن «اتهام الجيش بالتحالف مع مؤيدي النظام السابق من الإسلاميين»، مبدياً ترحيبه بكل من يقاتل في صفوف الجيش.

مواقف متبدلة

وهكذا، بين الحين والآخر، تتبدل مواقف العطا، فالرجل الذي ارتدى زيه العسكري مع انطلاق شرارة الحرب في السودان في 15 أبريل الماضي، وتوجّه إلى ثكنة عسكرية بالقرب من محل إقامته، حيث «سلاح المهندسين»، ظل صامتاً خلال الشهور الأولى من الحرب، قبل أن يخرج عن صمته ويبدأ في الإدلاء بتصريحات إعلامية وجّه خلالها انتقادات للداخل، طال بعضها دولاً في الإقليم.اليوم، يبدو العطا واثقاً من الانتصار في الحرب. وفي حوار سابق مع «الشرق الأوسط» في مايو (أيار) من العام الماضي، قال العطا: «قريباً جداً ستنتهي مسرحية آل دقلو الهزيلة، وستهزم قوات المغول والتتار»، مضيفاً أن «المعارك لن تقود إلى حرب أهلية؛ لأن الجيش السوداني فيه كل قبائل السودان».


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان
TT

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان

لا يُعد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي سيبلغ السبعين من العمر الأحد المقبل، من ساسة الرعيل الأول الذين شاركوا في ثورة الخميني عام 1979 أو قادة الأحزاب السياسية، بما في ذلك التيار الإصلاحي، الذي ينتمي إليه. ثم إنه ليس من المحسوبين على الجهازين الأمني والعسكري، رغم حضوره في المشهد السياسي الإيراني، وتدرجه البطيء في المناصب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وكان بزشكيان، الذي أطل على العالم بالأمس من منبر «الأمم المتحدة»، قد فاز في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية المبكرة مدعوماً من الإصلاحيين، وفيها تغلب على المرشح المحافظ المتشدد سعيد جليلي، وحصل على أقل عدد من أصوات الناخبين بعد ثورة 1979، نظراً للمقاطعة التي وصلت إلى مستويات قياسية rnغير مسبوقة.

ولد مسعود بزشكيان في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، لأب آذري تركي وأم كردية في مدينة مهاباد، بمحافظة أذربيجان الغربية، ثم انتقل إلى مدينة أورمية حيث أكمل دراسته الثانوية. والتحق بالتجنيد الإلزامي وأمضى سنتين في محافظة بلوشستان بجنوب شرقي البلاد، قبل أن ينتقل إلى طهران لدراسة الطب، وهناك توقفت دراسته في السنة الأولى بسبب أحداث الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. وخلال سنتين من تعطل الجامعات الإيرانية بسبب ما يعرف بـ«الثورة الثقافية»، تزوّج بزشكيان ورزق بـ4 أبناء، لكنه فقد زوجته وأحد أبنائه في حادث سير مؤلم في 1993، ورفض الزواج ثانية.

الحرب العراقية الإيرانية

تزامنت عودة بزشكيان للدراسة في السنة الجامعية الثانية مع بداية الحرب الإيرانية - العراقية، وكذلك المعارك بين «الحرس الثوري» والأحزاب الكردية المعارضة. وانضم إلى الطاقم الطبي في جبهات الحرب، بمحافظة كردستان، قبل أن يتوجه جنوباً إلى مدينة عبادان التي شهدت معارك شرسة وأصبح مسؤولاً عن الفرق الطبية في جبهات الحرب. وبعد سنوات قليلة، عاد لإكمال دراسته في 1985.

ساهم سجلّ الرجل في جبهات الحرب بتسهيل مشواره العلمي، مستفيداً من الامتيازات الخاصة التي تمنحها السلطات للعسكريين في الحرب. وبالفعل، حصل عام 1990 على شهادة الاختصاص في الجراحة العامة، واستغرق الأمر 3 سنوات لحصوله على الاختصاص في جراحة القلب. ومن ثم، التحق بمستشفى أمراض القلب في مدينة تبريز، وأصبح رئيساً له، وصار أستاذاً جامعياً بقسم القلب والشرايين في جامعة تبريز للعلوم الطبية، لكنه لم يُقبل في المجمع الطبي الإيراني إلا عام 2010.

المسار السياسي

أداء بزشكيان المهني، وخصوصاً رئاسة جامعة العلوم الطبية في تبريز، أسهم بشقّ طريق جراح القلب الناجح، نحو المناصب السياسية، فصار نائباً لوزير الصحة في حكومة الإصلاحي محمد خاتمي الأولى. وبعد فوز خاتمي، بفترة رئاسية ثانية عام 2001، تولى منصب وزير الصحة وبقي في المنصب لنهاية فترة خاتمي عام 2005.

