سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

بوتين يدخل ولايته الرئاسية الخامسة في روسيا بتفويض شعبي واسع

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
TT

سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)

لم يعد هناك أدنى شك في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تربّعه على عرش «الكرملين» لربع قرن كامل حتى الآن حمل - كما يقول باحثون روس - هاجسي التاريخ والجغرافيا، هاجس التاريخ برز في سعيه الحثيث منذ أطلق في نهاية ولايته الثانية عام 2008 مسار «الثأر من الغرب» لحجز مكانه على صفحات التاريخ إلى جانب اثنين من أبرز القياصرة الروس: المؤسس بطرس الأكبر والإمبراطورة الفاتحة كاترين الثانية. ولم تكن مجرد صدفة أن يكون مدخله إلى التاريخ شبه جزيرة القرم فقد سعى بطرس الأول جاهداً للسيطرة على هذه المنطقة والتمدد على البحر الأسود من خلالها ونجحت كاترين الثانية في ضم شبه الجزيرة للمرة الأولى عام 1783 لتغدو «روسية إلى الأبد» وفقاً للتعبير الذي تستخدمه بكثرة كتب التاريخ القديمة وخطابات الرئيس الحديثة. أيضاً هاجس الجغرافيا كان حاضراً بقوة إذ لا يمكن لروسيا أن تكون «إمبراطورية» دون أوكرانيا. هكذا رسمت حدود البلد في كل منعطفات التاريخ، عندما تخسر روسيا جوارها يتراجع نفوذها بقوة لتغدو دولة إقليمية كبيرة فقط، وليس إمبراطورية عظمى.

قد يكون فلاديمير بوتين، الذي حوّل حرب أوكرانيا إلى مدخل لاستعادة كل أمجاد الماضي، يدرك جيداً، وهو يقف على أعتاب ولاية رئاسية خامسة ستجعله أطول الحكام عمراً على عرش الكرملين منذ قرنين، مغزى العبارة الروسية الدارجة التي تقول إن العالم «قد لا يحب روسيا، ولكنه يجب أن يهابها».

هذه الفلسفة تختصر رؤية الزعيم الروسي لمكانة بلاده وتموضعها في العالم المعاصر، لذا كان لا بد أن يكون الاستحقاق الانتخابي الذي انتهى للتو، حاسماً.

نتيجة حاسمة

حاسماً ليس لجهة فوز بوتين المنتظر والمحسوم سلفاً، بل لجهة تأكيد مكانة وحجم حضور القيصر الروسي الجديد داخلياً وخارجياً. وبالتالي، كان الأهم من الفوز في الانتخابات أن تبلغ نسب الإقبال على الصناديق هذا الحجم الخرافي بالنسبة لبلد أوروبي كبير.

أكثر من 77 في المائة شاركوا في التصويت، وأكثر من 87 في المائة منحوا «الزعيم الأوحد» أصواتهم دون أي شعور بالملل أو الرغبة بالتغيير، بعد مرور ربع قرن على حكمه.

هذا كان الهدف المرجو من الانتخابات، أي أن تتحول إلى استفتاء شعبي كامل؛ ليس على شخص الرئيس فحسب، بل أيضاً على سياساته كلها على الصعيدين الداخلي والخارجي، بما في ذلك على قراراته الصعبة والمؤلمة أحياناً... وعلى رأسها قرار الحرب في أوكرانيا.

والنتيجة المنطقية لذلك، أن بوتين حصل عملياً على تفويض جديد يقوم على شبه إجماع وطني، وهو ما يطلق يديه تماماً لمواصلة نهجه وسياساته، مسلّحاً بجبهة داخلية متماسكة وموحدة وصلبة.

