بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

الرئيس الجديد احتاج لدعم اليمين التقليدي وسيعتمد عليه أكثر مستقبلاً

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
TT

بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)

عندما ذهب الأرجنتينيون إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، كانوا يعرفون أن حظوظ مرشح اليمين المتطرف خافيير ميلي كانت قد ارتفعت بعد التأييد الذي حصل عليه من الحزب الليبرالي اليميني الذي يتزعمه الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، وهذا، مع أن ماكري كان في مرمى الانتقادات القاسية والشتائم التي أغدقها ميلي على جميع أقطاب الطبقة السياسية التي حكمت الأرجنتين في العقود الثلاثة المنصرمة، والتي كان توعّد بإفنائها في حال وصوله إلى السلطة. إلا أن أحداً لم يكن يتوقع مع بزوغ فجر الاثنين أن ميلي سيحقق ذلك الفوز الساحق بفارق يزيد على ثلاثة ملايين صوت على منافسه وزير الاقتصاد الحالي سيرجيو ماسّا الذي يمثّل الجناح المعتدل في الحركة البيرونية، الذي سبق له أن خسر الانتخابات الرئاسية لصالح ماكري عام 2015. وعندما تأكدت نتائج الانتخابات، شعر كثيرون بأن الأرجنتين أصبحت بلداً آخر غير الذي كانوا يعرفونه، أو أنها كانت هكذا، لكنهم ما كانوا يدركون ذلك. لقد كانوا يشعرون باعتزاز مفرط متأصل في هويتهم، رغم أنظمة الاستبداد والقمع التي تعاقبت عليهم والأزمة الاقتصادية والمعيشية الطاحنة الممتدة منذ سنوات. ويحسبون أنهم حالة مميزة في محيطهم الإقليمي ترقى إلى المستوى الأوروبي. غير أنهم اكتشفوا بين ليلة وضحاها أن الأرجنتين أيضاً أصبحت في دائرة المجتمعات اليائسة التي لا تتردد في تسليم قيادها إلى مغامر مثل ميلي أعطى براهين أكثر من كافية على جموحه وتطرفه الفظيع وطروحاته المتهورة.

ليس المراقب في حاجة إلى قراءة معمّقة في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية لكي يتبيّن أن فوز المرشح اليميني المتطرف خافيير ميلي لم يكن بفضل برنامجه الذي يقتصر على مجموعة من العناوين التي لم يتوقّف عن تغييرها طوال الحملة الانتخابية، بل هو النتيجة الطبيعية لانسداد أفق الحلول أمام كثرة من الأرجنتينيين.

هؤلاء، كما يبدو، فقدوا الأمل بالنهوض من الأزمات المتلاحقة التي أنهكتهم مادياً ونفسياً. ولذا راهنوا - ربما بنوع من اليأس - على سياسي شعبوي عرف كيف يجسّد الغضب الذي تولّد من حقد مواطنيه على الطبقة الحاكمة التي أوصلت الأرجنتين إلى هذه الكارثة، والتي كانوا هم ينتخبونها مرة غبّ المرة.

التصويت لـ«الضد»

الغالبية الساحقة من الأرجنتينيين ذهبت لتصوّت «ضد» الآخر المألوف، ولم يكن أمامها - مرئياتها - أفضل من ميلي الذي يجسّد الحقد على كل الآخرين. وللعلم، بنى الرجل أسس حملته الانتخابية على شعار بسيط واحد، هو: «لا بد من تدمير كل شيء والانطلاق من البداية... وأنا القادر على ذلك».

كثيرون استسلموا لمغريات هذا الشعار ولأسلوب صاحبه، من غير أن يعرفوا كيف سيخفّف من معاناتهم هذا الذي يطلق على نفسه لقب «ملك الغاب».

