فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

بمواجهة ضغوط المزاعم والتهم الإسرائيلية

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين
TT

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

«من واجبنا أن نمنع استخدام المعونة الإنسانية كسلاح في الحرب»... «لا بد من وقف المذبحة؛ فقد أزف وقف إطلاق النار في غزّة»... «يجب أن تسود الإنسانية في غزّة». هذه مقتطفات من بعض التصريحات التي أدلى بها فيليب لازاريني، المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) خلال الأسابيع الأخيرة المنصرمة. وتوّج لازاريني مواقفه مطلع هذا الأسبوع بتوجيه اتهام صريح ومباشر لإسرائيل بأنها تشنّ حملة للقضاء على هذه الوكالة التي أنشأتها الأمم المتحدة في عام 1949 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين الذين أُجبروا على النزوح من أراضيهم في أعقاب «النكبة»، والتي تحوّلت على مرّ السنين الجهة الوديعة الرئيسية لمنفى فلسطيني الشتات الذين يحلمون بالعودة يوماً إلى ديارهم، أو إلى ما تبقّى منها.

التصريحات التي صدرت أخيراً عن فيليب لازاريني، مدير «الأونروا»، الذي يتمتّع بصدقيّة إنسانية عالية على الصعيد الدولي ويحظى بتقدير كبير بين زملائه في الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية، أثارت استياء السلطات الإسرائيلية التي تقود حملة ممنهجة ضد المنظمة الأممية وصلت حد اتهامها بأنها مخترقة من عشرات الموظفين الذين تقول إنهم ينتمون إلى منظمة «حماس».

في غضون ذلك، وبعدما علّقت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية مساهماتها لتمويل «الأونروا» في انتظار نتائج التحقيق المستقل الذي باشرت به اللجنة المستقلة التي شكّلها الأمين العام للأمم المتحدة وكلّف رئاستها وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا لتقييم حيادية الوكالة، يردد لازاريني أمام زملائه في مجالس خاصة: «إن العالم لم يشهد بعد كل الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، والتي وثّقت الوكالة العديد منها».

الخلفية والمسيرة

منذ أن تخرّج فيليب لازاريني في جامعتي لوزان ونيوشاتيل السويسريتين، حيث درس الاقتصاد وإدارة الأعمال، كرّس الرجل نشاطه للعمل الإنساني. فالتحق خلال عام 1989 بـ«اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، التي يعتبرها السويسريون المفخرة الدولية لنظامهم ورمزاً لحياده، وكان مندوباً لها في بلدان عدة، منها جنوب السودان، ولبنان، والأردن وغزّة. ثم أشرف على إدارة أنشطة «اللجنة» في كل من البوسنة وأنغولا ورواندا، ثم انتقل أواخر تسعينات القرن الفائت إلى القطاع المصرفي الخاص في سويسرا، حيث شغل منصب المسؤول عن ترسيخ قواعد المسؤولية الاجتماعية والاستثمار الأخلاقي.

بعد ذلك، في عام 2003 انضمّ لازاريني إلى «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانية» (أوتشا) كمنسّق للعمليات في العراق، ثم انتقل إلى أنغولا والصومال، ومنها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وعام 2010 أصبح مديراً لقسم التنسيق والاستجابة في «المكتب»، ثم مساعداً للأمين العام ومنسقاً خاصاً للشؤون الإنسانية في «برنامج الأمم المتحدة للتنمية». ومن ثم، في عام 2005 عيّنه الأمين العام منسّقاً خاصاً لأنشطة المنظمة الإنسانية في لبنان، ومشرفاً على الجوانب الإنسانية لـ«برنامج الأمم المتحدة للتنمية» حتى عام 2020، عندما قرّر الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش تعيينه مفوّضاً عاماً لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) في الشرق الأوسط.

المتاعب مع إسرائيل

بدأت متاعب لازاريني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية عام 2023 عندما انتقد الحصار الذي فرضته على قطاع غزة. وكان في الواقع أول من وصف القطاع بأنه «مقبرة لسكّان يعيشون رهائن الحرب والحصار والحرمان». وقال: «ستعرف الأجيال الآتية أننا كنا شهوداً على تطور هذه المأساة الإنسانية على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية، ولن يكون بوسعنا أن نقول: لم نكن نعرف. والتاريخ سيسألنا لماذا لم يمتلك العالم الشجاعة اللازمة للتصرّف بحزم من أجل وضع حد لهذا الجحيم على الأرض».

