هل يعني فوز مودي المرتقَب تحوّل الهند إلى حكم الحزب الواحد؟

أكبر دولة ديمقراطية في العالم تتأهب لسباق انتخابي طويل ومصيري

ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)
ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)
TT

هل يعني فوز مودي المرتقَب تحوّل الهند إلى حكم الحزب الواحد؟

ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)
ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)

من المقرّر أن تُجري الهند انتخاباتها العامة الثامنة عشرة اعتباراً من أبريل (نيسان) فصاعداً، وفيها يسعى رئيس الوزراء ناريندرا مودي، إلى الحصول على فترة ولاية ثالثة في السلطة بعدما فاز حزبه الهندوسي القومي اليميني (بهاراتيا جاناتا) بعدد مذهل من المقاعد بلغ 303 في انتخابات 2019. «بهاراتيا جاناتا» متفائل حقاً إزاء فرصه الانتخابية، وقد حدد هدفاً لانتزاع 370 مقعداً بمفرده وأكثر من 400 مع حلفائه. ويُذكر أن مودي قاد حزبه إلى السلطة للمرة الأولى عام 2014 حين فاز بـ282 مقعداً في مجلس النواب (اللوك سابها) الذي يضم 543 مقعداً، وهي الغالبية الأكبر لحزب واحد خلال 30 سنة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2019 سيطرت الحكومة الائتلافية على 353 مقعداً. أما اليوم فيتوقع الخبراء السياسيون مع استطلاعات الرأي أن الناخبين لا يزالون ينظرون إلى مودي على أنه زعيم شعبي (رغم أن مثل هذه الاستطلاعات غالباً ما يكون لديها سجل ضبابي من حيث الدقة)، وأن فترة ولاية ثالثة على التوالي بالنسبة إلى ناريندرا مودي في الانتخابات البرلمانية المقبلة تبدو «حتمية تقريباً».

نتيجة الانتخابات الهندية المقبلة ليست أمراً محسوماً، إلا أن معظم المحللين يتوقعون فوز حزب «بهاراتيا جاناتا» بزعامة ناريندرا مودي بخمس سنوات أخرى في الحكم. وبعد عقد من الزمان في السلطة، تشير استطلاعات الرأي إلى أن مودي، بفضل سياسته الشعبوية المتشددة قومياً ودينياً، ما زال يحظى بدعم كثرة من الهنود، بينما لا تحظى أحزاب المعارضة الرئيسة بتأييد موازٍ.

الهند، توصف تقليدياً، بأنها أكبر دولة ديمقراطية في العالم، إذ تضم مليار ناخب (969 مليون ناخب مسجَّل). وهذا يعني أن أكثر من 10 في المائة من سكان العالم (أكبر من مجموع سكان الاتحاد الأوروبي) مؤهلون لاختيار الأعضاء المنتخبين البالغ عددهم 543 عضواً في مجلس النواب (أحد مجلسَي البرلمان) في الفترة من 19 أبريل (نيسان) إلى 1 يونيو (حزيران) المقبلين. وبموجب النظام البرلماني في البلاد، يشكّل الحزب الذي يفوز بغالبية المقاعد الـ543 في مجلس النواب، الحكومة، ويُعيَّن مرشحه رئيساً للوزراء.

وبالتوازي، لدى الهند الانتخابات الأعلى تكلفة في العالم، إذ أنفقت الأحزاب السياسية أكثر من 7 مليارات دولار عام 2019، مقارنةً بـ6.5 مليارات دولار أُنفقت في الولايات المتحدة خلال انتخابات 2016. ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم في انتخابات العام الجاري.

لماذا طول المدة؟

هذه التظاهرة الأكبر من نوعها في العالم، تحتاج إلى مدة 44 يوماً قبل إعلان نتائج تصويتها يوم 4 يونيو المقبل. ويتلخص الأمر في سببين رئيسين، هما: الحجم الهائل للهند لأنها الدولة الأكثر سكاناً في العالم، ومستوى الخدمات اللوجيستية اللازمة لضمان أن كل ناخب مسجَّل يستطيع الإدلاء بصوته.

