موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

رصد روسي لتحولات استراتيجية يتوقع مرحلة من الفوضى العالمية

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
TT

موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)

لم تكن موسكو في بداية الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية الجديدة، تتوقع أن تكتسب المواجهة الدموية المتفاقمة أبعاداً جيو - سياسية تلقي بثقل إضافي على التحولات الجارية في العالم، ومساعي بلورة ملامح نظام دولي جديد. إذ تراوحت التقديرات الروسية في البداية على أن المواجهة التي فجّرتها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لا تعدو كونها حلقة جديدة من الصراع المتواصل منذ عقود. غير أن تطورات المشهد المأساوي في غزة، وحجم الحشد الغربي الذي ألقى بثقله بالكامل خلف إسرائيل، عسكرياً وسياسياً، دفع إلى إعادة ترتيب حسابات الكرملين. لقد أعادت نيران الصراع المتجدد في الشرق الأوسط وفقاً لوجهات نظر روسية تقسيم العالم، وفي حين أن المعسكر الغربي توحّد مجدّداً بعد الحرب الأوكرانية خلف أهداف مشتركة، فإن الطرف الآخر المتمثل في روسيا والصين وجزء كبير من المجتمع الدولي ما زال لم يجد آليات مشتركة لمواجهة الوضع المتفاقم. ومع تلك الحسابات على الصعيد الخارجي، حملت بعض ردود الفعل الداخلية في روسيا المشغولة بأولوياتها الخاصة في أوكرانيا، مستوًى جديداً من التنبيه بخطر محدق. ورأت أوساط مقرّبة من الكرملين في حادثة اقتحام مطار محج قلعة عاصمة جمهورية داغستان الذاتية الحكم مؤشراً مقلقاً جديداً، يدل إلى مستوى تأثير الأحداث الخارجية على الوضع في البلاد. بل، وشكّل هذا العنصر السبب الأساسي وراء الربط غير المسبوق للكرملين بين حربي غزة وأوكرانيا.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أخيراً، إن بلاده تقاتل في أوكرانيا «مصدر الخطر» عليها وعلى الفلسطينيين. وصعّد لهجته ضد واشنطن على خلفية أعمال الشغب التي شهدتها، الأسبوع الماضي، جمهورية داغستان الذاتية الحكم في منطقة شمال القوقاز. كذلك، ربط الرئيس بوتين بين محاولات تأجيج الوضع الداخلي في روسيا بتحريض مباشر من الغرب والتطورات الدامية في فلسطين، وقال: إن «مساعدة الفلسطينيين تكون بمكافحة مَن يقف وراء هذه المأساة، وهم مَن تقاتلهم روسيا في إطار العملية العسكرية الخاصة» التي تخوضها في أوكرانيا.

جدير بالذكر، أن داغستان كانت قد شهدت أعمال شغب بعد اقتحام مطار العاصمة محج قلعة من جانب متظاهرين مناصرين لفلسطين، سعوا إلى منع دخول ركاب طائرة أقلت إسرائيليين من مزدوجي الجنسية. وبالفعل، سيطر المتظاهرون لساعات على المطار، قبل أن تعلن السلطات إطلاق عملية أمنية انتهت بعودة فتح المطار أمام الرحلات الدولية من دون أن يعلن عن اعتقالات وسط المهاجمين.

هذا الحادث أثار قلقاً واسعاً في روسيا، خصوصاً أن دعوات للعنف سبقته وفقاً لإعلان السلطات الداغستانية. ومن جهة أخرى، رأت الحكومة الروسية أن أجهزة غربية وأوكرانية وقفت وراء التحريض على العنف، وسط مخاوف من انتشار هذه الظاهرة إلى مناطق روسية تسكنها غالبية مسلمة. وعليه، دعا بوتين إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن، أكد خلاله أن بلاده تتصدى لخطر التحريض الخارجي ومحاولات استفزاز انقسام واسع في المجتمع الروسي.

