الصين وتايوان... «آخر الدواء الكي»

بعد الانتخابات الرئاسية في الدولة ـــ الجزيرة

من التظاهرات الشعبية الحماسية لمناصري الحزب الديمقراطي التايواني (رويترز)
من التظاهرات الشعبية الحماسية لمناصري الحزب الديمقراطي التايواني (رويترز)
TT

الصين وتايوان... «آخر الدواء الكي»

من التظاهرات الشعبية الحماسية لمناصري الحزب الديمقراطي التايواني (رويترز)
من التظاهرات الشعبية الحماسية لمناصري الحزب الديمقراطي التايواني (رويترز)

احتفظ الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم بالسلطة في تايوان إثر انتخاب مرشحه لاي تشينغ تي، نائب الرئيسة الحالية، الذي هزم منافسيه؛ هو يو إيه من حزب «الكومينتانغ» (الحزب الوطني) التاريخي، وكو وين جي من حزب الشعب التايواني. وبفضل هذه النتيجة أضحى الحزب الديمقراطي التقدمي أول حزب سياسي يفوز بـ3 فترات رئاسية متتالية منذ بدأت تايوان انتخاب رؤسائها بشكل مباشر في عام 1996. ما يُذكر أنه خلال الفترة التي سبقت الانتخابات، لم تُخفِ الصين رغبتها في منع فوز لاي، وقد وصف المسؤولون الصينيون التصويت مراراً بأنه اختيار بين «السلام والحرب». وكان لاي، الذي يأتي من جناح أكثر راديكالية في الحزب الديمقراطي التقدمي، مؤيداً صريحاً لاستقلال تايوان. الأمر الذي يعدّ «خطاً أحمر» بالنسبة لبكين. وهو على الرغم من الصوت الخفيض الذي اعتمده خلال صعوده السياسي، لم تغفر له الصين أبداً تعليقاته قبل 6 سنوات، عندما وصف نفسه بأنه «عامل من أجل استقلال تايوان».

كان موقف الصين جلياً بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية التايوانية، إذ قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي: «تايوان لم تكن ولن تكون يوماً بلداً! لم يتحقق استقلال تايوان في الماضي، ولن يتحقق في المستقبل. مَن يحاول دعم استقلال تايوان فهو بذلك يقسم الأراضي الصينية، وسيحكم عليه التاريخ والقانون بقسوة. استقلال تايوان طريق مسدودة. وستحقق الصين في نهاية المطاف إعادة التوحيد الكامل. ونحن واثقون أن المجتمع الدولي سيواصل التمسك بسياسة الصين الواحدة ودعم القضية العادلة للشعب الصيني لمعارضة الأعمال الانفصالية لاستقلال تايوان والسعي من أجل إعادة التوحيد الوطني».

موسكو وواشنطن

من جهة أخرى، دعت روسيا القوى الخارجية إلى الامتناع عن الاستفزازات في ضوء نتائج الانتخابات في تايوان. وفي موقف يتماهى مع الموقف الصيني، نقلت وكالة أنباء «سبوتنيك» الروسية عن ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، قولها في بيان: «إننا ندعو جميع القوى الخارجية إلى الامتناع عن الأعمال الاستفزازية التي تقوّض الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي». وأردفت أن العلاقات بين جانبي مضيق تايوان «مسألة صينية داخلية بحتة»، ومحاولات الدول الفردية لاستغلال الانتخابات في تايوان للضغط على بكين وزعزعة الوضع في المضيق وفي المنطقة تعد بمثابة تهديد، فهي كلها تؤدي إلى نتائج عكسية، وتستحق إدانة واسعة النطاق من المجتمع الدولي. وشددت على أن موقف موسكو بشأن تايوان لم يتغير، وأن الجانب الروسي يعترف بوجود صين واحدة فقط في العالم، وأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، وأن روسيا تعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال.