الخبراء يذكرون أن السبب المباشر للانتخابات متعددة المراحل يتعلق بالأمن؛ إذ سيشرف على تنظيم هذه التظاهرة الضخمة «جيش» مؤلّف من 15 مليون من المسؤولين وأفراد الأمن الذين سيجوبون صحاري البلاد وأدغالها وجبالها وجزرها في محاولة للوصول إلى كل ناخب. ويتولى هؤلاء الإشراف على التصويت في أكثر من مليون مركز اقتراع بمساعدة 5.5 مليون جهاز اقتراع إلكتروني. وهنا نلفت إلى أن هناك 18 مليون ناخب سيُدلون بأصواتهم للمرة الأولى، في حين يحق لـ197 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة الإدلاء بأصواتهم. ويتوجب على اللجنة الانتخابية المشرفة التأكد من وجود قلم اقتراع (كشك تصويت) في حدود كيلومترين (1.2 ميل) من كل ناخب.

راهول غاندي (آ ف ب)

فوز مودي المرجَّح

في المشهد السياسي الحالي في الهند، ثمة إجماع بين المحللين السياسيين على أن فوز مودي وحزب «بهاراتيا جاناتا» هو «أكثر النتائج معقولية»، وذلك لشعبية مودي بوصفه رجل سياسة قوياً، والأجندة القومية المتشددة لحزب «بهاراتيا جاناتا»، لا سيما في ولايات قلب البلاد المعروفة بولايات «الحزام الهندي».

في هذه الولايات الناطقة باللغة الهندية يحظى مودي بشعبية واسعة جداً. وتركز كل التعليقات الإعلامية فقط على ما إذا كان سيتمكن من تحسين سجله السابق لعام 2019، والحقيقة أنه حدد بنفسه هدفه المتمثل بإحراز 370 مقعداً، في حين أعرب نقاد مودي وخصومه عن أسفهم لأن انتصاره سيُثبّت مكانته ويعزز تفرّده بالسلطة.

ديمقراطية «الحزب الواحد»

وفعلاً، تصاعدت شكاوى «الديمقراطية ميتة» منذ أصبح ناريندرا مودي رئيساً للوزراء. وازداد القلق، خلال السنوات الأخيرة، بشأن اتجاه الديمقراطية في الهند، مع تساؤل كثيرين عمّا إذا كانت البلاد تتجه نحو «سيناريو» هيمنة «الحزب الواحد». ولقد أثارت هيمنة حزب «بهاراتيا جاناتا» سواء على المستوى المركزي ومستوى الولايات، إلى جانب مزاعم باستهداف أحزاب المعارضة وقادتها، وتسليح الوكالات المركزية، والتلاعب بالانتخابات، تساؤلات جدّية إزاء صحة المؤسسات الديمقراطية في الهند.

راهول غاندي، عميد حزب المؤتمر الوطني الهندي المعارض -الذي أسَّس الهند المستقلة وحكم الهند لعقود من الزمان منذ استقلالها- يشكل المنافس الرئيس لمودي، ولقد حمل شخصياً هذه الرسالة إلى الجماهير الدولية أكثر من مرة. وخلال الأسبوع الماضي، أعلن حزب المؤتمر عن تعرض حساباته المصرفية للإغلاق، وكرّر راهول غاندي القول: «إن الديمقراطية قد ماتت». وحول هذا يقول أودايان بانديوبادياي، العالم السياسي: «تحوًلت الهند، إبان حكم مودي، بالفعل، من ديمقراطية برلمانية إلى ديمقراطية غالبية، وصارت غالبية ركائز النظام الديمقراطي -السلطة التنفيذية والقضاء والإعلام- خاضعة لنفوذ الحزب الحاكم».

وفي حين أن أبرز السمات المميزة لأي ديمقراطية نابضة بالحياة هي وجود معارضة قوية تُحمّل الحزب الحاكم المسؤولية عن تصرفاته، كانت هناك حالات كثيرة استهدفت فيها حكومة حزب «بهاراتيا جاناتا» زعماء المعارضة وأحزابها. وفي هذا المجال، يطلق النقاد وزعماء المعارضة اتهامات خطيرة ضد «بهاراتيا جاناتا» بأنه كان يتلاعب بوكالات مركزية مثل «إدارة إنفاذ القانون» و«إدارة ضريبة الدخل» لاستهداف المعارضين السياسيين. وثمة مزاعم أيضاً بشأن الاستهداف الانتقائي، حيث يواجه قادة المعارضة تمحيصاً مفرطاً، في حين يُمنح مناصرو الحزب الحاكم حرية مطلقة في التحرك.