لقد كان لافتاً تشديد الرئيس الروسي على أن جذور الاضطرابات الداغستانية «تنبع من المأساة التي تتكشف في فلسطين»، وأوضح أنه «حينما تنظر إلى الأطفال الملطخين بالدماء، والقتلى من الأطفال، وإلى معاناة النساء وكبار السن، وكيف يموت الأطباء، بالطبع تنقبض قبضات يدك وتنفجر الدموع في عينيك، ولا يمكن التعبير عن ذلك بأي طريقة أخرى (...) إلا أنه لا ينبغي، ولا حق لنا، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نسترشد بالعواطف». ومن وصل إلى النتيجة الرئيسية ومفادها أن روسيا «لا تشارك فقط في تشكيل عالم جديد، بل هي أحد قادة هذه العملية». وزاد: «إننا نقاتل من أجل مستقبلنا في ساحة المعركة. نحن نقاتل باستمرار ونفقد رفاقنا. إن وراء مأساة الفلسطينيين، ووراء الصراع في أوكرانيا، وفي أفغانستان وسوريا، تقف النخب الحاكمة في الولايات المتحدة. هؤلاء هم الذين يزرعون قواعد عسكرية في كل مكان، ويريدون تقسيمنا من الداخل».

لقطة من مهاجمة الطائرة الإسرائيلية في مطار العاصمة الداغستانية محج قلعة (آ ب)

مخاوف روسية داخلية

كشفت العبارات التي استخدمها الرئيس بوتين عن مستوى القلق الروسي من تفاقم الموقف، لا سيما، مع ربط ذلك باتهامات للغرب بمحاولة زعزعة الوضع في روسيا.

وعلى الرغم من أن اقتحام المطار شكّل تطوراً نوعياً في آليات التعبير عن الغضب، لكنه لا يُعدّ التحرك الوحيد الذي أقلق السلطات الروسية خلال الأيام الماضية. إذ أصدرت الإدارات الدينية لمسلمي روسيا نداءات متواصلة مطالبة بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني، كما دخل بعضها على خط إطلاق حملة واسعة لمقاطعة البضائع التي يدعم منتجوها إسرائيل. وكذلك، حفلت صفحات مسلمين روس على وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات للتحرك من أجل حماية الفلسطينيين. لكن التطوّر الأبرز كان توجيه رسائل حادة جداً من رئيس الشيشان رمضان قديروف، الذي يحظى بنفوذ واسع في منطقة شمال القوقاز ذات الغالبية السكانية المسلمة. وكان قديروف قد قال: إن «الفاشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ليست أقل من فاشية هتلر، وربما تفوقها». وأعلن، من ثم، عن استعداده لإرسال «قوات تفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتأمين حماية الشعب الفلسطيني». وعلى الأثر، وجد الكرملين نفسه مضطراً إلى الرد بسرعة على هذه التصريحات؛ إذ قال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف: إن «لدى روسيا علاقات تاريخية طويلة الأمد مع الطرفين وتسعى إلى المحافظة على توازن علاقاتها».

في كل الأحوال، شكّل هذا التطور علامة فارقة في مستوى التحركات الداخلية المتوقعة كرد فعل على أحداث تجري في خارج البلاد. وللعلم، يُعد اقتحام المطار من حيث خطورته على استقرار الوضع الداخلي واحداً من التطورات الأبرز في روسيا، بعد منعطفي تمرّد مجموعة «فاغنر» في مايو (أيار) الماضي، وحملات النزوح الجماعية للشبان مع إطلاق عملية التعبئة العسكرية في مطلع العام.

هذا الأمر دفع السلطات إلى إبداء مستوى زائد من القلق على انعكاسات هذا المزاج على المستوى الداخلي الروسي. وأعلن الكرملين، أن أعمال الشغب التي شهدها مطار داغستان الروسية سوف يجري تحليلها عن كثب لمنع تكرارها. وبعد ذلك مباشرةً، بدأت تتردد معطيات حول توجيه تعليمات صارمة في الأقاليم، وخصوصاً تلك ذات الغالبية السكانية المسلمة بمنع وقوع أحداث مشابهة. وأيضاً وجّه بوتين، خلال ترؤسه مجلس الأمن الروسي الاستخبارات والسلطات الأمنية والمحلية، بالتصرف بحزم وفي الوقت المناسب لحماية النظام الدستوري والحفاظ على حقوق وحريات المواطنين، وحماية السلم الأهلي والديني في روسيا.

... والبعد الخارجيفي الواقع، كانت موسكو قد سعت إلى إظهار تميز موقفها عن الغرب، عندما استقبلت وفداً من حركة «حماس» بشكل رسمي. وبرّر سياسيون روس الزيارة التي كانت استعراضية أكثر من أن يكون لها بُعد سياسي مهم يحشد موقفاً روسياً جديداً، وذلك عبر الحديث عن أن موسكو «منفتحة على الأطراف ويمكن أن يساعدها ذلك في لعب دور وساطة».

وفي هذا الشأن، صحيح أن كثيرين في روسيا وإسرائيل يشككون في قدرة موسكو حالياً، على لعب دور للوساطة، وبخاصة، على خلفية المواجهة المتفاقمة مع الغرب واتساع الهوة بين تل أبيب وموسكو على خلفية مواقف إسرائيل من الحرب الأوكرانية، لكن هذين الأمرين لا يمنعان - من وجهة النظر الروسية - من العمل على هذا المسار الذي يعزّز النفوذ الروسي ويشكل مؤشراً إضافياً على فشل سياسة عزل موسكو.

منطلقات روسية

هنا، لا بد من التوقف عند منطلقات الموقف الروسي حيال الحرب الجارية، وأسباب تبني موسكو مواقف وُصفت في إسرائيل بأنها عدائية.

يقول خبراء: إن السبب الرئيسي هو أن موسكو تستفيد حالياً من صرف الانتباه عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن الارتباك الغربي الحاصل على صعيد توزيع الجهد في إمداد إسرائيل وأوكرانيا بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية والموازنات المالية الكبرى.

بعبارة أخرى، فإن بعض المجتمعات الغربية - وخصوصاً في أوروبا - سوف تبدأ بطرح تساؤلات حول الجدوى من استمرار دعم أوكرانيا بالسلاح والمال. وهذا ما أظهره، مثلاً، فشل الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق حول الموضوع أخيراً. أضف إلى ما سبق، أن تركيز العالم كله على إسرائيل وقطاع غزة، يمنح روسيا حرية أوسع للتصرف. وهنا، على سبيل المثال، نجحت روسيا في التخلي عن معاهدة حظر التجارب النووية بهدوء نسبي. وبالإضافة إلى ذلك، حصلت روسيا على فرصة لتنشيط دبلوماسيتها، والانفتاح بشكل أنشط على الأطراف الدولية ومنظمات المجتمع الدولي؛ ما يعني تقويض المحاولات الغربية لعزلها. وهذا ظهر أخيراً في النشاط الزائد لموسكو في مجلس الأمن وفي الاتصالات مع الأطراف المختلفة.

ومن جانب، آخر، وإن كان صحيحاً القول بصعوبة تصوّر أن تقبل القيادة الإسرائيلية بوساطة روسية في الحرب الجارية، فإن هذا لا يمنع موسكو من مراكمة فوائد بسبب الوضع الحالي.

اتساع الهوة مع إسرائيل

في سياق متصل، فإن تركيز بعض الخبراء على فكرة «الفوائد الروسية» من الصراع المتفاقم، لا يعكس وحده منطلقات الموقف الروسي من الصراع الحالي. إذ لا بد من ملاحظة مستوى الانزلاق الذي وصلت إليه العلاقات بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة، على خلفية المواقف الإسرائيلية من الحرب الأوكرانية. وهنا يدخل عاملان رئيسيان على خط السجالات:

الأول، العلاقة الروسية - الإيرانية التي وصلت مستويات من التنسيق والتحالف، جعلت محللين إسرائيليين يتحدثون عن مواجهة «محور يضم روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وبلداناً أخرى كثيرة».

والآخر، يتعلق بتبلور رؤية روسية جديدة للتحالفات على خلفية الصراع المتفاقم مع الغرب؛ ما يعني أن موسكو بدأت تدريجياً تفقد اهتمامها ببناء توازنات صعبة مثل تلك التي بنتها منذ حلول قواتها العسكرية في سوريا.

