بسيرو ديوماي فاي «صديق عثمان سونكو»... الذي يسعى إلى تغيير وجه السنغال

تحوّلات دراماتيكية حملته من السجن إلى قصر الرئاسة

بسيرو ديوماي فاي «صديق عثمان سونكو»... الذي يسعى إلى تغيير وجه السنغال
TT

بسيرو ديوماي فاي «صديق عثمان سونكو»... الذي يسعى إلى تغيير وجه السنغال

بسيرو ديوماي فاي «صديق عثمان سونكو»... الذي يسعى إلى تغيير وجه السنغال

عندما وقف السياسي الشاب بسيرو (بشير) ديوماي فاي، ليؤدي اليمين الدستورية رئيساً جديداً للسنغال مطلع الشهر الحالي، لم يكن يتصور أنه قبل سنة واحدة فقط كان يقف في مكان وظروف مختلفة تماماً، ففي أبريل (نيسان) من العام الماضي لم يكن فاي سوى سجين متهم بالتشهير والقيام بأعمال من شأنها «تعريض السلام العام للخطر». ولكن ما بين أبريل 2023، وأبريل 2024 جرت في نهر الحياة السياسية السنغالية مياه كثيرة، قادت سفينة مفتش الضرائب السابق، الآتي من إحدى القرى النائية بريف السنغال، إلى قصر الرئاسة، لتدور حياة فاي في بضعة أيام دورة كاملة.

قبل 10 أيام فقط من انطلاق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية السنغالية لم يكن ذلك، بسيرو (بشير) ديوماي فاي، السياسي ابن الـ44 سنة، سوى سجين يترقب مصيره خلف الأسوار، فإذا به يخرج من السجن ليتصدر قائمة المرشحين، ويحظى بفوز حاسم من الجولة الأولى في مواجهة مرشح الائتلاف الحاكم. ولقد جاء هذا الفوز بمثابة لحظة فارقة في تاريخ السنغال، ليس بوصول أصغر رئيس في تاريخ البلاد إلى القصر الرئاسي فقط، أو لأنه آتٍ من صفوف المعارضة، بل باعتبار ما حدث تحولاً جوهرياً للإرث السياسي للبلاد الذي استقر طيلة 6 عقود.

فاي عام 1980 في قرية ندياجانياو، وهي قرية زراعية صغيرة في غرب السنغال، تتبع إقليم تييس، ثاني أكبر أقاليم البلاد، وموطن رئيسها الأول ليوبولد سيدار سونغور، في هذه المنطقة الفقيرة، عاش جزءاً من طفولته ومراهقته، قبل أن يحصل على الثانوية العامة (البكالوريا) عام 2000، بعد صعوبات تعليمية ومجموع متوسط مكّنه من الالتحاق بـ«المدرسة الوطنية للإدارة» في جامعة الشيخ أنتا جوب بالعاصمة داكار، حيث تخرّج عام 2007، حاصلاً على «المتريز» (الإجازة) في القانون. بعدها انضم إلى الإدارة العامة للضرائب والممتلكات، وعمل مفتشاً للضرائب. غير أن تلك الوظيفة شكّلت نقطة تحول حقيقية في حياة ذلك الشاب الذي لم يكن حتى تلك اللحظة لديه طموحات سياسية كبيرة، بل ربما اقتصر الأمر على رغبته في الترقي المهني.

التعرّف إلى سونكو

تمثلت نقطة التحوّل في لقاء فاي بشاب يكبره بـ5 سنوات، لكنه كان شغوفاً بالسياسة، ومفعماً بأحلام التغيير، وسيصبح لاحقاً صديق عمره وقائده في دروب العمل السياسي. ذلك الشاب هو عثمان سونكو، الذي كان يتردد على النادي الرياضي نفسه الذي كان يتردد عليه فاي. وكذلك، عمل أيضاً مفتشاً للضرائب في تلك الفترة.