في هذا السياق، أُدين راهول غاندي العام الماضي بتهمة التشهير وحُكم عليه بالسجن لمدة سنتين في أعقاب تصريحاته ضد مودي خلال تجمع حاشد من أنصاره. وعلاوة على ذلك، أوقفت «إدارة إنفاذ القانون» هذا الأسبوع أرفيند كيريوال، رئيس وزراء دلهي، بتهمة اختلاس الأموال، ومن الواضح أن قادة المعارضة وأحزابها يُستهدَفون بطريقة تشلّ حركتهم مباشرةً قبل بدء التصويت في الانتخابات. وفي ضوء هذا علّق الأمين العام الوطني لحزب المؤتمر رانديب سينغ سورجيوالا بالقول: «حكومة مودي تدمر الديمقراطية وتعصف بدستور الهند. وهي تحاول خنق صوت المعارضة بتخويف قادتها عبر أجهزة التحقيق مثل إدارة إنفاذ القانون ومكتب التحقيقات المركزي وإدارة ضريبة الدخل». وأشار إلى كيفية اعتقال رئيس وزراء دلهي، وأردف: «إن هذه ستكون الانتخابات الأخيرة التي ستقرّر ما إذا كانت الديمقراطية ستصمد في البلاد أم لا».

هل يمكن إنقاذ الديمقراطية؟

بالمناسبة، هذه ليست المرة الأولى التي تمرّ فيها الديمقراطية الهندية بأزمة. فخلال يونيو (حزيران) 1975، في خضمّ نوبة من الاضطرابات المدنية، أعلنت إنديرا غاندي، رئيسة الوزراء وزعيمة حزب المؤتمر (آنذاك) وجدة راهول غاندي، عن بداية ما تسمى «حالة الطوارئ»، التي علّقت بموجبها مؤقتاً الحقوق والحريات الأساسية. واستمر هذا الوضع نحو سنتين، قبل أن تُرفع «حالة الطوارئ» فجأة في مارس (آذار) 1977.

في حينه، أعلنت إنديرا غاندي عن إجراء انتخابات جديدة خسرها حزب المؤتمر، وغادرت غاندي السلطة طواعية -فقط لكي تعود بعد الجولة التالية من الانتخابات. وبالتالي، انتقلت الديمقراطية الهندية بعيداً عن النظام الذي يهيمن عليه حزب المؤتمر إلى نظام أكثر صحة يقوم على التعددية الحزبية. ولكن، هل يوفّر هذا سبباً للتفاؤل بأن مودي قد يسقط بطريقة مفاجئة مماثلة؟

الخبراء الذين تحدثنا معهم أعربوا عن شكوكهم في ذلك؛ إذ رأى محمد ضياء الله خان، الكاتب المستقل، أنه «في حين كانت حالة الطوارئ تعليقاً صارخاً للديمقراطية رداً على الأحداث المباشرة، فإن الاستيلاء على السلطة في حالة مودي ينطوي على فساد أكثر دهاءً وديمومة للمؤسسات قد تكشّف على مدى سنوات. تلقت الديمقراطية في الهند صدمة قوية لدى الكثير من التصنيفات الدولية. وقد خفّض «معهد أنواع الديمقراطية» في السويد التصنيف الهندي إلى «دولة استبدادية انتخابية» العام الماضي فقط، كما وصف معهد «فريدوم هاوس» في الولايات المتحدة الهند بأنها «حرة جزئياً». وهو «ما يغذّي الاعتقاد بأن مودي يسيء بشدة إلى دستورنا، وأن الغالبية الهندوسية تدمّر التقاليد الديمقراطية العلمانية في الهند». إلا أن أميتاب تيواري، المحلل الاستراتيجي والمعلق السياسي، قال: «الهند بعيدة كل البعد عن كونها ديمقراطية الحزب الواحد. قد نشهد هيمنة حزب سياسي واحد، هو (بهاراتيا جاناتا)، لكنّ الاستدلال على أن هذا الحزب علامة على ضعف الديمقراطية يعني أنها أضعف مما ينبغي».

معارضة ضعيفة ومنقسمة

لقد تزامن تدهور حزب المؤتمر مع صعود «بهاراتيا جاناتا»، الذي هو الآن في طريقه إلى سد الفراغ الذي خلّفه الحزب القديم. ولكن، بينما قد تكون الأحزاب الوطنية تغيرت، تظل الأحزاب الإقليمية ممسكة ببعض الأرضية.