على هذه الخلفية، من الصعب توقع تراجع موسكو عن مواقفها المعلنة. ذلك أنه من الناحية الجيو - سياسية ترى موسكو أن المواجهة الكبرى الحالية مع المخاوف من اتساع رقعتها وتحولها، كما قال بوتين، إلى «حرب إقليمية» تشكل فرصة مواتية لتعزيز التحركات الروسية على صعيد بلورة ملامح «نظام دولي جديد» دعت إليه مراراً موسكو وبكين. وفي هذا الإطار، يُنتظَر أن تواصل موسكو نشاطها السابق في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يهدف إلى تشكيل أوسع جبهة ممكنة معارضة للحرب. وبالأخص، أن إيقاف الحرب من دون تحقيق هدف تغيير الخرائط في المنطقة، سيؤدي إلى إضعاف نفوذ وتأثير واشنطن الإقليمي من وجهة النظر الروسية. وعلى صعيد موازٍ، صحيح أنه لن يكون بمقدور موسكو تجديد الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام أو طرح مبادرات كبرى - لأنها لن تكون وسيطاً مقبولاً من جانب الغرب - لكنها تظل قادرة على دعم مبادرات عدة قد تصدر من جهات مختلفة. وهنا يبرز مثال الدعوة الصينية لعقد مؤتمر للسلام. وأيضاً، بمقدور موسكو تحفيز مجموعات إقليمية عدة، بينها المجموعة العربية، لطرح آليات مختلفة عبر الجمعية العامة أو مجلس الأمن.

في مطلق الأحوال، ترى موسكو في الحرب الجارية مؤشراً إلى اتساع المأزق الغربي في التعامل مع الأزمات الإقليمية، وفرصة لتجديد حضورها المؤثر في هذه الأزمات. ومع أنها هنا قد لا تكون قادرة على القيام بمبادرة مباشرة لوحدها في ظل غياب أو تريث معسكر الحلفاء عن تقديم رؤية كاملة، من المرجح أن تقف موسكو بقوة خلف أي خطوات قد تقترحها الصين.

رمضان قديروف (آ ب)

«حرب غزة»... هل هي بداية تحولات استراتيجية؟

> يرى خبراء روس أن الحرب في فلسطين حالياً باتت تشكل المرحلة التالية من إعادة ترتيب النظام العالمي الجديد. وكتب الخبير فيودور لوكيانوف، أن «هذه العملية التي بدأت في مطلع القرن، اتخذت بُعداً جديداً، بعدما كانت القناعة قد سادت بأن جوهرها قد تحدد بنهاية المواجهة العسكرية الآيديولوجية العالمية في القرن العشرين. وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الصراعات الإقليمية عكست الفشل في تسريع وتيرة بناء النظام الدولي الجديد، كما أن كثرة التناقضات في العالم أدت إلى تراكم التوتر وتحول الصراعات المجمدة إلى صراعات ساخنة».

لقد بدأت الحروب في منطقتي جنوب القوقاز وأوروبا الشرقية، والآن في الشرق الأوسط، تشهد - وفقاً للخبير الروسي - «مرحلة الدعم العسكري المفتوح للتحولات السياسية والاقتصادية العالمية». وهنا يلاحظ لوكيانوف، أن «نظام العلاقات، الذي تأسس مع اختفاء الاتحاد السوفياتي وسيطرة القطب الواحد، لم يكن قادراً في نهاية المطاف على نزع فتيل «الألغام» القديمة أو عزلها من أجل الحد من تأثير التفجير. وللأسف، هناك عدد غير قليل من براميل البارود من هذا النوع منتشرة حول العالم، والأمل ضئيل في أن يقتصر الأمر على الانفجارات التي حدثت بالفعل».

وانطلاقاً من هذا الفهم، يرى خبراء روس، أن «حرب غزة 2023» لن تحل القضية الفلسطينية التي لا توجد بعد آليات لحل نهائي لها، لكنها أصبحت بالفعل «علامة فارقة في السياسة العالمية». ولتوضيح هذه الفكرة؛ كتب موقع «روسيا في السياسة العالمية»: إنه «من ناحية، هناك مجموعة من البلدان القريبة ثقافياً وتاريخياً والتي تقاتل، من أجل منع إعادة النظر في نتائج الحرب الباردة. وفي هذا الصدد، يهدف الغرب إلى تحقيق أقصى قدر من التوحيد ومواجهة الاتجاهات غير المواتية له. لكن الأمر اللافت هو أن مهمة الدمج ليست خارجية فحسب، بل داخلية أيضاً. إذ يتزايد عدد التناقضات الاجتماعية والسياسية داخل دول المجتمع الغربي. ما يؤسس لزيادة الحاجة إلى ظهور تهديد موحد من الخارج. لكن من المرغوب فيه ألا يكون هذا التهديد مفرطاً».