وهكذا، انطلقت رحلة صعود الصديقين، سونكو وفاي، من رحم المعاناة المهنية. إذ سعى الأول إلى تأسيس نقابة للوكلاء الضريبيين والماليين، لينضم إليه الأخير ويتشاركا العمل على كشف التجاوزات وسوء الإدارة في كثير من مجالات العمل الحكومي بالبلاد. لكن يبدو أن العمل في الضرائب ما كان كافياً لإشباع تطلّعات الشابين الطامحين للتغيير، فخلال عام 2014 شارك فاي رفيق رحلة الكفاح سونكو في تأسيس «حزب الوطنيين الأفارقة السنغاليين من أجل العمل والأخلاق والأخوة» - أو «الحزب الوطني السنغالي» - في قاعة صغيرة بجامعة داكار، وهو الحزب الذي ترأسه عثمان سونكو، وأصبح فاي أمينه العام في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022.

برزت قدرات فاي في إطار التنظيم الحزبي الجديد، عندما تحوّل إلى «العقل المدبّر» لتوسع الحزب في الخارج، ولا سيما أوروبا. في حين صار سونكو، بخطابه الراديكالي، مصدر إزعاج للسلطات الحاكمة، التي لم تحاول فقط تقليص نشاط السياسي الشاب، عبر سجنه، بل سعت إلى حرمانه من المنصة السياسية التي ينطلق منها، أي الحزب الذي يتزعمه. وهكذا، جاء قرار حلّ الحزب في يوليو (تموز) 2023 تالياً لاعتقال عدد من قياداته، ومنهم فاي يوم 14 أبريل من العام ذاته بتهم الإساءة إلى قاضٍ، والتشهير، وارتكاب أعمال من شأنها تعريض السلام العام للخطر. كل هذا، لانتقاده عبر منشور على صفحته بموقع «فيسبوك» طريقة تعامل القضاء مع قضية عثمان سونكو الذي سبقه إلى السجن، ومُنع من الترشح لانتخابات الرئاسة، فاختار فاي بديلاً له ليخوض الانتخابات التي كادت تتحول إلى نهاية للديمقراطية السنغالية.

من السجن إلى القصر

لقد تضاعفت المخاوف من أن تنجرف السنغال إلى المسار «الانقلابي» عندما أعلن الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، يوم 3 فبراير (شباط) الماضي، تأجيل الانتخابات التي كانت مقرّرة في 25 من الشهر ذاته. إذ انفجر الشارع السنغالي غضباً، ووقعت صدامات في الشارع راح ضحيتها قتلى ومصابون، وقاطع معظم الأحزاب السياسية والمرشحون الـ19 لتلك الانتخابات دعوات الرئيس سال للحوار.

عندها، تراجع الرئيس رغم موافقة البرلمان الذي تسيطر عليه غالبية من الائتلاف الحاكم على قرار التأجيل، لكن «المجلس الدستوري» (أعلى سلطة قانونية في السنغال) أبطل تلك القرارات، ودعا إلى إجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن، وهنا أيضاً اضطر الرئيس سال إلى إعلان إجراء الانتخابات في 24 مارس (آذار) الماضي.

في هذه الأثناء، كان الصديقان سونكو وفاي لا يزالان خلف أسوار السجن، وإن بدا الأخير في وضع أفضل نسبياً. إذ غاب اسم رئيس الحزب السجين عثمان سونكو عن قائمة مرشحي الرئاسة التي أعلنها «المجلس الدستوري» يوم 13 يناير (كانون الثاني) الماضي، رغم كل التقديرات التي كانت تشير إلى أنه أبرز المرشحين المؤهلين لمنافسة أمادو با، المرشح المدعوم من الرئيس ماكي سال، بينما استطاع فاي دخول القائمة، كمرشح بديل. أما السبب فهو أن سونكو المحكوم قضائياً بالسجن لمدة سنتين لا يحق له خوض الانتخابات، في حين لم يخضع فاي للمحاكمة، وبالتالي، لم يصدر ضده أي حكم قضائي.

لعبت الأقدار إذاً لعبتها، وأصبح فاي مرشحاً للانتخابات الرئاسية رغم كونه موقوفاً في سجن كاب مانويل، بضواحي العاصمة داكار، من دون محاكمة. وللعلم، لم تكن أكثر التوقعات تفاؤلاً ترشّحه للفوز من الجولة الأولى، لكن قبل 10 أيام من الانتخابات الرئاسية تبدّلت الأمور، وأطلق سراح كل من فاي وسونكو بموجب قانون عفو.