في الانتخابات الهندية الأخيرة، تعرّض حزب المؤتمر لهزيمة مريرة أمام «بهاراتيا جاناتا»، غير أنه يأمل في تشكيل تحدٍّ أكبر لنفوذ مودي من خلال التحالف والتكاتف مع الأحزاب الإقليمية. وحقاً قرر حزب المؤتمر خوض انتخابات هذا العام تحت شعار «التحالف الوطني التنموي الهندي الشامل»، المعروف باسم «تحالف إنديا»، (I.N.D.I.A)، وهو ائتلاف يضم 26 حزباً. وهنا نشير إلى أن حزب المؤتمر احتل المرتبة الثانية بفارق بلغ 52 مقعداً عام 2019. ومثّل ذلك، على الأقل، تحسناً طفيفاً مقارنةً بأسوأ أداء للحزب عندما حصل فقط على 44 مقعداً عام 2014.

في مطلق الأحوال، التحالف الذي شُكّل لمواجهة مودي يكافح الآن من أجل التماسك، ووفق الصحافي البارز بوشاب ساراف، «من دواعي السرور لحزب (بهاراتيا جاناتا) أن أحزاب المعارضة الهندية منقسمة وضعيفة. لكنهم إذا تمكنوا من توحيد قواهم ووضع دعمهم خلف مرشح واحد قوي لتحدّي (بهاراتيا جاناتا) في دوائر فردية، قد يفوزون بمزيد من المقاعد. المفاوضات من أجل ذلك أثبتت للآن أنها عسيرة. والأسوأ من ذلك، أن تحالف المعارضة الهشّ لم يُعيّن بعد مرشحاً بديلاً جديراً بالثقة لمنصب رئيس الوزراء. والواقع أن راهول غاندي، زعيم حزب المؤتمر، وعميد أسرة نهرو - غاندي التي قادت الهند بعد استقلالها، يعدّ اختياراً واضحاً، لكنّ كثيرين يرون أنه مجرد «هاوٍ» وليس محترفاً. ثم إن الساسة الإقليميين الناجحين في المنطقة لا يتمتعون إلا بقدر محدود من النفوذ خارج ولاياتهم».

في هذه الأثناء، تبقى شعبية مودي مرتفعة، ولا تزال خلفيته المتواضعة وجاذبيته الشخصية تجتذب الشباب والطموحين، لا سيما في الفئات الطبقية التي كانت تاريخياً مستبعَدة عن السلطة والثروة. وهنا يشرح سانجيف شارما، الأمين العام لجمعية العلوم السياسية الهندية، أن «محاولة راهول غاندي على امتداد البلاد فشلت في توحيد صفوف المعارضة ناهيك بالدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة. ويجد (تحالف إنديا) -الذي يضم حزب المؤتمر وما يقرب من 20 حزباً معارضاً آخر- صعوبة في للتغلب على الخلافات والانشقاقات بسبب الصعوبات القانونية ومشكلات التمويل الضخمة. ولذا فلحزب (بهاراتيا جاناتا) اليد الطولى نفسياً، في حين يخوض غاندي معركة خاسرة».

غير أن آخرين يناقضون هذا الرأي ويشعرون بأنه من الظلم أن يُشطب حزب المؤتمر وغاندي؛ إذ إن راهول -حفيد رئيسة الوزراء الراحلة إنديرا غاندي وابن رئيس الوزراء الراحل راجيف غاندي- يُمضي أيامه في التواصل مع الناخبين من مختلف شرائح المجتمع الهندي المتنوع. وهنا تساءل دورو آرون كومار، أستاذ علم الاجتماع في المعهد الهندي للتكنولوجيا في جامو: «كم من كبار السياسيين في الحزب الحاكم ترونه يخرج في مسيرات طويلة ويلتقي الناس ويستمع إلى مشكلات الرجل العادي؟».

