مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

الجمهوريون المعتدلون انضموا للمتشددين بعدما سئموا من المشاحنات والخلل الوظيفي

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة
TT

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

عد انتخاب النائب الجمهوري اليميني المتشدد، مايك جونسون، رئيسا لمجلس النواب الأميركي، مفاجأة لم يكن يتوقعها، حتى الديمقراطيون أنفسهم. وكان هؤلاء قد شاركوا عمداً في جهود حفنة من النواب الجمهوريين اليمينيين المتشددين، في عزل رئيس المجلس السابق كيفن مكارثي، قبل شهر. كان الديمقراطيون يعتقدون أن من شأن استمرار تعطيل المجلس تعميق انقسامات الجمهوريين وإظهار ضعفهم ويحولهم إلى أضحوكة أمام قاعدتهم والرأي العام الأوسع. ومن ثم، تحميلهم المسؤولية عن إبقاء ثالث أرفع منصب سياسي في البلاد في حالة شغور غير مسبوقة، تمهيدا لإعادة سيطرتهم على المجلس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. لكن الجمهوريين تمكنوا من تجاوز انقساماتهم، بعد 3 جولات انتخابية فاشلة، أطاحت برموز وازنة في حزبهم، ليستسلم مؤتمرهم ويوافق على انتخاب يميني «هادئ» وقيادي من الدرجة السابعة، ليصبح فجأة رقم 2 في خط الخلافة الرئاسية، بعد نائب الرئيس. الكرة أضحت الآن في ملعب الديمقراطيين، عليهم الخروج من مأزقهم في ظل رهانات سياسية خاطئة تتعلق بتقديراتهم لقوة التيار اليميني الذي يواصل صعوده في البلاد.

خلال صيف عام 2012، قال الرئيس الأميركي الديمقراطي باراك أوباما لمؤيديه، إنه إذا فاز بالبيت الأبيض مرة أخرى، فإن ذلك «سيكسر الحمّى اليمينية» بين الجمهوريين. ولكن، بدلا من ذلك، بعد خسارة المرشح الجمهوري المعتدل ميت رومني سباق الرئاسة أمامه، تبنى الحزب نسخة أكثر تشدداً عبر ترشيح دونالد ترمب في عامي 2016 و2020. وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2020، قال جو بايدن إنه مع رحيل ترمب، يأمل أن يتمكّن الحزب الجمهوري هذه المرة من كسر هذه «الحمى» أخيراً. لكن الحزب الجمهوري ذهب هذه المرة إلى عمق أكبر، حيث أشاد بمحاولة الرئيس السابق الفاشلة للبقاء في منصبه، ودافع عنه مرارا وتكرارا. وها هو اليوم، ينتخب مايك جونسون، أحد أكبر المُنكرين لنتائج انتخابات 2020، الذي كتب بنفسه المذكرة التي رفعت إلى المحكمة العليا لدعم مراجعة تلك الانتخابات.

الأمر إذاً ليس حمّى بقدر ما هو مسار، لا يزال الحزب الجمهوري يختطّه في عملية انزياح نحو اليمين، بعدما كان يُعد حزب الدفاع عن التقاليد والاستقرار السياسي. فاليوم، لا يوجد أي سبب للاعتقاد بأنه سيعود إلى ما كان عليه، مع انتخاب جونسون. فكيف تمكن هذا الرجل «المغمور»، الذي بالكاد كان معروفاً داخل الولايات المتحدة نفسها بحسب صحيفة «بوليتيكو»، ويجهد الدبلوماسيين الأجانب في واشنطن والعواصم الأجنبية للبحث عنه في محرك البحث «غوغل»؟

المتشدّدون حصلوا على رجُلهم عملياً،

حصل المتشدّدون الجمهوريون في النهاية على رجلهم، رغم أنه لم يكن هو الشخص الأكثر تطرفاً الذي كان خيارهم الأول. وقال النائب اليميني، ماثيو غايتس، الذي قاد عملية إقصاء مكارثي، لصحيفة «وول ستريت جورنال» في هذا الصدد «أعتقد أن التاريخ سيقيّم الأسابيع الثلاثة (المدة التي بقي فيها المجلس من دون رئيس) باعتبارها الأسابيع الأكثر إنتاجية للكونغرس الـ118، لأنه لدينا الآن رجل وخطة».

ثم إنه إذا كان الجمهوريون المعتدلون هم من أسقطوا النائب جيم جوردان، الأب الروحي لليمين المتطرف - ويرجع ذلك جزئياً إلى اعتراضهم على دوره في محاولة إلغاء انتخابات 2020 - فلماذا إذاً انضموا إلى التيار اليميني لصالح جونسون، الذي كتب المذكرة إلى المحكمة العليا لإلغائها؟

يقول البعض إن المعتدلين، نظراً لأعدادهم المحدودة، «لم يروا أي طريق آخر للخروج من الاضطرابات التي يشهدها حزبهم، بعدما سئموا من المشاحنات والخلل الوظيفي وأرادوا العودة إلى العمل». ومع ذلك، بدا من الضروري مراجعة المسار الذي أدى في النهاية إلى صعود جونسون، الذي لم يكن يحظى بشهرة وطنية، ليظهر في نهاية المطاف، المرشح الرئيسي لمنصب رئيس البرلمان. وما يستحق الذكر هنا، أنه حتى السيناتورة الجمهورية المعتدلة المخضرمة سوزان كولينز، قالت إنها اضطرت للبحث عنه على موقع غوغل.

أكثر من هذا، بجانب كون جونسون عضواً «من الدرجة الثانية» في قيادة مجلس النواب، إذ انتخب لأول مرة عام 2016، فهو يعد أيضاً المشرّع الأكثر غموضاً الذي وصل إلى رئاسة المجلس منذ انتزع المنصب النائب السابق دينيس هاسترت، الذي جاء من المقاعد الخلفية عام 1998، خلفا لنيوت غينغريتش، بعد تغلبه على توم ديلاي، الذي كان يعد نسخة جيم جوردان في ذلك الوقت. فكيف أصبح هذا الغموض المحيط بالرجل ميزة بالنسبة له؟

أعداء جونسون قليلون

جونسون، على عكس المرشحين الثلاثة الفاشلين لمنصب رئيس مجلس النواب الذين سبقوه، لديه عدد قليل من الأعداء بين الجمهوريين في مجلس النواب. ووفق كتابات عدة، فإن السمة المميّزة له هي «الجمع بين وجهات نظره المتشددة والأسلوب الشخصي اللطيف». غير أن طبيعة جونسون اللطيفة لا تعني أنه مرشح يحظى بالإجماع. وهذا ما حصل في الواقع، حين خسر تصويت الحزب أمام توم أيمير، الذي استقال بعد 4 ساعات فقط، ليحظى لاحقاً بشبه إجماع ويصبح الرئيس الـ56 لمجلس النواب.

في الحقيقة، مايك جونسون ليس معتدلاً ولا مؤسساتياً بل هو العكس تماماً. إنه أحد «تلامذة» جوردان، الآتي من الجناح اليميني المتشدد المناهض للمؤسساتية في الحزب الجمهوري والكونغرس. ومع أنه لم يكن عضواً في «تجمّع الحرية» الذي يرأسه جوردان، إلا أنه قاد لجنة الدراسة الجمهورية التي جعلت مقولة «أن أي دولار يُنفَق على الضمان الاجتماعي هو إنفاق أكثر من اللازم» شعارا لعملها ضد دور الحكومة.

أيضاً، عدّ الكثير من وسائل الإعلام انتخاب جونسون «حدثاً تاريخياً»، وتوقعت أنه قد يكون رئيس المجلس الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة. بيد أن وقائع عدة تظهر أن صعوده لم يأت مصادفةً، بل كان تتويجاً لسلسلة متعمّدة من التحركات التي مكّنته من وضع نفسه في موضع قوة أكبر. ذلك أنه - مثلاً - يعارض حقوق الإجهاض وزواج المثليين، كما أنه لم يعارض أبداً «قاعدة» الحزب الجمهوري... وفي الوقت نفسه، كان يبني صدقيته باعتباره من الموالين لترمب. ومما قاله لصحيفة «الديلي بيست» عام 2018 إنه سعى جاهداً للحفاظ على العلاقات مع كل من «تجمع الحرية» وقيادة الحزب. واستمرت هذه التوجّهات مع تحرك المتشددين ضد سلفه رئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي، إذ صوّت جونسون ضد تمويل أوكرانيا والإنفاق المؤقت في 30 سبتمبر (أيلول)، وأيد صفقة مكارثي مع الديمقراطيين للحد من الديون، مما منحه المصداقية كلاعب جماعي. وفيما وصفته حملة الرئيس بايدن لعام 2024 بأنه «ماغا مايك» (شعار ترمب اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، قال عنه ترمب بأنه «سيقوم بعمل رائع».

من هو جونسون؟

نشأ مايكل «مايك» جونسون، (51 سنة) في مدينة شريفيبورت بولاية لويزيانا. وكان والده رجل إطفاء كاد أن يُقتل عام 1984 في انفجار مصنع أدى إلى إعاقته. وقال جونسون لصحيفة مسقط رأسه لاحقاً «لقد غيّرت هذه الحادثة مسار حياة عائلتنا». وذكر أنه كان يحلم بأن يصبح رجل إطفاء، إلا أنه بدلاً من ذلك التحق بجامعة ولاية لويزيانا وأصبح محامياً دستورياً.

ثم إنه قال في خطابه بعيد انتخابه رئيساً لمجلس النواب بشيء من الاعتزاز «أنا أول خريج جامعي في عائلتي»، وفي حينه، سجلت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنه «بدا لطيفاً وخفيف الظل وذكياً».

بعدما خدم جونسون لفترة وجيزة في المجلس التشريعي لولاية لويزيانا، وقبل ترشحه كنائب عن ولاية لويزيانا في مجلس النواب الأميركي، وفوزه عام 2016، دافع جونسون أمام المحكمة العليا في لويزيانا عن الحظر الذي فرضته الولاية على زواج المثليين.

والواقع أن جونسون مسيحي إنجيلي محافظ ومتشدد، يعتز بأن «إيمانه يحدد كل ما يفعله». وهو متزوّج من كيلي لاري ولديهما أربعة أطفال. وفي نفي مُسبق لأي شعور عنصري، قال إنه في وقت مبكّر من حياته الزوجية تبنّى وزوجته صبياً أميركياً من أصل أفريقي يبلغ من العمر 14 سنة واعتبراه جزءاً من عائلتهما. وللعلم، فإنه يقدّم وزوجته «بودكاست» عن الدين والسياسة تحت مسمى «الحقيقة تُقال».

قناعاته الاقتصادية اليمينية

عام 2018، قال جونسون إن ضابط الإنفاق العام هو «أولويته الأولى»، مضيفا أن تخفيضات «تقديمات الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والمساعدات الطبية والفوائد على الديون... كان من الواجب أن تحدث بالأمس (أي إنها تأخرت كثيراً عن الوقت الملائم)» لأنها (أي التقديمات) تشكل «تهديداً وجودياً للتجربة الأميركية».

وحقاً، في عامي 2019 و2021، عارض جونسون قانون رفع الحد الأدنى للأجور، إلى 15 دولاراً في الساعة، باعتباره «تشريعاً مدمّراً للوظائف». ومن جهة ثانية، أيّد الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2017 بحظر الهجرة من سبع دول ذات غالبية مسلمة، قائلاً «هذه ليست محاولة لحظر أي دين، بل هي بالأحرى محاولة لحماية وطننا بشكل مناسب. نحن نعيش في عالم خطير، وهذا الإجراء المهم سيساعدنا على تحقيق التوازن بين الحرية والأمن».

رفضه نتائج انتخابات 2020

في سياق متصل، وبعيداً عن نزعته المحافظة بشأن قضايا السياسة، انضم مايك جونسون بشكل وثيق إلى جهود ترمب لإلغاء نتائج انتخابات عام 2020، ولعب دوراً ريادياً بارزاً في حث الجمهوريين على التوقيع على مذكرة إلغاء النتائج. وأيضاً حشد الدعم لدعوى قضائية في ولاية تكساس سعت إلى إلغاء النتائج في أربع ولايات متأرجحة فاز بها جو بايدن، ورفضت المحكمة العليا تلك القضية.

جونسون، يُعد بالفعل أحد أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين يثيرون قلق العديد من خبراء الديمقراطية، بسبب رفضه تقبّل ما يدعونه «أحد المبادئ الأساسية للنظام الأميركي»... أي الاستعداد لقبول هزيمة حزبهم. وفي هذا الاتجاه اعتبر العالم السياسي خوان لينز شخصيات مثله بأنهم «الجهات الفاعلة شبه المخلصة من السياسيين الذين لا يبادرون إلى شن هجمات (مباشرة) على الديمقراطية، لكنهم ينسجمون معها».

وهنا نشير إلى أن جونسون «ابتكر» نظرية قانونية لتبرير اعتراض ترمب على نتائج 2020، وأيدها العديد من زملائه في مجلس النواب، تزعم أن فنزويلا متورّطة بطريقة ما في العبث بآلات التصويت في الولايات المتحدة. وبسبب مواجهة جائحة «كوفيد - 19» التي فرضت تغييرات في طريقة التصويت، حثّ الجمهوريين على منع المصادقة على نتيجة الانتخابات بحجة أنها كانت غير شرعية وغير دستورية. وعندما سُئل، خلال مؤتمره الصحافي الأول كرئيس للمجلس، عما إذا كان لا يزال متمسكاً بجهوده لإلغاء انتخابات 2020، تجاهل السؤال، وصرخت النائبة فيرجينيا فوكس من ولاية نورث كارولينا على الصحافيين طالبة منهم بأن يصمتوا.

هذا عن الانتخابات الفائتة... ولكن إذا خسر ترمب مرة أخرى انتخابات 2024، وادعى حصول تزوير، قد يكون مايك جونسون في وضع أفضل لمساعدته. وبحسب موقع «بوليتيكو»، تساءل مايكل والدمان الباحث في «مركز برينان للعدالة» عن نيات رئيس مجلس النواب قائلاً «هل سيدافع هذا الرجل عن الدستور؟ أم أنه سيفعل ما فعله في المرة السابقة؟».


مقالات ذات صلة

الأعاصير النارية... ظاهرة نادرة وخطيرة تهدد رجال الإطفاء في كاليفورنيا

الولايات المتحدة​ أحد رجال الإطفاء في ولاية كاليفورنيا قبل اندلاع حريق باليساديس يوم الثلاثاء 14 يناير 2025 (أ.ب)

الأعاصير النارية... ظاهرة نادرة وخطيرة تهدد رجال الإطفاء في كاليفورنيا

في الوقت الذي يواجه فيه رجال الإطفاء في ولاية كاليفورنيا الأميركية تحديات كبيرة بالفعل، قد يتعين عليهم أيضاً التعامل مع الأعاصير النارية.

«الشرق الأوسط» (كاليفورنيا (الولايات المتحدة))
الولايات المتحدة​ جيك سوليفان ومايك والتز (أ.ف.ب)

مستشارا بايدن وترمب للأمن القومي يجتمعان لتسليم «الشعلة»

وضع مستشارا الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس المنتخب دونالد ترمب خلافاتهما جانباً، على الأغلب، في حدث رمزي «لتسليم الشعلة» ركَّز على قضايا الأمن القومي.

«الشرق الأوسط»
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن خلال لقائه بقادة كوبيين أميركيين بالبيت الأبيض في واشنطن يوم 30 يوليو 2021 (رويترز)

بايدن يعلن حظر التكنولوجيا الصينية والروسية في السيارات «لحماية الأمن القومي»

أعلن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، جو بايدن، الثلاثاء، حظراً على التكنولوجيا الصينية والروسية في السيارات؛ مشيراً إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن خلال لقائه بقادة كوبيين أميركيين بالبيت الأبيض في واشنطن 30 يوليو 2021 (رويترز)

بايدن يرفع كوبا عن اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب

قال مسؤول أميركي رفيع المستوى، اليوم الثلاثاء، إن الرئيس الأميركي جو بايدن قرر رفع كوبا عن القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

من الهجرة إلى الحروب... ما أبرز تعهدات ولاية ترمب الثانية؟

تعهدّ دونالد ترمب، باتخاذ قرارات جذرية عند عودته إلى البيت الأبيض في مجالات شتّى، من الهجرة إلى المناخ والتجارة الدولية مروراً بأوكرانيا وغزة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

