السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

بعد قرار إجراء الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية الشهر الحالي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
TT

السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)

عودة السنغال إلى المسار الديمقراطي، لا ينقذ البلاد فقط من الأزمة السياسية والشعبية، بل يمتد أثره ليؤكد سمعة الدولة التي اشتهرت كواحة ديمقراطية في الغرب الأفريقي، الذي بات عنواناً للتغييرات غير الدستورية في الحكم، والذي تعززت صورته تلك بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية خلال السنوات الأربع الأخيرة. صحيح، أن السنغال لا تبدو على الخريطة الأفريقية دولة شاسعة المساحة أو هائلة الموارد، لكنها استطاعت أن ترسم لنفسها صورة مختلفة عن جيرانها في الغرب الأفريقي عبر تجربة سياسية اعتمدت الانتقال السلمي للسلطة سواء من الاشتراكية إلى الليبرالية، أو عبر الالتزام باحترام التعددية الحزبية وحرية المنافسة؛ ما جعلها تبدو «حالة نادرة» في منطقة لم تعد «الانقلابات» بها خبراً لافتاً. ولكن للمرة الأولى منذ ستة عقود تعرّضت الانتخابات الرئاسية في السنغال لتأجيل بدا مفاجئاً لكثيرين، وتسبب في احتقان الأفق السياسي، وإشعال ردود فعل غاضبة سواء على مستوى الشارع أو القوى الحزبية والمدنية، عندما أصدر الرئيس ماكي سال مطلع فبراير (شباط) الماضي قراراً بتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى بعدما كان مقرراً إجراؤها يوم 25 فبراير 2024.

قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية السنغالية أشعل غضب أحزاب المعارضة، وسرعان ما انتقلت الأزمة إلى الشارع عبر مظاهرات شعبية سقط خلالها قتلى ومصابون إثر مصادمات مع قوات الشرطة، قبل أن يحسم المجلس الدستوري الصراع لصالح المسار الديمقراطي بقراره إجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية شهر مارس (آذار) الحالي.

الآن، رغم انتهاء الفصل الحالي من الأزمة السياسية بإجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء فترة حكم الرئيس سال، تفتح الأزمة المجال أمام مراجعات قد تحتاج إلى مزيد من الجهد عقب وصول رئيس جديد إلى سدة الحكم؛ كي لا يتكرر مشهد الارتباك الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات.

معارضون يرفعون لافتات مؤيدة لعثمان سونكو (آ ف ب)

جذور الأزمة

وبينما يحاول كثير من المحللين ربط الأزمة السياسية الراهنة بقرار الرئيس سال إرجاء الانتخابات الرئاسية، يرى البعض أن الأزمة أعمق من ذلك؛ إذ ترجع إلى نتائج التعديلات الدستورية التي اعتُمدت عام 2016، وبموجبها قُلّصت الولاية الرئاسية إلى ولايتين فقط. وحقاً أقرّت التعديلات الدستورية بعدما بدأ الرئيس سال ولايته الأولى (عام 2012)، ونصّ الدستور السنغالي المعدل على أنه «لا يمكن لأحد أن يحكم البلاد أكثر من فترتين متتاليتين»، لكن سال قال عام 2021 إنه ينوي الترشح لولاية ثالثة، معتبراً أن هذه المادة لا تنطبق عليه باعتبار أن ولايته الأولى كانت قبل التعديلات الدستورية.

هذا الأمر أثار ردة فعل عنيفة سواء على مستوى الشارع أو من أحزاب المعارضة، وبالذات من رئيس حزب «باستيف» المعارض عثمان سونكو الذي دعا إلى النزول للشارع للوقوف أمام طموحات سال. وفعلاً، شهدت السنغال مظاهرات عنيفة شملت العاصمة دكار وعدداً من كبريات مدن البلاد، راح ضحيتها قتلى وجرحى، ثم تدخلت دبلوماسية المشيخة الصوفية وهيئات العلماء وأسهمت بإنهائها. وعندها أعلن الرئيس تخليه عن فكرة الولاية الثالثة، لكن إعلانه لم يقنع العديد من قطاعات الشارع السنغالي أو الطبقة السياسية بحسن نية الرئيس.