تزامن تدهور حزب المؤتمر مع صعود «بهاراتيا جاناتا» الذي هو الآن في طريقه إلى سد الفراغ الذي خلَّفه الحزب القديم

مودي يحضر احتفال تدشين المعبد الهندوسي الذي شيد على انقاض المسجد البابري في آيوديا (رويترز)

المسلمون في حسابات مودي و«بهاراتيا جاناتا»

> شكلت نتائج الانتخابات في الولايات الهندية الخمس التي أجريت في ديسمبر (كانون الأول) دفعة قوية لحزب «بهاراتيا جاناتا» الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، والذي فاز بأربع منها، بينما جاء النصر الوحيد لحزب المؤتمر المعارض في ولاية تيلانغانا بجنوب البلاد. وحسب ميلان فايشناف، الزميل البارز ومدير برنامج جنوب آسيا ومضيف نشرة «غراند تاماشا» الإذاعية في «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”، فإن هذه النتائج «تؤكد ما هو معروف بالفعل، ففيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية لعام 2024، لا يزال بهاراتيا جاناتا في الصدارة. وهذه الميزة مدفوعة بالأساس بشعبية مودي الدائمة». وبالفعل، خطوة بخطوة، على مدى العقد الماضي، «عزّزت» حكومة مودي «القاعدة القومية الهندوسية» لحزب بهاراتيا جاناتا، على حساب المكوّنات الهندية الأخرى؛ إذ في عام 2019، ألغت الحكومة التعديلات الدستورية التي تقيّد حقوق نيودلهي في تحديد كيفية حكم كشمير، التي هي الولاية الهندية الوحيدة ذات الغالبية المسلمة. وفي وقت سابق من السنة الحالية، ترأس مودي شخصياً مراسم افتتاح معبد هندوسي جديد في أيوديا، في موقع المسجد البابري التاريخي الذي هدمه نشطاء قوميون هندوس عام 1992. وبعد فترة وجيزة، أعلنت الحكومة أن قانوناً جديداً مثيراً للجدل سيدخل حيّز التنفيذ ويسمح للهندوس والسيخ وغيرهم من الفارين من البلدان المجاورة ذات الغالبية المسلمة بالحصول على الجنسية الهندية، بل قد يجيز القانون أيضاً ترحيل المسلمين الذين يُعدون مهاجرين غير شرعيين. ومن ثم، يتوقّع كثيرون أن الخطوة التالية ستكون «قانوناً مدنياً موحّداً» - بخلاف رغبة المسلمين - يفرض الزواج المشترك، والنفقة، وترتيبات الحضانة على كل المواطنين الهنود بصرف النظر عن الدين. في هذا الجو، لم تتخذ المعارضة أي إجراء فعّال، حتى الآن، لإضعاف مودي رغم التوقعات الصحيحة بأنه حتى مع كل جهوده لن يحقق نتائج جيدة في الولايات الجنوبية غير الناطقة بالهندية. طبعاً، الانتخابات لم تُحسم بعد، وستعتمد نتيجتها إلى حد كبير على أداء مودي في قلب الهند وفي الولايات الغربية حيث ولايات «الحزام الهندي». وللعلم، سيسعى «تحالف إنديا» بقيادة «حزب المؤتمر» إلى مواجهة مودي في هذه المناطق. لكن الدبلوماسي السابق فيفيك كاتجو يعلّق قائلاً: «مع هذا، لا يبدو أن رسالة راهول والهند بأن مودي فشل في معالجة القضايا التي تؤثر على حياة الناس خلقت الزخم اللازم، على الرغم من جهوده الحالية لإزالة هالة مودي. ومن هنا لا يظهر أن المعارضة في الوقت الحالي قريبة على الإطلاق مما ينبغي أن يكون هدفها الأول في خلق شعور بأن مودي يمكن هزيمته. وما لم تفعل ذلك، فإن هذه الانتخابات المقبلة تكون قد حُسِمت بالفعل في الوقت المحدود للغاية المتبقي». أخيراً، بيّنت شركة «مورنينغ كونسولت» التي تتعقب معدلات التأييد الأسبوعية لأكثر من عشرين من قادة العالم المنتخبين ديمقراطياً، أن 78 في المائة من الهنود الذين شملهم الاستطلاع في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) راضون عن أداء مودي. بل إن صافي نسبة الرضا عن مودي (المحسوب حصةً من المستجيبين الراضين عن أدائه يُنقص منه غير الراضين) كان مذهلاً بأعلى من 60 نقطة. أما الزعيم الثاني الأكثر شعبية على القائمة فكان الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الذي لم يتجاوز تصنيفه الصافي 30 نقطة فأكثر فقط. ثم إن الرضا عن مودي ظل متماسكاً بشكل ملاحظ منذ أغسطس (آب) 2019، وهو التاريخ الذي كانت البيانات متاحة فيه لأول مرة.



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر