خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية

مع العد التنازلي ليوم الاقتراع

خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية
TT

خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية

خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية

يذهب الأرجنتينيون نهاية الأسبوع المقبل إلى مراكز الاقتراع لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، في الوقت الذي تفيد آخر الدراسات التي أجرتها اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية، التابعة للأمم المتحدة، بأن نسبة الفقراء في الأرجنتين تجاوزت 40 %، أي ما يقارب 19 مليون مواطن، منهم كثيرون يعجزون عن تأمين احتياجاتهم الغذائية في واحد من أهم البلدان الزراعية في العالم، والوحيد الذي تنمو فيه جميع أنواع المحاصيل بفضل تنوع مناخه وتربة مساحاته الشاسعة، فضلاً عن أنه كان في النصف الأول من القرن الفائت قوة اقتصادية بارزة ودائناً لعدد من الدول الأوروبية الغربية. وتستنتج هذه الدراسة أن ارتفاع عدد الفقراء بما يزيد على 4 ملايين خلال السنوات الثماني المنصرمة، والركود الاقتصادي المتواصل منذ بداية العقد الفائت، تسببا في موجة من السخط والغضب العميق لدى المواطنين، انعكست ابتعاداً عن المشاركة في العمليات الانتخابية، أو بالنزوع نحو تأييد خيارات شعبوية متطرفة. هذا المشهد الاجتماعي القاتم يفسّر، بنسبة كبيرة، تصدّر المرشّح اليميني الشعبوي المتطرف خافيير ميلي جميع الاستطلاعات الأخيرة، التي ترجّح فوزه في الجولة الأولى. إلا أنه من غير المتوقع لميلي النجاح في تجاوز العتبة التي تعفيه من خوض الجولة الثانية للوصول إلى رئاسة الجمهورية.

تتعدد التسميات التي تطلقها وسائل الإعلام المحلية والأجنبية على خافيير ميلي، الذي يتزعم حزب «الحرية تتقدّم»، بين «شعبوي» و«يميني متطرف» و«متهوّر» أو «فلتة شوط». غير أن استطلاعات الرأي تضعه في صدارة المرشحين لخلافة الرئيس الأرجنتيني الحالي ألبرتو فرنانديز (يسار الوسط) في حال فوزه على منافسيه الأربعة، وفي طليعتهم مرشح الحزب الحاكم ووزير الاقتصادي الحالي المخضرم سيرجيو ماسّا، ومرشحة اليمين التقليدي باتريسيا بولريتش.

وفي حين تجمع التوقعات على أن ميلي سيحلّ أولاً في الجولة الأولى بحصوله على 35 في المائة من الأصوات، سينحصر التنافس على المرتبة الثانية بين ماسّا الذي نال في الاستطلاعات الأخيرة 30 في المائة وبولريتش التي حلّت ثالثة بنسبة 26 في المائة، لخوض المعركة الأخيرة في الجولة الثانية الحاسمة منتصف الشهر المقبل.

الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري

ميلي... الظاهرة

منذ عام 2021 يحتلّ خافيير ميلي مقعداً في مجلس النواب الأرجنتيني عن مدينة بوينوس آيرس (العاصمة)، بعدما كان أستاذاً لمادة الاقتصاد وشخصية إعلامية اشتهر بعنف انتقاداته للنظام القائم والطبقة الحاكمة وسياساتها الاقتصادية التي يعتبرها «طريقاً إلى الانتحار الاجتماعي» على حد قوله.

لميلي عدة مؤلفات في السياسة والاقتصاد، ومشهورة مداخلاته التلفزيونية التي غالباً ما يستخدم فيها عبارات قاسية ضد محاوريه وأسلوباً سوقياً في طرح مواقفه وآرائه. ولذا يجمع المحللون على تصنيفه في خانة اليمين المتطرف، بينما يعرّف هو عن نفسه بأنه «رأسمالي فوضوي» من أتباع المدرسة النمساوية في الاقتصاد التي أسست أواخر القرن التاسع عشر وتقوم على مبدأ الفردية المنهجية، الذي يعتبر أن التحوّلات الاجتماعية ثمرة الدوافع والتصرفات الفردية. وتعارض هذه المدرسة بشدة النظريات الاقتصادية الماركسية، والنقدية والكلاسيكية الجديدة.