ثم أن الإجراءات التي اتبعتها السلطة بحق عثمان سونكو، الذي يُنظر إليه على أنه منافس بارز ويحظى بشعبية كبيرة بين الشباب السنغالي بسبب خطابه الشعبوي ومواقفه القوية ضد الفساد، كانت سبباً آخر في إثارة الكثير من المخاوف إزاء صدق نوايا السلطة في إجراء انتخابات تنافسية. إذ سُجن سونكو إثر اتهامه بعدد من التهم، بينها التمرد، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها «ذات دوافع سياسية»، ولا يزال هذا المعارض البارز قابعاً في السجن؛ ما حال دون ترشحه للانتخابات.

الرئيس ماكي سال (آ ف ب)

مشهد مرتبك

لم يلهب الوضع فقط استخدام السلطة الأحكام القضائية حجة لإبعاد بعض المرشحين الأقوياء من أحزاب المعارضة، بل استفحلت الأزمة من جديد عندما أصدر «المجلس الدستوري» السنغالي القائمة النهائية التي ضمت 20 مرشحاً رئاسياً، لكنها خلت من كريم واد زعيم الحزب الديمقراطي السنغالي (ونجل الرئيس السابق عبد الله واد) بحجة أنه ثنائي الجنسية، في حين أن اللائحة ضمّت مرشحة مزدوجة الجنسية هي روز ورديني (انسحبت لاحقاً). وللعلم، فإن «المجلس» هو السلطة الدستورية العليا في البلاد والجهة المخوّلة التصديق على انطباق شروط الترشح على الراغبين في خوض السباق الرئاسي.

ويوم 1 فبراير طالب نواب من الحزب الديمقراطي السنغالي بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق مع عضوين في «المجلس الدستوري» لاتهامها بالتواطؤ من أجل إبعاد كريم واد. وهذا ما استند إليه الرئيس سال لإصدار قراره بتأجيل الانتخابات؛ ما تسبب في اندلاع موجة من أعمال العنف سقط خلالها قتلى ومصابون.

مجلة «جون أفريك» الفرنسية المتخصصة في الشؤون الأفريقية، قدمت تحليلاً للمشهد المرتبك في السنغال، ليس فقط على مستوى الشارع، بل وحتى خلال إقرار البرلمان قرار تأجيل الانتخابات. إذ اشتبك النواب المؤيدون والمعارضون بالأيدي، وتدّخلت قوات الدرك لإخراج نواب المعارضة من قاعة البرلمان من أجل إصدار قرار التأجيل. وأشار تحليل المجلة الفرنسية إلى أن أفراد «المحيط السياسي» للرئيس سال أقنعوه بتأجيل الانتخابات الرئاسية حتى يتمكنوا من إيجاد وريث يكون قادراً على جمع الطيف السياسي من حوله.

وتابعت المجلة أن سال يدرك خطورة المصادقة على ترشيح باسيرو ديوماي فاي، بديل عثمان سونكو، الذي تدعمه الحركات الشبابية والنقابية، والذي بات يمثل «خطراً» على حظوظ آمادو با، مرشح حزب الرئيس، وبخاصة مع تنامي اقتناع الرئيس بأن مرشحه لن يتمكن من حسم السباق لصالحه؛ بسبب تصدّع معسكر النظام وافتقار ترشيح بالإجماع، إضافة إلى وجود مرشحيْن منشقين عن النظام الحاكم، هما الوزير الأول السابق محمد عبد الله ديون، ووزير الداخلية السابق علي نغوي ندياي.

كل هذه الملابسات أسهمت في دفع سال إلى الاقتناع بالتنسيق مع كريم واد، المقرّب من فرنسا، والذي يحظى بقبول كبير داخل دوائر «الدولة العميقة». وكان استبعاد ترشيح كريم واد، من جانب «المجلس الدستوري» قد استند إلى حمله الجنسية الفرنسية عندما قدم طلبه الترشح لمنصب الرئيس. ومع أن واد (ابن الرئيس السابق عبد الله واد من سيدة فرنسية) تخلى عن جنسيته الفرنسية، فإن الخطوة لم تتوافق مع مهل تقديم الترشيحات؛ ما فرض تأجيل الانتخابات، ثم الدعوة إلى موعد جديد، وفتح باب الترشح مجدداً «لإعادة ترتيب أوراق السباق» بما يخدم مصالح الرئيس سال، حسبما ادعاءات المعارضة. وعقب تصويت البرلمان بالموافقة على إجراء الانتخابات في ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي؛ ما يعني إدخال البلاد في حالة من الفراغ أو تمديد ولاية الرئيس سال - وهو ما تتمسك المعارضة برفضه - جاء قرار «المجلس الدستوري» بإبطال قرار البرلمان، وإلزام السلطات بإجراء الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية مارس الحالي ليكون بمثابة «طوق نجاة».