وفي مطلع العام التالي أكّد أمام وسائل الإعلام أن إسرائيل منعت دخول المساعدات الغذائية إلى اكثر من مليون شخص في القطاع.

مواجهة التهم الإسرائيلية

في أواخر يناير (كانون الثاني) الفائت ردّ فيليب لازاريني على الاتهامات التي وجّهتها السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة، بأن 12 من موظفيها شاركوا في عملية «طوفان الأقصى»، بقوله: «قدّمت السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة معلومات حول المشاركة المزعومة لعدد من موظفيها في الاعتداءات البشعة ضد إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت»، ليضيف: «ومن أجل حماية قدرة الوكالة على تقديم المساعدة الإنسانية، قررت إنهاء عقود أولئك الموظفين والمباشرة بتحقيق سريع لمعرفة الحقائق». وأكد أن أي موظف يكون قد شارك بشكل أو بآخر في أعمال إرهابية سيتعرّض للملاحقة الجنائية.

بعدها، في أواسط فبراير (شباط) الماضي، أعلن لازاريني أنه لا ينوي تقديم استقالته كما كان يطالب عدد من أعضاء حكومة نتنياهو، مؤكداً أن إسرائيل «لم تقدّم بعد أي أدلّة تدعم الاتهامات الخطيرة التي سبق وجهتها إلى بعض موظفي الوكالة». وكانت السلطات الإسرائيلية، ضمن حملتها المركزة على لازاريني قد ادعت أن المنظمة الحقوقية التي أسستها وتديرها زوجته البريطانية أنطونيا مولفي قد وضعت تقارير منحازة ضد إسرائيل، وطالبت بإبعادها عن التحقيقات الجارية.

ومع احتدام الحملة الإسرائيلية على «الأونروا»، وإطلاقها سيل الاتهامات ضدها، صرّح لازاريني يوم الاثنين الفائت أمام جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً: «تواجه الوكالة حملة ممنهجة ومقصودة لعرقلة عملياتها بهدف القضاء عليها نهائياً». وتابع في تصريحاته - التي أثارت غضب البعثة الإسرائيلية التي حاولت مقاطعته خلال الجلسة -: «تقوم هذه الحملة على إغراق الجهات المانحة بمعلومات مُضلّلة مُصمّمة لزعزعة الثقة بالوكالة وتشويه سمعتها».

وفي حديثه لاحقاً أمام الصحافيين، شدّد لازاريني على أن الاتهامات ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»، مؤكداً أن «هذه الاتهامات التي نشرتها السلطات الإسرائيلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة لم تقدّمها بصورة رسمية إلى الأمم المتحدة».

تحقيقات داخلية

جدير بالذكر، أنه قبل بدء اللجنة المستقلة تحقيقاتها أواسط الشهر الفائت، كانت «الأونروا» قد باشرت تحقيقاتها الداخلية في المزاعم الإسرائيلية. وتضمّ ثلاث منظمات إسكندينافية متخصصة في تقييم الحياد، ومن المنتظر أن تقدّم تقريرها النهائي أواخر أبريل (نيسان) المقبل.

وفي هذا الشأن، قال لازاريني إن الوكالة «تواجه ظرفاً مفصلياً أمام عجزها عن استيعاب الصدمة المالية الناجمة عن تعليق التمويل في خضمّ الحرب بعدما قرّرت 16 دولة وقف ضخ المساعدات بقيمة 450 مليون دولار؛ ما يهدد بقطع المساعدات الأساسية ليس فقط لسكان القطاع، بل أيضاً إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن وسوريا».

هذا، ومنذ وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم في إسرائيل، دأبت السلطات الإسرائيلية على توجيه الاتهامات للوكالة، مدّعية أن «حماس» تستخدم مدارسها للأنشطة الإرهابي، وتخزين السلاح وحفر الأنفاق تحتها، وأنها تروّج للأفكار المناهضة للسامية في مناهجها التعليمية.

