السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

بعد قرار إجراء الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية الشهر الحالي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
TT

السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)

عودة السنغال إلى المسار الديمقراطي، لا ينقذ البلاد فقط من الأزمة السياسية والشعبية، بل يمتد أثره ليؤكد سمعة الدولة التي اشتهرت كواحة ديمقراطية في الغرب الأفريقي، الذي بات عنواناً للتغييرات غير الدستورية في الحكم، والذي تعززت صورته تلك بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية خلال السنوات الأربع الأخيرة. صحيح، أن السنغال لا تبدو على الخريطة الأفريقية دولة شاسعة المساحة أو هائلة الموارد، لكنها استطاعت أن ترسم لنفسها صورة مختلفة عن جيرانها في الغرب الأفريقي عبر تجربة سياسية اعتمدت الانتقال السلمي للسلطة سواء من الاشتراكية إلى الليبرالية، أو عبر الالتزام باحترام التعددية الحزبية وحرية المنافسة؛ ما جعلها تبدو «حالة نادرة» في منطقة لم تعد «الانقلابات» بها خبراً لافتاً. ولكن للمرة الأولى منذ ستة عقود تعرّضت الانتخابات الرئاسية في السنغال لتأجيل بدا مفاجئاً لكثيرين، وتسبب في احتقان الأفق السياسي، وإشعال ردود فعل غاضبة سواء على مستوى الشارع أو القوى الحزبية والمدنية، عندما أصدر الرئيس ماكي سال مطلع فبراير (شباط) الماضي قراراً بتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى بعدما كان مقرراً إجراؤها يوم 25 فبراير 2024.

قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية السنغالية أشعل غضب أحزاب المعارضة، وسرعان ما انتقلت الأزمة إلى الشارع عبر مظاهرات شعبية سقط خلالها قتلى ومصابون إثر مصادمات مع قوات الشرطة، قبل أن يحسم المجلس الدستوري الصراع لصالح المسار الديمقراطي بقراره إجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية شهر مارس (آذار) الحالي.

الآن، رغم انتهاء الفصل الحالي من الأزمة السياسية بإجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء فترة حكم الرئيس سال، تفتح الأزمة المجال أمام مراجعات قد تحتاج إلى مزيد من الجهد عقب وصول رئيس جديد إلى سدة الحكم؛ كي لا يتكرر مشهد الارتباك الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات.

معارضون يرفعون لافتات مؤيدة لعثمان سونكو (آ ف ب)

جذور الأزمة

وبينما يحاول كثير من المحللين ربط الأزمة السياسية الراهنة بقرار الرئيس سال إرجاء الانتخابات الرئاسية، يرى البعض أن الأزمة أعمق من ذلك؛ إذ ترجع إلى نتائج التعديلات الدستورية التي اعتُمدت عام 2016، وبموجبها قُلّصت الولاية الرئاسية إلى ولايتين فقط. وحقاً أقرّت التعديلات الدستورية بعدما بدأ الرئيس سال ولايته الأولى (عام 2012)، ونصّ الدستور السنغالي المعدل على أنه «لا يمكن لأحد أن يحكم البلاد أكثر من فترتين متتاليتين»، لكن سال قال عام 2021 إنه ينوي الترشح لولاية ثالثة، معتبراً أن هذه المادة لا تنطبق عليه باعتبار أن ولايته الأولى كانت قبل التعديلات الدستورية.

هذا الأمر أثار ردة فعل عنيفة سواء على مستوى الشارع أو من أحزاب المعارضة، وبالذات من رئيس حزب «باستيف» المعارض عثمان سونكو الذي دعا إلى النزول للشارع للوقوف أمام طموحات سال. وفعلاً، شهدت السنغال مظاهرات عنيفة شملت العاصمة دكار وعدداً من كبريات مدن البلاد، راح ضحيتها قتلى وجرحى، ثم تدخلت دبلوماسية المشيخة الصوفية وهيئات العلماء وأسهمت بإنهائها. وعندها أعلن الرئيس تخليه عن فكرة الولاية الثالثة، لكن إعلانه لم يقنع العديد من قطاعات الشارع السنغالي أو الطبقة السياسية بحسن نية الرئيس.