في المقابل، هنّأت الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان الرئيس المنتخب لاي تشينغ تي بفوزه، لكنها في الوقت نفسه قالت إنها لا تدعم استقلال الجزيرة المتمتعة بحكم ذاتي. وبعدما سأل صحافيون الرئيس الأميركي جو بايدن عن موقف واشنطن، قال: «نحن لا نؤيد الاستقلال». بيد أن هذه التهنئة لم تمر مرور الكرام، إذ انتقدت بكين الدول الثلاث على تهنئتها. وقالت الخارجية الصينية إنها قدّمت «احتجاجاً رسمياً» إلى الولايات المتحدة بشأن بيان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، الذي هنّأ فيه لاي. واتهمت بكين واشنطن بـ«إرسال إشارة خاطئة خطيرة إلى القوى الانفصالية المطالبة باستقلال تايوان».

'في الثمانينات طرحت بكين صيغة «دولة واحدة ونظامين»'

مساعدات واستفزازات

للعلم، فإن واشنطن التي لا تعترف بتايوان كدولة، تزودها بمساعدات عسكرية كبيرة، وتتهمها بكين باستفزازها مع استمرار توتر العلاقات بين بكين وواشنطن، الذي تضاعف إثر قيام رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بزيارة تايوان، وما تبعها من تصعيد الصين أنشطتها ووجودها العسكري حول الجزيرة. وأخيراً، توجه وفد أميركي غير رسمي إلى تايوان غداة فوز لاي تشينغ تي، الذي عبّر عن أمله في أن تواصل الولايات المتحدة دعم تايوان، وعقد الوفد مباحثات مع كل من الرئيس المنتخب حديثاً والرئيسة التايوانية تساي إينغ ون بشأن سير الانتخابات والشراكة بين الطرفين، وفق ما نقله المعهد الأميركي في تايوان، الذي يعدّ مقراً فعلياً للسفارة الأميركية في الجزيرة. وقال المعهد إن «الحكومة الأميركية طلبت من المسؤولين السفر بصفتهم الخاصة إلى تايوان، كما دأبت بعد كل انتخابات رئاسية في الجزيرة».

جوهر الصراع

يكمن جوهر الصراع بين الصين وتايوان في حقيقة أن بكين ترى تايوان مقاطعة منشقّة سيُعاد ضمّها إلى البر الصيني في نهاية المطاف. كذلك ترى السلطات الصينية أن قلة ضئيلة تؤيد استقلال تايوان «والأنشطة الانفصالية». وفي المقابل، يختلف كثير من التايوانيين مع وجهة نظر بكين، فيرون أن لديهم أمة منفصلة، سواء أعلن استقلالها رسمياً أم لا.

بكين تعدّ تايوان، التي يبلغ عدد سكانها نحو 23 مليون نسمة، جزءاً لا يتجزأ من أراضي الصين، وإن لم تنجح بعد في إعادة توحيده مع بقية البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية عام 1949. وبتاريخ 10 أغسطس (آب) 2022، أصدرت بكين «كتاباً أبيض» لشرح موقف وسياسات الحزب الشيوعي الصيني والحكومة الصينية بشأن تحقيق «إعادة التوحيد الوطني» في العصر الجديد، ما يشمل رؤية بشأن منطقة إدارية خاصة جديدة لتايوان.

هذا الكتاب الأبيض الذي حمل عنوان «قضية تايوان وإعادة توحيد الصين في العصر الجديد» هو الثالث من نوعه حول قضية تايوان في تاريخ جمهورية الصين الشعبية. ولقد صدر الكتابان السابقان في أغسطس (آب) 1993 وفبراير (شباط) 2000.