كريم واد (آ ف ب)

لحظة فارقة

يرى عمر ندياي، الكاتب والباحث السنغالي، والمتخصص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، أن قرار تنظيم الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي «يمثل استعادة للنهج الديمقراطي الذي اتسمت بها البلاد على مدى 6 عقود». واعتبر لـ«الشرق الأوسط» أن قرار تأجيل الانتخابات «لم يكن يحظى بالإجماع بين الطبقة السياسية وحتى بين الرأي العام السنغالي؛ لأن الأسباب المقدمة ليست قوية».

وأضاف ندياي: «هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها الديمقراطية السنغالية، التي بُنيت على مدى العقود الأخيرة، مثل هذه اللحظة الفارقة... نعم، شهدت ديمقراطيتنا توترات مرات عدة، لكن الانتخابات الرئاسية كانت دائماً لحظة ساعدت في وضع حد لكل هذه الأزمات». وتابع أنه لم يسبق للسنغال من قبل اللجوء لتأجيل الاستحقاق الرئاسي في ظل أزمات سابقة، مستشهداً بما حدث عام 2012، عندما حدث انقسام في الطبقة السياسية حول الترشيح الثالث المتنازع عليه للرئيس عبد الله واد، مع توترات شديدة تسببت في سقوط قتلى. ولكن، يومذاك أُجريت الانتخابات بسلام وانتُخب ماكي سال. وأردف ندياي: «ما كان لهذا التأجيل أي سبب، خاصة أن الأسباب المذكورة (فساد مزعوم للقضاة الدستوريين) لا تصمد. نحن في وضع فريد من نوعه في تاريخنا السياسي الحديث، ولا نعرف إلى أين قد يقودنا».

تقويض الاستقرار

وتتشارك نسرين الصباحي، الباحثة بوحدة الدراسات الأفريقية في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، خلال تعليق لـ«الشرق الأوسط»، الرؤية المحذّرة من خطورة الوضع السابق الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات على مستقبل التجربة الديمقراطية في السنغال. إذ تشير إلى أن تأجيل الاستحقاق الرئاسي «كان بمثابة دفع للبلاد إلى مزيد من تصعيد المشهد المضطرب»، على الرغم من الضغوط الداخلية والخارجية العديدة. وازداد الوضع تعقيداً مع استبعاد زعماء المعارضة الرئيسيين من الانتخابات؛ ما أسهم بتقويض الاستقرار السياسي والسلام المجتمعي في دولة اعتُبرت طوال العقود الماضية «جزيرة الاستقرار ونموذجاُ للديمقراطية في منطقة غرب أفريقيا».

وأضافت الصباحي: «السنغال لم تتعرض لأي انقلاب عسكري منذ الاستقلال، فجرى تداول انتقال السلطة بشكل منتظم، كما أن تاريخها حافل بالتعددية الحزبية والانتقال السلمي من خلال صناديق الاقتراع»، وبالتالي، إجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء ولاية سال يأتي «انتصاراً لقيم الدولة ومسارها السياسي الديمقراطي».

وبالفعل، حافظ الجيش في السنغال على حياده سياسياً؛ إذ التزم منذ الاستقلال بالابتعاد عن التدخل في السياسة، وكان هذا من بين السمات المميزة للسنغال عن جيرانها في غرب أفريقيا. ثم أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن 85 في المائة من السنغاليين يعربون عن ثقتهم بالجيش، وهذه النسبة من بين أعلى المعدلات في القارة.

«سيناريو» فراغ السلطة

عودة إلى عمر ندياي، الذي يرى أن قرار إجراء الانتخابات قبل نهاية ولاية الرئيس الحالي في 2 أبريل (نيسان) المقبل «مثّل إخراجاً للبلاد من سيناريو فراغ السلطة الذي كان يهددها»، لا سيما وأن كل الحلول التي طُرحت سابقاً للخروج من الأزمة مثل تنظيم الانتخابات في يونيو (حزيران) المقبل، أو إمكانية بقاء الرئيس المنتهية ولايته لتنظيمها، كانت جميعها «موضع خلاف».

