محمد مصطفى... التكنوقراطي المجرّب ورجل «اليوم التالي» في الحلبة الفلسطينية

تعيينه في رئاسة الحكومة عجّل باستفزاز «حماس»

من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»
من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»
TT

محمد مصطفى... التكنوقراطي المجرّب ورجل «اليوم التالي» في الحلبة الفلسطينية

من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»
من أقواله «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب»

لا يحتاج متصفّح السيرة الذاتية للدكتور محمد مصطفى رئيس الحكومة الفلسطينية الجديد لكثير من التدقيق والبحث ليكتشف أنه اختير بعناية فائقة فلسطينية دولية ليكون هو رجل «اليوم التالي» مع وقف إطلاق النار في غزة. ويبدو أن الاقتصادي البارز الذي لا يحمل بطاقة حزبية والذي عمل في البنك الدولي لمدة 15 سنة وكان مشرفاً أساسياً على إعادة إعمار قطاع غزة عام 2014 الرجل المناسب في المكان والزمان المناسبين فهو الذي يحظى بغطاء ودعم عربي ودولي سارع البيت الأبيض للترحيب بتعيينه مطالباً إياه بتشكيل حكومة تعمل على إجراء «إصلاحات في العمق وذات مصداقية». كذلك يأتي تعيينه بعد مناشدات عدة من مسؤولين في الإدارة الأميركية للرئيس الفلسطيني بـ«ضخ دماء جديدة في السلطة الفلسطينية لتمكينها من لعب دور أساسي في حكم غزة بعد الحرب»

لم يكن مستغرباً أن يستفزّ تعيين الدكتور محمد مصطفى، المقرّب جداً من الرئيس محمود عباس، رئيساً للحكومة الفلسطينية، كيف لا وهو مستشاره الاقتصادي لسنوات، حركة «حماس».

إذ فور الإعلان عن تعيينه، خرجت «حماس» وفصائل أخرى لتتهم «فتح» بـ«التفرّد» باختياره، وبـ«تعميق الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني». وبطبيعة الحال، لقي استياء «حماس» لدى الطرف الإسرائيلي رحابة صدر، مع أنه لم يصدر عنه أي موقف إيجابي أو سلبي بخصوص هذا التعيين.

الدكتور سامي نادر، مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية في العاصمة اللبنانية بيروت، قال، لـ«الشرق الأوسط»، معلقاً على هذه الخطوة إن مصطفى «هو رجل اقتصادي مقرَّب من محمود عباس وموافَق عليه أميركياً وغربياً، وحتى إسرائيلياً». ولفت إلى أنه «جرى اختياره لأنه يحظى بثقة الدول المانحة ويتخطى عقبة إسرائيل وأي اتهامات بالإرهاب أو بالانتماء إلى (حماس)».

ويضيف نادر أن «بروفايل محمد مصطفى مُشابه لبروفايل سلام فياض... وإن كان الأخير قد عاد واصطدم مع المنظومة. أما مهمته (أي مصطفى) الأساسية، اليوم، فهي إعادة إعمار غزة... وهذا الأمر يتطلب ألا يكون رئيس الحكومة بلون سياسي فاقع؛ لأن مرحلة اليوم التالي بعد الحرب تتطلّب هذا النوع من الشخصيات؛ أي بروفايل اقتصادي يتحمل أوزار إعادة الإعمار دون مواجهة عقبات بالسياسة».

ومن ثم يرد نادر اعتراض «حماس» على تعيين مصطفى «إلى كون الحركة تخوض، إلى جانب المعركة العسكرية في غزة، معركة بالسياسة... وترى أن تعييناً من هذا النوع سيؤدي إلى تقزيم دورها ويذوّب ما تعده هي انتصاراً لها».

خيار إنقاذي؟

من جهة ثانية، يرى الباحث الفلسطيني هشام دبسي أن السبب الأساسي لاختيار مصطفى لرئاسة الحكومة هو «أنه من الكوادر التكنوقراط الفلسطينيين الذين لديهم خبرة واسعة، كما أنه حائز على دكتوراه بالاقتصاد من واشنطن وعمل في البنك الدولي ويعرف كيفية التعامل مع المجتمع الدولي».