لقد أظهرت الاستحقاقات التي مرت بها روسيا، خلال العامين الأخيرين، أن بوتين بنى رهانات دقيقة إلى حد بعيد. صحيح أن وضع الجبهات لم يكن مرضياً، خلال العام الأول من الحرب في أوكرانيا، وصحيح أن خطط الحسم السريع وإجبار «العدو» على الاستسلام، لم تتحقق وفقاً للخطط الموضوعة، التي قامت على تكرار تجربة اقتطاع أجزاء من جورجيا في عام 2008، ووضع أوروبا والولايات المتحدة أمام أمر واقع جيوسياسي جديد، لكن كل هذا ليس مهماً بالقياس إلى ثبات روسيا من الداخل.

لم تقع الانهيارات الكبرى التي توقّعها الغرب.

ولم تنجح العقوبات في تقويض الاقتصاد الروسي.

وفشلت المعارضة في لعب دور مهم لضرب روسيا من الداخل.

وحتى لم تشهد روسيا انشقاقات كبرى يمكن أن تهزّ صورتها وتزعزع قيادتها، على الرغم من فرار مليون شخص غالبيتهم من أصحاب رؤوس الأموال ومن العقول الفذة في مجالات مختلفة.

على الرغم من ذلك كله، بقيت روسيا «صامدة»، وظل اقتصادها متماسكاً، وذهبت، في منتصف مارس (آذار)، لتجدد البيعة للزعيم القوي.

كيف سيستثمر النصر؟

ولكن ماذا يمكن أن يفعل بوتين بهذا النصر الكبير؟

على الصعيد الداخلي، يضع خبراء احتمالات عدة لتحرك الكرملين، خلال المرحلة المقبلة، كلها تصب في اتجاه البناء على تعزيز تماسك الجبهة الداخلية، ومواجهة أي محاولات لزعزعة الوضع، وهذا حتى لو اضطر بوتين إلى اتخاذ قرارات غير شعبية مثل إعلان تعبئة عسكرية جديدة لخدمة الجبهة.

لا يستبعد معارضون أن يعمد الرئيس، المُعاد انتخابه مجدداً، إلى تعزيز قبضته بقوة باتجاه قمع أي محاولات لإعادة تنظيم صفوف المعارضة أو دفع نشاطاتها، انطلاقاً من فكرة أن الكرملين حرص على تحاشي تصعيد معركته داخلياً قبل الانتخابات، لتجنب وقوع أعمال احتجاجية كبرى. إلا أنه الآن سيجد الفرصة، مع التفويض الشعبي الواسع، للنيل من خصومه الداخليين، وأيضاً منع هؤلاء من عرقلة تحركاته وسياساته على الصعيد الخارجي.

في هذا الإطار يضع هؤلاء تلويح بوتين القوي بأنه سيصار إلى التعامل مع «الخونة» وفقاً لقوانين الحرب؛ أي أن الأصوات المعارضة ستلقى رد فعل مباشراً وقوياً، «كما لو كانت في الميدان»، وفقاً لتعبير أطلقه الرئيس الروسي أخيراً.

لكن هذا المدخل الذي تخشى منه المعارضة لا يبدو جديداً، فبوتين لم يتساهل في أي وقت مع معارضيه، ثم إنه حالياً في أقوى حالاته داخلياً، ولا يحتاج لتدابير إضافية من هذا النوع. وفضلاً عن ذلك كله، فإن بوتين يحتاج إلى مرحلة الهدوء الداخلي لدفع خططه الطموحة التي أعلن عنها، في رسالته أمام البرلمان، قبل أسابيع من الانتخابات. وحينذاك جرى الحديث عن خطط استراتيجية وطنية للنهوض بالقطاعات الصحية والتعليمية والبُنى التحتية والتطوير العسكري ومشاريع عملاقة لرعاية الأمومة والطفل، في مواجهة الأزمة الديموغرافية المستفحلة.

توقع تعديلات حكومية

في هذا السياق، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يُجري مناقلات وتعديلات في الهياكل الحكومية لدفع برامجه الموضوعة. بيد أنه في الوقت نفسه، لا توجد مؤشرات إلى أن هذه الخطط قد تطول مواقع رئيسة يشغلها أصدقاء الرئيس وحلفاؤه الكبار في وزارات ومواقع حساسة، مثل وزارتي الدفاع والخارجية، وعدد من الشركات الوطنية الكبرى.