ويضيف الكاتب السنغالي: «كل السيناريوهات عدا إجراء الانتخابات تحمل بذور أزمة مؤسسية، وما كان ليقبلها أحد». ومن جهة ثانية، فإن الاهتمام بمسار الأحداث في السنغال لم يقتصر فقط على أبناء البلاد التي اجتازت العديد من أزماتها عبر احترام مبدأ التعايش السلمي والتعدد السياسي - فضلاً عن المسحة الصوفية التي تغلب على شعبها - بل امتد إلى كثيرين، في القارة الأفريقية. ولقد كان على السنغال أن تحسم خياراتها، فإما الحفاظ على إرث التداول السلمي للسلطة، أو الاستسلام لعدوى الاضطرابات المنتشرة بقوة في الغرب الأفريقي... ويبدو أن «مؤسسات الدولة» السنغالية حسمت بالعودة إلى إقرار الانتخابات الرئاسية مسارها المعتاد، حتى وإن انحرفت الأمور قليلاً.

وهكذا، قد تكون استعادة المسار بحد ذاته خبراً ساراً للسنغاليين وللمراهنين على إمكانية أن تترسخ تجربة ديمقراطية في «القارة السمراء».

على المستوى القاري، وقبيل العدول عن قرار التأجيل، حث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي، السنغاليين على حل «خلافهم السياسي من خلال التشاور والتفاهم والحوار»، داعياً السلطات إلى «تنظيم الانتخابات بشفافية وسلام ووئام وطني». أما «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس)، التي لطالما اتخذها الرئيس ماكي سال منبراً للمطالبة بالديمقراطية في دول أفريقية تعاني عدوى الانقلابات، فكانت أعربت عن أسفها لما تمر به دكار من «خروج على مبادئ الديمقراطية»، وطالبت بالإسراع في الخروج من حالة «الانسداد السياسي الذي يؤدي إلى الفوضى».

وخارج أفريقيا، دخلت على الخط الولايات المتحدة، التي تعدّ أحد أبرز حلفاء السنغال، فاعتبرت الخارجية الأميركية التصويت لإرجاء موعد الانتخابات الرئاسية السنغالية «لا يمكن أن يعتبر شرعياً»، كما انتقدت كل من فرنسا وألمانيا ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي قرار تأجيل الانتخابات. وعليه، لعل إعلان موعد إجراء الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي سيسعد تلك الأطراف المترقبة، بحسب عمر ندياي، الذي يرى أن التأثير الإقليمي للأزمة السنغالية كان «هائلاً»، ويلفت إلى معاناة جيران السنغال خلال السنوات الخمس الماضية من أزمات مؤسسية ناجمة عن الانقلابات العسكرية. ويضيف: «الجميع كان يأمل أن تقدّم السنغال درساً في الانتقال الديمقراطي والسلمي للسلطة... وكان من شأن تعذّر ذلك إعطاء العسكريين في بلدان غرب أفريقيا الفرصة لطرح أنفسهم كحل لأزمة الديمقراطية هذه».

أما الصباحي، فترى أن تداعيات الأزمة في السنغال لم تكن لتقتصر على إمكانية تقويض عقود من التقدم الديمقراطي في البلاد، بل ستنعكس أيضاً على المنطقة ككل، فهي ليست مجرد قضية داخلية، بل تحمل آثاراً إقليمية كبيرة، بل تُشكّل الأزمة السياسية في السنغال «اختباراً حاسماً للديمقراطية في عموم غرب أفريقيا؛ لكون السنغال نموذجاً قارياً للحكم الديمقراطي».



مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان
TT

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان

لا يُعد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي سيبلغ السبعين من العمر الأحد المقبل، من ساسة الرعيل الأول الذين شاركوا في ثورة الخميني عام 1979 أو قادة الأحزاب السياسية، بما في ذلك التيار الإصلاحي، الذي ينتمي إليه. ثم إنه ليس من المحسوبين على الجهازين الأمني والعسكري، رغم حضوره في المشهد السياسي الإيراني، وتدرجه البطيء في المناصب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وكان بزشكيان، الذي أطل على العالم بالأمس من منبر «الأمم المتحدة»، قد فاز في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية المبكرة مدعوماً من الإصلاحيين، وفيها تغلب على المرشح المحافظ المتشدد سعيد جليلي، وحصل على أقل عدد من أصوات الناخبين بعد ثورة 1979، نظراً للمقاطعة التي وصلت إلى مستويات قياسية rnغير مسبوقة.

ولد مسعود بزشكيان في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، لأب آذري تركي وأم كردية في مدينة مهاباد، بمحافظة أذربيجان الغربية، ثم انتقل إلى مدينة أورمية حيث أكمل دراسته الثانوية. والتحق بالتجنيد الإلزامي وأمضى سنتين في محافظة بلوشستان بجنوب شرقي البلاد، قبل أن ينتقل إلى طهران لدراسة الطب، وهناك توقفت دراسته في السنة الأولى بسبب أحداث الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. وخلال سنتين من تعطل الجامعات الإيرانية بسبب ما يعرف بـ«الثورة الثقافية»، تزوّج بزشكيان ورزق بـ4 أبناء، لكنه فقد زوجته وأحد أبنائه في حادث سير مؤلم في 1993، ورفض الزواج ثانية.

الحرب العراقية الإيرانية

تزامنت عودة بزشكيان للدراسة في السنة الجامعية الثانية مع بداية الحرب الإيرانية - العراقية، وكذلك المعارك بين «الحرس الثوري» والأحزاب الكردية المعارضة. وانضم إلى الطاقم الطبي في جبهات الحرب، بمحافظة كردستان، قبل أن يتوجه جنوباً إلى مدينة عبادان التي شهدت معارك شرسة وأصبح مسؤولاً عن الفرق الطبية في جبهات الحرب. وبعد سنوات قليلة، عاد لإكمال دراسته في 1985.

ساهم سجلّ الرجل في جبهات الحرب بتسهيل مشواره العلمي، مستفيداً من الامتيازات الخاصة التي تمنحها السلطات للعسكريين في الحرب. وبالفعل، حصل عام 1990 على شهادة الاختصاص في الجراحة العامة، واستغرق الأمر 3 سنوات لحصوله على الاختصاص في جراحة القلب. ومن ثم، التحق بمستشفى أمراض القلب في مدينة تبريز، وأصبح رئيساً له، وصار أستاذاً جامعياً بقسم القلب والشرايين في جامعة تبريز للعلوم الطبية، لكنه لم يُقبل في المجمع الطبي الإيراني إلا عام 2010.

المسار السياسي

أداء بزشكيان المهني، وخصوصاً رئاسة جامعة العلوم الطبية في تبريز، أسهم بشقّ طريق جراح القلب الناجح، نحو المناصب السياسية، فصار نائباً لوزير الصحة في حكومة الإصلاحي محمد خاتمي الأولى. وبعد فوز خاتمي، بفترة رئاسية ثانية عام 2001، تولى منصب وزير الصحة وبقي في المنصب لنهاية فترة خاتمي عام 2005.

خاتمي وصف بزشكيان عندما قدّمه إلى البرلمان بأنه «قوي التصميم وعلمي وحازم» وأن «اختياره جاء بسبب التزامه وإيمانه وإدارته المقبولة خلال السنوات الماضية». ومنذ دخوله الوزارة كان من صفاته البارزة أنه «عفوي وصادق، ويتحلى بالتواضع وروح الخدمة»، لكن بعد سنتين كاد يفقد منصبه، إثر استجوابه في البرلمان بسبب زياراته الخارجية وقفزة أسعار الخدمات الطبية والأدوية، وهي من المشاكل التي رآها الإصلاحيون متجذرة في المؤسسة الطبية الإيرانية. كذلك، اهتزت صورته وزيراً بعض الشيء بعد قضية المصوّرة الصحافية الكندية - الإيرانية زهراء كاظمي، التي توفيت في ظروف غامضة داخل سجن إيفين عام 2003 بعد 17 يوماً من اعتقالها، وذلك بسبب تقرير قدّمه عن أسباب الوفاة.

