بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

احتضنه «الأب» وأطاح «الابنَ» بينما كان يُعد «الحفيد» للرئاسة

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني
TT

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

عندما استيقظ العالم، صباح 30 أغسطس (آب) الماضي، على بيان يعلن الإطاحة بحكم علي بونغو، رئيس الغابون، لم ير أحدٌ وجه ذلك الجنرال القوي الذي قرّر الإطاحة بالرئيس. ربما كان يقف في الظل يرتّب مصير الرئيس وأسرته، ويصدر الأوامر لأولئك الذين سارعوا بالوقوف أمام الكاميرات، فذلك الجنرال الشاب، الذي عرف العالم بعده أن اسمه بريس أوليغي نغيما، كان واحداً ممن اعتادوا البقاء في الظل. رجل يتكلم بهدوء، ولا ينفعل إلا نادراً، إلا أنه فجأةً قرّر التمرد على كل ذلك، فأنهى، في ليلة واحدة، حياته السابقة، وقرّر أن يتصدر المشهد، في واحدة من أغنى البلدان في أفريقيا، وأفقرها شعوباً.

ليلة الانقلاب في الغابون، ظهر رجل البلاد «القوي» الجديد مُنهياً حكم «أسرة بونغو»، الذي استمر نحو 55 سنة، وللعِلم، يمتُّ الجنرال بريس أوليغي نغيما لهذه الأسرة بصلة قرابة... والأهم أنه يَدين لهم بالولاء، وخصوصاً إلى الرئيس عمر بونغو (الأب)، الذي كان نغيما أحد أقرب رجاله وظلّ مرافقاً له حتى لحظات عمره الأخيرة.

بيد أن علي، الرئيس الابن، لم يُكنّ للضابط الصاعد بسرعة على سُلّم الرتب العسكرية والنفوذ، مشاعر الود نفسها، إذ إنه كان قد أبعده لعقد كامل، ثم أعاده فجأة، لتبدأ العلاقة بين الرجلين فصلها الدرامي الأكثر إثارة.

البداية والنشأة

اسم «الجنرال» الكامل بريس كلوتير أوليغي نغيما، وهو من مواليد عام 1975 في مقاطعة أوت أوغوي، في أقصى جنوب شرقي الغابون، على الحدود مع جمهورية الكونغو (الكونغو - برازافيل)، وهي المقاطعة التي ينحدر منها بونغو.

لم يعانِ بريس الفقر والحاجة مثل كثيرين غيره من أطفال الغابون؛ لكون أسرته ميسورة الحال ومقرَّبة من أسرة بونغو، فأمه هي ابنة عم الرئيس المخلوع علي بونغو، ونشأ بوصفه واحداً من أبناء الأسرة الأقوى في البلاد، وسار على خطى والده، وواصل مسيرته المهنية في الجيش.

وفي سن مبكرة، انضم إلى وحدة الحرس الجمهوري، التي هي التنظيم العسكري الأقوى في الغابون، بعدما درس في الأكاديمية العسكرية الملكية المرموقة في مكناس بالمغرب، مُحاطاً بدعم أسرة الرئيس وثقتهم. وتقدّم بسرعة في مساره العسكري، مرتقياً سُلَّم المناصب، حتى أصبح مساعداً للرئيس (الأب) عمر بونغو، الذي حكم الغابون 41 سنة. وطوال الفترة التي أمضاها نغيما من عام 2005، حتى وفاة الرئيس الأب عام 2009 في أحد مستشفيات مدينة برشلونة الإسبانية، كان الضابط الشاب يُعامَل بوصفه أحد أفراد الأسرة الحاكمة.

ولكن في حين كان نغيما ينتظر مكافأة إخلاصه وتفانيه في خدمة الرئيس الأب، فيحقق مزيداً من الصعود في عهد «الوريث الابن» علي، لم يجد الضابط الشاب من الأخير سوى الفتور والإبعاد، ذلك أن الرئيس الجديد أقصاه عن الدائرة الداخلية المقرَّبة منه، وإن اتخذ ذلك الإقصاء شكل الترقية ليصبح ملحقاً عسكرياً في سفارتي الغابون بالمغرب والسنغال. غير أن الرحلة التي طالت لنحو 10 سنوات كانت كافية لأن ينسى الغابونيون - أو على الأقل النخبة الحاكمة فيها - وجه ذلك الضابط الذي اعتاد الجميع رؤيته قريباً من الرئيس التاريخي للبلاد.