من ناحية ثانية، يلفت في سيرة ميلي العائلية أنه قرر قطع علاقاته بشكل نهائي وكامل مع والديه في عام 2010، بسبب «سوء المعاملة» الذي تعرّض له على يديهما طوال سنوات، ولكن تربطه علاقة وثيقة بشقيقته التي يعتبرها مستشارته الأولى.

تولّى ميلي - وهو حارس مرمى سابق لفريق نادي شاكاريتا جونيورز لكرة القدم - مناصب استشارية لدى عدد من المصارف الكبرى، وأيضاً المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية، وغرفة التجارة الدولية والمنتدى الاقتصادي الدولي. وقبل انتخابه نائباً في مجلس النواب، كان يقوم بمهام استشارية لدى عدد من الشركات الأرجنتينية الكبرى وبعض رجال الأعمال البارزين المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة مع القيادات العسكرية إبان الحكم الديكتاتوري.

وللعلم، منذ بداية الحملة الانتخابية، والوضع الاقتصادي هو الطبق الرئيسي في كل المهرجانات والمناظرات التي دارت بين المرشحين الخمسة. وانصبّت جميع الانتقادات للسياسات الاقتصادية على مرشح الحكومة سيرجيو ماسّا، الذي يتولّى حقيبة الاقتصاد في حكومة ألبرتو فرنانديز، لا سيما أن نسبة التضخم ارتفعت خلال ولايته إلى 124 في المائة، وتراجع النمو الاقتصادي فيما كانت فوائد الدين العام تمتصّ الأرباح الضئيلة التي كان يسجلها ميزان المدفوعات. وكان من المنتظر، منذ البداية، أن يصبّ ميلي انتقاداته على ماسّا، مدركاً أن هذا الأخير سيكون منافسه في الجولة الثانية نهاية الأسبوع المقبل.

ميلي... بطاقة شخصية

- ولد يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1970، وكان أبوه سائق حافلة تحول إلى التجارة.

- عازب، واقتصادي ونائب في البرلمان عن إحدى دوائر بوينوس آيرس.

- يتحدر من أصل إيطالي، ولعب في سنوات مراهقته كرة القدم، وكان حتى عام 1989 حارس مرمى نادي شاكاريتا جونيورز في العاصمة.

- تلقى تعليمه في مدارس كاثوليكي وفي جامعة بلغرانو ومعهد ديسارولو للدراسات الاقتصادية والاجتماعية وجامعة توركواتو دي تيلا.

من خارج المنظومة

ميلي هو المرشح الوحيد من خارج المنظومة السياسية التي حكمت الأرجنتين خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذا رغم علاقاته المهنية الوثيقة بعدد من رموزها. في المقابل، فإنه يتفوق على منافسيه بمعرفته النظرية الواسعة بالوضع الاقتصادي الذي يقضّ مضاجع مواطنيه منذ سنوات ويستحوذ على اهتمامهم اليومي ويؤجج نقمتهم على الطبقة السياسية الحاكمة. ثم إنه أيضاً المرشح الذي طرح أكبر عدد من التدابير والاقتراحات خلال الحملة الانتخابية لمعالجة هذا الوضع، مثل: إلغاء عدد من الوزارات كالصحة والتربية والعلوم والعمل، والتعامل بالدولار الأميركي بدل العملة الوطنية، وإلغاء المصرف المركزي، وخفض الإنفاق العام دون المستوى الذي يطالب به صندوق النقد الدولي، واستحداث نظام القسائم في المدارس الرسمية والخدمات الصحية والاجتماعية للطبقتين الفقيرة والمتوسطة. وهذا، فضلاً عن تأييده حرية حمل السلاح وبيع الأعضاء ومعارضته الإجهاض. وبطبيعة الحال، تعرّض لانتقادات شديدة من منافسيه بسبب هذه الاقتراحات، لكن جميع الاستطلاعات أظهرت أن شعبيته لم تتراجع، بل واصلت الصعود حتى أصبح المرشح الأوفر حظاً لخوض الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

مع هذا، تبقى نقطة الضعف الرئيسية عند ميلي، وغير المألوفة لدى المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية في الأرجنتين، هي أنه لم يسبق له من قبل تولي أي مناصب أو مهام رسمية، كما أنه يفتقر لمثل هذه الخبرة التي تعتبر حيوية في بلد موصوف بتعقيد مشهده السياسي وتقاطع العلاقات بين مكوّناته. وبالفعل، اضطر ميلي خلال حملته الانتخابية لتبسيط خطابه الاقتصادي وتفادي الخوض في التفاصيل التقنية الدقيقة التي تستعصي على غالبية الناخبين. وليس واضحاً ما إذا كان ذلك سيكون في مصلحته أو العكس غداً عند الاقتراع.

بعض الناخبين عبّروا عن استيائهم من أسلوبه الخشن في انتقاده منافسيه ولجوئه إلى الشتائم في التخاطب السياسي. إلا أن كثيرين، في المقابل، يرون في ذلك تعبيراً صادقاً عن النقمة التي يشعرون بها تجاه الطبقة الحاكمة التي يحمّلونها مسؤولية تدهور قدرتهم الشرائية. ولذا، يتطلعون إلى أن يكون وصوله إلى الرئاسة سبيلاً إلى تحقيق وعده بإقصاء الفاسدين عن الحكم وملاحقتهم أمام القضاء.

أيضاً، يتفوق ميلي أيضاً على منافسيه في مجال الحملة الرقمية، إذ إنه يعتمد على «جيش إلكتروني» من الشباب الذين ينشرون أفضل تصريحاته ومداخلاته وأنشطته على وسائل التواصل الاجتماعي. بيد أن المواقف والتصريحات التي أدلى بها ميلي في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية كانت صادمة ومؤذية بعض الشيء. إذ أدت دعواته المتكررة إلى المواطنين للتخلّص من مدخراتهم بالعملة الوطنية «البيزو»، بحجة أنها أصبحت «عديمة القيمة» - على حد قوله - أدت إلى انهيار العملة في السوق السوداء، التي تعكس عادة عافية الوضع الاقتصادي. وتجاوزت للمرة الأولى منذ سنوات عتبة الألف بيزو مقابل الدولار الأميركي الواحد، وهو ما عاد إلى الأذهان أحلك الحقب التي مرّ بها الاقتصاد الأرجنتيني. وبالمناسبة، كانت العملة الأرجنتينية قد شهدت انخفاضاً حاداً في قيمتها زاد على 18 في المائة في أغسطس (آب) الفائت عند إعلان فوز ميلي في الانتخابات الأولية، وفشلت الحكومة يومها في وقف انهياره بسبب نقص الاحتياط اللازم في المصرف المركزي، واكتفت برفع أسعار الفائدة حتى بلغت 118 في المائة.

سيرجبو ماسّا

هزة مالية وسجالات

هذه التصريحات استنهضت انتقادات قاسية، ليس فحسب من منافسيه الأربعة في حملة الانتخابات الرئيسة، بل أيضاً من أوساط رجال الأعمال والمحللين الاقتصاديين الذين وصفوها بالـ«لامسؤولة» والمتهورة، وبأنها لا تستند إلى أي معايير علمية، إلى جانب أن من شأنها إغراق البلاد في حال من الفوضى الاجتماعية. بل اتهمه منافسه الأبرز سيرجيو ماسّا، وزير الاقتصاد، بأنه «يشعل النار في هشيم الوضع الاجتماعي المتوتر من أجل كسب بعض الأصوات».

ويدرك ماسّا أن انهيار قيمة «البيزو» يكشف هشاشته وضعف سياسات الحكومة الاقتصادية، كما ينال من حظوظه في الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات أواسط الشهر المقبل. أما المرشحة المحافظة باتريسيا بولريتش، فتعتبر أن انهيار العملة الوطنية بسبب تصريحات ميلي، تعطيها فرصة لمهاجمة خصميها من أجل تجاوز أحدهما وبلوغ الجولة الثانية إذا فشل أحد المرشحين في الحصول على 45 في المائة من الأصوات أو تجاوز 40 في المائة بفارق عشر نقاط عن المرشح التالي.