تجربة برلمانية غنية

بزشكيان ترشّح للانتخابات البرلمانية عن مدينة تبريز (كبرى المدن الآذرية في إيران) بعد سنتين من انتهاء مهمته الوزارية، وفاز ليغدو نائباً في البرلمان الثامن. وأعيد انتخابه في البرلمانات التاسع والعاشر والحادي عشر. ثم ترشح للمرة الخامسة في الانتخابات البرلمانية، قبل أن يترشح للرئاسة في الانتخابات المبكرة إثر مقتل الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة خلال مايو (أيار) الماضي.

هذا، ورغم اعتباره نائباً إصلاحياً عبر 5 دورات برلمانية، نأى بزشكيان بنفسه عن المواجهات الحادة بين الإصلاحيين والسلطة، وخصوصاً بعد الصدام الكبير في أعقاب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 2009، ورفض المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي الاعتراف بنتائج الانتخابات. وباستثناء حالات نادرة، فإن مواقفه لم تتعارض كثيراً مع النواب المعروفين بولائهم الشديد للمرشد الإيراني علي خامنئي، ومن ثم تحوّل تدريجياً إلى أحد النواب الأكثر نفوذاً في البرلمان.

الاتفاق النووي

تزامن إعادة انتخاب بزشكيان في البرلمان العاشر، مع حكومة حسن روحاني والتوصّل للاتفاق النووي. ويومذاك حصد الإصلاحيون غالبية المقاعد في العاصمة طهران وشكّلوا كتلة باسم «الأمل»، وحصل بزشكيان على الأصوات المطلوبة لتولي منصب نائب الرئيس الأول، لمدة 3 سنوات متتالية. وكان رئيس كتلة، نائبه الأول حالياً، محمد رضا عارف.

إجمالاً، دعم الرجل الاتفاق النووي قبل وبعد توقيعه في 2015، وأيضاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وعدّه السبيل الضروري لحل مشاكل إيران الاقتصادية والسياسية الناتجة عن العقوبات والعزلة الدولية، وآمن بأن الاتفاق «فرصة تاريخية» للعودة إلى الاقتصاد الدولي. كذلك أيّد بقوة قبول إيران قواعد «قوة مهمات العمل المالي» (فاتف)، المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وحينها، اقترح أن يقصر «الحرس الثوري» أنشطته المالية مع بنوك تابعة له للالتفاف على قوانين «فاتف»، منتقداً تدخل «الحرس» في بعض المجالات الاقتصادية. وفي المقابل، أشاد أكثر من مرة بدور الجهاز العسكري في الأمن الإيراني، ورأى أن البلاد لا يمكن أن تستمر من دون «الحرس الثوري»، ودعا إلى التركيز على هذا الدور، وارتدى الزي الرسمي لـ«الحرس الثوري» كغيره من النواب بعدما صنّفت الولايات المتحدة «الحرس» منظمة إرهابية. وبخلاف بعض النواب الإصلاحيين، كان بزشكيان من المؤيدين للتعاون العسكري الإيراني - الروسي في سوريا.

مع الإصغاء للناسإبان الاحتجاجات التي هزّت إيران أعوام 2017، و2019، و2021، كان بزشكيان جريئاً في طرح المشاكل، منتقداً تجاهل مطالب الشعب، خصوصاً حل الأزمة المعيشية. وأكد على ضرورة الاستماع إلى صوت الناس والاستجابة لاحتياجاتهم. ورأى أن قمع الاحتجاجات وحده ليس الحل، بل يجب معالجة الأسباب الجذرية للاستياء العام، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والبطالة والتمييز. وأشار مراراً إلى أن الفساد الإداري على مختلف المستويات قد فاقم الأزمات.

وبشكل عام، يؤمن بزشكيان بالحوار الوطني والإصلاحات التدريجية من خلال الآليات القانونية والسياسية، ومع التأكيد على احترام الحقوق المدنية، فإنه يسعى إلى إيجاد حلول سلمية للأزمات الداخلية. وحقاً، انتقد عدة مرات غياب لغة الحوار في الداخل الإيراني، لكنه نأى بنفسه عن الدعوات الإصلاحية لإجراء استفتاء لحل القضايا العالقة، ولا سيما السياسة الخارجية، ومنها تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

رئاسته وتحدياته

مواقف وقاموس بزشكيان النائب لا تختلف اليوم عن تطلعات بزشكيان الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، مع استبعاد أن يؤدي انتخابه إلى تغيير في موازين القوى بإيران. ويُذكر أن انتخابه أتى بعد 3 سنوات من رفض طلبه الترشّح للانتخابات الرئاسية في 2021، «لعدم أهليته السياسية» حسب «مجلس صيانة الدستور» حينذاك.