ثم أن الإجراءات التي اتبعتها السلطة بحق عثمان سونكو، الذي يُنظر إليه على أنه منافس بارز ويحظى بشعبية كبيرة بين الشباب السنغالي بسبب خطابه الشعبوي ومواقفه القوية ضد الفساد، كانت سبباً آخر في إثارة الكثير من المخاوف إزاء صدق نوايا السلطة في إجراء انتخابات تنافسية. إذ سُجن سونكو إثر اتهامه بعدد من التهم، بينها التمرد، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها «ذات دوافع سياسية»، ولا يزال هذا المعارض البارز قابعاً في السجن؛ ما حال دون ترشحه للانتخابات.

الرئيس ماكي سال (آ ف ب)

مشهد مرتبك

لم يلهب الوضع فقط استخدام السلطة الأحكام القضائية حجة لإبعاد بعض المرشحين الأقوياء من أحزاب المعارضة، بل استفحلت الأزمة من جديد عندما أصدر «المجلس الدستوري» السنغالي القائمة النهائية التي ضمت 20 مرشحاً رئاسياً، لكنها خلت من كريم واد زعيم الحزب الديمقراطي السنغالي (ونجل الرئيس السابق عبد الله واد) بحجة أنه ثنائي الجنسية، في حين أن اللائحة ضمّت مرشحة مزدوجة الجنسية هي روز ورديني (انسحبت لاحقاً). وللعلم، فإن «المجلس» هو السلطة الدستورية العليا في البلاد والجهة المخوّلة التصديق على انطباق شروط الترشح على الراغبين في خوض السباق الرئاسي.

ويوم 1 فبراير طالب نواب من الحزب الديمقراطي السنغالي بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق مع عضوين في «المجلس الدستوري» لاتهامها بالتواطؤ من أجل إبعاد كريم واد. وهذا ما استند إليه الرئيس سال لإصدار قراره بتأجيل الانتخابات؛ ما تسبب في اندلاع موجة من أعمال العنف سقط خلالها قتلى ومصابون.

مجلة «جون أفريك» الفرنسية المتخصصة في الشؤون الأفريقية، قدمت تحليلاً للمشهد المرتبك في السنغال، ليس فقط على مستوى الشارع، بل وحتى خلال إقرار البرلمان قرار تأجيل الانتخابات. إذ اشتبك النواب المؤيدون والمعارضون بالأيدي، وتدّخلت قوات الدرك لإخراج نواب المعارضة من قاعة البرلمان من أجل إصدار قرار التأجيل. وأشار تحليل المجلة الفرنسية إلى أن أفراد «المحيط السياسي» للرئيس سال أقنعوه بتأجيل الانتخابات الرئاسية حتى يتمكنوا من إيجاد وريث يكون قادراً على جمع الطيف السياسي من حوله.

وتابعت المجلة أن سال يدرك خطورة المصادقة على ترشيح باسيرو ديوماي فاي، بديل عثمان سونكو، الذي تدعمه الحركات الشبابية والنقابية، والذي بات يمثل «خطراً» على حظوظ آمادو با، مرشح حزب الرئيس، وبخاصة مع تنامي اقتناع الرئيس بأن مرشحه لن يتمكن من حسم السباق لصالحه؛ بسبب تصدّع معسكر النظام وافتقار ترشيح بالإجماع، إضافة إلى وجود مرشحيْن منشقين عن النظام الحاكم، هما الوزير الأول السابق محمد عبد الله ديون، ووزير الداخلية السابق علي نغوي ندياي.

كل هذه الملابسات أسهمت في دفع سال إلى الاقتناع بالتنسيق مع كريم واد، المقرّب من فرنسا، والذي يحظى بقبول كبير داخل دوائر «الدولة العميقة». وكان استبعاد ترشيح كريم واد، من جانب «المجلس الدستوري» قد استند إلى حمله الجنسية الفرنسية عندما قدم طلبه الترشح لمنصب الرئيس. ومع أن واد (ابن الرئيس السابق عبد الله واد من سيدة فرنسية) تخلى عن جنسيته الفرنسية، فإن الخطوة لم تتوافق مع مهل تقديم الترشيحات؛ ما فرض تأجيل الانتخابات، ثم الدعوة إلى موعد جديد، وفتح باب الترشح مجدداً «لإعادة ترتيب أوراق السباق» بما يخدم مصالح الرئيس سال، حسبما ادعاءات المعارضة. وعقب تصويت البرلمان بالموافقة على إجراء الانتخابات في ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي؛ ما يعني إدخال البلاد في حالة من الفراغ أو تمديد ولاية الرئيس سال - وهو ما تتمسك المعارضة برفضه - جاء قرار «المجلس الدستوري» بإبطال قرار البرلمان، وإلزام السلطات بإجراء الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية مارس الحالي ليكون بمثابة «طوق نجاة».