لم يكن أمام الصديقين فسحة من الوقت لتنظيم حملة انتخابية بالمعايير المعتادة، لمنافسة مرشحين ينتمون إلى أحزاب معارضة أخرى، وفي مواجهة قوى الائتلاف الحاكم، التي كان يمثلها المرشح الذي اختاره الرئيس سال ليخلفه، أي أمادو با، الذي شغل كثيراً من المناصب الوزارية ويتمتع بخبرة طويلة في دهاليز السياسة والحكم.

استفاد فاي من حالة التعاطف الشعبي التي تسببت فيها فترة سجنه لمدة سنة من دون محاكمة، إضافة إلى تركيز خطاباته على مشكلات الطبقات الهشة والمهمشة

توظيف الغضب

استعان تحالف سونكو وفاي، بما برع فيه الصديقان منذ دخولهما عالم السياسة، وهو اللعب على مشاعر الغضب والإحباط المتراكمة لدى قطاعات واسعة من الشباب السنغالي، كما استطاعا توظيف غضب المجتمع السنغالي جراء ارتفاع الأسعار، وتدني فرص التشغيل، واختلال سياسات التوازن الاقتصادي.

أيضاً، استفاد فاي من حالة التعاطف الشعبي التي تسببت فيها فترة سجنه لمدة سنة من دون محاكمة، إضافة إلى تركيز خطاباته على مشكلات الطبقات الهشة والمهمشة. ومن ناحية أخرى، استفاد من دعم المرشح المُستبعد كريم واد، نجل الرئيس السنغالي الأسبق عبد الله واد، المدعوم من عدد من الأحزاب السياسية. وبالنهاية، استطاع الشاب الذي لم يتولّ أي منصب رسمي في البلاد، الفوز في الانتخابات حاصلاً على أكثر من 54 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، مقابل 35 في المائة لمرشح الائتلاف الحاكم أمادو با ، ليغدو الرئيس الخامس في سلسلة رؤساء السنغال منذ الاستقلال، والأصغر سناً على الإطلاق.

ما يعرف عن الرئيس الجديد أنه لا يفصح بشكل علني عن تبنيه آيديولوجيا سياسية محددة، بل يركز في معظم خطبه على قضايا اجتماعية ورغبة عميقة في تأكيد الاستقلال عن الهيمنة الفرنسية، بجانب التركيز على قضايا الإصلاح والحريات. إلا أن كثيراً من التقارير تشير إلى أنه كان مقرباً خلال دراسته الجامعية من الحركات الطلابية ذات النزعة الإسلاموية والمرتبطة بجماعة «عباد الرحمن»، وهي حركة سنغالية تتبنى فكر تنظيم «الإخوان المسلمين»، وأسست في أواخر سبعينات القرن الماضي. ولعل ذلك ما دفع صحيفة «لوموند» الفرنسية إلى نشر تقرير عن «فاي» ادعت فيه أنه «امتداد لـ(الإخوان المسلمين)، وسيشكل قطيعة مع ما درج عليه النظام السياسي في السنغال». ومع أن الرئيس الجديد لم يُبد انحيازاً واضحاً لتيار سياسي محدد، نجد أن كثيرين من المراقبين يرون أن عثمان سونكو «جزء من الظاهرة الإسلاموية» التي تتمدد في السنغال.

 

وعود بإدارة «أخلاقية»

في أي حال، يراهن فاي على أنه سيقدم وجها مختلفاً للحاكم القادم من مقاعد المعارضة، إذ تعهد عقب إعلان فوزه بأن «السنغال ستكون بلد الأمل والسلام، مع نظام قضائي مستقل وديمقراطية أقوى»، كما وعد بإدارة الأمور بـ«طريقة أخلاقية» وبناء الاقتصاد.

وخلال حملته الانتخابية قال فاي أنه «مرشح تغيير النظام» و«الوحدة الإفريقية»، ووعد بمكافحة الفساد وتوزيع الثروات بصورة أفضل ومعاودة التفاوض بشأن اتفاقات المناجم والغاز والنفط المبرمة مع الشركات الأجنبية. وأيضاً، تعهد بـ«تطهير الطبقة السياسية من خلال إبعاد المفسدين من السلطة واستعادة سيادة السنغال»، وفق تعبيره.

