> في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات، تراجع خافيير ميلي عن معظم الوعود الراديكالية التي كان أطلقها أثناء الحملة الانتخابية خلال الأشهر الماضية لاستقطاب المترددين في الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ من جهة لرفضهم القاطع التصويت للمرشح البيروني... ومن جهة ثانية؛ لخوفهم أيضاً من وصول المرشّح «المتنوّر» الذي وعد بقلب الأوضاع رأساً على عقب في غضون أسابيع من تسلمه مهامه.
من تلك الوعود إلغاء التعليم الرسمي المجاني، والخدمات الصحية العامة، والعملة الوطنية، والمصرف المركزي، والحقوق العمالية، وغيرها... وكلها أطلقها لاستقطاب الشارع الغاضب الذي يغلي منذ سنوات ضد الحكومات المتعاقبة. وبالفعل، بعدما شنّ أقسى الهجمات على الطبقة الحاكمة انتهى به الأمر متحالفاً مع أبرز رموزها. وهو ابتداءً من الآن سيكون مضطراً إلى الاعتماد على أصواتها في البرلمان لتنفيذ برنامجه الذي لم يعد معروفاً بالضبط ما هو مضمونه.
نعم، من الصعب جداً التنبؤ بما يمكن أن يقدم عليه الرئيس الأرجنتيني الجديد، الذي ردد غير مرة أن «العلاقات السليمة بين البشر تحكمها معادلة البيع والشراء». لكن أشدّ ما يثير الخشية عنده، هو أنه إذا قرر تنفيذ الوعود الراديكالية التي أطلقها في الحملة الانتخابية، سيخرج الملايين تحت رايات الحركة البيرونية المنهكة والنقابات العمالية والعاطلين عن العمل إلى الشوارع لمنعه من تنفيذها. وإذ ذاك، قد يلجأ إلى القمع الذي وضع ملفه في عهدة نائبته فيكتوريا فيلارويل، ابنة أحد القادة العسكريين الذي قاد حملة التنكيل ضد المعارضة إبّان فترة «حكم العسكر»، وهذا، بعدما وعد بأنه سيضاعف ثلاث مرات الموازنة الدفاعية ابتداءً من السنة المقبلة.
ومن الوعود الأخرى التي كانت بين عناوين حملة ميلي الانتخابية، التي في حال تنفيذها يمكن أن تضرم احتجاجات عنيفة في الأوساط الشعبية، مراجعة القراءة الرسمية لمفهوم «إرهاب الدولة». والحجة عنده هنا، أن ما ارتكبه النظام العسكري السابق لم يكن أكثر من مجرد «تجاوزات». وبالتالي، فإن تقديرات منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والتحقيقات القضائية التي تفيد بأن عدد المفقودين خلال تلك الفترة تجاوز 30 ألفاً «ليست سوى ذريعة للاستمرار في نهب المال العام».
أخيراً، بعد الهزيمة المدوّية التي منيت بها الحركة البيرونية في الانتخابات الرئاسية، وتراجعها في جميع الولايات باستثناء العاصمة بوينس آيرس، ينتظر أن تلجأ الحركة إلى تصعيد المعارضة والاحتجاجات ضد الرئيس الجديد. وهي بذا ستستند إلى سيطرتها على معظم النقابات العمالية التي تشكّل حاضنتها الأساسية منذ تأسيسها. واستطراداً، لا بد من النظر إلى هزيمة البيرونيين على أنها تشكّل بداية انهيار التيّار «الكيرشنر» - نسبة إلى الرئيسين الأسبقين نستور وكريستينا كيرشنير -، الذي كان السائد في المشهد السياسي الأرجنتيني منذ عام 2003، والذي كان قد أخلى ساحة الانتخابات الرئاسية لوزير الاقتصاد سيرجيو ماسّا، الذي ينتمي إلى الجناح البيروني الليبرالي المعتدل، في محاولة للحد من الخسائر التي كانت مرتقبة.