أما على صعيد الجبهة في أوكرانيا، فثمة توقعات متشائمة تماماً تقوم على أن بوتين سيعمد إلى استخدام التفويض الشعبي الواسع لتوسيع حجم معركته، ومحاولة إحداث اختراقات كبرى. وفي هذا السياق، من المهم التذكير بأن واحداً من التصريحات الأولى للرئيس، بعد فوزه، كان صادماً في مضمونه، إذ إنه توعّد الأوكرانيين بمواصلة «مفرمة اللحم»، وقال مخاطباً أنصاره: «إذا كانوا (الأوكرانيون) يحبون ذلك بهذه الطريقة، فمن حيث المبدأ يناسبنا؛ لهذا السبب يهاجمون دون تفكير، إنها مثل مفرمة اللحم بالنسبة إليهم، وذلك يناسبنا... دعهم يحاولوا».

وزاد أن بلاده «منفتحة للنظر في أي قضايا مطروحة، ولا نستبعد إنشاء مناطق عازلة لضمان أمن بلادنا». وشكلت هذه العبارة إشارة مهمة إلى توسيع أهداف العمليات الروسية، ولا سيما أنها جاءت رداً على سؤال حول احتمال انتقال العملية العسكرية إلى مدينة خاركيف؛ في محاولة للسيطرة على المناطق المحاذية للحدود الروسية. وبالمناسبة، فإن مطلب توسيع «جغرافيا المعركة» يلقى تأييداً متزايداً من جانب «الصقور» الذين يحيطون ببوتين على المستويين السياسي والعسكري.

لا يستبعد معارضون أن يعمد بوتين إلى تعزيز قبضته بقوة ضد إعادة تنظيم صفوف المعارضة

بوتين يتكلم بعد إغلاق مراكز الاقتراع (رويترز)

التقدم أعمق داخل أراضي أوكرانيا

إلى جانب هذا، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يواصل العمل للتقدم نحو الهدف المعلَن للعمليات العسكرية؛ وهو إنجاز «تحرير» كل أراضي مدن دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزوباروجيا ومحيطها، لكن الأهداف المباشرة الأكثر ترجيحاً هي دونيتسك التي تسيطر موسكو، بعد مرور سنتين على الحرب، على نحو 60 في المائة من أراضيها فقط، لذلك يضع الخبراء هدفاً أولياً استكمال «تحريرها» ومدن كراسنوجوروفكا وتشاسوف وسيفيرسك وأوغليدار.

من جهة أخرى، بين «السيناريوهات» المطروحة تفجير معركة جديدة نوعياً باتجاه مدينتي نيكولاييف وأوديسا، تهدف، وفقاً لمصادر عسكرية، إلى فرض سيطرة مطلقة على الجزء الجنوبي من أوكرانيا، وحرمان البلاد بذلك من إطلالة على البحر الأسود، بعد حرمانها سابقاً من النفوذ في بحر آزوف، وتحويله إلى بحيرة روسية مغلقة.

هذا الهدف ستكون له أهمية استراتيجية أخرى، لجهة فتح الطريق للوصول إلى منطقة بريدنوستروفيه الانفصالية في مولدوفا، التي تتمركز فيها قوات روسية تدعم الانفصاليين. وترى أوساط روسية أن معركة بريدنوستروفيه «قد اقتربت»، ولا يخفي مسؤولون عسكريون أن هذا الهدف مطروح على الأجندة، وبعضهم يصف الإقليم المولدافي بأنه «الدونباس الجديدة».

إلا أن شروط هذا التطور مرتبطة، بالدرجة الأولى، بحجم الاستعدادات الأوكرانية، وطبيعة الإمدادات الخارجية لهذا البلد من المساعدات العسكرية، فضلاً عن الوضع على الجبهات الأخرى.