ويمضي الموقع «وهذا أمر مفهوم أيضاً - فغالبية المجتمعات لا تريد خوض حروب مباشرة سواء في أوروبا أو في أميركا. ومن هنا يأتي وفقاً لمجتمع الخبراء الروس، الشعار الثابت الذي يعبّر عنه الأميركيون بشكل أكثر صراحة، ويعبّر عنه الأوروبيون بشكل مستتر، بأن مساعدة الطرف المتحالف معهم المتحارب (أوكرانيا، والآن إسرائيل على ما يبدو) تشكل استثماراً مربحاً. وبهذا المعنى، يظل الغرب المجموعة الوحيدة من الدول التي لديها نظام فعّال للتبعية. وعلى رأس هذا التسلسل الهرمي تأتي الولايات المتحدة، التي عزّزت الآن هيمنتها. ولكن على وجه التحديد داخل القطب».

في المقابل، وفق الموقع الروسي، «فإن ممثلي بقية العالم لا تجد آليات للانخراط في شكل موحّد في مواجهة الغرب. ولذا ينجح الغرب بطرح آليات مؤقتة لتحقيق توازنات على المستوى الإقليمي مثلاً تحظى بقبول من جانب الأطراف التي لا تجد آليات أخرى لمواجهة التحديات الناشئة». ومن ثم، يرى الخبراء الروس أن هذا هو شكل النظام الدولي الحالي، وأن هذا المسار قد يمر بفترة انتقالية طويلة نسبياً. وهذا يعني أن على روسيا «الاستعداد لتحوّلات وانفجارات عدة في مناطق كثيرة في العالم».


مقالات ذات صلة

زيلينسكي سيطرح «خطة النصر» في اجتماع الحلفاء الأسبوع المقبل

أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب)

زيلينسكي سيطرح «خطة النصر» في اجتماع الحلفاء الأسبوع المقبل

أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اليوم (السبت) أن بلاده ستطرح «خطة النصر» في اجتماع دوري لحلفائها في رامشتاين بألمانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا انفجار في السماء خلال هجوم روسي بطائرة مسيّرة على كييف (رويترز)

إعلانات روسية أوكرانية متبادلة باستهداف بنى تحتية حيوية

كييف تعلن عن هجوم بمسيرات ونشوب حرائق في مستودعات وقود روسية وعن إسقاط 19 طائرة مهاجمة

«الشرق الأوسط» (موسكو) «الشرق الأوسط» (كييف)
يوميات الشرق المراهقة تواجه تهمة القتل غير العمد وهي حالياً قيد الاحتجاز الوقائي (رويترز)

صدمة في الرأس وكدمات ونزيف... مراهقة عائدة من أوكرانيا تضرب جدتها حتى الموت

وُجهت اتهامات لفتاة أوكرانية تبلغ من العمر 14 عاماً انتقلت مؤخراً إلى ولاية فلوريدا الأميركية بصفتها شخصاً بالغاً بعدما ضربت جدتها البالغة من العمر 79 عاماً حتى

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا جنود مسلحون ينتظرون بالقرب من مركبات للجيش الروسي خارج نقطة حرس الحدود الأوكرانية في مدينة بالاكلافا بشبه جزيرة القرم يوم 1 مارس 2014 (رويترز)

أوكرانيا تحضّ محكمة دولية على إصدار أمر لروسيا بتفكيك جسر في القرم

حضّت أوكرانيا الخميس أقدم محكمة تحكيم في العالم على إصدار أمر لروسيا بتفكيك الجسر الذي بنته لربط القرم بالبر الرئيسي الروسي.

«الشرق الأوسط» (لاهاي)
أوروبا مبنى الكرملين في موسكو (رويترز)

 روسيا: المواجهة الحالية مع الغرب لم يسبق لها مثيل في التاريخ

قال دبلوماسي روسي كبير اليوم الخميس إن المواجهة الحالية بين بلاده والغرب بشأن أوكرانيا لم يسبق لها مثيل في التاريخ وإن أي خطأ قد يؤدي إلى كارثة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان
TT

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان

لا يُعد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي سيبلغ السبعين من العمر الأحد المقبل، من ساسة الرعيل الأول الذين شاركوا في ثورة الخميني عام 1979 أو قادة الأحزاب السياسية، بما في ذلك التيار الإصلاحي، الذي ينتمي إليه. ثم إنه ليس من المحسوبين على الجهازين الأمني والعسكري، رغم حضوره في المشهد السياسي الإيراني، وتدرجه البطيء في المناصب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وكان بزشكيان، الذي أطل على العالم بالأمس من منبر «الأمم المتحدة»، قد فاز في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية المبكرة مدعوماً من الإصلاحيين، وفيها تغلب على المرشح المحافظ المتشدد سعيد جليلي، وحصل على أقل عدد من أصوات الناخبين بعد ثورة 1979، نظراً للمقاطعة التي وصلت إلى مستويات قياسية rnغير مسبوقة.