وبينما يراقب العالم الآن من كثب الخطوات الأولى التي سيتخذها الرئيس الجديد بعدما أدخلت الأرجنتين نفسها دائرة الأنظمة اليمينية المتطرفة، وقفزت بإرادتها نحو «المجهول» بعد هذا الفوز الكاسح الذي حققه مرشح كان مغموراً لأشهر خلت، بل ويعترف بأنه لا يفقه شيئاً عن الحكم. وفي حين يسود التوجّس من الحلول التي وعد بتنفيذها لمعالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي المعقّد، كشف خافيير ميلي عن أنه سيقوم خلال الأيام القليلة المقبلة، أي قبل تسلمه مهامه في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بزيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية من أجل اللقاء بعدد من الحاخامات اليهود في مدينتي نيويورك وميامي، واللافت أنه ليس من المقرّر أن يعقد لقاءات مع إدارة الرئيس جو بايدن التي كانت من أوائل الذين سارعوا إلى تهنئته منوّهة بـ«ديمقراطية العملية الانتخابية ونزاهتها».

الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها ميلي تشكّل حالة فريدة ضمن اليمينية الراديكالية

«طابع روحاني» ...ويمين متطرف

ميلي قال في مقابلة إذاعية فجر الثلاثاء الماضي إن زيارته الأميركية هذه سيكون لها طابع «روحاني»، وتندرج في سياق زيارات مماثلة قام بها في السابق حين كان يجتمع بزعماء روحيين يهود ويتابع تعاليمهم. ومن ثم، أكّد الرئيس المنتخب أنه سيتوجّه بعد ذلك من نيويورك إلى إسرائيل التي كان وعد خلال حملته الانتخابية بأنه في حال فوزه سيكون أول قرار يتخذه على صعيد العلاقات الخارجية هو نقل سفارة بلاده إليها من تل أبيب إلى القدس، وإنه سيركّز سياسته الخارجية على ما أسماه «المحور الأميركي - الإسرائيلي»، وفي المقابل، شدد ميلي على أنه لن يتفاوض مع الأنظمة الشيوعية مثل البرازيل والصين. وفي هذا المجال، كانت تصريحات لبعض المقرّبين منه بأنه يفكّر في «إعادة النظر في العلاقات مع الصين» قد استدعت تنبيهاً له من الخارجية الصينية بأنه خطأ فادح، وقالت إنه سيلحق ضرراً كبيراً بمصالح الأرجنتين.

جانب لافت آخر يعني ما يعنيه، أن كان أوّل مهنئي ميلي بفوزه سياسي يميني متطرف آخر، هو الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، الذي سبق له هو ايضاً أن أجرى بُعيد انتخابه زيارة إلى إسرائيل، حيث أعلن نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. ومما قاله بولسونارو إنه سيحضر شخصياً حفل تنصيب الرئيس الأرجنتيني الجديد أواسط الشهر المقبل في بوينس آيرس.

كذلك، من رسائل التهنئة اللافتة التي تلقاها ميلي تلك التي بعث بها رئيسان يمينيان سابقان للمكسيك هما فيسنتي فوكس وفيليبي كالديرون الذي قال: «لقد أثبتت الأرجنتين إرادتها في صون النظام الديمقراطي، بعكس المكسيك التي تجنح بسرعة إلى وأد هذا النظام».

من جهة ثانية، بينما تتوقع الأوساط الدبلوماسية مرحلة من التوتّر في العلاقات الإقليمية بوصول ميلي إلى الرئاسة، يسود القلق أيضاً في أوساط الاتحاد الأوروبي الذي تريّث في تهنئة الرئيس الجديد واكتفى برسالة مقتضبة بعث بها شارل ميشال، رئيس الاتحاد، اقتصرت على قوله: «الشعب الأرجنتيني قال كلمته في انتخابات حرة وديمقراطية». واليوم، يقول مسؤولون أوروبيون صراحةً: إن وصول ميلي إلى الرئاسة يطرح علامات استفهام كبيرة حول المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة بلدان «ميركوسور» (الأرجنتين، والبرازيل، والباراغواي والأوروغواي)، وأيضاً حول العلاقات مع «كتلة بلدان أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي» بعد الانفراج الذي سادها عقب خروج بولسونارو من السلطة في البرازيل وانتخاب ألبرتو فيرنانديز في الأرجنتين. وفي المقابل، ترى الأحزاب اليمينية المتطرفة في فوز ميلي فرصة لعودة الموجة المحافظة في الأميركتين التي قادها دونالد ترمب وجايير بولسونارو في السنوات الماضية، وتجسدها اليوم جيورجيا ميلوني في إيطاليا.