وأردف دبسي، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، شارحاً أن مصطفى «كان من الوزراء الذين عملوا على إعادة إعمار غزة، وهو من نمط سلام فياض الذي يعرف أن يفصل بين الموقف السياسي والاحتياجات العملية والمباشرة للشعب». ثم تابع: «أما القول إنه قريب من الرئيس أبو مازن ويحظى بثقته فهو قول صحيح، لكنه غير كاف لتفسير الأمر... لأننا اعتدنا أن السياسيين في بلادنا يغلّبون دائماً المواقف السياسية على مصلحة الناس، لذلك فإنه لا يروق لـ(حماس) مثل هذا النمط من الحكومات؛ لأنها لا تستجيب للاحتياجات الملحّة التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية بقدر ما تستجيب لمطالب آيديولوجية».

ومن ثم يشير دبسي إلى أن «تعيين مصطفى هو استجابة للمجتمع الدولي الذي يشهد تغييرات ذات بُعد إيجابي بعد فتح الباب مرة جديدة أمام خيار الدولتين، وإن كان البعض يتعاطى بعدم ثقة مع ما يصدر عن البيت الأبيض في هذا الشأن». ويشرح أن «الحالة الفلسطينية الراهنة تشهد تحديات كبيرة داخلية وعربية ودولية، ومهمات الحكومة المقبلة شائكة وكبيرة، لكن إذا حصل إجماع عربي ودولي على إسناد السلطة الفلسطينية وتمكينها وجعلها قادرة على المساهمة الفعلية بإنتاج الحلول... فلا شك أن ذلك سيسهم بحل الإشكاليات الفلسطينية الداخلية، وسيبرهن للشعب الفلسطيني والفصائل المعترضة على أن هذا الخيار هو الخيار الصحيح، اليوم؛ لأنه خيار إنقاذي».

مهام رئيس الوزراء الجديد

كما هو معروف، الدكتور مصطفى - الملقّب بـ«السفاريني» نسبة إلى بلدة أبيه سفارين - يخلف الدكتور محمد اشتيه، رئيس الوزراء السابق وعضو حركة «فتح» التي يتزعّمها محمود عباس. وكان اشتيه قد قدّم استقالته في السادس والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، لتمهيد الطريق أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية.

وقد نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية، فور إعلان تعيين مصطفى، أبرز مهام رئيس الوزراء الجديد في نصّ التكليف، وهي تشمل:

- تنسيق جهود إعمار قطاع غزة

- إعادة توحيد المؤسسات الفلسطينية

- مواصلة الإصلاح بما يفضي إلى نظام قائم على الحوكمة والشفافية ويكافح الفساد

- التحضير لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في كل المحافظات الفلسطينية، بما فيها مدينة القدس.

من محمد مصطفى؟

يبلغ محمد مصطفى، الملّقب أيضاً بـ«أبو مصعب»، من العمر 69 سنة، وهو أب لولدين هما مصعب ويزن. وقد ولد في قرية كفر صور (بلدة أمه) بمحافظة طولكرم، حيث تلقّى تعليمه الأساسي، مع أن أباه من بلدة سفارين بالمحافظة نفسها. ومع بلوغ مصطفى سن الـ15 التحق مع عائلته بأبيه الذي كان يعمل في الكويت، وهناك واصل دراسته حتى الثانوية العامة.

في عام 1972 التحق مصطفى بجامعة بغداد في العراق، حيث نال شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية والإلكترونية عام 1976.

وفي عام 1983 التحق بجامعة جورج واشنطن في العاصمة الأميركية واشنطن، حيث حصل، عام 1985، على شهادة الماجستير في الإدارة، ثم في عام 1988 على شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال والاقتصاد.

أبرز المراكز التي تبوأها

شغل الدكتور محمد مصطفى عدداً من المناصب العليا في البنك الدولي بواشنطن بين عاميْ 1991 و2005، إذ عمل في البنك بقسم إدارة الصناعة والطاقة لمنطقة أفريقيا، ثم في قسم أوروبا الشرقية، ثم في إدارة البنية التحتية والخصخصة لمنطقة الشرق الأوسط. وساهم، خلال هذه الفترة، في تطوير عدد من شركات الاتصالات مثل شركتيْ أورنج وفاست لينك في الأردن، وشركة الاتصالات السعودية، وشركات أخرى في مصر ولبنان وأفريقيا وبلغاريا وروسيا.

أيضاً، عمل مصطفى مستشاراً للإصلاح الاقتصادي لدى حكومة الكويت، ومستشاراً لصندوق الاستثمارات العامة في السعودية.