يُذكّر الكتاب الثالث أن تايوان «جزء لا يتجزّأ من الصين». ويشير إلى حُكم سُلالتَي يوان وسونغ اللتَين أرسلتا هيئات إدارية لتمارس الولاية القضائية على أرخبيل بسكادورز وتايوان، ثمّ إعلان تايوان بوصْفها المقاطعة العشرين في الصين عام 1885، قبل سيطرة اليابان على الجزيرة والأرخبيل عام 1894، ثمّ إصدار كلّ من الصين والولايات المتّحدة وبريطانيا «إعلان القاهرة» عام 1943، أي عقب «حرب المقاومة الشعبية الصينية» ضدّ العدوان الياباني (1931 - 1945).

ذلك الإعلان شدّد على ضرورة تخلّي اليابان عن «الأراضي التي سرقتها من الصين، بما فيها شمال شرقي الصين وتايوان وجزر بسكادورز، وإعادتها إلى الصين». وفي ما بعد، جاء «إعلان بوتسدام» الذي وقّعته الدول الثلاث نفسها عام 1945، واعترف به الاتحاد السوفياتي، ليؤكّد المطلب نفسه.

وفي أعقاب تأسيس «جمهورية الصين الشعبية» عام 1949، والإطاحة بحزب «الكومينتانغ» اليميني، ثمّ اندلاع الحرب الأهلية بينه وبين الحزب الشيوعي الصيني في أواخر الأربعينات، انسحب «الكومينتانغ» (بزعامة الرئيس الجنرال تشيانغ كاي شيك) إلى جزيرة تايوان إثر خسارته الحرب، واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السادسة والعشرين عام 1971 «القرار 2758» الذي تعهّدت من خلاله بإعادة جميع الحقوق إلى جمهورية الصين الشعبية، والاعتراف بممثّلي حكومتها بصفتهم الممثّلين الشرعيين الوحيدين للصين لدى الأمم المتحدة، وطرد جميع الممثّلين غير الشرعيين من الجمعية. وبالتالي، حسم القرار نهائياً القضايا السياسية والقانونية والإجرائية المتعلّقة بتمثيل الصين في المنظّمة الدولية، وأكّد أن لدى بكين مقعداً واحداً، نافياً بالتالي أيّ وجود لِما يُسمّى «دولتين صينيّتين» أو «صين واحدة وتايوان واحدة».

لاي تشينغ تي، الرئيس التايواني المنتخب (رويترز)

«دولة واحدة ونظامان» و«توافق 1992»

من جهة أخرى، مع بداية الثمانينات بدأت العلاقات بين الصين وتايوان تتحسن، وطرحت الصين صيغة تعرف باسم «دولة واحدة ونظامان» تمنح بموجبها تايوان استقلالية كبيرة إذا قبلت إعادة توحيد الصين.

يومذاك، رفضت تايوان العرض إلا أنها خفّفت من الإجراءات الخاصة بالزيارات والاستثمار في الصين. وعام 1991، أعلنت تايوان «انتهاء الحرب مع جمهورية الصين الشعبية» في البرّ الصيني.

ثم بين نهاية أكتوبر (تشرين الأول) وبداية ديسمبر (كانون الأول) 1992 وإثر سلسلة من المشاورات بين «جمعية العلاقات بين جانبي المضيق» (وهي منظمة أهلية في البر الصيني) و«صندوق التبادلات عبر المضيق» (وهو منظمة أهلية في تايوان)، توصل الجانبان إلى توافق شفهي حول تمسك جانبي المضيق بمبدأ «الصين الواحدة»، ما أرسى أساساً سياسياً لتحقيق ودفع التشاور بين جانبي مضيق تايوان، وسمي هذا التوافق لاحقاً بـ«توافق 1992».

يُعد «التمسك بالصين الواحدة» النواة الأساسية لهذا التوافق، أما جوهره فيكمن في السعي إلى إيجاد نقاط مشتركة وترك نقاط الخلاف جانباً. ولقد أشار «توافق 1992» بوضوح إلى الطبيعة الأساسية للعلاقات بين جانبي المضيق، وهي انتماء كل من البر الصيني وتايوان إلى «الصين الواحدة»، وأن العلاقات بين جانبي المضيق ليست علاقات بين دولة ودولة أخرى، ولا تمثل «صين واحدة وتايوان واحدة».