«السيناريوهات» التوسعية الخاصة بتحرك بوتين باتت محتملة في ضوء تسلحه بالتفويض الشعبي الواسع الذي يجعله يمسك مفاتيح قراري الحرب وتوسيعها، أو السلم بشروطه. غير أن الاحتمالات الواقعية المطروحة تبدو مرتبطة، بالدرجة الأولى، بمسار المعارك، ومستوى قدرة الغرب على تجاوز خلافاته حول تسليح أوكرانيا، وانتهاج سياسة موحدة تفتح الطريق أمام توسيع المعركة، أو على العكس من ذلك، تجميد الصراع ومحاولة تلمس آفاق للتسوية السياسية.

وهنا يبرز احتمال أول بأن تشهد الجبهات تصعيداً تدريجياً قد يصل إلى ذروته في نهاية الصيف.

وفي المقابل، يقوم الاحتمال الثاني على فكرة أن الطرفين الروسي والأوكراني وصلا إلى خط النهاية، بالنسبة للقدرة على الحسم العسكري. وبالتالي، يمكن لبوتين القوي داخلياً، والذي حقق انتصارات مهمة ميدانياً، خلال الفترة الأخيرة، أن يطلق مسار إعادة فتح قنوات حوار مع الغرب، وإن كانت غير مباشرة، في البداية. ويستند هذا الاحتمال إلى تكرار الكرملين، في الآونة الأخيرة، تأكيد استعداده لحوار مفتوح مع الغرب، على أن يقوم على وضع كل الملفات الخلافية في سلة واحدة، والبدء بمفاوضات تفضي إلى تسوية المشاكل المعقدة بشكل متواز.

أما الاحتمال الثالث - أو الطريق الثالث - أمام بوتين في حال تجنب إطلاق عملية توسيع المعارك، وفشل، في الوقت نفسه، في دفع الغرب إلى إطلاق مفاوضات جادة، فيقوم على «تجميد الجبهات» عند خطوط التماس الحالية بانتظار نضوج الظروف الملائمة لفتح الحوار السياسي.

فيما يخص موسكو، جرى الإعلان عن وضع خطط واسعة لتعزيز الجبهات على طول خطوط التماس، لمنع الجانب الأوكراني من إحداث ثغرات فيها، ويمكن لمثل هذا «السيناريو» أن يعفي بوتين من خطوات غير شعبية؛ مثل الإعلان عن تعبئة عسكرية جديدة، ويصرفه إلى تعزيز الوضع الداخلي، وتقوية الاقتصاد في مواجهة الضغوط الغربية، وتمتين التعاون مع الحلفاء.لكن هذا الأمر مشروط بوقف تقدّم الطرف الآخر أيضاً، والامتناع عن تقديم رُزم واسعة من الأسلحة والمعدات البعيدة المدى التي يمكن أن تؤدي إلى الإخلال في موازين القوى القائمة حالياً.


مقالات ذات صلة

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع غالانت (رويترز)

أبرز «وزراء الحرب» في تاريخ إسرائيل

برزت طوال تاريخ إسرائيل، منذ تأسيسها عام 1948، أسماء عدد من وزراء الدفاع؛ لارتباطهم بحروب كبيرة في المنطقة، لعلّ أشهرهم في الشارع العربي موشيه ديان

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قدرة وزير دفاعه الجديد يسرائيل كاتس، الذي يصفه بـ«البلدوزر»، في تحقيق ما يراه «انتصاراً حاسماً» في غزة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع إيشيبا

شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في اليابان شرعت أخيراً الأبواب على كل الاحتمالات، ولا سيما في أعقاب حدوث الهزيمة الانتخابية التي كانت مرتقبة للحزب الديمقراطي

«الشرق الأوسط» (لندن)

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
TT

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات المتبادلة و«المُتفق على موعدها وأهدافها» بين طهران وتل أبيب، ولتعود مخاطر عمليات تهريب المخدرات والسلاح على الواجهتين الشمالية والشرقية، وتدخل الجبهة الغربية على الحدود مع دولة الاحتلال على خطوط التهريب، لتعويض الفاقد من المواد المخدّرة في أسواق المنطقة.