لقد بقي الضابط نغيما متنقلاً بين الرباط وداكار، ينعم بسنوات دون أحداث تُذكَر؛ لا في حياته، ولا في تاريخ بلاده، بينما كان الرئيس علي بونغو ينتقل من فترة حكم إلى أخرى، ولا شيء تقريباً يتغير، إلى أن جاءت لحظة العودة مجدداً إلى المشهد، وكان ذلك عام 2018.

العودة إلى الأضواء

في أكتوبر (تشرين الثاني) 2018، استُدعي نغيما إلى الغابون، ليحلّ محل العقيد فريديريك بونغو (الأخ غير الشقيق للرئيس) على رأس «جهاز استخبارات الحرس الجمهوري»، التي تُعرَف رسمياً باسم «المديرية العامة للخدمات الخاصة (DGSS)».

ربما لا يعرف أحد تفاصيل الخلاف الذي وقع بين علي بونغو وأخيه غير الشقيق، لكن المؤكَّد أن الرئيس، الذي تعرَّض، في ذلك العام، لجلطة دماغية عجّلت بنقله إلى المستشفى العسكري في العاصمة المغربية لتلقّي العلاج، بحث في دفاتره القديمة عمّن يمكن الوثوق به في ذلك الموقع الخطير، فبرز اسم بريس نغيما.

من جهة ثانية، لعلَّ الرئيس ظنّ أن 10 سنوات من الابتعاد كافية لأن يدرك الضابط الشاب كثيراً من الحقائق، وقد يشعر بالامتنان للرئيس الذي أعاده مجدداً إلى الأضواء. وحقاً، عاد نيغما جنرالاً متحمساً للعمل، فكرّس حياته للحفاظ على نظام الرئيس علي بونغو، مستعيداً ثقته سريعاً، ومرتقياً بالسرعة نفسها إلى أعلى المواقع العسكرية.

إذ بعد أشهر معدودة على عودة نغيما إلى الغابون، عُيّن رئيساً للحرس الجمهوري، وما إنْ تسلَّم مهامّه حتى عزّز نظام الحماية الخاص بعلي بونغو، إلا أن الإصلاح الأكثر أهمية الذي قام به، كان تطوير «قسم التدخلات الخاصة» (وحدة خاصة وُضعت تحت السلطة المباشرة للرئيس)، التي رفع عدد أفرادها من نحو ثلاثين إلى أكثر من 300 عنصر. ووصل به الأمر إلى أن ألّف نشيداً لهذه الوحدة، يكرِّر الجنود فقراته بحماس، وخصوصاً البيت الذي يقول «سأدافع عن رئيسي بشرف وإخلاص».

مرحلة اتساع النفوذ

في تلك الفترة، اتسع نطاق نفوذ الجنرال القوي، ولم يقتصر على قوات الحرس الجمهوري التي زاد من قوتها وتسليحها، بل عمل - وفق شهادات قدَّمها مقرَّبون من نغيما، لوسائل إعلام غربية؛ منها وكالة «أ.ف.ب» الفرنسية - على مدّ نفوذه إلى بقية قطاعات الجيش، فازدادت شعبيته في صفوف القوات المسلَّحة، بعدما أقنع الرئيس بونغو بتحسين الأحوال المعيشية وظروف العمل للجنود، وذلك بتطوير المنشآت وتمويل مدارس لأبناء الجنود.

لكن نغيما حافظ، حتى ذلك الحين، على موقعه بوصفه «رجل الظل»، الذي يستشعر الجميع سطوته، دون أن يسمعوا صوته. وبعكس الوتيرة التي كانت تسير بها حياة الجنرال نغيما على مدى السنوات العشر التي أمضاها خارج بلاده، سارت السنوات الأخيرة حافلة بالأحداث. وباعتباره حجر الزاوية في جهاز أمن نظام الرئيس بونغو، أخذ يراقب عن كثب ما يجري في نهر السياسة، الذي لا يبعد كثيراً في دولة مثل الغابون عن أعين الجيش والمؤسسات الأمنية.

كان الرئيس علي بونغو، الذي تركت الأزمة الصحية التي واجهها قبل سنوات آثاراً واضحة على قدرته على الكلام والحركة، يواجه معارضة متنامية، سواء من الأحزاب أم في الشارع. وتمنَّى كثيرون - ربما بينهم الجنرال نغيما - ألا يترشح لفترة رئاسية ثالثة، وكانوا يأملون أن يوافق على أن يلعب دوراً في تأهيل «وريث» جديد من أسرة بونغو. ووفق موقع «موند أفريك» الفرنسي، جرى تكليف نغيما بمساعدة نجل علي بونغو؛ نور الدين بونغو فالنتان، من أجل الاستعداد لخلافة والده، لكن الرئيس اتخذ قراره بخوض الانتخابات المثيرة للجدل، رغم كل المحاذير، وكان هذا الفصل الأخطر من علاقته الدرامية مع الجنرال الطامح.