بكين ترى أن «توافق 1992» أساس للحفاظ على السلام والاستقرار والتفاعل الإيجابي للعلاقات بين جانبي المضيق، ومفتاح لضمان التنمية السلمية للعلاقات بين جانبي المضيق. وفي يناير (كانون الثاني) 2019 ، طرح الرئيس الصيني شي جينبينغ دعوة في مؤتمر احتفالي بمناسبة إحياء الذكرى السنوية الأربعين لإصدار «رسالة إلى أبناء الوطن في تايوان» بأن ترشح مختلف الأحزاب السياسية وكل القطاعات على جانبي المضيق ممثلين لإجراء مشاورات ديمقراطية شاملة ومعمقة، ترتكز على الأساس السياسي المشترك بشأن دعم «توافق 1992» ومعارضة «استقلال تايوان»، سعياً إلى الوصول إلى الترتيب المؤسسي حول دفع التنمية السلمية للعلاقات بين جانبي المضيق.

الرئيس الصيني شي جينبينغ (آ ب)

المضمون الرئيس

المضمون الرئيس لـ«دولة واحدة ونظامين» هو ما يلي...

- تحت مقدمة «الصين الواحدة»، يتمسك النظام الرئيس للدولة بالنظام الاشتراكي، وتكون هونغ كونغ وماكاو وتايوان أجزاء لا تتجزأ من جمهورية الصين الشعبية، وتبقي على تطبيق النظام الرأسمالي لفترة طويلة، ولن يتغير ذلك باعتبارها مناطق إدارية خاصة.

- لا يمكن لأحد إلا جمهورية الصين الشعبية أن يمثل الصين في المجتمع الدولي، وإن البرنامج الشامل الأساسي المتمثل في التمسك بـ«دولة واحدة ونظامين» ودفع «إعادة توحيد الوطن الأم»، أجاب على موضوع العصر، المتمثل في دفع التنمية السلمية للعلاقات بين جانبي مضيق تايوان، والاتحاد مع المواطنين في تايوان، بالسعي بجهود مشتركة وراء النهضة العظيمة للأمة والتوحيد السلمي للوطن الأم. وبالطبع، لن يكون تطبيق «دولة واحدة ونظامين» يسيراً باعتباره قضية غير مسبوقة، ويحتاج إلى الاستمرار في التطبيق.

أسّس هذا النظام في هونغ كونغ وماكاو لاستخدامه كعرض لإغراء التايوانيين بالعودة إلى البرّ الصيني، ورسالة واضحة إلى دول العالم، فحواها أن إعادة توحيد البر الصيني مع تايوان «لن تضرّ بمصالح الدول الأخرى، بما في ذلك مصالحها الاقتصادية في الجزيرة»، وهذا ما أكد عليه الكتاب الأبيض، كما تتعهد بكين بـ«الحفاظ على الحكم الذاتي العالي لتايوان، وحماية الحقوق والمصالح المشروعة لشعبها».

أيضاً، نصّ الكتاب الأبيض على أن تايوان بعد إعادة توحيدها مع الصين، يمكن لجميع الدول المهتمة الاستمرار في تطوير العلاقات الاقتصادية والثقافية مع تايوان. وبموافقة الحكومة المركزية الصينية، ستكون الدول الأجنبية قادرة على فتح مكاتبها القنصلية، وكذلك غيرها من المسؤولين أو المؤسسات شبه الرسمية في الجزيرة، والمنظمات والمؤسسات الدولية ستكون قادرة على فتح مكاتب في تايوان.

وذكر الكتاب أن مستوى التنمية الاقتصادية لتايوان مع الصناعة المتقدمة والتجارة الخارجية مرتفع نسبياً بالفعل. وبعد إعادة توحيد آلية التعاون الاقتصادي بين جانبي مضيق تايوان سيصبح أكثر اكتمالاً، وسيكون الاقتصاد التايواني قادراً على التطور بصورة أكثر نشاطاً مع الوصول غير المحدود إلى سوق البر الصيني الرئيس، بسلاسل إنتاج وتوريد مستقرة.