كريم واد (آ ف ب)

لحظة فارقة

يرى عمر ندياي، الكاتب والباحث السنغالي، والمتخصص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، أن قرار تنظيم الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي «يمثل استعادة للنهج الديمقراطي الذي اتسمت بها البلاد على مدى 6 عقود». واعتبر لـ«الشرق الأوسط» أن قرار تأجيل الانتخابات «لم يكن يحظى بالإجماع بين الطبقة السياسية وحتى بين الرأي العام السنغالي؛ لأن الأسباب المقدمة ليست قوية».

وأضاف ندياي: «هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها الديمقراطية السنغالية، التي بُنيت على مدى العقود الأخيرة، مثل هذه اللحظة الفارقة... نعم، شهدت ديمقراطيتنا توترات مرات عدة، لكن الانتخابات الرئاسية كانت دائماً لحظة ساعدت في وضع حد لكل هذه الأزمات». وتابع أنه لم يسبق للسنغال من قبل اللجوء لتأجيل الاستحقاق الرئاسي في ظل أزمات سابقة، مستشهداً بما حدث عام 2012، عندما حدث انقسام في الطبقة السياسية حول الترشيح الثالث المتنازع عليه للرئيس عبد الله واد، مع توترات شديدة تسببت في سقوط قتلى. ولكن، يومذاك أُجريت الانتخابات بسلام وانتُخب ماكي سال. وأردف ندياي: «ما كان لهذا التأجيل أي سبب، خاصة أن الأسباب المذكورة (فساد مزعوم للقضاة الدستوريين) لا تصمد. نحن في وضع فريد من نوعه في تاريخنا السياسي الحديث، ولا نعرف إلى أين قد يقودنا».

تقويض الاستقرار

وتتشارك نسرين الصباحي، الباحثة بوحدة الدراسات الأفريقية في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، خلال تعليق لـ«الشرق الأوسط»، الرؤية المحذّرة من خطورة الوضع السابق الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات على مستقبل التجربة الديمقراطية في السنغال. إذ تشير إلى أن تأجيل الاستحقاق الرئاسي «كان بمثابة دفع للبلاد إلى مزيد من تصعيد المشهد المضطرب»، على الرغم من الضغوط الداخلية والخارجية العديدة. وازداد الوضع تعقيداً مع استبعاد زعماء المعارضة الرئيسيين من الانتخابات؛ ما أسهم بتقويض الاستقرار السياسي والسلام المجتمعي في دولة اعتُبرت طوال العقود الماضية «جزيرة الاستقرار ونموذجاُ للديمقراطية في منطقة غرب أفريقيا».

وأضافت الصباحي: «السنغال لم تتعرض لأي انقلاب عسكري منذ الاستقلال، فجرى تداول انتقال السلطة بشكل منتظم، كما أن تاريخها حافل بالتعددية الحزبية والانتقال السلمي من خلال صناديق الاقتراع»، وبالتالي، إجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء ولاية سال يأتي «انتصاراً لقيم الدولة ومسارها السياسي الديمقراطي».

وبالفعل، حافظ الجيش في السنغال على حياده سياسياً؛ إذ التزم منذ الاستقلال بالابتعاد عن التدخل في السياسة، وكان هذا من بين السمات المميزة للسنغال عن جيرانها في غرب أفريقيا. ثم أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن 85 في المائة من السنغاليين يعربون عن ثقتهم بالجيش، وهذه النسبة من بين أعلى المعدلات في القارة.

«سيناريو» فراغ السلطة

عودة إلى عمر ندياي، الذي يرى أن قرار إجراء الانتخابات قبل نهاية ولاية الرئيس الحالي في 2 أبريل (نيسان) المقبل «مثّل إخراجاً للبلاد من سيناريو فراغ السلطة الذي كان يهددها»، لا سيما وأن كل الحلول التي طُرحت سابقاً للخروج من الأزمة مثل تنظيم الانتخابات في يونيو (حزيران) المقبل، أو إمكانية بقاء الرئيس المنتهية ولايته لتنظيمها، كانت جميعها «موضع خلاف».

