فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

بمواجهة ضغوط المزاعم والتهم الإسرائيلية

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين
TT

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

«من واجبنا أن نمنع استخدام المعونة الإنسانية كسلاح في الحرب»... «لا بد من وقف المذبحة؛ فقد أزف وقف إطلاق النار في غزّة»... «يجب أن تسود الإنسانية في غزّة». هذه مقتطفات من بعض التصريحات التي أدلى بها فيليب لازاريني، المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) خلال الأسابيع الأخيرة المنصرمة. وتوّج لازاريني مواقفه مطلع هذا الأسبوع بتوجيه اتهام صريح ومباشر لإسرائيل بأنها تشنّ حملة للقضاء على هذه الوكالة التي أنشأتها الأمم المتحدة في عام 1949 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين الذين أُجبروا على النزوح من أراضيهم في أعقاب «النكبة»، والتي تحوّلت على مرّ السنين الجهة الوديعة الرئيسية لمنفى فلسطيني الشتات الذين يحلمون بالعودة يوماً إلى ديارهم، أو إلى ما تبقّى منها.

التصريحات التي صدرت أخيراً عن فيليب لازاريني، مدير «الأونروا»، الذي يتمتّع بصدقيّة إنسانية عالية على الصعيد الدولي ويحظى بتقدير كبير بين زملائه في الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية، أثارت استياء السلطات الإسرائيلية التي تقود حملة ممنهجة ضد المنظمة الأممية وصلت حد اتهامها بأنها مخترقة من عشرات الموظفين الذين تقول إنهم ينتمون إلى منظمة «حماس».

في غضون ذلك، وبعدما علّقت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية مساهماتها لتمويل «الأونروا» في انتظار نتائج التحقيق المستقل الذي باشرت به اللجنة المستقلة التي شكّلها الأمين العام للأمم المتحدة وكلّف رئاستها وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا لتقييم حيادية الوكالة، يردد لازاريني أمام زملائه في مجالس خاصة: «إن العالم لم يشهد بعد كل الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، والتي وثّقت الوكالة العديد منها».

الخلفية والمسيرة

منذ أن تخرّج فيليب لازاريني في جامعتي لوزان ونيوشاتيل السويسريتين، حيث درس الاقتصاد وإدارة الأعمال، كرّس الرجل نشاطه للعمل الإنساني. فالتحق خلال عام 1989 بـ«اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، التي يعتبرها السويسريون المفخرة الدولية لنظامهم ورمزاً لحياده، وكان مندوباً لها في بلدان عدة، منها جنوب السودان، ولبنان، والأردن وغزّة. ثم أشرف على إدارة أنشطة «اللجنة» في كل من البوسنة وأنغولا ورواندا، ثم انتقل أواخر تسعينات القرن الفائت إلى القطاع المصرفي الخاص في سويسرا، حيث شغل منصب المسؤول عن ترسيخ قواعد المسؤولية الاجتماعية والاستثمار الأخلاقي.

بعد ذلك، في عام 2003 انضمّ لازاريني إلى «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانية» (أوتشا) كمنسّق للعمليات في العراق، ثم انتقل إلى أنغولا والصومال، ومنها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وعام 2010 أصبح مديراً لقسم التنسيق والاستجابة في «المكتب»، ثم مساعداً للأمين العام ومنسقاً خاصاً للشؤون الإنسانية في «برنامج الأمم المتحدة للتنمية». ومن ثم، في عام 2005 عيّنه الأمين العام منسّقاً خاصاً لأنشطة المنظمة الإنسانية في لبنان، ومشرفاً على الجوانب الإنسانية لـ«برنامج الأمم المتحدة للتنمية» حتى عام 2020، عندما قرّر الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش تعيينه مفوّضاً عاماً لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) في الشرق الأوسط.

المتاعب مع إسرائيل

بدأت متاعب لازاريني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية عام 2023 عندما انتقد الحصار الذي فرضته على قطاع غزة. وكان في الواقع أول من وصف القطاع بأنه «مقبرة لسكّان يعيشون رهائن الحرب والحصار والحرمان». وقال: «ستعرف الأجيال الآتية أننا كنا شهوداً على تطور هذه المأساة الإنسانية على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية، ولن يكون بوسعنا أن نقول: لم نكن نعرف. والتاريخ سيسألنا لماذا لم يمتلك العالم الشجاعة اللازمة للتصرّف بحزم من أجل وضع حد لهذا الجحيم على الأرض».