بداية متعثرة لحكومة بايرو... ومطالبات باستقالة ماكرون

حكومة بايرو (رويترز)
حكومة بايرو (رويترز)
TT

بداية متعثرة لحكومة بايرو... ومطالبات باستقالة ماكرون

حكومة بايرو (رويترز)
حكومة بايرو (رويترز)

دخلت فرنسا منذ قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) يوم 9 يونيو (حزيران) 2024 في أزمة سياسية غير مسبوقة، حيث أفضى غياب الغالبية البرلمانية وهشاشة التحالفات إلى سقوط حكومة ميشال بارنييه بعد اقتراع لحجب الثقة بعد 3 أشهر فقط من تشكيلها. على أن الوضع لا يبدو أحسن حالاً بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة فرنسوا بايرو، فعلى الرغم من تقديم الإعلام الفرنسي لشخصية رئيس الوزراء على أنه «رجل المصالحة» و«الوحيد القادر على تحقيق الوفاق الوطني والسياسي المحنّك الذي يتكلّم إلى جميع الفصائل السياسية»، فإن خطواته الأولى بدت متعثرة. وبعد سلسلة مشاورات مع المعارضة، فشل بايرو في توسيع القاعدة السياسية التي يستطيع الارتكاز عليها لدعم أداء حكومته، وبالأخص في اتجاه اليسار، كذلك أثار موجة كبيرة من الانتقادات بسبب هفوات سياسية ارتكبها منذ اللحظات الأولى لتعيينه، ففي أول مساءلة له أمام البرلمان واجه رئيس الحكومة الجديد غضب نواب المعارضة الذين هاجموه بشّدة بسبب قراره الالتحاق جواً باجتماع المجلس البلدي لمدينة بو - التي يشغل فيها منصب العمدة - بدل الانضمام إلى خلية الأزمة لمتابعة تطور الأوضاع في جزيرة مايوت بعد الإعصار المدمر الذي ضرب الجزيرة الواقعة بجنوب غربي المحيط الهندي.

على الرغم من وعود الانفتاح التي لوّح بها رئيس الوزراء الفرنسي الجديد فرنسوا بايرو، حين أعلن أنه سيعمل على تشكيل فريق حكومي متماسك ومنفتح - قدر الإمكان - يتكوّن من شخصيات قادرة على تجنُّب الرقابة، فإن واقع الحسابات السياسية جعل رئيس الوزراء يتجنّب المفاجآت، ويشكل حكومة يمينية من شخصيات سياسية معروفة لدى الفرنسيين... واضعاً نصب عينيه نهجاً واحداً هو إرضاء اليمين المتطرّف لتفادي السقوط.

لقد أعاد بايرو تعيين ما يقرب من 19 وزيراً ووزير منتدب من الحكومة السابقة من أصل 35، بينهم وزير الداخلية برونو ريتايو المعروف بمواقفه اليمينية الصارمة. وهو صاحب مشروع قانون جديد للهجرة يهدف إلى تقليص عدد المهاجرين، وتنفيذ أوامر مغادرة الأراضي الفرنسية، وقطع المساعدات الطبية على المهاجرين غير الشرعيين.

كذلك أبقى بايرو على وزير الخارجية جان نويل بارو في حقيبة الخارجية، وسباستيان لوكورنو في وزارة الجيوش (الدفاع)، ورشيدة داتي في الثقافة. وهذا، إضافة لأنياس بانيه روناشيه وزيرة التحول البيئي والصيد البحري، التي كانت قد شغلت مهام وزارية سابقة في حكومة إليزابيث بورن، ثم إن الحكومة ضمت أيضاً اليمينية كاترين فوتران على رأس حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية... وكانت التحقت بفريق ماكرون في 2022.

ومن جهة ثانية، أعاد رئيس الوزراء الجديد إلى الواجهة أسماءً معروفة من المقرّبين للرئيس ماكرون، كوزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان الذي كُلِّف بحقيبة العدالة، وهو شخصية جدلية بسبب تعرّضه لملاحقات قضائية بتهم التحرش والاغتصاب، ومواقفه المعادية للمهاجرين.

وأيضاً أعاد رئيسة الوزراء السابقة إليزابيث بورن، التي أوكل إليها حقيبة التربية والتعليم العالي. وبورن شخصية سياسية لاقت معارضة واسعة بعدما لجأت إلى إقرار قوانينها من خلال المادة 49.3 من الدستور، وبالأخص قانون المعاشات الذي يعارضه الغالبية الساحقة من الفرنسيين، كما أنها فور تسلُّمها المهام الوزارية أثارت بورن الاستياء من جديد حين أقّرت بأنها قبلت المنصب، لكنها ليست خبيرة في قطاع التربية.

وأخيراً، لمنصب وزير أقاليم ما وراء البحار، عّين بايرو رئيس الوزراء الأسبق إيمانويل فالس، الذي كان ترأس الحكومة في عهد الرئيس السابق الاشتراكي فرنسوا هولاند عام 2016، إلا أنه ترك عائلته السياسية، والتحق بحزب ماكرون عام 2017 أملاً في منصب وزاري.

استقبال بارد للحكومة الجديدة

الواقع أن المعارضة السياسية ووسائل الإعلام استقبلت تركيبة الحكومة الجديدة بكثير من الانتقاد وردود الأفعال السلبية؛ إذ وصفها موقع «ميديا بارت» المستّقل بـ«حكومة الموتى الأحياء (الزومبي)»، مضيفًا أن رئيس الوزراء الجديد «عاد إلينا بعد 10 أيام من تعيينه بحكومة مكوَّنة من شخصيات ماضيها غير مشرق» سبق أن تقلّدت مسؤوليات سياسية من دون أن تترك أثراً إيجابياً. ولفت المنتقدون إلى أن بايرو احتفظ بنصف أعضاء حكومة ميشال بارنييه رغم تعرُّضها لحجب الثقة، أما النصف الآخر فهو مكوَّن من شخصيات سياسية قديمة عادت إلى الواجهة بإيعاز ومباركة من اليمين المتطرف أمثال بروتو ريتايو. وتحت عنوان «حكومة بايرو: التكرار والبُعد عن وعود الانفتاح»، علّقت صحيفة «لوموند» على تركيبة الحكومة الجديدة بالقول: «لقد اختار رئيس الوزراء فرنسوا بايرو اللّجوء إلى شخصيات سياسية من الغالبية السابقة، وهي القاعدة المحدودة نفسها التي اعتمدها سابقاً ميشال بارنييه، وهذا لن يحمي الحكومة من السقوط». ومن جانبها، رأت صحيفة «لو فيغارو» أن حكومة بايرو «تعبّر عن فشل المصالحة الوطنية، فأداء بايرو لن يكون أحسن من أداء بارنييه؛ لأنه اكتفى بإتلاف الوسط واليمين، مستعيناً بشخصيات سياسية من الماضي».

المعارضة السياسية ووسائل

الإعلام استقبلت تركيبة الحكومة

الجديدة بالكثير من الانتقاد

حجب الثقة وارد

في هذا الإطار، يبدو أن رئيس الحكومة الجديد كان متفائلاً أكثر مما ينبغي حين أعلن عشية تسلُّم مهامه في قصر ماتينيون (قصر الحكومة) يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) أنه «على يقين» بأن حكومته لن تتعرض لاقتراع حجب الثقة؛ لأن ما يلاحظه مراقبو الشأن الفرنسي يشير إلى العكس، ولا أحد أصبح يسأل هل سيكون حجباً للثقة، بل متى سيكون؟

وأول من عاد للتلويح بهذا السلاح هو الحزب الاشتراكي الذي كان قد وجّه إشارات إيجابية إلى رئيس الوزراء بإمكانية «منح الثقة» مقابل تقديم بعض التنازلات فيما يخص ملف المعاشات، لكن المباحثات لم تسفر عن شيء بعدما رفض بايرو مطالب الاشتراكيين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين عيَّن في حكومته الجديدة غالبية من الشخصيات ذات التوجه اليميني. وعلى الرغم من وجود أسماء محسوبة «تاريخياً» على اليسار فهي حقاً لا تمثله في شيء، بما أنها شخصيات منشّقة كإيمانويل فالس، الذي تخلى عن الحزب الاشتراكي للالتحاق بالتيار الماكروني، أو فرنسوا رابسين الذي ترك الحزب منذ سنوات.