طموحات فاي تبدو عالية السقف، فهي تتراوح من مراجعة اتفاقيات الصيد مع الدول المجاورة، حيث تتضاءل الموارد السمكية التي تدعم نحو 600 ألف أسرة سنغالية، لتصل إلى مراجعة اتفاقيات الدفاع مع فرنسا بهدف «استعادة السيادة»، وهو التعبير الذي استخدمه ما لا يقل عن 18 مرة في خطاب الفوز بالانتخابات. لكن هذه الوعود الصاخبة التي قد تستهوي الناخبين وتجتذب الأصوات، غالباً ما تخبو عندما تصطدم بحقائق الواقع، فضلاً عما يمكن أن تثيره من مخاوف ما يسمى بمؤسسات «الدولة العميقة» التي غالباً ما تنظر بقلق إلى شعارات كـ«التطهير» و«إعادة بناء المؤسسات».

ثم إن التحديات التي سيواجهها الرئيس السنغالي الجديد لا تقتصر على الإصلاح السياسي فقط. إذ إن النمو السكاني السريع في السنغال يشكل تحدياً كبيراً للحكومة، فنحو 20 في المائة من الشباب عاطلون عن العمل، ويشكل الفقر نسبة 36.6 في المائة من إجمالي تعداد السكان البالغ 18 مليون نسمة. ومع أن السنغال تمتلك أراضي زراعية شاسعة، فإنها تستورد 70 في المائة من احتياجاتها الغذائية، ولا تزال الزراعة تعتمد على الطرق البدائية، وبحسب «الأمم المتحدة»، تصنف البلاد كواحدة من أقل الدول نمواً، رغم الخطوات التي قامت بها لتحقيق التنمية الاقتصادية. وبالتالي، سيكون على فاي أن يتعامل مع تحديات اقتصادية متراكمة مع تجاوز حجم الدين الخارجي للسنغال 13.5 مليار دولار، وذهاب 36 في المائة من صادرات البلاد لسداد الديون. وأيضاً، هناك واقع اعتماد الدولة السنغالية على القروض والمنح، ما يبقيها رهينة لضغوط قوية من الشركاء الخارجيين، وقد تجد صعوبات في تمويل الوعود الانتخابية الطموحة التي أطلقها فاي خلال حملته الرئاسية.

تحديات... بالجملة

الواقع أن التحديات لا تقتصر على الداخل السنغالي، بل تمتد إلى خارج الحدود. فعدد من مواقف فاي وتصريحاته لا تبدو ودية تجاه فرنسا، المستعمر القديم للبلاد، وصاحبة النفوذ التاريخي في منطقة الغرب الأفريقي، وتعهده بإصدار عملة وطنية للبلاد بديلاً عن «الفرنك الأفريقي» لن يكون موضع ترحيب من جانب باريس، التي يتهاوى نفوذها في المنطقة، نتيجة صعود نخب شابة إلى الحكم في كثير من مستعمرات فرنسا القديمة.

ورغم اختلاف مسارات وصول «الحكام الجدد» إلى السلطة، سواء عبر انقلابات عسكرية - كحال كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا والغابون - أو من خلال صناديق الاقتراع كالسنغال، فإن النخب الجديدة تتشارك عداءً واضحاً تجاه الهيمنة الفرنسية.

ولن تكون فرنسا وحدها من يترقب سياسات الرئيس السنغالي الجديد، بل سيكون على الجيران في موريتانيا أيضاً متابعة نيات فاي، وبخاصة ما يتعلق بمراجعة اتفاقيات الغاز المشترك بين البلدين، وهو المطلب الذي طالما كرّره عثمان سونكو، الذي يرى أن رؤساء السنغال تنازلوا لموريتانيا عن أراضٍ ومصالح سنغالية متعددة. هذا الأمر يثير مخاوف عميقة في نواكشوط، خاصة أن الجارين اختبرا على مدى عقود تقلبات العلاقة من الحرب إلى السلام ومن التوتر إلى التقارب، كما توجد في موريتانيا جالية سنغالية كبيرة، معظم أبنائها من الصيادين والعمال اليدويين. ولقد تسجّل 27 ألف ناخب سنغالي في نواكشوط عام 2024... صوّت منهم قرابة 10 آلاف شخص، وحصد منها فاي نسبة 55 في المائة.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر