تونس: ملفات الإرهاب والفساد تتصدر المشهد السياسي

عشية انتخابات الغرفة الثانية في البرلمان

تظاهرة تونسية تضامناً مع غزة (إ.ب.أ)
تظاهرة تونسية تضامناً مع غزة (إ.ب.أ)
TT

تونس: ملفات الإرهاب والفساد تتصدر المشهد السياسي

تظاهرة تونسية تضامناً مع غزة (إ.ب.أ)
تظاهرة تونسية تضامناً مع غزة (إ.ب.أ)

بدأت العملية الانتخابية الجديدة في تونس تحضيراً للاقتراع الذي ترشحت له 7777 شخصية يتنافسون للفوز بعضوية 279 مجلساً محلياً، سيُنتخب من بينهم لاحقاً أعضاء الغرفة الثانية في البرلمان ومجالس المحافظات والأقاليم. فاروق بوعسكر، رئيس الهيئة العليا للانتخابات، أعلن عن «اكتمال الاستعدادات للاقتراع المقرر يوم 24 من ديسمبر (كانون الأول)»، في حين أكد الرئيس التونسي قيس سعيّد أنه ماض في احترام «كل المواعيد الانتخابية والسياسية المقبلة» التي سبق أن أعلن عنها في «خريطة الطريق» التي كشف عنها في سبتمبر (أيلول) 2021 وبدأت بالاستفتاء على دستور جديد وانتخاب غرفة مجلس النواب. وأيضاً، أكد مقرّبون من قصر قرطاج أن الانتخابات الرئاسية ستنظم في موعدها خلال العام المقبل. ولكن، في هذه الأثناء، تعيش تونس تحت ضغط مستجدات داخلية وخارجية «خطيرة» بينها حادثة «تهريب 5 إرهابيين خطرين» من السجن، وصفها بعض المراقبين السياسيين بـ«الزلزال السياسي والأمني».

 

 

تتصدّر أخبار إيقاف عشرات من الشخصيات التونسية السياسية والمالية البارزة المشهد السياسي في تونس هذه الأيام. ولقد تزايد الانشغال بملفات «قضايا الإرهاب الجديدة» وبلاغات رسمية عن اعتقال أوروبيين متهمين بالإرهاب والتخابر وترويج المخدرات بينهم 5 سويديين.

وسُجِّلت هذه التطورات مع تعاقب اتهامات الرئيس التونسي وسياسيين وخبراء موالين للسلطات لجهات «خارجية منحازة للصهيونية العالمية» بـ«التآمر على تونس»، بسبب موقفها الرسمي من الحرب الحالية في الأراضي الفلسطينية، واتهامات الرئيس سعيّد مجدّداً لمن وصفهم بـ«المطبّعين» مع إسرائيل «بالخيانة والتعامل مع عدو فلسطين والعرب والتواطؤ مع المسؤولين عن حرب الإبادة الجماعية لمليونين وربع مليون مدني في قطاع غزة».

في هذا السياق، باتت تطرح علامات استفهام جديدة عن المسار السياسي التونسي، وعن التطور المحتمل في المشهد السياسي والاجتماعي والأمني فيها.

متابعة مواقف الرئيس

ما يلفت الانتباه أن وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية التونسية تتابع نشر فيديوهات عن كلمات ألقاها الرئيس سعيّد أخيراً لدى استقباله رئيس حكومته ووزراء الخارجية والداخلية والعدل وعددا من كبار المسؤولين الأمنيين. وبالفعل، رفع الرئيس بالمناسبة «سقف» الانتقادات لإسرائيل وللعواصم الغربية التي شكّك في مصداقية دفاعها عن حقوق الإنسان لـ«صمتها عن المجازر في غزة والضفة الغربية والقدس».

كذلك اتهم سعيّد «جهات داخلية وخارجية بتدبير عملية تهريب المساجين الإرهابيين الخطرين» ومحاولة «إرباك الدولة التونسية بتواطؤ مع الحركات الصهيونية وأطراف في الداخل».

على هذا تباينت ردود الفعل داخل تونس وخارجها. وازداد الأمر تعقيداً بعد تنظيم جلسة عامة في البرلمان للمصادقة على مشروع قانون «تجريم التطبيع مع إسرائيل» و«المطالبة بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر بما فيها القدس المحتلة».