سارع الأردن لتأمين سلامة أرضه، ومنع اختراق أجوائه، وممارسته لسيادته بعد ليلتين متباعدتين سعت طهران من خلالها إلى «حفظ ماء الوجه بتوجيه صواريخ لم تنجح في الوصول إلى أهدافها داخل إسرائيل». وبالنتيجة، أسقطت الدفاعات الجوية الأردنية صواريخ إيرانية في الصحراء الشرقية وعلى الحدود الشمالية مع سوريا.

وفي حين اعتبرت بعض الجهات أن «الدفاعات الجوية الأردنية انطلقت حماية لإسرائيل»، أكدت عمّان على لسان مصادر مطلعة أن «الضرورة تتطلب اعتراض أي صواريخ عابرة لسماء المملكة، بعيداً عن المواقع الآهلة بالسكان، ومخاطر تسبّبها بخسائر بشرية، أو أضرار مادية». وبالتالي، جاء القرار العسكري محصّناً بأولوية حماية أرواح الأردنيين. وأردفت المصادر من ثم أن «مَن يريد ضرب إسرائيل فأمامه حدود لبنان الجنوبية أو الحدود السورية مع الجولان المحتل»؛ لأن من هناك تكون الصواريخ الإيرانية أقرب لتحقيق أهدافها، بدلاً من إطالة المسافة بمرورها عبر سماء المملكة، واحتمالات سقوطها في مواقع حيوية على الحدود الغربية مع دولة الاحتلال.

في الواقع، تابع المواطنون الأردنيون ليلة الثالث عشر من أبريل (نيسان) وأيضاً في أكتوبر (تشرين الأول)، عرضاً ليلياً بإضاءات الدفاعات الجوية وإسقاطها صواريخ إيرانية عبرت فضاءات الأردن على وقع الكلام عن دعم طهران لغزة ضد العدوان الإسرائيلي، والانتقام لاغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، أثناء زيارته الرسمية للمباركة بفوز الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في انتخابات الرئاسة، وكذلك الانتقام من تصفية قيادات الصفوف المتقدمة في «حزب الله» اللبناني، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفي المقابل، أمام التقدير العسكري الأردني في أولوية إسقاط الصواريخ الإيرانية أثناء عبورها سماء المملكة ومنع سقوطها بالقرب من مناطق سكنية، أكّدت عمّان، عبر قنوات اتصال أمنية مع إسرائيل، ورسائل أردنية إلى الإدارة الأميركية، تصدّيها لأي هجوم إسرائيلي على طهران قد يستخدم سماءها بذريعة الردّ على ضربات إيرانية محدودة في الداخل الإسرائيلي.

توضيح الموقف الأردني

هنا استعاد جنرالات أردنيون تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» ذاكرة المفاوضات مع إسرائيل قبل صياغة «قانون معاهدة السلام» المتعارف على تسميته «اتفاق وادي عربة من عام 1994»، ومنها تمسّكهم - آنذاك - بتحديد تل أبيب مدىً جغرافياً للرد على أي هجوم مُحتمل «على أن يضمن ذلك عدم انتهاك الأجواء الأردنية وإسقاط أي أجسام متفجرة داخل حدود المملكة الغربية». ومما سمعناه أن «نبوءة» المفاوضين الأردنيين من قيادات القوات المسلحة، كانت تقرأ مستقبل التطورات في منطقة متخمة باحتمالات الحرب، وموقع الأردن بين «فكي كماشة» بضم «محور الممانعة» من جهة وإسرائيل من الجهة المقابلة. وبناءً عليه؛ اضطر الجيش إلى التعامل مع الصواريخ الإيرانية العابرة التي قد تُسقط داخل الأراضي الأردنية. ومن المعلوم بأن الحدود الغربية مأهولة بالسكان؛ وبذا تبادر دفاعات الجيش الأردني الجوية بالرد على تلك الصواريخ دفعاً لسقوطها في الصحراء الشرقية بعيداً عن السكان، غير أن بعض حطام تلك الصواريخ وقع حقاً في مناطق من العاصمة ومحافظات الوسط، ولقد وثقتها كاميرات الهواتف الذكية فيديوهات، وجرى نشرها على منصات التواصل الاجتماعي.