وفي مطلع العام التالي أكّد أمام وسائل الإعلام أن إسرائيل منعت دخول المساعدات الغذائية إلى اكثر من مليون شخص في القطاع.

مواجهة التهم الإسرائيلية

في أواخر يناير (كانون الثاني) الفائت ردّ فيليب لازاريني على الاتهامات التي وجّهتها السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة، بأن 12 من موظفيها شاركوا في عملية «طوفان الأقصى»، بقوله: «قدّمت السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة معلومات حول المشاركة المزعومة لعدد من موظفيها في الاعتداءات البشعة ضد إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت»، ليضيف: «ومن أجل حماية قدرة الوكالة على تقديم المساعدة الإنسانية، قررت إنهاء عقود أولئك الموظفين والمباشرة بتحقيق سريع لمعرفة الحقائق». وأكد أن أي موظف يكون قد شارك بشكل أو بآخر في أعمال إرهابية سيتعرّض للملاحقة الجنائية.

بعدها، في أواسط فبراير (شباط) الماضي، أعلن لازاريني أنه لا ينوي تقديم استقالته كما كان يطالب عدد من أعضاء حكومة نتنياهو، مؤكداً أن إسرائيل «لم تقدّم بعد أي أدلّة تدعم الاتهامات الخطيرة التي سبق وجهتها إلى بعض موظفي الوكالة». وكانت السلطات الإسرائيلية، ضمن حملتها المركزة على لازاريني قد ادعت أن المنظمة الحقوقية التي أسستها وتديرها زوجته البريطانية أنطونيا مولفي قد وضعت تقارير منحازة ضد إسرائيل، وطالبت بإبعادها عن التحقيقات الجارية.

ومع احتدام الحملة الإسرائيلية على «الأونروا»، وإطلاقها سيل الاتهامات ضدها، صرّح لازاريني يوم الاثنين الفائت أمام جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً: «تواجه الوكالة حملة ممنهجة ومقصودة لعرقلة عملياتها بهدف القضاء عليها نهائياً». وتابع في تصريحاته - التي أثارت غضب البعثة الإسرائيلية التي حاولت مقاطعته خلال الجلسة -: «تقوم هذه الحملة على إغراق الجهات المانحة بمعلومات مُضلّلة مُصمّمة لزعزعة الثقة بالوكالة وتشويه سمعتها».

وفي حديثه لاحقاً أمام الصحافيين، شدّد لازاريني على أن الاتهامات ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»، مؤكداً أن «هذه الاتهامات التي نشرتها السلطات الإسرائيلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة لم تقدّمها بصورة رسمية إلى الأمم المتحدة».

تحقيقات داخلية

جدير بالذكر، أنه قبل بدء اللجنة المستقلة تحقيقاتها أواسط الشهر الفائت، كانت «الأونروا» قد باشرت تحقيقاتها الداخلية في المزاعم الإسرائيلية. وتضمّ ثلاث منظمات إسكندينافية متخصصة في تقييم الحياد، ومن المنتظر أن تقدّم تقريرها النهائي أواخر أبريل (نيسان) المقبل.

وفي هذا الشأن، قال لازاريني إن الوكالة «تواجه ظرفاً مفصلياً أمام عجزها عن استيعاب الصدمة المالية الناجمة عن تعليق التمويل في خضمّ الحرب بعدما قرّرت 16 دولة وقف ضخ المساعدات بقيمة 450 مليون دولار؛ ما يهدد بقطع المساعدات الأساسية ليس فقط لسكان القطاع، بل أيضاً إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن وسوريا».

هذا، ومنذ وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم في إسرائيل، دأبت السلطات الإسرائيلية على توجيه الاتهامات للوكالة، مدّعية أن «حماس» تستخدم مدارسها للأنشطة الإرهابي، وتخزين السلاح وحفر الأنفاق تحتها، وأنها تروّج للأفكار المناهضة للسامية في مناهجها التعليمية.