في المقابل، يدرك ميلي أنه - في حال فوزه - سيتسلم بلاداً على شفير الهاوية، واقتصاداً يرزح تحت أعباء التضخم الجامح والدين الخارجي ونضوب خزائن الاحتياط في المصرف المركزي. لكن سهام بولريتش، التي تحلّ ثالثة في الاستطلاعات، لم تكن موجهة ضد ميلي وتصريحاته بقدر ما ركّزت على منافسه المباشر وزير الاقتصاد الذي حمّلته المسؤولية الكبرى عن تردّي الأوضاع الاقتصادية. وبالأخص، أنها تدرك استحالة تجاوزها ميلي، الذي رغم كل الانتقادات التي استدعتها تصريحاته من كل الجهات، ما زال الأوفر حظاً للفوز في الجولة الأولى.

ووسط الجدل، انضمّ ميلي نفسه إلى منتقدي وزير الاقتصاد، معتبراً أن حكومة ألبرتو فرنانديز ونائبته الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر وسيرجيو ماسّا هم الذين يتحملون مسؤولية هذا الانهيار الاقتصادي. واتهمهم بطبع كميات ضخمة من العملة الوطنية «من غير ضابط»، لتمويل الإنفاق العام «بلا حساب»، وتوزيع المنافع على أنصارهم وشركائهم من رجال الأعمال.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن ميلي كرّر في تصريحاته الأخيرة عزمه الثابت - في حال فوزه في الانتخابات - على التعامل رسمياً بالدولار الأميركي من أجل «إفناء التضخم» وفق تعبيره، مع أنه ليس من الواضح بعد كيف سيتمكن من تحقيق هذا الهدف في بلد أوصدت في وجهه أبواب الاقتراض من أسواق المال الدولية، ولا يملك احتياطياً بالدولار في المصرف المركزي.

قائمة الوعود التي أطلقها خافيير ميلي طوال حملته الانتخابية في المهرجانات الحاشدة وأمام عدسات التلفزيون لا نهاية لها، ولا سوابق لها في التاريخ السياسي الأرجنتيني. لكن ما يثير القلق عند من يتذكرون أنظمة الاستبداد التي شهدتها الأرجنتين، هو وعده بأن تصبح الأرجنتين مثل ألمانيا في غضون عشرين سنة تحت حكمه، وفي غضون ثلاثين مثل الولايات المتحدة. وهذا الأمر يدلّ على أنه في حال وصوله إلى الرئاسة لن يكون في وارد التخلي عنها بسهولة وضمن المواعيد الدستورية المحددة.

وعندما سئل يوماً من باب الدعابة: أيهما يفضلّ... الدولة أو المافيا؟ فأجاب من دون تردد: المافيا، لأن لها قواعدها وهي تطبّق هذه القواعد.

باتريسيا بولريتش

 


مقالات ذات صلة

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع الرئيس عبد المجيد تبّون (رويترز)

فوز منتظر للرئيس عبد المجيد تبّون في انتخابات الرئاسة الجزائرية

يتوجه الجزائريون اليوم إلى مراكز الاقتراع لاختيار رئيس جديد. وهذه هي ثاني استحقاقات رئاسية بعد الحراك الذي طال سنتين تقريباً، وشهد خروج ملايين الجزائريين إلى

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع  تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة

إبراهيم تراوري... رئيس بوركينا فاسو وقائد حربها الشرسة ضد «الإرهاب»

رغم تعهّد النقيب إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، بألا يبقى في السلطة، فإنه مدّد فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، راهناً إجراء الانتخابات التي كان من

فتحية الدخاخني (القاهرة)

الأردن... رئيس لا يجامل في مواجهة مجلس نواب برؤوس حامية

تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
TT

الأردن... رئيس لا يجامل في مواجهة مجلس نواب برؤوس حامية

تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)