محطة مصيرية

أُجريت الانتخابات يوم 26 أغسطس (آب) المنصرم، وأُعلن فوز الرئيس بفترة رئاسية ثالثة ليلة الـ30 من ذلك الشهر. في حينه ربما كان الرئيس يفكر في استدعاء جنراله القوي ورئيس حرسه الجمهوري، ليناقش معه خطط التحضير لحفل تنصيب كبير يغطي به على احتجاجات المعارضة وغضب الشارع والاتهامات بتزوير الانتخابات.

ولكن بعد ساعات من إعلان نتيجة الانتخابات، جاء الجنرال نغيما بلا دعوة، وبوجه غير الذي اعتاد بونغو أن يراه.

في تلك اللحظة لم يكن الجنرالُ الحارسَ المؤتمَن على أمن الرئيس والنظام برُمّته، بل الرجل الذي قرر أن يُنهي 55 سنة من حكم الأسرة التي عاش في كنفها كل سنوات عمره، وحكمت بلاده لأكثر من نصف قرن.

في صباح الأربعاء الباكر، الموافق 30 أغسطس، أعلنت مجموعة من ضباط الجيش الغابوني، عبر التلفزيون الرسمي، الاستيلاء على السلطة، وإلغاء الانتخابات، وإغلاق الحدود حتى إشعار آخر... بعدها بساعات أعلنوا عن إخضاع الرئيس علي بونغو لـ«الإقامة الجبرية»، ثم إحالته لـ«التقاعد».

رغم كل الانتقادات وحملات الهجوم ضد الخطوة التي اتخذها «جنرال الظل الغابوني»، فإنه لم يتراجع. وبعدما ظهر الرئيس في فيديو مسرَّب وهو يستغيث بـ«أصدقاء الغابون» للتحرّك وإنقاذه، كان تحرك الجنرال أسرع، فتوارى الرئيس تماماً عن الأنظار، بينما ظهر رجل بزيٍّ عسكري وقبعة خضراء، وجنود يرفعونه في الهواء وهم يهتفون له.

الجنرال نغيما، الذي اختاره قادة الأجهزة العسكرية والأمنية في الغابون ليكون رئيساً للفترة الانتقالية التي لم تتحدد في البلاد، أكد، في مقابلة مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، أن الرئيس بونغو «متقاعد ويتمتع بجميع حقوقه، مثل أي شخص آخر». وعند سؤاله «هل ترى نفسك رئيساً جديداً لدولة الغابون؟» أجاب «لم أعلن نفسي بعدُ، ولا أفكّر في أي شيء في الوقت الراهن». وحول الإعداد لهذا الانقلاب، وما إذا كان قد بدأ قبل فترة طويلة... أم أن نتائج انتخابات 26 أغسطس، وإعلان فوز الرئيس بونغو، هما ما دفع ضباط الجيش للتحرك، قال نغيما «أنتم تعلمون أنه يوجد استياء في الغابون، وبعيداً عن هذا الاستياء، هناك مسألة مرض رئيس الدولة... الجميع يتكلّم عن ذلك الأمر، لكن لا أحد يتحمل المسؤولية... وليس لديه (أي الرئيس) الحق بالبقاء في منصبه لولاية ثالثة. لقد حدث تجاهل للدستور. وطريقة الانتخابات بحد ذاتها لم تكن جيدة، لذا قرّر الجيش طيَّ الصفحة، وأن يرتقي إلى مستوى مسؤولياته».

الوجه الآخر

اللافت أن الجنرال نغيما ورفاقه من قادة الانقلاب لم يبنوا تبريرهم الإطاحة بحكم بونغو، على قضية الانتخابات وحدها، بل سعوا إلى مغازلة الشارع عبر اعتقال عدد من الشخصيات والمسؤولين المتنفّذين في النظام، الذين وُجّه إليهم عدد من التهم؛ من بينها «الخيانة العظمى»، و«اختلاس أموال الدولة».