ويضيف الكاتب السنغالي: «كل السيناريوهات عدا إجراء الانتخابات تحمل بذور أزمة مؤسسية، وما كان ليقبلها أحد». ومن جهة ثانية، فإن الاهتمام بمسار الأحداث في السنغال لم يقتصر فقط على أبناء البلاد التي اجتازت العديد من أزماتها عبر احترام مبدأ التعايش السلمي والتعدد السياسي - فضلاً عن المسحة الصوفية التي تغلب على شعبها - بل امتد إلى كثيرين، في القارة الأفريقية. ولقد كان على السنغال أن تحسم خياراتها، فإما الحفاظ على إرث التداول السلمي للسلطة، أو الاستسلام لعدوى الاضطرابات المنتشرة بقوة في الغرب الأفريقي... ويبدو أن «مؤسسات الدولة» السنغالية حسمت بالعودة إلى إقرار الانتخابات الرئاسية مسارها المعتاد، حتى وإن انحرفت الأمور قليلاً.

وهكذا، قد تكون استعادة المسار بحد ذاته خبراً ساراً للسنغاليين وللمراهنين على إمكانية أن تترسخ تجربة ديمقراطية في «القارة السمراء».

على المستوى القاري، وقبيل العدول عن قرار التأجيل، حث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي، السنغاليين على حل «خلافهم السياسي من خلال التشاور والتفاهم والحوار»، داعياً السلطات إلى «تنظيم الانتخابات بشفافية وسلام ووئام وطني». أما «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس)، التي لطالما اتخذها الرئيس ماكي سال منبراً للمطالبة بالديمقراطية في دول أفريقية تعاني عدوى الانقلابات، فكانت أعربت عن أسفها لما تمر به دكار من «خروج على مبادئ الديمقراطية»، وطالبت بالإسراع في الخروج من حالة «الانسداد السياسي الذي يؤدي إلى الفوضى».

وخارج أفريقيا، دخلت على الخط الولايات المتحدة، التي تعدّ أحد أبرز حلفاء السنغال، فاعتبرت الخارجية الأميركية التصويت لإرجاء موعد الانتخابات الرئاسية السنغالية «لا يمكن أن يعتبر شرعياً»، كما انتقدت كل من فرنسا وألمانيا ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي قرار تأجيل الانتخابات. وعليه، لعل إعلان موعد إجراء الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي سيسعد تلك الأطراف المترقبة، بحسب عمر ندياي، الذي يرى أن التأثير الإقليمي للأزمة السنغالية كان «هائلاً»، ويلفت إلى معاناة جيران السنغال خلال السنوات الخمس الماضية من أزمات مؤسسية ناجمة عن الانقلابات العسكرية. ويضيف: «الجميع كان يأمل أن تقدّم السنغال درساً في الانتقال الديمقراطي والسلمي للسلطة... وكان من شأن تعذّر ذلك إعطاء العسكريين في بلدان غرب أفريقيا الفرصة لطرح أنفسهم كحل لأزمة الديمقراطية هذه».

أما الصباحي، فترى أن تداعيات الأزمة في السنغال لم تكن لتقتصر على إمكانية تقويض عقود من التقدم الديمقراطي في البلاد، بل ستنعكس أيضاً على المنطقة ككل، فهي ليست مجرد قضية داخلية، بل تحمل آثاراً إقليمية كبيرة، بل تُشكّل الأزمة السياسية في السنغال «اختباراً حاسماً للديمقراطية في عموم غرب أفريقيا؛ لكون السنغال نموذجاً قارياً للحكم الديمقراطي».



انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
TT

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات البرلمان المحلي. واصطف الناخبون في طوابير طويلة، خارج مراكز الاقتراع، للإدلاء بأصواتهم. وأفادت لجنة الانتخابات الهندية بأن نسبة المشاركة في التصويت تجاوزت 61 في المائة، ما يشكل أعلى نسبة منذ 35 سنة. ويذكر أن الصراع في كشمير، الذي يعود بجذوره إلى تقسيم الهند وباكستان عام 1947، مستعر منذ أكثر من سبعة عقود. ولذا بدا مشهد طابور المقترعين عَصياً على التصديق، بالنظر إلى تاريخ منطقة كشمير الطبيعية العنيف لأكثر عن ثلاثة عقود. ويُذكر أن كلاً من الهند وباكستان تدعي أحقيتها بالسيادة الكاملة على كشمير الطبيعية، إلا أن كلاً منهما تسيطر على جزء من الإقليم، في عداء مستحكم زاد عمره على 75 سنة شهد توتراً ومجابهات عسكرية بين الجارتين النوويتين، منذ استقلالهما عن الحكم الاستعماري البريطاني عام 1947.

كانت أول انتخابات برلمانية في جامو وكشمير قد أجريت مارس (آذار) ويونيو (حزيران) 1957، ودار التنافس حينذاك على 75 مقعداً، بموجب الدستور الخاص بالإقليم. أما الانتخابات التشريعية الحالية، فتُعدّ الأولى منذ إلغاء حكومة ناريندرا مودي، الهندية اليمينية المتشددة، المادة 370 عام 2019، وخفض الوضع القانوني لما كان ولاية جامو وكشمير – وهو أعلى التقسيمات الإدارية في الهند – إلى مجرد «إقليم اتحادي» ووضعه تحت الحكم المباشر من العاصمة دلهي. ومعروف أن وضع «الولاية» أعطى جامو وكشمير دستورها وقوانينها وخدماتها الإدارية الخاصة... لكن اليمين القوي الهندوسي لا يريد ذلك.

تحوّل عند المقاطعين؟

تفيد جهات محسوبة على حكومة مودي بأن الناخبين الذين قاطعوا الانتخابات طوال السنوات الـ34 الماضية، أظهروا «تحولاً لافتاً» نحو الديمقراطية التشاركية، وتوجّهوا إلى صناديق الاقتراع لخوض تجربة التصويت الأولى لهم، ولم يكن هناك خوف من العنف المسلح أو الإكراه من أي جانب.

وتاريخياً، لطالما كانت مشاركة الناخبين في كشمير ضعيفة بسبب قوة النزعة الاستقلالية. إلا أنه للمرة الأولى منذ 30 سنة، لم تسجل هذه المرة دعوة لمقاطعة الانتخابات من قِبل الاستقلاليين، الذين أقبل بعضهم على الترشح للانتخابات بالوكالة. وبينما بدا التغيير واضحاً للبعض، فإن هذا لا يعني أن الإقليم تحوّل فردوس سلام، وأن القلق تلاشى إلى الأبد؛ إذ لا تزال الأرضية السياسية مضطربة جراء التغييرات الحاسمة التي شهدها العقد الماضي.

في هذا الصدد، علق المحلل السياسي والصحافي الكشميري المخضرم زاهور مالك، قائلاً: «لحسن الحظ، يجري نقل الجدال إلى صناديق الاقتراع وسط مشاركة جماهيرية. وما سيخرج من هذا التفويض يحمل أهم ختم داخل دولة ديمقراطية: إرادة الشعب». وأردف: «تشكل هذه الانتخابات الاختبار الرئيسي للتحولات السياسية بالمنطقة بعد انتهاء الوضع الخاص لجامو وكشمير، وهي ستكون مؤشراً رئيسياً على المزاج السياسي في منطقة شهدت تغييرات جذرية على امتداد العقد الماضي».

الاستقلاليون والانتخابات

كما سبقت الإشارة، لأول مرة، شارك عدد كبير من الاستقلاليين السابقين إلى الانتخابات، بما في ذلك أعضاء سابقون في جماعات محظورة. من بين هذه الشخصيات سرجان أحمد واغاي، وهو رجل دين بارز كانت له مواقف معادية للهند. لكن واغاي يترشح اليوم، من داخل السجن في دائرتين انتخابيتين بوسط كشمير، هما غاندربال وبيرواه.

وهناك أيضاً حافظ محمد سكندر مالك، القيادي المتمرد، الذي كان أول من تقدّم بأوراق ترشحه مرشحاً مستقلاً، مع أنه لا يزال مصفّداً بجهاز تتّبع في رجليه يعمل بتكنولوجيا «جي بي إس». وكان مالك قد اعتقل عام 2019، وجرى احتجازه مرتين بموجب قانون السلامة العامة.

كذلك، سيار أحمد ريشي (42 سنة) زعيم «الجماعة الإسلامية» المحظورة السابق والمرشح المستقل اليوم، الذي كان يروّج لآيديولوجية انفصالية، ارتأى على ما يبدو أن الاقتراع أفضل من الرصاص لمواجهة الظلم، وهو يتولى تنظيم حملته الانتخابية عبر التنقّل والتفاعل مع الناخبين من باب إلى باب. وللعلم، كانت «الجماعة الإسلامية» من مكوّنات «مؤتمر الحريات»، الذي هو مزيج من الأحزاب السياسية الاستقلالية في كشمير، وقد سبق له دعم دعوات مقاطعة الانتخابات بعد عام 1987.