وبعد عملية «طوفان الأقصى»، ازدادت حدة هذه الاتهامات حتى بلغت مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بتفكيكها وإنهاء خدماتها، زاعماً أنه حتى قبل 7 أكتوبر... «كانت (الأونروا) دائماً جزءاً من المشكلة ولم تكن أبداً جزءاً من الحل». وفي آخر التصريحات التي صدرت عن مكتب نتنياهو عن الوكالة، جاء تهديده «أن (الأونروا) لن تواصل بعد الآن أنشطتها في غزة كما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر الفائت، وأن دورها قد انتهى... ولا بد من إبدالها فوراً وقطع تمويلها وتفكيكها».

ولكن، في حين علّقت بعض الدول تمويلها للوكالة، قررت دول أخرى، مثل المملكة العربية السعودية، وقطر، وتايلاند، والمكسيك، وماليزيا، وإندونيسيا وإسبانيا، زيادة حجم مساهماتها.

أين محاسبة إسرائيل؟

كذلك، في ردّه على المزاعم والاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة، تساءل رياض منصور، المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة: «ماذا عن محاسبة إسرائيل على قتلها 158 موظفاً كانوا يعملون في (الأونروا)، ومن بينهم أمهات وأمهات، قُتلوا مع أفراد عائلاتهم؟ وأين هي محاسبتها على تدمير 155 من منشآت الوكالة؟ والأخطر من كل ذلك، عن قتلها وجرحها مئات المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا يسعون إلى اللجوء تحت شعارات الأمم المتحدة لكنهم حُرموا من حمايتها؟». وللعلم، كان 400 فلسطيني قد قُتلوا منذ بداية الحرب بينما كانوا يحتمون في مبانٍ تابعة لوكالة الدولية.

ومنذ أيام شكا لازاريني من أن السلطات الإسرائيلية تتخذ إجراءات عقابية ضد الوكالة وموظفيها تتعارض مع الاتفاقات الموقّعة من الأمم المتحدة. وأردف أنه يطّلع على هذه الإجراءات عن طريق وسائل الإعلام؛ لأن السلطات الإسرائيلية لا تبلّغه رسمياً بها. وكان وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش - الذي ينتمي إلى تكتل اليمين المتطرف - قد غرّد أخيراً على حسابه: «إن إسرائيل ستوقف تطبيق الإعفاءات الضريبية عن الذين يتعاونون مع الإرهاب»، بعدما كان قد أعطى تعليماته بإلغاء المزايا التي يتمتع بها عادة موظفو الأمم المتحدة بموجب الاتفاقات الدولية، وكان أحد المصارف الإسرائيلية يلغي حساب الوكالة من غير إبلاغ المفوض العام بذلك.

تجاهل كامل لموقعه

من جهة ثانية، كان فيليب لازاريني قد أوضح أمام الجمعية العامة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية لم تسلّمه التقرير الذي وضعته الاستخبارات الإسرائيلية ويتضمن الاتهامات الموجهة إلى الوكالة وموظفيها، والذي حصلت عليه بعض وسائل الإعلام الأميركية، ويزعم «أن 10 في المائة من موظفي الوكالة يقيمون علاقات ما مع منظمتي (حماس) و(الجهاد الإسلامي)...».

ثم أنه، بعد لقائه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عقب اتخاذه القرار بإنهاء عقود اثني عشر موظفاً في الوكالة، اعترف لازاريني بأنه تصرّف «بعكس ما تقتضيه المحاكمة العادلة» التي أساسها أن المتهم بريء إلى أن تثبت تهمته. وتابع أنه إنما اتخذ قراره انطلاقاً من «المخاطر الكبيرة على سمعة الوكالة في ضوء الاتهامات، ومن أجل الحفاظ على قدرتها لمواصلة أنشطتها وتقديم الخدمات الإنسانية الحيوية في مثل هذه الظروف على أبواب مجاعة محدقة بسبب من عرقلة دخول المساعدات الغذائية».

في المقابل، في خطابه السنوي الأخير أمام الكنيست، واصل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الزعم أن «الأونروا» «مخترقة كلّياً» من «حماس»، وأنه «لا دور لها على الإطلاق في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب». شدّد لازاريني في حديث إلى الصحافيين على أن الاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».