خاتمي وصف بزشكيان عندما قدّمه إلى البرلمان بأنه «قوي التصميم وعلمي وحازم» وأن «اختياره جاء بسبب التزامه وإيمانه وإدارته المقبولة خلال السنوات الماضية». ومنذ دخوله الوزارة كان من صفاته البارزة أنه «عفوي وصادق، ويتحلى بالتواضع وروح الخدمة»، لكن بعد سنتين كاد يفقد منصبه، إثر استجوابه في البرلمان بسبب زياراته الخارجية وقفزة أسعار الخدمات الطبية والأدوية، وهي من المشاكل التي رآها الإصلاحيون متجذرة في المؤسسة الطبية الإيرانية. كذلك، اهتزت صورته وزيراً بعض الشيء بعد قضية المصوّرة الصحافية الكندية - الإيرانية زهراء كاظمي، التي توفيت في ظروف غامضة داخل سجن إيفين عام 2003 بعد 17 يوماً من اعتقالها، وذلك بسبب تقرير قدّمه عن أسباب الوفاة.

تجربة برلمانية غنية

بزشكيان ترشّح للانتخابات البرلمانية عن مدينة تبريز (كبرى المدن الآذرية في إيران) بعد سنتين من انتهاء مهمته الوزارية، وفاز ليغدو نائباً في البرلمان الثامن. وأعيد انتخابه في البرلمانات التاسع والعاشر والحادي عشر. ثم ترشح للمرة الخامسة في الانتخابات البرلمانية، قبل أن يترشح للرئاسة في الانتخابات المبكرة إثر مقتل الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة خلال مايو (أيار) الماضي.

هذا، ورغم اعتباره نائباً إصلاحياً عبر 5 دورات برلمانية، نأى بزشكيان بنفسه عن المواجهات الحادة بين الإصلاحيين والسلطة، وخصوصاً بعد الصدام الكبير في أعقاب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 2009، ورفض المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي الاعتراف بنتائج الانتخابات. وباستثناء حالات نادرة، فإن مواقفه لم تتعارض كثيراً مع النواب المعروفين بولائهم الشديد للمرشد الإيراني علي خامنئي، ومن ثم تحوّل تدريجياً إلى أحد النواب الأكثر نفوذاً في البرلمان.

الاتفاق النووي

تزامن إعادة انتخاب بزشكيان في البرلمان العاشر، مع حكومة حسن روحاني والتوصّل للاتفاق النووي. ويومذاك حصد الإصلاحيون غالبية المقاعد في العاصمة طهران وشكّلوا كتلة باسم «الأمل»، وحصل بزشكيان على الأصوات المطلوبة لتولي منصب نائب الرئيس الأول، لمدة 3 سنوات متتالية. وكان رئيس كتلة، نائبه الأول حالياً، محمد رضا عارف.

إجمالاً، دعم الرجل الاتفاق النووي قبل وبعد توقيعه في 2015، وأيضاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وعدّه السبيل الضروري لحل مشاكل إيران الاقتصادية والسياسية الناتجة عن العقوبات والعزلة الدولية، وآمن بأن الاتفاق «فرصة تاريخية» للعودة إلى الاقتصاد الدولي. كذلك أيّد بقوة قبول إيران قواعد «قوة مهمات العمل المالي» (فاتف)، المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وحينها، اقترح أن يقصر «الحرس الثوري» أنشطته المالية مع بنوك تابعة له للالتفاف على قوانين «فاتف»، منتقداً تدخل «الحرس» في بعض المجالات الاقتصادية. وفي المقابل، أشاد أكثر من مرة بدور الجهاز العسكري في الأمن الإيراني، ورأى أن البلاد لا يمكن أن تستمر من دون «الحرس الثوري»، ودعا إلى التركيز على هذا الدور، وارتدى الزي الرسمي لـ«الحرس الثوري» كغيره من النواب بعدما صنّفت الولايات المتحدة «الحرس» منظمة إرهابية. وبخلاف بعض النواب الإصلاحيين، كان بزشكيان من المؤيدين للتعاون العسكري الإيراني - الروسي في سوريا.

مع الإصغاء للناسإبان الاحتجاجات التي هزّت إيران أعوام 2017، و2019، و2021، كان بزشكيان جريئاً في طرح المشاكل، منتقداً تجاهل مطالب الشعب، خصوصاً حل الأزمة المعيشية. وأكد على ضرورة الاستماع إلى صوت الناس والاستجابة لاحتياجاتهم. ورأى أن قمع الاحتجاجات وحده ليس الحل، بل يجب معالجة الأسباب الجذرية للاستياء العام، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والبطالة والتمييز. وأشار مراراً إلى أن الفساد الإداري على مختلف المستويات قد فاقم الأزمات.

