ألكسندر ستاب... يتولى رئاسة فنلندا وعلى رأس همومه العلاقات مع موسكو وواشنطن

سياسي طموح ذو شخصية دولية الأبعاد والخبرات

بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
TT

ألكسندر ستاب... يتولى رئاسة فنلندا وعلى رأس همومه العلاقات مع موسكو وواشنطن

بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال
بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء الحرب في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف القتال

بعدما طوت فنلندا بشكل نهائي صفحة «الحيادية» بين الغرب وروسيا بانضمامها لحلف شمال الأطلسي «ناتو» العام الماضي، فإنها انتخبت رئيساً جديداً للجمهورية يتماشى مع دورها المتغير ليقودها في المرحلة المقبلة. إذ فاز ألكسندر ستاب Stubb - مرشح يمين الوسط - الذي قاد بلاده رئيساً للحكومة خلال فترة وجيزة بين يونيو (حزيران) 2014 ومايو (أيار) 2015 بالرئاسة، إثر تغلبه على منافسه وزير الخارجية السابق بيكا هافيستو، مرشح حزب «الخضر» ويسار الوسط، بفارق ضئيل، إثر حصوله عل نسبة 51.6 في المائة من الأصوات. ومع أن الرجلين عبّرا خلال حملتيهما الانتخابيتين عن مواقف سياسية متشابهة حيال روسيا، بدا ستاب أكثر تشدداً في الأفكار التي طرحها لمواجهة روسيا، «جارة» فنلندا الشرقية التي تتشارك معها حدوداً طويلة تزيد على 1300 كلم. من ناحية أخرى، رغم كون رئيس الجمهورية في فنلندا لا يقود الحكومة فإن دوره بعيد عن «الصوَرية»؛ فهو مسؤول عن السياسة الخارجية للبلاد إلى جانب الحكومة، كما أنه دستورياً القائد الأعلى للقوات المسلحة. وكان واضحاً أهمية دور الرئيس في فنلندا خلال السنوات الماضية خاصة، من خلال أداء الرئيس المنتهية ولايته سولي نينيستو عام 2018 بوصفه «وسيطاً» بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب (آنذاك) والروسي فلاديمير بوتين، واستضافته لقاء قمة جمع الرجلين الرئيسين. وهذا يعني، بالتالي، أن على الرئيس الجديد ستاب - الذي بدأ عهده للتو - مجابهة تحديات خارجية كبيرة تتمثل بإدارة العلاقة مع موسكو من جهة، ومع واشنطن أكثر تشدداً من جهة أخرى في حال عودة ترمب إلى الرئاسة... في ظل المخاوف من تأثيره عودته على مستقبل «ناتو»، الذي هو الآن مظلة الحماية الأساسية لفنلندا ضد أي هجوم روسي محتمل على أراضيها.

يتناقل الصحافيون الذين يغطون أخبار الحكومة والسياسة في فنلندا نكتة مؤداها أن المكان الأخطر في فنلندا الذي يمكن لشخص الوقوف فيه... هو بين الرئيس المنتخب ألكسندر ستاب والكاميرا، في إشارة واضحة إلى شغفه بأن يكون دائماً في دائرة الضوء.

ليس ثمة خلافات على أن ما دفع ستاب البالغ من العمر 55 سنة إلى العودة للسياسة بعدما كان تركها عام 2016، هو تعاظم أهمية ملف السياسة الخارجية الفنلندية، ولا سيما، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وانضمام فنلندا إلى «ناتو». وهو نفسه صرّح بأن غزو روسيا لأوكرانيا كان دافعاً مهماً لعودته للسياسة بعدما كان قد ظن أن تلك المرحلة انتهت؛ إذ نقل عنه إبان حملته الانتخابية قوله إن فنلندا تدخل «حقبة جديدة من السياسة الخارجية»، وأن هذا ما دفعه للدخول في السباق الرئاسي.

خلفية ثرية التنوع

في الواقع، يبدو منصب الرئيس مناسباً جداً لألكسندر ستاب، الذي تدور اهتمامه في فلك السياسة الدولية وليس الداخلية منذ أيام دراسته. ولقد ساعدت خلفيته الشخصية في بناء صورته «الدولية». فهو أولاً متزوج من بريطانية، ويتكلّم عدة لغات منها الإنجليزية والألمانية والفرنسية، إلى جانب اللغتين الأم اللتين كبر وهو يتكلمهما في الييت... أي الفنلندية والسويدية. كذلك ينتمي ستاب إلى الأقلية السويدية في فنلندا، التي ينظر إليها على أنها تعيش وفقاً لـ«سلوك نخبوي». ولقد كبر في منزل يتكلم فيه والده السويدية ووالدته الفنلندية. لكن ستاب يقول إنه كبر في منزل «ثنائي اللغات»، ولا يتطرّق إلى انتمائه للأقلية السويدية، بل يشدد على أنه نشأ في بيئة منزلية بشكل «طبيعي» مع أنه يحمل شهادات من جامعات دولية، وكان يلعب الغولف بشكل احترافي منذ كان مراهقاً قبل أن يغدو رياضياً محترفاً.

وثانياً، درس ستاب في 4 دول مختلفة، بدءاً من الولايات المتحدة ومروراً بفرنسا وبلجيكا ثم انتهاءً ببريطانيا. من الأولى، بفضل منحة لإجادته رياضة الغولف؛ إذ درس وتخرّج في جامعة فورمان الراقية الخاصة في ولاية ساوث كارولاينا بشهادة البكالوريوس في العلوم السياسية بعدما أدى الخدمة العسكرية التي لم تُلغ يوماً في فنلندا. وبعد حصوله على دبلوم في اللغة والحضارة الفرنسيتين من جامعة باريس - السوربون، تابع دراساته العليا في كلية أوروبا بمدينة بروج في بلجيكا، حيث تخرج بشهادة الماجستير في الشؤون السياسية الأوروبية. وأخيراً حاز على دكتوراه الفلسفة من مدرسة لندن للاقتصاد العريقة في بريطانيا.

أما بالنسبة لطبعه، فيتعرض ستاب للانتقاد بسبب شخصيته التي يراها البعض «متعجرفة»، فيما يرى آخرون أنه يتلهى عن مسؤولياته بانشغالاته بوسائل التواصل الاجتماعي والرياضة. وهنا نشير إلى أنه تعرّض لانتقادات عندما كان رئيساً للحكومة «لانشغاله» بنشر تعليقات وصور له عن مشاركته في «ترياتلون» (سباق يتضمن الركض وركوب الدراجة والسباحة) في ظل حرب روسيا في أوكرانيا عام 2014. غير أنه خلال الأشهر الماضية، وقبيل انتخابه رئيساً، بدا حريصاً على تغيير صورته تلك. وفعلاً، كتبت وسائل الإعلام الفنلندية أنه غيّر في لهجته بعض الشيء كي لا يظهر متعالياً، وأنه بذل جهداً كي يظهر «قريباً» من نبض الناخبين. وعلى سبيل المثال، صوّر شريط فيديو لصحيفة «إيلتاسانومات» الشعبية يبدو فيه وهو يحضر الفطائر.

الأبعاد الدولية لشخصيته

دراسة ستاب وخبرته الدولية أثرتا إيجابياً في بدايات انخراطه في السياسة؛ إذ انطلق في مشواره السياسي نائباً في البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2008، قبل أن ينتقل إلى معترك السياسة الداخلية في فنلندا، حيث عُيّن بشكل مفاجئ وزيراً للخارجية عام 2008، ثم وزيراً لشؤون أوروبا والتجارة الخارجية عام 2011.

بعدها، في عام 2014 أصبح ستاب رئيساً لحزبه المحافظ المعتدل «التحالف الوطني» بعد استقالة زعيم الحزب في أثناء وجوده في السلطة، وقبل عام على الانتخابات التالية. وشكل ستاب حكومة قادت فنلندا لفترة أقل من سنة انتهت بخسارة حزبه الانتخابات العامة عام 2015. ولكن، مع هذا وجد السياسي الطموح طريقاً للعودة إلى الحكم بفضل مشاركة حزبه في الائتلاف الحكومي، حيث عُين وزيراً للمالية.

تلك الفترة لم تطل؛ إذ خسر مجدّداً المنصب عندما صوّت حزبه لإبعاده عن قيادة الحزب، محملاً إياه المسؤولية في تدهور شعبيته، وبالفعل، خرج ستاب كذلك من الحكومة ليتولّى منصباً بعيداً عن السياسة في بنك الاستثمار الأوروبي عام 2017. بيد أنه، على الرغم من ابتعاده عن السياسة وتعهده آنذاك بألا يعود إليها، حاول قبل انتخابه رئيساً العودة من باب السياسة الأوروبية. وكان في الحقيقة يطمح لأن يقود التحالف اليميني الوسطي في البرلمان الأوروبي في انتخابات عام 2018، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على التأييد الكافي لترؤس الكتلة التي كان قد جرى التوافق على أن يرأسها الألماني مانفريد فيبر.

الحرب الأوكرانية

بعد تفجّر الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع اقتراب نهاية الولاية الثانية للرئيس الفنلندي سولي نينيستو، وجد ألكسندر ستاب فرصة مواتية للعودة إلى السياسة المحلية، ولكن من بابها الدولي هذه المرة.

وخلال الحملة التي نظمها وقادها لانتخابه رئيساً للجمهورية، تعهد ستاب باتخاذ مواقف متشددة من روسيا التي يرفض استعادة العلاقات الطبيعية معها قبل انتهاء الحرب في أوكرانيا. وبالمناسبة، هذا هو أيضاً الموقف الذي كان يتبناه نينيستو الذي قاد انضمام فنلندا إلى «ناتو» على الرغم من علاقته الطيبة سابقاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والثابت أن ستاب من المؤمنين بأحادية مواقف فنلندا وتماشيها مع الموقف الأوروبي والموقف الأطلسي في علاقتها إزاء موسكو.

أيضاً، مثل نينيستو، لم يكن ستاب دوماً من الداعين لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً مع الروس. ففي عام 2018، نشر تغريدة على موقع «إكس» - الذي ينشط عليه بشكل كبير - مرفقة بصورة له ولوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وهما يتعانقان ويبتسمان، وكتب معلقاً: «كم أن العالم صغير! انظروا بمن التقيت في مينسك: صديقي القديم وزميلي سيرغي لافروف. قد لا نتفق على كل شيء، لكنه واحد من أكثر وزراء الخارجية الذين التقيت، مهنيةً وخبرة».

إشكالية العلاقة مع موسكو

ولكن، عاد ستاب ليندم على هذه التغريدة وغيرها من السياسات حول العلاقة مع موسكو، التي روّج لها خلال أيامه في الحكومة. هذا، وروى ستاب خلال حملته الانتخابية أنه بعث برسالة نصّية عبر الهاتف للافروف بعد 3 أيام على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا يطلب فيها منه الضغط على بوتين لوقف الحرب، كتب فيها بحسب روايته: «رجاء سيرغي، افعل شيئاً!... أنت الوحيد القادر على وقفه!». وأضاف أن الرد جاءه خلال دقيقة كالتالي: «من الذي تقصد؟ (الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي أم (الرئيس الأميركي جو) بايدن؟».

على هذا علّق ستاب بأن وزير الخارجية الروسي «كان يعرف عمّن كنت أتكلّم. إلا أنه (أي لافروف) رد بسرد مجموعة كبيرة من الادعاءات التي تعتمدها البروباغاندا الروسية مثل تطهير أوكرانيا من النازية وقتل الروس». وعلى الأثر، قرر ستاب - وفق روايته - وقف التواصل مع وزير الخارجية الروسي بعدما رأى أن الحرب تقدّمت كثيراً، وما عاد في الإمكان التراجع عنها.

وبالفعل، تغيرت مواقف ستاب من روسيا بشكل كبير عبر السنوات، حتى إنه غدا الآن من الداعين إلى سياسة استخدام القوة مع روسيا. فقد قال ضمن فعاليات «مؤتمر ميونيخ للأمن» الذي انعقد منتصف فبراير (شباط) المنقضي، وشارك فيه ستاب، «الأمر الوحيد الذي يفهمه بوتين، هو القوة. إذا أظهرت أي ضعف، أي نقاط ضعف، سيهاجم».

وأردف في سياق كلامه عن إمكانيات المفاوضات وشروطها مع روسيا في نهاية الحرب مع أوكرانيا، قائلاً: «عندما نبدأ في الاتجاه صوب المفاوضات، علينا أن نفهم أنه يتوجب علينا أن نبقى صارمين مع روسيا، وخاصة مع بوتين؛ لأنه أوقف عدداً من الاتفاقيات مع أوكرانيا، عامي 1991 و1994 ولم يحترمها».

من جهة أخرى، على الرغم من أن احتمال عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يؤرّق الأوروبيين، كما أنه هيمن على جزء كبير من مباحثات ميونيخ، فإن ستاب لا يبدو قلقاً من إدارة دفة العلاقة مع واشنطن في ظل أي رئيس. وفي هذا الشأن قال معلقاً: «أنا شخصياً أعتقد أنه بغض النظر عمن سيُصار إلى انتخابه رئيساً، من المستبعد أن تتوقّف الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا. والسبب في ذلك هو أن التكلفة ستكون باهظة. فبغض النظر عن هوية الرئيس، فهو أو هي... سيفهم أو ستفهم أن دعم أوكرانيا في هذه المرحلة أساسي لأمن الولايات المتحدة».ختاماً، هذه المواقف من الرئيس الفنلندي الجديد تتناقض ومواقفه السابقة قبل الحرب الأوكرانية، إذ عندما كان ستاب وزيراً للخارجية عام 2009، دافع عن مشروع خط «نورد ستريم» للغاز الروسي الذي يمر في المياه الفنلندية، وكان بحاجة لموافقة حكومة هلسنكي، ورأى حينذاك أن ليس للمشروع الروسي أي تبعات أمنية، مشدّداً على أنه بيئي واقتصادي بحت. كذلك، تعرض ستاب لانتقادات شديدة إبان فترة توليه رئاسة الحكومة الفنلندية بسبب تأخيره للعقوبات الأوروبية على روسيا، وزيادة اعتماد بلاده على موارد الطاقة الروسية.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».