وأيضاً التحق القيادي الاستقلالي السابق سليم جيلاني بركب المشاركين بعد 35 سنة من العمل الدؤوب في جبهة الاستقلاليين. وبرّر الرجل تغييره موقفه برغبته «في إنجاز التنمية الاقتصادية لكشمير، وحلّ وضع كشمير داخل الهند... ثم كيف يمكنني أن أنكر حقيقة أنني أحمل جواز سفر هندياً وأستخدم العملة الهندية؟».

سرّ التحول المفاجئ

المحلل السياسي مزمّل مقبول، يرى أن كثيرين ممّن عارضوا لفترة طويلة اندماج كشمير مع الهند غيّروا مواقفهم منذ إلغاء صفة الحكم الذاتي الخاص بالإقليم عام 2019. وبالمثل، قال الصحافي إشفاق سلام، الذي عمل على الأرض في كشمير على مدى العقدين الماضيين: «إن نجاح الزعيم الاستقلالي الشيخ عبد الرشيد، الذي فاز بمقعد في البرلمان أثناء الانتخابات الوطنية في وقت سابق من العام، بينما هو يقبع داخل سجن تيهار في نيودلهي، أعاد ثقة الناس في نزاهة الانتخابات. وجاء نجاحه بمثابة تعبير عن إحباط الناخبين تجاه الأحزاب السياسية القائمة، علاوة على كون ذلك بمثابة تصويت ضد نيودلهي». ويُذكر أن عبد الرشيد خرج من السجن بكفالة مؤقتة، وهو يتولّى حالياً تنظيم حملة قوية لصالح مرشحي حزبه السياسي البالغ عددهم 34 مرشحاً. وقد ألهم العديد من الاستقلاليين للانضمام إلى المعركة؛ ما أدى إلى زيادة المشاركة العامة في المؤتمرات الانتخابية.

انزعاج الأحزاب الرئيسية

من جهة ثانية، أثار العدد الكبير من المرشحين الذين خاضوا هذه الانتخابات من المرتبطين سابقاً بالتيارات الاستقلالية، القلق والشكوك في صفوف أقوى حزبين سياسيين تقليديين في كشمير، أي «المؤتمر الوطني» و«حزب الشعب الديمقراطي».

وفي هذا السياق، تساءل عمر عبد الله، رئيس وزراء جامو وكشمير السابق، الذي تعرّض للهزيمة أمام عبد الرشيد، عن مصدر الأموال التي يحصل عليها هؤلاء المرشحون - الذين صنّفتهم نيودلهي فيما مضى باعتبارهم «مسلحين» - ما مكّنهم من خوض الانتخابات، وأيضاً «السر» وراء التغيير المفاجئ في آرائهم. واتهم عمر هؤلاء بأنهم «فريق مرشحي الاحتياط» لحزب «بهاراتيا جاناتا» اليميني الحاكم بزعامة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.

وهنا نشير إلى أنه من الناحية الرسمية ليس لحزب «بهاراتيا جاناتا» (هندوسي قومي متشدد) أي وجود يذكر في إقليم كشمير ذي الغالبية المسلمة. فنظراً لتوقعه الخسارة، لم يدفع الحزب الحاكم في الهند تحت اسمه بأي مرشح في الانتخابات الوطنية بالإقليم في وقت سابق من 2024، وهذا رغم ادعائه أنه عزّز هيكله ورفع عضويته إلى 700 ألف داخل الإقليم، على امتداد العقد الماضي.

أهمية الانتخابات

يقول مراقبون إن انتخابات كشمير هذه ذات أهمية خاصة لأكثر من سبب، أبرزها أنها أول انتخابات تشريعية بعد إلغاء حكومة مودي المادة 370. وبجانب ذلك، يظهر أن لحكومة مودي وحزبه «بهاراتيا جاناتا»، مع هذه الانتخابات ما يشكّل «لحظة حساب». وحقاً، يُعد إلغاء المادة 370، التي منحت وضعاً خاصاً لجامو وكشمير، أخطر خطوة اتخذتها أي حكومة هندية منذ عام 1952. وترى الحكومة الهندية أن تغيير الوضع السابق يساعدها في تشكيل الحكومة بمفردها داخل جامو وكشمير، وأن هذا سيكون كافياً لمحو جميع أخطائها السابق. للمرة الأولى منذ 30 سنة لم تسجل هذه المرة دعوة لمقاطعة الانتخابات من قِبل الاستقلاليين الذين أقبل بعضهم على الترشح للانتخابات بالوكالة