الحركة البيرونية... تعرضت لنكسة موجعة (رويترز)

تنوّع رغم الوحدة

في سياق متصل مع ما سبق، إذا كان «زئير» النقمة الشعبية على الأنظمة الحاكمة، وما تحمله من طروحات وأساليب تقليدية، هو الذي دفع بالمشاريع الشعبوية المتطرفة إلى السلطة في أكثر من موقع على المشهد السياسي العالمي - ورغم القواسم المشتركة بين معظم هذه المشاريع - فإن لكل منها خاصياته وأسباب نجاحه المختلفة.

وبما يتعلّق بالأرجنتين، فإن الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها خافيير ميلي تشكّل حالة فريدة متميّزة ضمن الأممية اليمينية الراديكالية. إذ يثير الفوز الكاسح الذي حققه قدراً كبيراً من الدهشة والقلق والاستغراب في الأوساط التقدمية والليبرالية المعتدلة، وتخشى أن يكون ذلك نذيراً لموجة أوسع على الصعيدين الإقليمي والدولي في ظل الظروف الدولية المضطربة بشكل غير مسبوق على الصعيدين الأمني والاقتصادي. ولعل أكثر ما يثير القلق في «ظاهرة» ميلي أن طروحاته تكاد تكون نوعاً من المزايدة لما فيها من تطرف استثنائي وغير مألوف، في الوقت الذي لا يخفى على أحد حقيقة أنها لا ترتكز إلى أي مسوّغ فكري أو علمي، فضلاً عن أنها تشكّل تراجعاً كبيراً عن منجزات اجتماعية وسياسية كثيرة.

هذا الغضب الذي يحرّك الموجة الشعبية الناقمة على المنظومة السياسية، محملاً إياها مسؤولية الفساد والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، هو الذي يولّد الإحباط ويغذّي الرغبة في التغيير الجذري، ويرفع إلى السلطة قيادات تزعم أنها «متنوّرة» وتحمل وعوداً بالعودة إلى ما يشبه لكثيرين أنه كان عالماً أفضل.

ولعلّ أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تمتطي صهوة الإمكانات الهائلة التي تتيحها وسائل التواصل التكنولوجي الحديثة. فهذه أضحت تحمل السياسة إلى بحر العواطف والمشاعر التي يصعب أن يستقيم فيها العقل والمنطق على أعتاب الذكاء الاصطناعي الذي يطرح تساؤلات كبيرة لا يجرؤ أحد بعد على الإجابة عنها. لكن هذا الجذع الذي تتشاركه الحالات الشعبوية المتطرفة التي وصلت إلى السلطة، لا يخفي أن وصول ميلي كان في الدرجة الأولى تعبيراً مباشراً عن الرفض التام لحكم الحركة البيرونية، تماماً كما كان وصول بولسونارو تعبيراً عن رفض حكم حزب العمال البرازيلي... إذ خسر التقدميون في الحالتين بسبب إخفاقاتهم الاقتصادية المدوّية وسلسلة فضائح الفساد المالي الذي عشّش في صفوف قياداتهم.

أما في حالات أخرى، فيعود صعود الحركات الشعبوية المتطرفة بنسبة كبيرة إلى «النزعة الحمائية في مواجهة الظواهر العالمية، مثل الآثار السلبية لبعض أساليب التجارة الحرة، وموجات الهجرة، والتكنولوجيا الحديثة التي تقتصر منافعها على نسبة ضئيلة من الناس، والتداعيات الناجمة عن التغيّر المناخي. في هذه الحالات تتحمّل الحركات الاجتماعية الديمقراطية - أو الاشتراكية المعتدلة - قدراً من المسؤولية بسبب من الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي القريب، وأبرزها اعتناق بعض القيم والمبادئ الليبرالية التي جعلت من الصعب تمييزها عن اليمين المعتدل.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.