لم يُفسّر أحد «قلة اكتراث» الشارع الأردني أمام حدثين مهمين على المستوى المحلي: إذ بعد نتائج الانتخابات النيابية التي أُجريت في العاشر من سبتمبر (أيلول) الحالي وجاءت نتائجها بعكس جميع التوقعات الرسمية، تشكلت حكومة جديدة مُشبعة بمفارقات عدة، بدءاً من اختيار الرئيس، وليس انتهاءً بخريطة التشكيل سياسياً وديموغرافياً وجغرافياً. وحقاً، لم ينشغل أحد سوى الإعلام ونخبه السياسية ببث تحليلات متناقضة بين التبشير ونقص التفاؤل بالمرحلة. إذ يُعتقد وسط النخب أن جبهة المواجهة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية مقبلة، لا سيما وأن اختيار الفريق الوزاري سبق انعقاد مجلس الأمة ليصادر معه طموحات النواب الحزبيين بأن يكون لهم تأثير في اختيار الوزراء من بوابة «المشاورات» - التي درجت أحياناً ويعتبرها البعض «شكلية»، - الأمر الذي قلّص مساحات نفوذ الأحزاب الطامحة أمام منتسبيها والرأي العام.

اختيار جعفر حسّان رئيساً للحكومة الأردنية الجديدة كان مفاجأة لم تتوقعها الأوساط السياسية؛ كونه «رجل ظل مؤثراً» في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية خلف الكواليس، وذلك من خلال خدمته في فترتين مديراً للمكتب الخاص للعاهل الأردني (الفترة الأولى من 2014 - 2018، والفترة الثانية من عام (2021 - 2024)، بل، حتى وهو وزير في 6 حكومات، عُرف عنه زهده الإعلامي.

المقربون من حسّان يصفونه بأنه حاد الطباع، وإن خفتت هذه الصفة إبّان خدمته الأخيرة بالقصر الملكي. وهو منتظم بالعمل لساعات طويلة لدرجة يرهق معها مَن حوله، ثم أنه محسوب على نخب الاقتصاد أكثر من نخب السياسة، وقريب من تيار ينتمي إلى فكرة الإصلاحات الشاملة في البلاد، وهو التيار الذي أثّر بحسّان خلال فترته الثانية في خدمة الملك عبد الله الثاني.

أشبه بـ«تعديل موسّع»

لم تأتِ حكومة جعفر حسّان التي أدت اليمين الدستورية يوم 18 سبتمبر (أيلول) الحالي بأسماء من خارج صندوق الخيارات التقليدية؛ ما دفع بعض النقاد إلى اعتبار التشكيل أشبه بـ«تعديل موسع» على حكومة بشر الخصاونة، التي استقالت غداة إعلان النتائج النهائية لانتخابات أعضاء مجلس النواب في الجريدة الرسمية. ويأتي ذلك انسجاماً من أعراف أردنية تتعلق بمشاورات مراكز القرار المدنية والأمنية، وحسابات الجغرافيا والمحاصصة.

ولقد تحصّنت حكومة حسّان في تشكيلتها الجديدة بخبرات بيروقراطية وخبرات نيابية ونقابيّة سابقة تأهباً لـ«المواجهة المرتقبة» مع مجلس النواب الذي سيتعامل مع استحقاقين دستوريين في مطلع عهده، هما: مناقشة البيان الحكومي والتصويت على الثقة، واستحقاق مناقشة وإقرار قانون الموازنة العامة المُثقل بأرقام العجز وارتفاع سقوف خدمة المديونية الخارجية والداخلية. وكذلك سيتعامل مع مطالبات نيابية موسمية تُطالب بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، ومطالب اقتصادية لم يعد بإمكان الحكومات الاستجابة لها في ظل تنامي أرقام المديونية العامة وعجز الموازنة. وفضلاً عن هذا وذاك، فإن الرئيس الجديد المعروف عنه اقتصاده في المجاملة سيواجه بنواب عُرف عنهم الإسراف في المطالبات الخدمية.

من جهة ثانية، جاء احتفاظ حسّان بحقائب لعدد من الأصدقاء المقربين منه - وهو واقع استقرت عليه الأعراف السياسية في البلاد من حيث الاستعانة بالمعارف والثقات في اختيار الوزراء - فإنه لم يستطع تجاوز أسماء خلال الـ48 ساعة الماضية التي سبقت إعلان تشكيلة فريقه الوزاري، ولقد خصّ في تشكيلته ثلاثة أحزاب فقط من التي نجحت في الانتخابات الأخيرة.