إيمن الصفدي (رويترز)

نشاط عمّان الدبلوماسي ترك انطباعاً بأن انفتاح الحراك

على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي

لحماية المصالح الأردنية

عبر الأجواء السورية

من ناحية ثانية، وجّهت إسرائيل قبل أسبوع ضربة صاروخية على مواقع عسكرية إيرانية. وأفادت معلومات مؤكدة بأن مسار الرد الإسرائيلي كان عبر الأجواء السورية، بعد نجاح الاختراق الإسرائيلي من ضرب رادارات متقدّمة للدفاعات السورية. ولقد أعادت تل أبيب في هذا المشهد التأكيد على انتهاكاتها المستمرة بحق «دول الجوار»، وأمام صمت دولي ومباركة أميركية بعد توافر معلومات عن مواقع حددتها إسرائيل، ورأى مراقبون أن الرد جاء في سياق «معادلة ميزان القوى» في المنطقة ضمن حدود الحرب المنتظرة أو سياسة صناعة التوتر في المنطقة عبر «حرب استنزاف»، تسبّبت في سقوط آلاف القتلى والجرحى والمفقودين ومئات آلاف النازحين في غزة ومن جنوب لبنان.

زوايا حرجة في العلاقة مع إيران

توازياً مع ما سبق، وفي زيارة مفاجئة حمل وزير الخارجية أيمن الصفدي في الثامن من أغسطس (آب) الماضي رسالة من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أكد خلالها الصفدي أن الزيارة جاءت «بتكليف من الملك عبد الله الثاني لتلبية الدعوة إلى طهران»، مضيفاً أن هدف الزيارة هو «الدخول في حديث أخوي واضح وصريح حول تجاوز الخلافات ما بين البلدين بصراحة وشفافية، والمضي نحو بناء علاقات طيبة وأخوية قائمة على احترام الآخر، وعدم التدخل في شؤونه، والإسهام في بناء منطقة يعمّها الأمن والسلام».

الزيارة والرسالة شكَّلتا «استدارة» أردنية في علاقتها مع إيران، ليتبعها خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لقاء جمع الملك الأردني وبزشكيان، في الثلث الأخير من سبتمبر الماضي، وهو لقاء بدأ موسّعاً بحضور بعض أركان وفدي البلدين، ثم اقتصر على مباحثات ثنائية لم يحضرها أحد، وظلّت تفاصيل اللقاء محفوظة لدى الزعيمين.

أيضاً، تلك الزيارة فتحت شهية البعض لـ«شيطنة» الموقف الرسمي الأردني واتهام عمّان بنقلها «رسالة تهديد» لطهران برد إسرائيلي حازم. غير أن الوزير الصفدي أكد في تصريحات رسمية مع نظيره الإيراني في حينه «أبلغت معالي الأخ بشكل واضح، لست هنا حاملاً رسالة إلى طهران، ولست هنا لأحمل رسالة لإسرائيل». وتابع أن «رسالة الأردن الوحيدة لإسرائيل أُعلنت في عمّان بشكل واضح وصريح، ومفادها وقف العدوان على غزة، ووقف جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف الخطوات التصعيدية، والذهاب نحو وقف فوري ودائم لإطلاق النار يتيح العمل من أجل تحقيق سلام عادل وشامل... لن يتحقّق إلا إذا حصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة، وفي مقدمها حقه في الحرية والسيادة والكرامة في دولته المستقلة».