وما يلفت في الكتاب أيضاً أنه يركّز على حقبة ما بعد إعادة التوحيد المنشودة، مُعدّداً بالأرقام، كيف ستخدم هذه العملية تايوان بشكل خاص، و«المجتمع الدولي» بشكل عام، إذ يقول: «كان حجم التجارة عبر المضيق يبلغ 46 مليون دولار فقط عام 1978، لكنه ارتفع إلى 328.34 مليار دولار عام 2021، أي 7 آلاف أضعاف. وأشار كذلك إلى أن البرّ الصيني شكّل أكبر سوق تصدير لتايوان على مدار السنوات الـ21 الماضية، ما أدّى إلى تحقيق فائض سنوي كبير للجزيرة. ثم إنه مثّل الوجهة الأولى للاستثمارات الخارجية لتايوان. فبحلول نهاية عام 2021، استثمرت الشركات التايوانية في 124 ألف مشروع في الصين، بقيمة إجمالية قدرها 71.34 مليار دولار أميركي. وتابع أن تنمية الصين وتَقدّمها، ولا سيما الصعود المطّرد لقوّتها الاقتصادية والتكنولوجية وقدراتها الدفاعية الوطنية، توفّر مساحة واسعة وفرصاً كبيرة للتبادل والتعاون عبر المضيق، وتخدم مصلحة سكّان تايوان. أضف إلى ذلك إمكانية تكثيف التبادلات والتفاعل والتكامل عبر المضائق في جميع القطاعات، وتعميق الروابط الاقتصادية والشخصية بين السكّان من كلا الجانبين، وغيرها من المنافع. وحول هذه النقطة، يقول عبد العزيز الشعباني، الباحث بمركز الرياض للدراسات السياسية والاستراتيجية: «إن تحقيق إعادة التوحيد السلمي عبر المضيق نعمة، ليس للأمة الصينية وللشعب الصيني فقط، بل للمجتمع الدولي والشعوب في جميع أنحاء العالم كذلك، وهي نتيجة يتطلع المجتمع الدولي لأن يراها».

جانب من العاصمة التايوانية تايبيه (أ ف ب/غيتي)

الهدف الاستراتيجي... تحقيق حلم الصين العظيم

> أعربت وزارة الخارجية التايوانية، في بيان، عن «استيائها الشديد وإدانتها» للتصريحات التي أدلت بها بكين، عقب الانتخابات الرئاسية التي جرت في تايوان. في حين ينتظر أن يعمل الرئيس الجديد لاي تشينغ تي خلال ولايته الرئاسية على تعزيز وتوثيق علاقات تايوان مع الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان بصورة أساسية.ومن جهة أخرى، أفضت انتخابات 2024 العامة في تايوان إلى جملة من التغيرات اللافتة، سواء ما يتعلق باتجاهات التصويت، أو التركيبة المختلفة للسلطتين التنفيذية والتشريعية، أو المعادلة الحزبية الجديدة التي تشكلت وما نتج عنها من تشرذم أصوات الناخبين. لا شك أن فوز لاي شكّل إزعاجاً لبكين، ولذا فإن السنوات المقبلة قد تشهد مستويات غير مسبوقة من التوتر بين الجانبين، إذ تتجه بكين نحو ممارسة كل أشكال الضغوط على تايوان، سواء الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وفي المقابل، يمثل فرصاً لبكين للتأثير على الجزيرة من دون اللجوء إلى القوة. وعليه تسعى بكين إلى استغلال ما أفرزته الانتخابات لبناء روابط أعمق مع الجزيرة من خلال هذه القنوات، خصوصاً من خلال محاولة تقليص المحور الاقتصادي بعيداً عن الاعتماد على الاقتصاد الصيني الذي كان الحزب الديمقراطي التقدمي يسعى إليه ببعض النجاح على مدى السنوات الثماني الماضية. أيضاً يتوقع أن تحشد بكين قواها الدبلوماسية لوقف محاولات تايوان الحصول على الدعم على المستوى الدولي. هذا، وواصلت بكين التأكيد على أن نتائج الانتخابات لا تؤثر على جهودها لإعادة توحيد تايوان مع الصين، وأنها لن تتسامح مع النزعة الانفصالية. وعليه يُرجح أن يظل الحوار الرسمي عبر المضيق معلقاً، على الرغم من النشاط العسكري المتزايد، مع مواصلة بكين الاعتماد على وسطاء لفهم طريقة التفكير في العاصمة التايوانية تايبيه، مع إرسال بكين رسائل تحذير شديدة الوضوح «باتخاذ إجراء صارم» إلى تايبيه وواشنطن «في حال إقدام القوى الانفصالية المؤيدة لاستقلال تايوان، أو قوى التدخل الخارجية على استفزاز أو استخدام القوة حتى تجاوز الخط الأحمر». هذا يعني دفع بكين إلى تبني استراتيجية جديدة تقوم على تسريع وتيرة استعادة تايوان عبر الضغط العسكري ثم الضغط الدبلوماسي. ودفع بكين أيضاً إلى تقليص المدة الزمنية بـ10 سنوات كاملة، إذ قد تقدم على ضمّ الجزيرة في 2030، أي خلال 8 سنوات، بدل نهاية العقد المقبل.


مقالات ذات صلة

الرئيسان الأميركي والصيني يلتقيان في البيرو السبت

الولايات المتحدة​ الرئيسان الأميركي جو بايدن (يمين) والصيني شي جينبينغ (رويترز)

الرئيسان الأميركي والصيني يلتقيان في البيرو السبت

من المرتقَب أن يجتمع الرئيس الأميركي جو بايدن بنظيره الصيني شي جينبينغ، السبت، على هامش قمّة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ.

«الشرق الأوسط» (واشنطن - بكين)
آسيا فريق صيني للاستعراضات الجوية يحلّق في السماء ضمن معرض الصين الدولي الـ15 للطيران والفضاء (أ.ب)

ضمن أكبر معرض جوي... الصين تكشف عن مقاتلات شبح جديدة (صور)

كشفت الصين، الثلاثاء، النقاب عن طائرات مقاتلة لا يرصدها الرادار في معرض جوي كبير، حيث تسلط الأضواء أيضاً على طائرات من دون طيار.

«الشرق الأوسط» (بكين)
آسيا رجل أمن يقف حارساً بالقرب من مركز رياضي حيث صدم رجل بسيارته أشخاصاً في جوهاي الصينية (أ.ب)

عشرات القتلى في حادثة دهس بجنوب الصين

قُتل 35 شخصاً وأُصيب 43 آخرون بعدما صدمت سيارة عمداً، أشخاصاً مساء أمس (الاثنين) في مدينة جوهاي في جنوب الصين.

«الشرق الأوسط» (بكين) «الشرق الأوسط» (بكين)
أوروبا الأمين العام لمجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو (رويترز)

شويغو: على موسكو وبكين التصدي «لسياسة الاحتواء» الأميركية

أبلغ الأمين العام لمجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو، وزير الخارجية الصيني وانغ يي، بأن المهمة الرئيسية لبكين وموسكو هي التصدي «لسياسة الاحتواء» الأميركية.

«الشرق الأوسط» (بكين)
الولايات المتحدة​ الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال اجتماع لهما في نيويورك (رويترز)

ترمب ينشط لإعادة ترتيب رقعة الشطرنج على الساحة الدولية

نصح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم التصعيد في أوكرانيا، وسط خشية من استعداده لتوسيع الحرب التجارية مع الصين.

علي بردى (واشنطن)

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.