قراءات أولية يصعب التنبؤ بنتائجها

استدعى جعفر حسّان من الخبرات النيابية السابقة كلاً من: المحامي عبد المنعم العودات، رئيس مجلس النواب الأسبق ورئيس اللجنة القانونية لدورات عدة، ليكون وزيراً للشؤون السياسية والبرلمانية، وخالد البكار، النائب السابق لدورات عدة وعضو مجلس الأعيان وزيراً للعمل، وخير أبو صعيليك، النائب السابق لدورات عدة ورئيس لجنة الاقتصاد والاستثمار في مجلس النواب لدورات عدة وزير دولة لتطوير القطاع العام. كذلك استعان حسّان بمصطفى الرواشدة، عضو مجلس الأعيان وأول نقيب لنقابة المعلمين (المُعطل عملها بموجب قرار قضائي) في البلاد وزيراً للثقافة، والنائب السابق يزن شديفات وزيراً للشباب.

جرى استدعاء هؤلاء في مواجهة مجلس النواب الجديد، بكتله الحزبية الوازنة التي تتقدّمها كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي»، كتلة «المعارضة الحرجة» الممثلة بـ31 مقعداً، إلا أن ما ينقصهم في خبرة العمل الحكومي، قد يعوّضه الوزير العائد والمحسوب على تيار البيروقراط الرسمي المهندس وليد المصري الذي عيّن وزيراً للإدارة المحلية. وكان المصري قد خدم رئيساً لبلدية إربد الكبرى، ثاني أكبر بلديات المملكة، ثم وزيراً في حكومات متعاقبة، ولقد نجح في تفريق جبهات المعارضة النيابية في ملفات عدة أيام مشاركته في حكومات عبد الله النسور، وهاني الملقي وعمر الرزاز خلال السنوات بين 2013 و2019.

وبين الخطوات المهمة كان الإبقاء على أيمن الصفدي، الوزير الأكثر شعبية في الحكومة السابقة بسبب تصريحاته القاسية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة وموقفه المعادي لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، نائباً للرئيس ووزيراً للخارجية، وأيضاً الاستعانة بعضو مجلس الأعيان محمد المومني صاحب لقب «أطول وزراء الإعلام بقاءً»؛ إذ عمل وزيراً خلال السنوات (2013 - 2018) مسجلاً حضوراً لافتاً في عدد من الأحداث الأمنية والسياسية التي عاشتها البلاد، ومعروف عنه دقة تصريحاته، ودبلوماسيته العالية في الإجابة عن أسئلة الصحافيين.

الأحزاب في البرلمان

وكما سبقت الإشارة، جاءت تشكيلة حكومة الرئيس حسّان كـ«أمر واقع» وفق موعد تكليفه، لتتجاوز فكرة المشاورات النيابية الحزبية غير المُلزمة؛ الأمر الذي ترك ظلالاً على فرص تشكيل حكومة «توافقات حزبية». وهذا ما يؤيده مناصرو فكرة منع «حرق المراحل»؛ إذ من المبكّر الذهاب لهذا الخيار في ظل غياب غالبية حزبية مؤثرة نيابياً. وبين المفارقات الرقمية والمحاصصات التقليدية ما يلي:

أولاً- توزّعت جغرافيا اختيار الفريق الحكومي تبعاً للتقاليد المحلية، فحظي شمال المملكة بحصة وازنة من الحقائب، وتمثل الجنوب بخمس حقائب وزارية، وكان للوسط حصة أعلى في الحقائب مما كان له في الحكومة السابقة، وذلك لصالح محافظتي العاصمة والبلقاء، في حين بقيت أرقام «كوتات» الشركس والمسيحيين من دون ارتفاع. وتَسقط هذه الحسابات إلا من جلسات النميمة السياسية في البلاد، بيد أنها لن تؤثر في ارتفاع منسوب النقاش المجتمعي بسبب ابتعاد الأردنيين عن سجالات المحاصصة والجهوية إذا كان أداء الفريق الوزاري جاداً في حل الأزمات الاقتصادية المتراكمة.