وبشكل عام، يؤمن بزشكيان بالحوار الوطني والإصلاحات التدريجية من خلال الآليات القانونية والسياسية، ومع التأكيد على احترام الحقوق المدنية، فإنه يسعى إلى إيجاد حلول سلمية للأزمات الداخلية. وحقاً، انتقد عدة مرات غياب لغة الحوار في الداخل الإيراني، لكنه نأى بنفسه عن الدعوات الإصلاحية لإجراء استفتاء لحل القضايا العالقة، ولا سيما السياسة الخارجية، ومنها تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

رئاسته وتحدياته

مواقف وقاموس بزشكيان النائب لا تختلف اليوم عن تطلعات بزشكيان الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، مع استبعاد أن يؤدي انتخابه إلى تغيير في موازين القوى بإيران. ويُذكر أن انتخابه أتى بعد 3 سنوات من رفض طلبه الترشّح للانتخابات الرئاسية في 2021، «لعدم أهليته السياسية» حسب «مجلس صيانة الدستور» حينذاك.

هذا، وكان قد ترشح لأول مرة لانتخابات الرئاسة عام 2013، لكنه انسحب لصالح حسن روحاني. ولكن في المرة الأخيرة، حصل على موافقة «مجلس صيانة الدستور»، في خطوة مفاجئة. وأدى القسم الدستورية يوم 27 مايو بعد أسبوع من مقتل رئيسي. وبعد 63 يوماً، وقف أمام البرلمان (30 يوليو - تموز) لأداء القسم رئيساً للجمهورية.

التوازن بين الولاء والإصلاح

حاول بزشكيان سواء في الانتخابات الرئاسية أو بعد تشكيل الحكومة، تقديم نفسه على أنه يؤمن بالحوار الداخلي، ويدافع عن حقوق المرأة، وعبّر عن انتقاد واضح للتدخلات الحكومية في الحياة الشخصية، والسياسات القمعية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وتعهّد أيضاً بإخراج إيران من العزلة الدولية، ورفع العقوبات عبر حلّ الأزمة النووية مع الغرب، كما تعهد بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وإعادة انخراط شبكة البنوك الإيرانية بالأسواق المالية العالمية، عبر قبول قواعد «فاتف». وأظهرت مواقفه أنه يتبنى نهجاً متوازناً يعتمد على الدبلوماسية لتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات. وفي المقابل، دأب على انتقاد السياسات القائمة على الشعارات التي لا تقدم حلولاً عملية.

لكن بزشكيان واجه انتقادات بأنه لم يقدم حتى الآن أي برنامج أو حلول للقضايا التي أثارها في الانتخابات الرئاسية. ورداً على الانتقادات، تعهد بتعزيز موقع الخبراء في فريقه التنفيذي، وأن يكون أداء حكومته متماشياً مع رؤية خطة التنمية السابعة، وهو برنامج لـ5 سنوات يغطي المجالات كافة، أقرّه البرلمان العام الماضي.

من جهة ثانية، خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه، حرص بزشكيان على إظهار تواضع كبير، سواء في مظهره أو خطابه المعتدل. وحاول تعزيز صورته رئيساً من خلال تبنيه للبساطة والابتعاد عن المغالاة في وعوده، ما يجعل أسلوبه مختلفاً عن كثير من السياسيين الإيرانيين الذين يفضلون التوجهات النخبوية أو الثورية.

أيضاً، اتخذ بزشكيان من «الوفاق الوطني» شعاراً لحكومته، وحذّر من خلافات داخلية تعرقل التآزر الوطني، حتى بعد انتخابه واصل التحذير من عواقب الخلافات على الاستقرار الداخلي، إذ يرى أن الصراعات الداخلية ستقود البلاد إلى مزيد من الفقر والمعاناة تحت العقوبات.

في أي حال، يواجه بزشكيان تحديات داخلية كبيرة، لأن المعسكر الإصلاحي المهمش يسعى لاستعادة تأثيره في الحياة السياسية، رغم خيبة الأمل الشعبية من الإصلاحيين بعد فترات حكمهم السابقة. وهو حتى الآن يدفع باتجاه التوازن بين الولاء الشديد للمرشد علي خامنئي ودعواته للتغيير والإصلاح. وبينما يظهر تمسكاً شديداً بمسار المؤسسة الحاكمة، ويؤكد أهمية المرشد ودوره، يزعم تبني أجندة إصلاحية تهدف إلى معالجة الفجوة بين الشعب والحكام، ما يعكس رغبته في التغيير ضمن إطار النظام الحالي، لا عبر مواجهته المباشرة.

هذه الازدواجية من رئيس يدرك حدود صلاحيات الرئاسة، تحت حكم المرشد، تعكس استراتيجيته للبقاء في المشهد السياسي الإيراني. ومن ثم إحداث تغييرات تدريجية، من دون التعرض للمصالح الاستراتيجية الأساسية التي تسيطر عليها السلطة العليا في إيران.