ولد مسعود بزشكيان في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، لأب آذري تركي وأم كردية في مدينة مهاباد، بمحافظة أذربيجان الغربية، ثم انتقل إلى مدينة أورمية حيث أكمل دراسته الثانوية. والتحق بالتجنيد الإلزامي وأمضى سنتين في محافظة بلوشستان بجنوب شرقي البلاد، قبل أن ينتقل إلى طهران لدراسة الطب، وهناك توقفت دراسته في السنة الأولى بسبب أحداث الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. وخلال سنتين من تعطل الجامعات الإيرانية بسبب ما يعرف بـ«الثورة الثقافية»، تزوّج بزشكيان ورزق بـ4 أبناء، لكنه فقد زوجته وأحد أبنائه في حادث سير مؤلم في 1993، ورفض الزواج ثانية.

الحرب العراقية الإيرانية

تزامنت عودة بزشكيان للدراسة في السنة الجامعية الثانية مع بداية الحرب الإيرانية - العراقية، وكذلك المعارك بين «الحرس الثوري» والأحزاب الكردية المعارضة. وانضم إلى الطاقم الطبي في جبهات الحرب، بمحافظة كردستان، قبل أن يتوجه جنوباً إلى مدينة عبادان التي شهدت معارك شرسة وأصبح مسؤولاً عن الفرق الطبية في جبهات الحرب. وبعد سنوات قليلة، عاد لإكمال دراسته في 1985.

ساهم سجلّ الرجل في جبهات الحرب بتسهيل مشواره العلمي، مستفيداً من الامتيازات الخاصة التي تمنحها السلطات للعسكريين في الحرب. وبالفعل، حصل عام 1990 على شهادة الاختصاص في الجراحة العامة، واستغرق الأمر 3 سنوات لحصوله على الاختصاص في جراحة القلب. ومن ثم، التحق بمستشفى أمراض القلب في مدينة تبريز، وأصبح رئيساً له، وصار أستاذاً جامعياً بقسم القلب والشرايين في جامعة تبريز للعلوم الطبية، لكنه لم يُقبل في المجمع الطبي الإيراني إلا عام 2010.

المسار السياسي

أداء بزشكيان المهني، وخصوصاً رئاسة جامعة العلوم الطبية في تبريز، أسهم بشقّ طريق جراح القلب الناجح، نحو المناصب السياسية، فصار نائباً لوزير الصحة في حكومة الإصلاحي محمد خاتمي الأولى. وبعد فوز خاتمي، بفترة رئاسية ثانية عام 2001، تولى منصب وزير الصحة وبقي في المنصب لنهاية فترة خاتمي عام 2005.

خاتمي وصف بزشكيان عندما قدّمه إلى البرلمان بأنه «قوي التصميم وعلمي وحازم» وأن «اختياره جاء بسبب التزامه وإيمانه وإدارته المقبولة خلال السنوات الماضية». ومنذ دخوله الوزارة كان من صفاته البارزة أنه «عفوي وصادق، ويتحلى بالتواضع وروح الخدمة»، لكن بعد سنتين كاد يفقد منصبه، إثر استجوابه في البرلمان بسبب زياراته الخارجية وقفزة أسعار الخدمات الطبية والأدوية، وهي من المشاكل التي رآها الإصلاحيون متجذرة في المؤسسة الطبية الإيرانية. كذلك، اهتزت صورته وزيراً بعض الشيء بعد قضية المصوّرة الصحافية الكندية - الإيرانية زهراء كاظمي، التي توفيت في ظروف غامضة داخل سجن إيفين عام 2003 بعد 17 يوماً من اعتقالها، وذلك بسبب تقرير قدّمه عن أسباب الوفاة.