في مطلق الأحوال، ما كان المقصود من زيارة الصفدي الإيرانية تأكيد موقف حيال طهران وحلفائها فقط، بل كانت الزيارة في حد ذاتها رسالة إلى إسرائيل مفادها أن الأردن «يملك خياراته السياسية في الدفاع عن سيادته على أرضه وسمائه، وأن واحداً من الخيارات هو فتح قنوات الاتصال على وسعها مع طهران وأطراف الصراع في المنطقة»، بحسب مصادر تحدثت لـ«الشرق الأوسط» آنذاك.

استقبال عراقجي وميقاتي

ما يُذكر أنه في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استقبل الملك عبد الله الثاني في عمَّان، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وشدّد على «ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة». وحذّر العاهل الأردني من أن «استمرار القتل والتدمير سيبقي المنطقة رهينة العنف وتوسيع الصراع»؛ ما يتطلب «ضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان خطوةً أولى نحو التهدئة»، مجدداً التأكيد على أن «بلاده لن تكون ساحة للصراعات الإقليمية».

ثم أنه إذا كان استقبال الوزير الإيراني، الذي زار الأردن ضمن جولة عربية مهماً لعمَّان، فقد سبق هذه الزيارة بيومين وصول رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى العاصمة الأردنية ولقاؤه الملك عبد الله الثاني. وكان في جدول أعمال الزيارة:

- أولوية دعم الجيش اللبناني وسط احتمالات النزول إلى الشارع في ظل مخاوف من احتكاكات محتملة بين ميليشيات حزبية محسوبة على زعماء لبنانيين.

- الحاجة إلى تطبيق القرار الأممي بنشر قوات من الجيش اللبناني في مناطق الجنوب التي تخضع لسيطرة «حزب الله».

- الاستفادة من فرص وقف إطلاق النار عبر هُدن يمكن تمديدها.

واستكمالاً لعقد المباحثات مع «محور الممانعة»؛ طار الوزير أيمن الصفدي إلى دمشق، التي شكَّلت حدودها الجنوبية مع الأردن وعلى مدى أكثر من عقد ونصف العقد، حالة أمنية طارئة للجيش الأردني. ذلك أنه يتعامل باستمرار مع صد محاولات قوافل مهربي المخدّرات وعصابات السلاح لتجاوز الحدود؛ وهو ما استدعى مواجهات مسلحة واشتباكات نهاية العام الماضي أسفرت عن سقوط قتلى وإلقاء القبض على مهرّبين لهم اتصالات مع خلايا داخل المملكة.

الصفدي حمل رسالة شفوية من العاهل الأردني إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لكن لم يُكشف عن مضمونها. مع هذا، نشاط عمّان الدبلوماسي على مدى أيام الشهر الماضي، ترك انطباعاً لدى جمهور النخب المحلية، بأن انفتاح الحراك الدبلوماسي الأردني على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي لحماية المصالح الأردنية في ظل ما تشهده المنطقة من تصعيد عسكري خطير، وموقع المملكة على خطوط النار.

التهريب تهديد أمني

أردنياً، يُعتقد في أوساط الطبقة السياسية المطلعة، أن خطر تهريب المخدرات من الداخل السوري لا يزال يشكل «تحدياً أمنياً» كبيراً؛ الأمر الذي يستدعي إبقاء حالة الطوارئ لدى قوات حرس الحدود على امتداد الحدود الشمالية نحو (370 كلم) بين البلدين، لا سيما في ظل تحوّل مناطق في الجنوب السوري إلى مصانع إنتاج المخدرات، ونقلها من خلال عمليات التهريب إلى أسواق عربية وأجنبية عبر المملكة. ويضاف إلى ذلك النزف الاقتصادي المستمر منذ عام 2012، واستقبال اللاجئين وكُلف إقامتهم، وتراجُع أثر خطط الاستجابة الدولية للتعامل مع الدول المستضيفة للاجئين؛ إذ يستضيف الأردن نحو 1.3 مليون لاجئ سوري، معظمهم يقيمون خارج المخيمات التي خصصت لهم.