أوليفييه فور، الناطق الرسمي باسم الحزب الاشتراكي، أعرب عن استيائه، وهدّد بإسقاط الحكومة معلقاً «السيد بايرو لم يحترم ولا شرطاً من شروط اتفاقية عدم الحجب إنها حكومة من اليمين، بل من اليمين المتّشدد... وبعد اليوم لا يوجد لدينا سبب يمنعنا من إسقاطها». أما رئيس كتلة النواب الاشتراكيين، بوريس فالو، فكتب على منصة «إكس» ما يلي: «إنها ليست حكومة... إنها تحريض...». وكان لحزب الخضر الموقف نفسه، حين أعلنت زعيمته مارين توندولييه: «المفروض حين تتعرض حكومة للفشل، فإن العقل يملي علينا ألا نعيد الكرّة، لكن السيد بايرو أخذ الشخصيات نفسها، وأعاد تدويرها، ولهذا فهو يقترب يوماً بعد يوم من حجب الثقة».

في قبضة أنياب اليمين المتطرف

من جانب آخر، إذا كان فرنسوا بايرو قد اتخذ منعطف اليمين غير آبهٍ بتهديدات ائتلاف اليسار من الاشتراكين والخضر و«فرنسا الأبية»، فلأنه يُعمل على مساندة حزب اليمين المتطرف «التجمع الوطني» لإنقاذه من السقوط المرتقب؛ ذلك أنه أضافة إلى المؤشرات الإيجابية التي وُجهت له عبر إعلان رئيس «التجمع» جوردان بارديلا أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، تَبَيَّنَ أن تعيين أعضاء الحكومة الجديدة جرى باستشارة وموافقة من اليمين المتطرف.

ففي بيان نشره على «إكس» كشف كزافييه برتران، أحد كوادر حزب اليمين الجمهوري ووزير العمل السابق في حكومة نيكولا ساركوزي، أن بايرو عرض عليه منصب وزير للعدالة قبل أن يتراجع عن قراره بسبب معارضة مارين لوبان التي بينها وبين برتران خصومة قديمة. برتران أيضاً كشف عما دار بينه وبين رئيس الوزراء، مضيفاً أنه عرض عليه منصباً آخر هو وزير الزراعة، لكنه رفض لأنه لا يتشرف بالمشاركة في حكومة تعمل تحت سيطرة اليمين المتطرف. وبالتالي، إذا كانت هذه الحادثة تكشف عن مدى سيطرة اليمين المتطرف على توجهات الحكومة، فان البعض يتكلّم الآن عن «الفخ» الذي أوقع فيه بايرو نفسه؛ لأن الحسابات السياسية غير مضمونة العواقب، والسبب أن مارين لوبان شاركت مع ائتلاف اليسار في اقتراع حجب الثقة عن الحكومة السابقة رغم الضمانات التي قدمتها لبارنييه، وقد تعيد الكرّة مع بايرو. والدليل تصريحاتها الأخيرة على «إكس» بمناسبة احتفالات نهاية السنة، حيث توقعت أن يختار الشعب الفرنسي «في غضون أشهر قليلة طريقاً جديداً هو طريق الطفرة والانتعاش».

هذا الكلام فُسِّر على أنه توقع من زعيمة اليمين المتطرف سقوط الحكومة الجديدة، وإمكانية مشاركتها في السباق الرئاسي الذي تحلُم به منذ سنوات. وفعلاً، هذا ما صرّحت به لصحيفة «لو باريزيان» في حوار نُشر أخيراً قالت فيه إنها تستعد «لانتخابات رئاسية مبكرة، كإجراء احترازي، نظراً لهشاشة إيمانويل ماكرون». وعلى هذا رد المحلّل السياسي لويس دو غاكنال في مداخلة لقناة «سي نيوز» الإخبارية شارحاً أنه «من مصلحة لوبان إضعاف المؤسسات، لأن ذلك قد يعني استقالة الرئيس (ماكرون) وتنظيم انتخابات مبكرة مع إمكانية ترشحها الآن قبل أن تمنعها الأجندة القضائية. وفي حالة الفوز، فإنها ستتخلص من الملاحقات القضائية ومن تهم الاختلاس».