تجربة برلمانية غنية

بزشكيان ترشّح للانتخابات البرلمانية عن مدينة تبريز (كبرى المدن الآذرية في إيران) بعد سنتين من انتهاء مهمته الوزارية، وفاز ليغدو نائباً في البرلمان الثامن. وأعيد انتخابه في البرلمانات التاسع والعاشر والحادي عشر. ثم ترشح للمرة الخامسة في الانتخابات البرلمانية، قبل أن يترشح للرئاسة في الانتخابات المبكرة إثر مقتل الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة خلال مايو (أيار) الماضي.

هذا، ورغم اعتباره نائباً إصلاحياً عبر 5 دورات برلمانية، نأى بزشكيان بنفسه عن المواجهات الحادة بين الإصلاحيين والسلطة، وخصوصاً بعد الصدام الكبير في أعقاب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 2009، ورفض المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي الاعتراف بنتائج الانتخابات. وباستثناء حالات نادرة، فإن مواقفه لم تتعارض كثيراً مع النواب المعروفين بولائهم الشديد للمرشد الإيراني علي خامنئي، ومن ثم تحوّل تدريجياً إلى أحد النواب الأكثر نفوذاً في البرلمان.

الاتفاق النووي

تزامن إعادة انتخاب بزشكيان في البرلمان العاشر، مع حكومة حسن روحاني والتوصّل للاتفاق النووي. ويومذاك حصد الإصلاحيون غالبية المقاعد في العاصمة طهران وشكّلوا كتلة باسم «الأمل»، وحصل بزشكيان على الأصوات المطلوبة لتولي منصب نائب الرئيس الأول، لمدة 3 سنوات متتالية. وكان رئيس كتلة، نائبه الأول حالياً، محمد رضا عارف.

إجمالاً، دعم الرجل الاتفاق النووي قبل وبعد توقيعه في 2015، وأيضاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وعدّه السبيل الضروري لحل مشاكل إيران الاقتصادية والسياسية الناتجة عن العقوبات والعزلة الدولية، وآمن بأن الاتفاق «فرصة تاريخية» للعودة إلى الاقتصاد الدولي. كذلك أيّد بقوة قبول إيران قواعد «قوة مهمات العمل المالي» (فاتف)، المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وحينها، اقترح أن يقصر «الحرس الثوري» أنشطته المالية مع بنوك تابعة له للالتفاف على قوانين «فاتف»، منتقداً تدخل «الحرس» في بعض المجالات الاقتصادية. وفي المقابل، أشاد أكثر من مرة بدور الجهاز العسكري في الأمن الإيراني، ورأى أن البلاد لا يمكن أن تستمر من دون «الحرس الثوري»، ودعا إلى التركيز على هذا الدور، وارتدى الزي الرسمي لـ«الحرس الثوري» كغيره من النواب بعدما صنّفت الولايات المتحدة «الحرس» منظمة إرهابية. وبخلاف بعض النواب الإصلاحيين، كان بزشكيان من المؤيدين للتعاون العسكري الإيراني - الروسي في سوريا.

مع الإصغاء للناسإبان الاحتجاجات التي هزّت إيران أعوام 2017، و2019، و2021، كان بزشكيان جريئاً في طرح المشاكل، منتقداً تجاهل مطالب الشعب، خصوصاً حل الأزمة المعيشية. وأكد على ضرورة الاستماع إلى صوت الناس والاستجابة لاحتياجاتهم. ورأى أن قمع الاحتجاجات وحده ليس الحل، بل يجب معالجة الأسباب الجذرية للاستياء العام، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والبطالة والتمييز. وأشار مراراً إلى أن الفساد الإداري على مختلف المستويات قد فاقم الأزمات.

وبشكل عام، يؤمن بزشكيان بالحوار الوطني والإصلاحات التدريجية من خلال الآليات القانونية والسياسية، ومع التأكيد على احترام الحقوق المدنية، فإنه يسعى إلى إيجاد حلول سلمية للأزمات الداخلية. وحقاً، انتقد عدة مرات غياب لغة الحوار في الداخل الإيراني، لكنه نأى بنفسه عن الدعوات الإصلاحية لإجراء استفتاء لحل القضايا العالقة، ولا سيما السياسة الخارجية، ومنها تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

رئاسته وتحدياته

مواقف وقاموس بزشكيان النائب لا تختلف اليوم عن تطلعات بزشكيان الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، مع استبعاد أن يؤدي انتخابه إلى تغيير في موازين القوى بإيران. ويُذكر أن انتخابه أتى بعد 3 سنوات من رفض طلبه الترشّح للانتخابات الرئاسية في 2021، «لعدم أهليته السياسية» حسب «مجلس صيانة الدستور» حينذاك.