ثانياً - انخفض عدد النساء في الحكومة الجديدة إلى 5 سيدات، ولقد توزّعن على وزارات السياحة التي أسندت إلى لينا عناب، والتخطيط والتعاون الدولي لزينة طوقان، والتنمية الاجتماعية لوفاء بني مصطفى، والنقل لوسام التهتموني. وبقيت نانسي نمروقة في الحكومة الجديدة، لكن كوزيرة الدولة للشؤون الخارجية بعدما كانت تشغل حقيبة وزارة الدولة للشؤون القانونية في الحكومة السابقة. وفي المقابل، خرجت من الحكومة وزيرة الاستثمار خلود السقّاف، ووزيرة العمل ناديا الروابدة، ووزيرة الثقافة هيفاء النجار.

ثالثاً - أبقت الحكومة الجديدة على وزراء الخارجية أيمن الصفدي، والتربية والتعليم والتعليم العالي عزمي محافظة، ووزير الداخلية مازن الفراية، ووزير الأشغال ماهر أبو السمن، ووزير المياه رائد أبو السعود، والزراعة خالد حنيفات، والطاقة صالح الخرابشة، والأوقاف محمد الخلايلة، والصحة فراس الهواري، والبيئة خالد الردايدة، إضافة إلى الوزيرات الخمس. في حين انتقلت وزارة الإدارة المحلية من الوزير المخضرم توفيق كريشان إلى وليد المصري، والاتصال الحكومي من مهند مبيّضين إلى محمد المومني، ووزارة المالية من محمد العسعس لأمينها العام عبد الحكيم الشبلي، ووزارة الدولة للشؤون القانونية من نانسي نمروقة إلى فياض القضاة رئيس ديوان التشريع والرأي، ووزارة الدولة لشؤون رئاسة الوزراء من إبراهيم الجازي إلى عبد الله العدوان، ووزارة الدولة من وجيه عزايزة إلى أحمد العبادي، ووزارة الدولة للشؤون الاقتصادية من ناصر شريدة إلى مهند شحادة، ووزارة الاقتصاد الرقمي والريادة من أحمد الهناندة إلى سامي سميرات، والشؤون البرلمانية من حديثة الخريشا إلى عبد المنعم العودات، والعمل من ناديا الروابدة إلى خالد البكار، ووزارة الثقافة من هيفاء النجار إلى مصطفى الرواشدة، ووزارة الصناعة والتجارة من يوسف الشمالي إلى يعرب القضاة.

هذا، وبدلاً من وزير العدل أحمد زيادات دخل الفريق الحكومي بسام التلهوني - وهو الذي غادر ومعه وزير الداخلية السابق سمير مبيضين بتعديل طارئ من حكومة بشر الخصاونة بسبب مخالفتهما شروط وقواعد السلامة العامة المتبعة أثناء انتشار فيروس «كوفيد - 19» -، كما عاد إلى الحكومة وزيراً للاستثمار مثنّى الغرايبة بعد مغادرة خلود السقاف، وللعلم سبق للغرايبة العمل في حكومة عمر الرزاز (2018 - 2020)، وكان قبلها حراكياً نشطاً خلال سنوات الربيع الأردني. ولقد عادت السفيرة الأردنية لدى اليابان لينا عناب إلى موقعها وزيرة للسياحة بدلاً من مكرم القيسي، ويذكر أنها كانت قد استقالت من حكومة الرزاز، ومعها وزير التربية والتعليم عزمي محافظة، بعد فاجعة وفاة 22 طالباً وطالبة في البحر الميت بسبب الظروف الجوية ومخالفة تعليمات الرحلات المدرسية شتاء عام 2019.

جبهات حكومية مزدحمة المعارك

بناءً على ما سبق؛ من المتوقع أن يكون لحزب «جبهة العمل الإسلامي» (الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» غير المرخّصة في البلاد) فرصة لتحقيق مزيد من الشعبية من خلال مقاعده الـ31 في مجلس النواب العشرين؛ إذ يعتقد أن نواب الحزب سيسعون لتسجيل المواقف مسلحين بملَكة الخطابة ومتجهّزين بقراءات سابقة وتحضير جيد لجداول أعمال الجلسات النيابية الرقابية والتشريعية.