علي العريّض (آ ف ب)

وللعلم، أوشك هذا القانون أن يصدر لكن الجلسة توقفت بعد ساعات من الخُطب الحماسية المساندة له بثتها قناة التلفزيون الحكومية. ثم تقرّر تأجيل البت في المشروع إلى أجل غير مسمى بعد تدخّل من رئاسة الجمهورية، حسب ما أورده رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة، الأمر الذي فجّر تناقضات سياسية داخل الكتل السياسية والبرلمانية، وتسبّب في تناقضات بين مواقف البرلمانيين ووزارة الخارجية التي عادت للإعلان عن تمسكها بـ«قرارات الشرعية الدولية».

إرهابيون... واستنزاف

من جهة أخرى، حذّر مدير الأمن العسكري السابق اللواء المتقاعد محمد المؤدب في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من «مخاطر الصمت على مؤشرات إضعاف الدولة» عبر إبراز «نقص في الانسجام بين رموزها ومؤسساتها السيادية والمجتمع». وأضاف أن تونس تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى «لإصلاحات عميقة ورصينة» لكل مؤسسات الدولة بينها المؤسسات الأمنية. وسجّل أن بعض «الإرهابيين الذين هزموا في الجبال وغادروها، أو تعرّضوا للاعتقال والمحاكمات «يمكن أن يحاولوا استنزاف البلاد مجدّداً بالشراكة مع الأطراف الخارجية والداخلية التي تدعمهم».

بعدها نوّه المؤدب إلى أن «المؤسسة العسكرية التونسية تبقى مرجعاً، ويمكن أن تلعب دورا أكبر في ضمان أمن البلاد واستقرارها السياسي والمجتمعي بما في ذلك في مراحل الأزمات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية».

مطلوب إصلاحات لمواجهة المخاطر

من جهته، رأى الخبير الأمني والعميد في الجامعة التونسية نور الدين النيفر أن بين المخاطر التي تهدّد تونس راهناً بروز «بوادر إرباك الأمن القومي من قبل جهات استعمارية وصهيونية عبر إنعاش الإرهاب وتهريب مساجين إرهابيين خطرين». وأعرب النيفر عن اقتناعه بوجود «مخططات تقف وراءها أطراف إقليمية ودولية»، اتهمها بتعقيد الأزمات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية في تونس «لمعاقبة الحكومة على مواقفها المنحازة بقوة للمقاومة الفلسطينية» ضد إسرائيل وحلفائها الدوليين.

أما الجنرال المختار بن نصر، العميد المتقاعد في الجيش الوطني والرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب، فدعا السلطات للمبادرة بإدخال إصلاحات عميقة وفورية على قطاع الأمن والدفاع وعلى إداراته المركزية والجهوية «كي لا تسجل مجدداً حالات تهريب لمساجين خطرين بعضهم سبق أن صدرت ضده أحكام بالإعدام أو بالمؤبد بعد إدانتهم بالتورط في اغتيال سياسيين وعسكريين وأمنيين قبل نحو 10 سنوات».

في هذه الأثناء، تعمّقت الخلافات بين النخب السياسية والإعلامية، وبرز تياران:

 

«حرب غزة» حاضرة بقوة... وتخوّف رسمي من نسب مشاركة ضعيفة في الاقتراع

عبير موسي (رويترز)

التيار الأول يطالب «بتنقية المناخ» السياسي العام في البلاد، وتحقيق مصالحة وطنية بين مؤسسات الحكم والمعارضة والنقابات «لامتصاص المضاعفات السلبية لموقف تونس الراديكالي» من الحرب الحالية في قطاع غزة والضفة الغربية. ويطالب هذا التيار أيضاً بـ«تحصين الجبهة الوطنية الداخلية»، كي تنجح سياسات احتواء الضغوط الأجنبية والأزمة الاقتصادية الداخلية، التي حذّر خبراء كثر من إمكانية تسببها بانفجارات اجتماعية نتيجة الغلاء والتضخم المالي والمديونية والبطالة والفقر.