هذا، وكان قد ترشح لأول مرة لانتخابات الرئاسة عام 2013، لكنه انسحب لصالح حسن روحاني. ولكن في المرة الأخيرة، حصل على موافقة «مجلس صيانة الدستور»، في خطوة مفاجئة. وأدى القسم الدستورية يوم 27 مايو بعد أسبوع من مقتل رئيسي. وبعد 63 يوماً، وقف أمام البرلمان (30 يوليو - تموز) لأداء القسم رئيساً للجمهورية.

التوازن بين الولاء والإصلاح

حاول بزشكيان سواء في الانتخابات الرئاسية أو بعد تشكيل الحكومة، تقديم نفسه على أنه يؤمن بالحوار الداخلي، ويدافع عن حقوق المرأة، وعبّر عن انتقاد واضح للتدخلات الحكومية في الحياة الشخصية، والسياسات القمعية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وتعهّد أيضاً بإخراج إيران من العزلة الدولية، ورفع العقوبات عبر حلّ الأزمة النووية مع الغرب، كما تعهد بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وإعادة انخراط شبكة البنوك الإيرانية بالأسواق المالية العالمية، عبر قبول قواعد «فاتف». وأظهرت مواقفه أنه يتبنى نهجاً متوازناً يعتمد على الدبلوماسية لتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات. وفي المقابل، دأب على انتقاد السياسات القائمة على الشعارات التي لا تقدم حلولاً عملية.

لكن بزشكيان واجه انتقادات بأنه لم يقدم حتى الآن أي برنامج أو حلول للقضايا التي أثارها في الانتخابات الرئاسية. ورداً على الانتقادات، تعهد بتعزيز موقع الخبراء في فريقه التنفيذي، وأن يكون أداء حكومته متماشياً مع رؤية خطة التنمية السابعة، وهو برنامج لـ5 سنوات يغطي المجالات كافة، أقرّه البرلمان العام الماضي.

من جهة ثانية، خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه، حرص بزشكيان على إظهار تواضع كبير، سواء في مظهره أو خطابه المعتدل. وحاول تعزيز صورته رئيساً من خلال تبنيه للبساطة والابتعاد عن المغالاة في وعوده، ما يجعل أسلوبه مختلفاً عن كثير من السياسيين الإيرانيين الذين يفضلون التوجهات النخبوية أو الثورية.

أيضاً، اتخذ بزشكيان من «الوفاق الوطني» شعاراً لحكومته، وحذّر من خلافات داخلية تعرقل التآزر الوطني، حتى بعد انتخابه واصل التحذير من عواقب الخلافات على الاستقرار الداخلي، إذ يرى أن الصراعات الداخلية ستقود البلاد إلى مزيد من الفقر والمعاناة تحت العقوبات.

في أي حال، يواجه بزشكيان تحديات داخلية كبيرة، لأن المعسكر الإصلاحي المهمش يسعى لاستعادة تأثيره في الحياة السياسية، رغم خيبة الأمل الشعبية من الإصلاحيين بعد فترات حكمهم السابقة. وهو حتى الآن يدفع باتجاه التوازن بين الولاء الشديد للمرشد علي خامنئي ودعواته للتغيير والإصلاح. وبينما يظهر تمسكاً شديداً بمسار المؤسسة الحاكمة، ويؤكد أهمية المرشد ودوره، يزعم تبني أجندة إصلاحية تهدف إلى معالجة الفجوة بين الشعب والحكام، ما يعكس رغبته في التغيير ضمن إطار النظام الحالي، لا عبر مواجهته المباشرة.

هذه الازدواجية من رئيس يدرك حدود صلاحيات الرئاسة، تحت حكم المرشد، تعكس استراتيجيته للبقاء في المشهد السياسي الإيراني. ومن ثم إحداث تغييرات تدريجية، من دون التعرض للمصالح الاستراتيجية الأساسية التي تسيطر عليها السلطة العليا في إيران.