وبالفعل، بدأ استثمار الحزب مبكّراً في حصد الإعجاب الشعبي من خلال مطالباته بمواقف تصعيدية ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ودعوته إلى النزول للشارع بهتافات «تزايد» على الموقف الرسمي الذي حظي باحترام النخب السياسية بعد تقدّمه على عدد من المواقف العربية والدولية، ويتوقع أن يواصل نواب الحركة الإسلامية حصد المزيد من الشعبية على حساب موقع الحكومة المحاصرة بمحدّدات لا يمكن تجاوزها. ومن ثم، يتوقّع مراقبون أن تكون «عقدة المواجهة» المنتظرة بين نواب الحركة الإسلامية والحكومة هي مسألة نقابة المعلمين التي جمّد القضاء أعمالها منذ عام 2018، وجرى توقيف نقيبها وأعضاء من مجلسها، وهذا النقيب هو اليوم نائب فاز عن مقاعد الدائرة الحزبية المخصصة للأحزاب، وهو شخصية شاغبت كثيراً في ملف نقابة المعلمين وتعرّضت للتوقيف مرات عدة.

الإسلاميون... ومفاجأة الرسميين

> جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة «صادمة» لمراكز القرار السياسي في الأردن، وبالأخص بعد الكشف عن «زيف» بعض الدراسات والاستطلاعات التي أجرتها مؤسسات مجتمع مدني روّجت لقراءات داخلية تتعارض مع الواقع الذي ظهرت عليه النتائج النهائية. وكانت هذه قد أشارت إلى «محدودية» أصوات الحركة الإسلامية، وتنامي فرص أحزاب محسوبة على الخط الرسمي. لكن نتيجة كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي» جاءت بما لم يتوقعه أحد في أعقاب حصول مرشحيها على أكثر من 450 ألف صوت من أصل 1.65 مليون من المقترعين. ومقابل ذلك، جاءت نتائج أحزاب «الميثاق» 93680 ألف صوت، و«إرادة» 75121، والحزب الوطني الإسلامي 87519، و«تقدم» 61199، وهذه النتائج على مستوى الدائرة العامة المخصصة للأحزاب. من ناحية أخرى، بعيداً عن التلاوم بين «عرّابي العملية الانتخابية»، فإن قانون الانتخاب الذي أجريت بموجبه الانتخابات الأخيرة صعد بالجميع على الشجرة، فأمام حقيقة النتائج، فإن أي تعديل على القانون سيكون بمثابة «رِدة» على برنامج التحديث السياسي. وإذا بقي القانون على حاله، فإنه من المقرّر ارتفاع أرقام المقاعد الحزبية في البرلمان المقبل بنسبة 50 في المائة؛ وهو ما سيعني زيادة ضمنية لمقاعد الإسلاميين في المجلس المقبل، وهذا تحدٍ أمام «الدولة العميقة» التي تبحث عن تعدّدية متقاربة الأثر والدور والتنظيم. والحقيقة أن الإسلاميين كانوا مُدركين لحقيقة أرقامهم. فأي قانون انتخاب بصوتين: واحد لدائرة محلية حدودها الإدارية ضيقة وواحد آخر للدائرة العامة (الوطنية) المخصّصة للأحزاب... يعني مضاعفة حصصهم في عدد المقاعد. وهذا مع الوضع في الحسبان أن «مطبخ» إدارة العملية الانتخابية لدى الحركة الإسلامية، ابتعد تماماً عن مزاحمة مرشحيه في الدوائر المحلية، وركّز على «خزّانه التصويتي» في معاقله التاريخية. وهكذا حصل في الدوائر المحلية على 14 مقعداً في عشر دوائر محلية ترشّحوا عنها، وفي الدائرة العامة حصل على 17 مقعداً، مستفيداً من أصوات مجّانية حصل عليها من المحافظات ودوائر البدو المُغلقة ذات الصبغة العشائرية التي كانت تُحسب تاريخياً على المؤسسة الرسمية.