وفي عام 1995، عاد إلى فلسطين بشكل مؤقت عقب توقيع «اتفاقية أوسلو»، حيث أمضى سنة ونصف السنة في المساهمة بتأسيس قطاع الاتصالات في فلسطين، فكان رئيساً تنفيذياً مُؤسِساً لشركة الاتصالات الفلسطينية «بالتل» بين عاميْ 1995 و1996، ثم عاد بعد ذلك للعمل في البنك الدولي بواشنطن.

الاستقرار في فلسطين

خلال عام 2005، قرّر محمد مصطفى الإقامة بشكل دائم في فلسطين، وذلك بعدما كلفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمنصب مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الاقتصادية في ديوان الرئاسة الفلسطينية.

ثم في مطلع عام 2006 كلّفه عباس بمنصب الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار الفلسطيني. ومنذ عام 2015 حتى يومنا هذا شغل منصب رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني.

أما على الصعيد السياسي فقد شغل مصطفى منصب نائب رئيس الوزراء الفلسطيني للشؤون الاقتصادية في غير حكومة واحدة، كما عُيّن نائب رئيس الوزراء الفلسطيني ووزير الاقتصاد الوطني الفلسطيني في الحكومة الفلسطينية السابعة عشرة «حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني»، منذ يونيو (حزيران) 2014، وحتى تقديمه استقالته منها في مارس (آذار) 2015. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مصطفى كان في أكتوبر (تشرين الأول) 2014 رئيساً للجنة إعادة إعمار قطاع غزة في «مؤتمر المانحين» الذي عُقد في العاصمة المصرية القاهرة بهدف إعادة إعمار القطاع عقب حرب عام 2014.

وفي فبراير 2022 أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيساً للدائرة الاقتصادية، ثم في يناير (كانون الثاني) 2023 عيّنه الرئيس الفلسطيني بمنصب محافظ دولة فلسطين لدى الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بدولة الكويت، كما تولى منصب محافظ دولة فلسطين لدى صندوق النقد العربي.

ووفق صندوق الاستثمار الفلسطيني، ساهم مصطفى منذ 2006 حتى تكليفه بتشكيل الحكومة في «مأسسة» الصندوق؛ ذلك أنه أسس عدة شركات كبرى؛ من أبرزها «الوطنية موبايل» (أوريدو فلسطين) عام 2008، ومجموعة عمار للاستثمار العقاري والسياحي عام 2009، وصندوق رسملة للأسهم الفلسطينية عام 2011، والإجارة الفلسطينية للتمويل الإسلامي عام 2013، وأسواق لإدارة الأصول عام 2014، ومصادر لتطوير الموارد الطبيعية ومشاريع البنية التحتية عام 2015، وعمار القدس عام 2018، وفلسطين لتوليد الطاقة، وسند للموارد الإنشائية، وغيرها.

ثم إنه عضو في عدة مؤسسات دولية ومحلية؛ من أبرزها «منتدى دافوس الاقتصادي العالمي»، ومجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات، وغيرها.

مواقف لمصطفى

في تصريحات له، قال مصطفى إن «السلطة الفلسطينية تستطيع القيام بما هو أفضل من حيث بناء مؤسسات أكثر كفاءة وحكم أكثر رشداً، حتى نتمكن من إعادة توحيد غزة والضفة الغربية». وعدّ أنه «إذا لم نتمكن من إزاحة الاحتلال، فلن تتمكن أي حكومة إصلاحية أو مؤسسات بعد إصلاحها من بناء نظام حكم جيد وناجح أو تطوير اقتصاد مناسب».

كذلك صرّح، يوم 17 يناير الماضي، بأن إعادة بناء المنازل وحدها في غزة ستحتاج إلى 15 مليار دولار، وقال إنه سيواصل التركيز على الجهود الإنسانية على المديين القصير والمتوسط، معرباً عن أمله في فتح حدود غزة وعقد مؤتمر لإعادة الإعمار.وردّاً على سؤال عن الدور المستقبلي الذي يتوقعه لحركة «حماس»، قال مصطفى إن «أفضل طريق للمُضي قدماً هو أن تكون (العملية) شاملة قدر الإمكان»، مضيفاً أنه يود أن يتّحد الفلسطينيون حول أجندة منظمة التحرير الفلسطينية.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.