أما التيار الثاني، -وهو بقيادة ساسة يعلنون أنهم الأقرب إلى الكتل السياسية المساندة للمشروع السياسي للرئيس قيس سعيّد- فيدعو إلى مزيد من «تهميش» كل النخب والأحزاب والنقابات والأطراف السياسية التي تصدّرت المشهد السياسي الرسمي وغير الرسمي خلال السنوات الـ65 الماضية، وبالأخص، منعرج ثورة يناير 2011.

تجاهل النخب القديمة

من خلال سلسلة القرارات الصادرة عن رئيس الحكومة أحمد الحشاني ووزرائه أخيراً يبدو أن التوجّه العام رجّح تجاهل «النخب القديمة» وأحزاب المعارضة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. وبالتالي، ستكون من أبرز أولويات المرحلة الجديدة «تطهير» الإدارة ومؤسسات الحكومة، وخاصة وزارة الداخلية والمؤسسات الأمنية، من الموظفين والمسؤولين الذين عيّنوا فيها خلال السنوات العشر الماضية على أساس الولاءات السياسية والحزبية لا الخبرة والكفاءة العلمية.

وفي هذا السياق، اعتبر علي الزرمديني، العميد السابق في الحرس الوطني والمختص في قضايا الإرهاب والتهريب، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أن حادثة تهريب 5 مساجين إرهابيين خطرين «يجب أن تحثّ كل صنّاع القرار على إدخال إصلاحات جديدة على قطاع الأمن وعلى المؤسسات الحكومية» وإبعاد من وصفهم بـ«أصحاب الأجندات الذين اخترقوها وساهموا في الفلتان الأمني والسياسي والإعلامي».

وقال الزرمديني إنه يساند إبعاد كل المشتبه فيهم بالإرهاب وباختراق مؤسسات الدولة، وخاصة، المؤسسات السياسية والأمنية إلى جانب إبعاد المتهمين بالضلوع في الفساد المالي والجرائم المالية.

اعتقالات داخل صفوف «كبار الأثرياء»

وفي شأن الفساد المالي، أعلنت مصادر قضائية وأمنية وحكومية رفيعة المستوى عن إيقاف وزراء ومسؤولين سابقين في الدولة ورجال أعمال بارزين بعضهم يصنّف «ضمن أكبر مليارديرات البلاد» بتهم عديدة، من بينها الاشتباه في التورّط بمخالفات مالية خطيرة والتهرب من الضرائب وتبييض الأموال، فضلا عن تهم تتصل بملفات الإرهاب والتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي بالنسبة لبعضهم.

ولأول مرة شملت الاعتقالات والتحقيقات والمحاكمات رجال أعمال وسياسيين كانوا في الصف الأول من وجوه الحكم قبل «ثورة 2011»، بينهم مروان المبروك صهر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعبد الرحيم الزواري الوزير السابق والأمين العام للحاكم قبل الثورة، وكلاهما يرأس حالياً شركات تونسية أوروبية ومؤسسات تونسية عالمية عملاقة.

كذلك شملت الإحالات على قطب مكافحة الإرهاب ساسة كانوا في الصفوف الأولى قبل انتخابات 2019 وبعدها، بينهم عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري (الموالي للنظام السابق في عهد بن علي)، وعلي العريّض رئيس الحكومة عام 2013، ونور الدين البحيري وزير العدل الأسبق، وراشد الغنوشي زعيم حزب «حركة النهضة» (الإسلامي). ويضاف إلى هؤلاء عشرات من رفاقهم في «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة بينهم عصام الشابي الأمين العام لـ«الحزب الجمهوري»، والوزير المستشار السابق للرئيس الباجي قائد السبسي المحامي والحقوقي رضا بالحاج، والوزير السابق في عهد حكومة إلياس الفخفاخ الائتلافية الأكاديمي والحقوقي اليساري جوهر بن مبارك.

ووفق تقديرات المحامي والحقوقي اليساري العياشي الهمامي فإن المُحالين أمام قطب الإرهاب نوعان: بعضهم ساسة معارضون تتجه النية إلى إبعادهم نهائياً عن المشهد السياسي والعمليات الانتخابية المقبلة، والبعض الآخر شخصيات مالية سياسية ستدفع نحو القبول بـ«الصلح الجزائي» ودفع مبالغ متخلدة بذمتهم لمصالح الضرائب أو للبنوك والمؤسسات العمومية.