هذا، وكان قد ترشح لأول مرة لانتخابات الرئاسة عام 2013، لكنه انسحب لصالح حسن روحاني. ولكن في المرة الأخيرة، حصل على موافقة «مجلس صيانة الدستور»، في خطوة مفاجئة. وأدى القسم الدستورية يوم 27 مايو بعد أسبوع من مقتل رئيسي. وبعد 63 يوماً، وقف أمام البرلمان (30 يوليو - تموز) لأداء القسم رئيساً للجمهورية.

التوازن بين الولاء والإصلاح

حاول بزشكيان سواء في الانتخابات الرئاسية أو بعد تشكيل الحكومة، تقديم نفسه على أنه يؤمن بالحوار الداخلي، ويدافع عن حقوق المرأة، وعبّر عن انتقاد واضح للتدخلات الحكومية في الحياة الشخصية، والسياسات القمعية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وتعهّد أيضاً بإخراج إيران من العزلة الدولية، ورفع العقوبات عبر حلّ الأزمة النووية مع الغرب، كما تعهد بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وإعادة انخراط شبكة البنوك الإيرانية بالأسواق المالية العالمية، عبر قبول قواعد «فاتف». وأظهرت مواقفه أنه يتبنى نهجاً متوازناً يعتمد على الدبلوماسية لتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات. وفي المقابل، دأب على انتقاد السياسات القائمة على الشعارات التي لا تقدم حلولاً عملية.

لكن بزشكيان واجه انتقادات بأنه لم يقدم حتى الآن أي برنامج أو حلول للقضايا التي أثارها في الانتخابات الرئاسية. ورداً على الانتقادات، تعهد بتعزيز موقع الخبراء في فريقه التنفيذي، وأن يكون أداء حكومته متماشياً مع رؤية خطة التنمية السابعة، وهو برنامج لـ5 سنوات يغطي المجالات كافة، أقرّه البرلمان العام الماضي.

من جهة ثانية، خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه، حرص بزشكيان على إظهار تواضع كبير، سواء في مظهره أو خطابه المعتدل. وحاول تعزيز صورته رئيساً من خلال تبنيه للبساطة والابتعاد عن المغالاة في وعوده، ما يجعل أسلوبه مختلفاً عن كثير من السياسيين الإيرانيين الذين يفضلون التوجهات النخبوية أو الثورية.

أيضاً، اتخذ بزشكيان من «الوفاق الوطني» شعاراً لحكومته، وحذّر من خلافات داخلية تعرقل التآزر الوطني، حتى بعد انتخابه واصل التحذير من عواقب الخلافات على الاستقرار الداخلي، إذ يرى أن الصراعات الداخلية ستقود البلاد إلى مزيد من الفقر والمعاناة تحت العقوبات.

في أي حال، يواجه بزشكيان تحديات داخلية كبيرة، لأن المعسكر الإصلاحي المهمش يسعى لاستعادة تأثيره في الحياة السياسية، رغم خيبة الأمل الشعبية من الإصلاحيين بعد فترات حكمهم السابقة. وهو حتى الآن يدفع باتجاه التوازن بين الولاء الشديد للمرشد علي خامنئي ودعواته للتغيير والإصلاح. وبينما يظهر تمسكاً شديداً بمسار المؤسسة الحاكمة، ويؤكد أهمية المرشد ودوره، يزعم تبني أجندة إصلاحية تهدف إلى معالجة الفجوة بين الشعب والحكام، ما يعكس رغبته في التغيير ضمن إطار النظام الحالي، لا عبر مواجهته المباشرة.

هذه الازدواجية من رئيس يدرك حدود صلاحيات الرئاسة، تحت حكم المرشد، تعكس استراتيجيته للبقاء في المشهد السياسي الإيراني. ومن ثم إحداث تغييرات تدريجية، من دون التعرض للمصالح الاستراتيجية الأساسية التي تسيطر عليها السلطة العليا في إيران.