كانت هناك انتقادات طالت بونغو بسبب اقتصاد البلاد المتهالك، رغم الثروات التي تزخر بها، فالغابون واحدة من أغنى الدول في أفريقيا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى عائدات النفط، وقلة عدد السكان البالغ 2.3 مليون نسمة. النفط يشكل 60 في المائة من إيرادات البلاد، وبهذا تُعدّ سابع أكبر منتج له في أفريقيا، كما أنها عضو بمنظمة «أوبك».

في المقابل، يعيش فرد واحد، من أصل كل 3، تحت خط الفقر، وما يقرب من 40 في المائة من الغابونيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة عاطلون عن العمل، وفقاً لـ«البنك الدولي».

هذه ما كانت المرة الأولى التي يستخدم فيها نغيما قضايا الفساد وسيلة لكسب الشعبية، بل بعد فترة قصيرة من تولّيه رئاسة الحرس الجمهوري، أطلق عملية «الأيدي النظيفة»، الهادفة إلى تعقُّب الفاسدين والمختلسين، ولقيت هذه الحملة ترحيباً شعبياً، ولم يتصور أحد أن الجنرال القويّ الداعي إلى اجتثاث الفساد والفاسدين من الدولة، كان يواجه شخصياً اتهامات جدية باختلاس المال العام. فوفقاً لتحقيق مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد «OCCRP» لعام 2020، فإن الجنرال يمتلك عدداً من العقارات في الولايات المتحدة، وكان قد اشترى نقداً، بين عامي 2015 و2018، 3 منازل في ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن بمبلغ يفوق المليون دولار، كما ساعد أيضاً في توسيع أعمال بونغو الخارجية. وعندما سُئل عن هذه التعاملات، قال إنها «شأن خاص».

حجارة «الدومينو»

اليوم، لم يعد بريس أوليغي نغيما مجرد «جنرال ظل» يتكلّم بصوت هادئ، ويسعى دائماً إلى التوافق - كما يصفه مقرَّبون منه - بل غدا واحداً من جنرالات أفريقيا الأقوياء، الذين لم يكتفوا بإثارة عاصفة من التغيير في دولهم، بل سيَّروا موجة أقرب إلى سقوط أحجار «الدومينو» على رقعة النفوذ الدولي في القارة السمراء.

الغابون أضحت الدولة السادسة الناطقة بالفرنسية، التي تقع تحت الحكم العسكري، في السنوات الثلاث الماضية. وبينما يكافح المستعمرون القدامى لتلك الأراضي الشاسعة من أجل الحفاظ على بقايا نفوذ تلتهمه تحركات منافسيهم المتسارعة، تحترق أوراق «أفريقيا الفرنسية» بأيدي جنرالات الحرس الجمهوري.


مقالات ذات صلة

«كوب 29» يسدل ستاره بالاتفاق على تمويل مناخي بـ300 مليار دولار

الاقتصاد رئيس «كوب 29» مختار باباييف يصفق خلال الجلسة العامة الختامية لقمة الأمم المتحدة للمناخ (أ.ب)

«كوب 29» يسدل ستاره بالاتفاق على تمويل مناخي بـ300 مليار دولار

اتفقت دول العالم، بعد أسبوعين من المفاوضات الشاقة، على هدف تمويل سنوي بقيمة 300 مليار دولار لمساعدة الدول الأكثر فقراً على مواجهة آثار تغير المناخ.

«الشرق الأوسط» (باكو)
صحتك طفل مصاب بجدري القردة يتلقى الرعاية الصحية (أ.ب)

«الصحة العالمية»: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة

قالت منظمة الصحة العالمية، اليوم الجمعة، إن تفشي جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
رياضة عالمية منتخب سيدات المغرب من المرشحات لجائزة الأفضل في القارة الأفريقية (الشرق الأوسط)

«كاف» يعلن قوائم المرشحات للفوز بجوائز السيدات 

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف)، اليوم (الأربعاء)، القوائم المرشحة للحصول على جوائزه لعام 2024 في فئة السيدات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية كولر مدرب الأهلي المصري ينافس 4 مدربين لمنتخبات على الأفضل في أفريقيا (أ.ف.ب)

«كاف»: 5 مرشحين لجائزة أفضل مدرب في أفريقيا

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) عن القائمة النهائية للمرشحين لجائزة أفضل مدرب في القارة السمراء في عام 2024.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية أشرف حكيمي (أ.ب)

حكيمي يتصدر قائمة المرشحين لجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

ينافس المغربي الدولي أشرف حكيمي بقوة على جائزة أفضل لاعب في أفريقيا للعام الثاني على التوالي بعد دخوله القائمة المختصرة للمرشحين، التي أعلنها الاتحاد الأفريقي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.