غزة وقانون المالية والسجناء السياسيون

وإذ تتابع مؤسسات الهيئة العليا للانتخابات ووزارتا الداخلية والدفاع الإعداد لتنظيم انتخابات المجالس المحلية يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل تمهيدا لاختيار أعضاء الغرفة الثانية للبرلمان، تكشف روزنامة عمل الحكومة ومجلس النواب والبنك المركزي أن الأولوية في المرحلة المقبلة ستكون أساسا مالية واقتصادية ومناقشة مشروع ميزانية الدولة لعام 2024.

وستنطلق هذا الأسبوع الجلسات العامة في البرلمان مع رئيس الحكومة ومختلف الوزراء وسط تباينات في تقييم مشروع قانون المالية الجديد بسبب اعتماده للعام الثاني على التوالي على فرض مزيد من الأداءات والضرائب والجباية لا على «أولوية خلق الثروة»، كما يقول الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي والزعيم النقابي نور الدين الطبوبي.

كما لا يخفي عدد من الساسة والزعماء النقابيين والناشطين، مثل زعيم «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة أحمد نجيب الشابي، امتعاضهم من استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المرحلة المقبلة. وحقاً، يعتبر الخبير الاقتصادي والنقابي عبد الجليل البدوي أن «مرحلة ما بعد حرب غزة قد تكون أصعب بكثير على الصعد الاقتصادية والسياسية والأمنية على تونس دولةً ونخباً ومجتمعاً». ومن ثم، طالب البدوي رجال الأعمال والحكومة بتقاسم التضحيات مع العمال، بعد التدهور الخطير للقدرة الشرائية وعجز الدولة عن توفير ما تحتاجه من موارد مالية بالعملات الأجنبية من السوق العالمية. لكن بعض الخبراء الأمنيين، كالأكاديمي نور الدين النيفر، يذهب إلى أبعد فيرجح أن «تُعاقَب تونس من قبل جهات صهيونية واستعمارية عالمية بسبب معارضتها القوية للعدوان على غزة ولكل مسارات التطبيع العربي الإسرائيلي»، على حد قوله.

كذلك لا يستبعد زعيم «حزب الشعب» العروبي زهير المغزاوي أن «تفتعل بعض الأطراف الخارجية أزمات أمنية جديدة للبلاد وللنخب السياسية الوطنية المعارضة للتطبيع مع إسرائيل»، بما في ذلك بعض الأزمات المالية والأمنية. وبذا ناشد عدد من المثقفين والسياسيين الرئيس التونسي «طي صفحة الماضي والتأهب للانتخابات المقبلة في مناخ انفراج سياسي». ودعا الإعلامي والحقوقي زياد الهاني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» الرئيس التونسي للحوار مع «القوى الحية» في البلاد و«دعم الجبهة الداخلية» والإفراج عن السجناء السياسيين غير المتورطين في الإرهاب. واعتبر الهاني أن «تحقيق مصالحة وطنية» هو أفضل رد على الأزمات الهيكلية الداخلية والتهديدات الأمنية الأجنبية لرموز الدولة الوطنية.

هذا الواقع يشكل تحدياً حقيقياً. فهل تنجح النخب التي تتصدر المشهد السياسي والاجتماعي الوطني في تجنب مزيد من المخاطر بما فيها «سيناريو» إرجاع تونس إلى مرحلة الاضطرابات الأمنية واستنزاف الطاقات في المعارك مع الإرهابيين والمتورّطين الكبار في مخالفات خطيرة مثل تجارة المخدرات والسلاح والجرائم الاقتصادية والمالية... أم لا؟

في كل الحالات ستعطي نسبة المشاركة في انتخابات ديسمبر المقبل فكرة عن موقف الغالبية الشعبية من المسار السياسي الحالي. وتأمل السلطات بارتفاع نسبة الإقبال على التصويت، فلا يكون بحدود 11 في المائة كما حصل بالنسبة لانتخابات مجلس النواب العام الماضي.

 



اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».