أمر آخر، يستحقّ التوقف عنده هو أنه لا يمكن فصل تلك الزيارة عن الملف الأردني الأهم، ألا وهو «الملف الأمني» المباشر. والحال، أنه لطالما بقي الجنوب السوري مسرحاً للميليشيات الإيرانية وغيرها، سيظل القلق الأردني من الخطر الآتي من الشمال، وبالتحديد، ستستمر المخاوف من تسرّب عناصر مسلحة بقصد «المقاومة» في فلسطين وعن طريق عمّان.

وبالفعل، جاء في بيان إن الرئيس الأسد والوزير الصفدي بحثا قضية عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم؛ إذ شدد الأسد على أن «تأمين العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين» هو «أولوية للحكومة السورية» التي أكد أنها قطعت شوطاً مهماً في الإجراءات المساعدة على العودة، خصوصاً في المجالين التشريعي والقانوني.وفي إطار الزيارة، أجرى الصفدي مباحثات موسَّعة مع وزير الخارجية والمغتربين السوري بسام الصباغ، ركّزت على جهود حل الأزمة السورية وقضية اللاجئين، ومكافحة تهريب المخدرات، إضافةً إلى التصعيد الخطير الذي تشهده المنطقة وجهود إنهائه.

الرئيس نجيب ميقاتي (إ.ب.أ)

 

حقائق

زيارة ميقاتي لعمّان... طلبتُ دعم أمن لبنان

فيما يخصُّ العلاقات الأردنية - اللبنانية، طلب الرئيس نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، في عمّان من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني دعم الجيش اللبناني بصفته القوة القادرة على التعامل مع احتمال تطور استخدام سلاح ميليشيات حزبية متباينة المواقف والولاءات، مع استمرار القصف الإسرائيلي الليلي على مناطق في الضاحية الجنوبية، وفي جنوب لبنان.وللعلم، يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي استقبل اللواء يوسف الحنيطي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، في عمّان، قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون. وفي الواقع لم يخفِ الأردن الرسمي دعمه للجيش اللبناني وأولوية تزويده بكل الاحتياجات بصفته ضمانة لأمن لبنان وحامياً للسلم الأهلي، بينما المواقف بين الأحزاب السياسية والميليشيات المحسوبة عليها. وبموازاة أولوية تزويد الجيش اللبناني بمتطلبات فرض سيطرته لحماية الأمن الداخلي وتنفيذ استحقاق قرارات أممية، أعلنت عمّان أيضاً دعمها لجهود الاستقرار السياسي في لبنان عبر انتخاب رئيس جديد للبلاد، ما من شأنه تخفيف حدة الاحتقان والتوتر، خصوصاً بعد تطورات الأسابيع الأخيرة أمنياً وسياسياً على معادلات الإدارة السياسية للبلاد، وتحريك عمل مؤسسات لبنان الدستورية. وهنا يرى محللون أردنيون أن تراكم الفوضى على حدود المملكة الشمالية مع سوريا والشرقية مع العراق، وحالة اللااستقرار في لبنان التي تفاقمت مع استمرار العدوان الإسرائيلي، وزيادة نشاط خطوط تهريب المخدرات، وضع تجب مواجهته عبر مسارين: الأول، مسار أمني يتطلب رفع درجات التأهب لمنع أي اختراقات إيرانية للأمن الأردني، والثاني مسار سياسي يتعلق بمواصلة الجهود السياسية لاحتواء الخطر الراهن ومحاولة تجاوز أي تصعيد من شأنه دفع المنطقة وجوار الأردن نحو المجهول. ولكن في هذه الأثناء، واضح أن إسرائيل هي الأخرى تبحث عن إزعاج الأردن، بما في ذلك «عزف» حسابات خارجية على منصات التواصل الاجتماعي على وتر الفتنة، وإغراق الرأي العام في جدل الإشاعات وتأجيجها.