وبعد عملية «طوفان الأقصى»، ازدادت حدة هذه الاتهامات حتى بلغت مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بتفكيكها وإنهاء خدماتها، زاعماً أنه حتى قبل 7 أكتوبر... «كانت (الأونروا) دائماً جزءاً من المشكلة ولم تكن أبداً جزءاً من الحل». وفي آخر التصريحات التي صدرت عن مكتب نتنياهو عن الوكالة، جاء تهديده «أن (الأونروا) لن تواصل بعد الآن أنشطتها في غزة كما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر الفائت، وأن دورها قد انتهى... ولا بد من إبدالها فوراً وقطع تمويلها وتفكيكها».

ولكن، في حين علّقت بعض الدول تمويلها للوكالة، قررت دول أخرى، مثل المملكة العربية السعودية، وقطر، وتايلاند، والمكسيك، وماليزيا، وإندونيسيا وإسبانيا، زيادة حجم مساهماتها.

أين محاسبة إسرائيل؟

كذلك، في ردّه على المزاعم والاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة، تساءل رياض منصور، المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة: «ماذا عن محاسبة إسرائيل على قتلها 158 موظفاً كانوا يعملون في (الأونروا)، ومن بينهم أمهات وأمهات، قُتلوا مع أفراد عائلاتهم؟ وأين هي محاسبتها على تدمير 155 من منشآت الوكالة؟ والأخطر من كل ذلك، عن قتلها وجرحها مئات المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا يسعون إلى اللجوء تحت شعارات الأمم المتحدة لكنهم حُرموا من حمايتها؟». وللعلم، كان 400 فلسطيني قد قُتلوا منذ بداية الحرب بينما كانوا يحتمون في مبانٍ تابعة لوكالة الدولية.

ومنذ أيام شكا لازاريني من أن السلطات الإسرائيلية تتخذ إجراءات عقابية ضد الوكالة وموظفيها تتعارض مع الاتفاقات الموقّعة من الأمم المتحدة. وأردف أنه يطّلع على هذه الإجراءات عن طريق وسائل الإعلام؛ لأن السلطات الإسرائيلية لا تبلّغه رسمياً بها. وكان وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش - الذي ينتمي إلى تكتل اليمين المتطرف - قد غرّد أخيراً على حسابه: «إن إسرائيل ستوقف تطبيق الإعفاءات الضريبية عن الذين يتعاونون مع الإرهاب»، بعدما كان قد أعطى تعليماته بإلغاء المزايا التي يتمتع بها عادة موظفو الأمم المتحدة بموجب الاتفاقات الدولية، وكان أحد المصارف الإسرائيلية يلغي حساب الوكالة من غير إبلاغ المفوض العام بذلك.

تجاهل كامل لموقعه

من جهة ثانية، كان فيليب لازاريني قد أوضح أمام الجمعية العامة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية لم تسلّمه التقرير الذي وضعته الاستخبارات الإسرائيلية ويتضمن الاتهامات الموجهة إلى الوكالة وموظفيها، والذي حصلت عليه بعض وسائل الإعلام الأميركية، ويزعم «أن 10 في المائة من موظفي الوكالة يقيمون علاقات ما مع منظمتي (حماس) و(الجهاد الإسلامي)...».

ثم أنه، بعد لقائه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عقب اتخاذه القرار بإنهاء عقود اثني عشر موظفاً في الوكالة، اعترف لازاريني بأنه تصرّف «بعكس ما تقتضيه المحاكمة العادلة» التي أساسها أن المتهم بريء إلى أن تثبت تهمته. وتابع أنه إنما اتخذ قراره انطلاقاً من «المخاطر الكبيرة على سمعة الوكالة في ضوء الاتهامات، ومن أجل الحفاظ على قدرتها لمواصلة أنشطتها وتقديم الخدمات الإنسانية الحيوية في مثل هذه الظروف على أبواب مجاعة محدقة بسبب من عرقلة دخول المساعدات الغذائية».

في المقابل، في خطابه السنوي الأخير أمام الكنيست، واصل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الزعم أن «الأونروا» «مخترقة كلّياً» من «حماس»، وأنه «لا دور لها على الإطلاق في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب». شدّد لازاريني في حديث إلى الصحافيين على أن الاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر