يبدو رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس شخصية هادئة، لم تُعرف عنه الحدة قولاً أو فعلاً، ولم يُضبَط يوماً وهو يمارس سياسة القرارات الصادمة، بل أبدى خلال سنوات حكمه نمطاً «براغماتياً» يوازن بين إدارة تحولات بلاده، التي لا تزال مثقلة بأعباء أزمتها السابقة التي وصلت بها إلى حافة الإفلاس، وبين إدارة سياسة خارجية لا يتمتع من يديرها بأريحية كاملة. هذا السياسي المحافظ المعتدل مثقل، في الواقع، بأعباء وهموم تاريخية لطالما أدخلت اليونان في مواجهات مع جيران بالإقليم، وتعقيدات جغرافية كادت تؤجج جذوة حروب قديمة. لقد تعلم ميتسوتاكيس (55 سنة) من الأميركيين الذين تخرج في أرقى جامعاتهم (هارفارد) القدرة على إدارة المتناقضات. وتعوّد عبر عمله الطويل السابق في شركة «ماكينزي» الأميركية للاستشارات دقة الحسابات، والتحسب المسبق للخطر. وفي حين أكسبه ميراثه السياسي العائلي العريق (بما في ذلك كونه نجل كونستانتينوس ميتسوتاكيس، رئيس وزراء اليونان من 1990 حتى 1993) فهماً عميقاً للماضي وسطوته، فإنه لا يزال يحتفظ بذلك الشغف اليوناني القديم بالمستقبل وجرأته. واليوم، يعزّز ميتسوتاكيس موقعه السياسي، بشعبية كبيرة و«تفويض واضح» -كما وصفه هو نفسه- عقب فوز حزبه اليميني «الديمقراطية الجديدة» بغالبية مطلقة في الانتخابات اليونانية الأخيرة ما مكّنه من تأمين 158 مقعداً في البرلمان المكون من 300 مقعد، مقابل 47 مقعداً فقط لمنافسه اليساري حزب «سيريزا». ومن ثم، تبدو اليونان مقبلة على تحولات جوهرية تفرضها طبيعة المتغيرات العميقة في الإقليم، لا سيما في أعقاب الحرب الروسية - الأوكرانية، والتسابق الإقليمي والدولي على منطقة شرق المتوسط، التي باتت «بحيرة» الطاقة الواعدة في ظل اكتشافات الغاز الكبيرة خلال السنوات الأخيرة. وهذه الطاقة، وإن بدت أداة لصناعة مستقبل اقتصادي كبير لدول المنطقة، فهي في الوقت ذاته يمكن أن تكون عود الثقاب الذي يطلق الشرارة الأولى في منطقة معبأة برائحة الغاز وأعباء الماضي.
الولاية الحكومية الأولى لرئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس، التي بدأت عام 2019، اختتمت عقداً من الأزمات عانت اليونان خلاله تداعيات ثقيلة لما عُرفت بأزمة «الديون السيادية»، التي عصفت بالبلاد في أبريل (نيسان) 2010 حين عجزت عن سداد ديونها الخارجية. وآنذاك طلبت أثينا من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي إنقاذها من خطر الإفلاس والتخلف عن السداد عبر تفعيل خطة إنقاذ تتضمن تقديم قروض ضخمة مقابل تنفيذ أثينا إجراءات تقشف.
تلك كانت فترة مثقلة بأعباء استمرار خطة التقشف، لكنها أيضاً كانت فرصة لإعادة إطلاق مسار علاقات خارجية أكثر انفتاحاً لوريثة الحضارة الإغريقية، لا سيما في منطقة شرق المتوسط، واستعادة اليونان دورها كلاعب محوري في معادلة التأثير في منطقة تتعاظم أهميتها الجيو - استراتيجية والاقتصادية بشكل متسارع.
سياسات متوازنة
استطاع ميتسوتاكيس الاستثمار في الشراكات الثنائية لبناء سياسة خارجية إقليمية نشطة تقوم على الدبلوماسية، بعكس حكومة «جاره» الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي اتخذ نهجاً صدامياً مع جيرانه في المنطقة وحلفائه الغربيين، وهكذا حافظت اليونان على علاقات دفاعية وثيقة مع واشنطن وباريس. وبينما كان إردوغان يقود تركيا باتجاه تقارب كبير مع موسكو، كان ميتسوتاكيس يقود اليونان في الاتجاه المقابل نحو مزيد من الاندماج الغربي، مولّياً ظهره لميراث التقارب اليوناني - السوفياتي إبان حكومات أثينا اليسارية.
وبالفعل، نجحت اليونان خلال السنوات الأخيرة في بناء شبكة من التحالفات والعلاقات الوثيقة مع دول منطقة الشرق الأوسط، من دون أن تتورط في مشكلات المنطقة. وبناءً عليه، نجحت في تعزيز الروابط مع ليبيا على الرغم من الانقسام السياسي فيها، وتقديم المساعدة للبنان بعد انفجار مرفأ بيروت. لكن ربما جاء نجاحها الأكبر عبر صياغتها استراتيجية موازنة إقليمية من خلال التعاون مع دول الجوار الرئيسية مثل مصر وإسرائيل.
لقد مثّل التقارب اليوناني مع مصر في إطار «تحالف ثلاثي»، يضم قبرص إلى جانبهما، واحدة من قصص نجاح إدارة السياسة الإقليمية لحكومة ميتسوتاكيس الأولى، ومساراً يراهن عليه رئيس الوزراء اليوناني في حكومته الجديدة. ثم إن هذا التعاون الثلاثي يتجاوز إطار منتدى غاز شرق المتوسط الذي أُسس في مطلع 2019، وتستضيف القاهرة مقره الأساسي، وتشارك فيه اليونان ومصر وقبرص إضافةً إلى إيطاليا، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل. وقد اكتسب المنتدى زخماً كبيراً مع حرص البنك الدولي على حضور جميع فعالياته، وكذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة بصفة مراقبين.
الدكتور عبد اللطيف درويش، أستاذ الاقتصاد وإدارة الأزمات بجامعة «كارديف متروبوليتان» البريطانية -المقيم في العاصمة اليونانية– أوضح في حوار مع «الشرق الأوسط» أن سياسة اليونان تجاه الشرق الأوسط، «سعت حقاً إلى تحقيق التوازن، اتساقاً مع الموقف الرسمي اليوناني والأوروبي الملتزم بحل الدولتين في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية» إلا أنه من الملاحَظ أن «التقارب مع الكيان الصهيوني والعلاقات قد فاقا كل الأزمنة من حيث التعاون العسكري والأمني والدفاعي وشراء الأسلحة والطائرات المسيّرة وغيرها من التجهيزات العسكرية الإسرائيلية وذلك بغرض مواجهة تركيا».
التوتر مع تركيا
محدد المواجهة مع تركيا يبدو أحد العناصر الرئيسية في صياغة تحركات اليونان الخارجية، سواء خلال عهد الحكومة الأولى لميتسوتاكيس، أو حتى في سنوات حكومته الثانية. وللتاريخ هنا تأثير لافت، وذاكرة الصراع بين أثينا وأنقرة تمثل عبئاً ثقيلاً على البلدين، لا سيما أن نوازع التوتر حاضرة بقوة، ومتوافرة طوال الوقت. وقد فرضت الطبيعة الجغرافية لانتشار الجزر اليونانية، التي لا يبعد بعضها عن الساحل التركي سوى كيلومترين فقط، حالة تماس دائم واشتباك محتمل.
وهنا يرى الدكتور درويش، أن الكثير من الدول الأوروبية والولايات المتحدة «تسعى إلى الضغط على الطرفين (تركيا واليونان) لخلق تقارب بهدف مواجهة موضوع اللاجئين واستغلال الثروات البحرية بين الطرفين وتيسير اللقاءات بين رئيس الوزراء اليوناني والرئيس التركي على هامش اجتماعات الناتو كبداية لإيجاد أرضية مشتركة... ومن هنا يمكن القول إن سياسة الحكومة اليونانية تتجه غرباً وتلتزم بالمواقف الأوروبية والأميركية».
ومن ثم، يذهب درويش إلى القول إن اليونان «رأت أن الخلاف المصري - التركي لمصلحتها ولا ترى في التقارب إيجابية، بل ترى أنها تخسر قوة يمكن أن تعينها وتفيدها في الصراع مع تركيا... ولكن يمكن القول إنه قد يساعد على إمكانية الاستفادة من الثروات البحرية من خلال خفض التوتر أو من خلال انضمام تركيا إلى منتدى غاز شرق المتوسط للغاز».
من جهة أخرى، مع أن جذور التوتر في العلاقات التركية - اليونانية تمتد إلى أمد بعيد، سواء في عهد الدولة العثمانية أو بعد تأسيس الجمهورية التركية، فإن تطورات الواقع في المنطقة تُبقي نوازع التوتر قابلة دوماً للاشتعال. ولقد اقتربت مياه منطقة شرق المتوسط من درجة الغليان في أغسطس (آب) 2020، عندما أصبحت المنطقة على أعتاب مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا واليونان، على خلفية مواصلة أنقرة التنقيب عن الغاز في المناطق المتنازَع عليها بالقرب من الجزر اليونانية. وما زاد من تعقيد الأوضاع التصادم البحري بين فرقاطة يونانية وأخرى تركية، أعقبه نشر فرنسا سفناً حربية لإجراء تدريبات مشتركة مع البحرية اليونانية، علاوة على نشرها مقاتلات فرنسية من طراز «رافال» في جزيرة كريت اليونانية. غير أن مساعي دبلوماسية متعددة، كان أبرزها تلك التي بذلتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (آنذاك)، أسهمت في نزع فتيل الأزمة ولو مؤقتاً.
وهنا يُبدي الدكتور أحمد قنديل، رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تصوراً يقوم على أنه «رغم كل اعتبارات التوتر التي يمكن أن يقدمها السياق التاريخي للمنطقة، فإن ثمة متغيرات كثيرة تفرض نفسها على جميع الأطراف، ومن بينها الأزمات الاقتصادية التي باتت شبحاً يخيِّم على جميع دول العالم، في مرحلة ما بعد جائحة (كوفيد – 19) والحرب الروسية - الأوكرانية».
ويعتقد قنديل أن هناك أيضاً «تحولات لافتة باتجاه تقاربات إقليمية في منطقة شرق المتوسط، فضلاً عن إدراك كثير من صناع القرار أن إدارة العلاقات البينية وفق نموذج المصالح المشتركة هو الأفضل للجميع». ومن هنا يمكن بناء تصوّر يقول إن التقاربين المصري – التركي، واليوناني – التركي، اللذين انعكسا في أعقاب أزمة زلزال فبراير (شباط) الماضي يمكنان أن يكونا «خطوة على طريق يُفضي إلى نوع من التفاهمات نحو ترسيم الحدود البحرية التركية - اليونانية». وهو ما يراه قنديل «حجر زاوية في إرساء تفاهمات خفض التوتر في شرق المتوسط». هذا، ويتوقع الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن تسلك أثينا «مساراً تصالحياً» في هذا الشأن. «لأنه مع إعادة انتخاب ميتسوتاكيس، وكذلك إعادة انتخاب إردوغان، تبدو الحاجة إلى إجراءات لبناء الثقة العسكرية والأمنية بين البلدين، وربما ترسخت قناعة لدى قيادتي البلدين أن استمرار التوتر يحرم الجميع من الاستفادة من عوائد استغلال الثروات البحرية في المنطقة»، وهنا يمكن لـ«دبلوماسية الغاز» أن «توفر إطاراً فعالاً لحلحلة صراعات تاريخية مثل الأزمة القبرصية وترسيم الحدود البحرية، وإحراز تقدم في ملف تجنب عسكرة الجزر اليونانية القريبة من الحدود التركية»، وفي كل الأحوال «ستبقى اليونان لاعباً مهماً في معادلة الأمن والاستقرار في شرق المتوسط، وستحدد تحركات حكومتها في الفترة المقبلة الكثير من ملامح المستقبل»، حسب قنديل.
هوية جيو - سياسية جديدة
في سياق متصل، «المستقبل» كلمة لا تبدو دائماً حاضرة عند النظر إلى المشهدين السياسي والأمني في شرق المتوسط. إذ إن الماضي ربما يكون أكثر تأثيراً على طبيعة العلاقات داخل تلك المنطقة، كونه يفرض حضوراً طاغياً عند قراءة سطور ملف العلاقات اليونانية - التركية، أو القبرصية – التركية، أو العربية – التركية، أو العربية - الإسرائيلية. ولكن يبدو أن اليونانيين، الذي اهتموا منذ قرون بعيدة بقراءة المستقبل، باتوا أكثر ميلاً لاستشراف المستقبل. واليوم، ثمة أدوات ووسائل أخرى لبناء المستقبل، ومن الواضح أن حكومة ميتسوتاكيس تراهن على أن مستقبلها يتجه غرباً، رغم انخراطها تاريخياً في الشرق، حيث تقوم أثينا ببناء هوية جيو - سياسية جديدة كحصن للغرب في شرق المتوسط... ويرى كثيرون أنه يمكن إسناد مسؤوليات جديدة إلى اليونان في إطار تخطيط حلف شمال الأطلسي «ناتو» وأوروبا لمسارات الأمن الإقليمي.
ويذهب تحليل نشرته مجلة «فورين بوليسي» في سبتمبر (أيلول) 2020 إلى أن «أثينا تعيد إحياء نفسها كقوة دبلوماسية»، مستشهداً بتحركات يونانية مكثفة بين إسرائيل وفلسطين، وذهاب رئيس وزرائها في جولة إلى شمال أفريقيا شملت طرابلس والقاهرة، وتوثيق العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع المملكة العربية السعودية، وتنشيط العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا، والحفاظ على تنامي العلاقات بصورة غير مسبوقة مع مصر والأردن والإمارات وقبرص.
وحقاً، تسعى اليونان، التي تتمتع بموقع متميز بين ثلاث قارات، وتمتلك أكبر أسطول تجاري يعمل على مستوى العالم، ولديها في موانئ بيرايوس وتيسالونيكي وألكساندروبوليس «بوابات» للاتحاد الأوروبي ومنطقة البحر الأسود، إلى استغلال قدراتها تلك لتعزيز وجودها كقوة في شرق المتوسط، سواءً كمركز للطاقة بين الأسواق الأوروبية والمنتجين الإقليميين، أو كقوة عسكرية عبر تعزيز قدراتها بالتعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا.
وبالمناسبة، أعلن رئيس الوزراء اليوناني في منتصف سبتمبر (أيلول) 2020، عن «برنامج مهم» لتعزيز القدرات العسكرية للبلاد، يشتمل على شراء أسلحة بينها 18 مقاتلة «رافال» فرنسية، وأربع فرقاطات متعددة المهام، فضلاً عن تجنيد 15 ألف جندي إضافي، كما تخطط أثينا أيضاً لزيادة حجم إنفاقها العسكري خلال السنوات العشر المقبلة، ليصل إلى 10 مليارات يورو.
ثم إن اليونان، على الرغم من الأزمة المالية التي هزّتها خلال العقد الماضي، تأتي في مرتبة متقدمة بين الدول الأعضاء في «الناتو» من حيث نسبة الإنفاق العسكري بالنسبة لحجم الاقتصاد الوطني. فخلال العام الماضي، أنفقت اليونان نحو 2.29 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على السياسات الدفاعية، علماً بأن متوسط حجم الإنفاق الدفاعي في دول الحلف (قبل الحرب في أوكرانيا) تراوح بين 1.2 و2 في المائة.
وأيضاً، تعاقدت اليونان مع الولايات المتحدة لشراء نحو 20 طائرة من مقاتلات «إف - 35» (الشبح)، مع إمكانية إضافة 20 طائرة أخرى في المستقبل، وانتشرت أنباء عن اتفاق بشأن مشاركة اليونان في برنامج تصنيعها، إلى جانب تعاقدها على ترقية 84 طائرة «إف - 16»، علاوة على شراء المسيّرات الأميركية «إم كيو - 9»، ووضع مشروع تصنيع طائرات مسيّرة يونانية الصنع على أجندة المرحلة المقبلة في إطار مواجهة المسيّرات التركية.
هذا، وتراهن اليونان في مسعاها لزيادة حضورها الإقليمي على علاقات تاريخية تجمعها مع واشنطن. إذ يبدو ملف العلاقات الأميركية مع أثينا واحداً من ملفات معدودة لا يختلف عليها الجمهوريون والديمقراطيون، وتتجه العلاقات بثبات نحو بناء «تحالف استراتيجي جديد» بين البلدين، يمكن أن يكون بمثابة بديل لتركيا... بل تشير تقارير أميركية عدة إلى أن هناك دراسة لاستخدام الجزر اليونانية بديلاً لقاعدة «إنغرليك» الجوية في تركيا. وما يُذكر أن أثينا كانت قد استغلت التوتر بين أنقرة وواشنطن لتوطيد علاقتها بالأخيرة. وفي 12 مايو (أيار) 2022 مدّدت اتفاقية دفاعية مبرمة مع واشنطن لمدة 5 سنوات، ما يسمح للجيش الأميركي بالوصول إلى 3 قواعد في البر الرئيسي لليونان إلى جانب وجوده العسكري في جزيرة كريت.
ومع استراتيجية واشنطن لدعم وحماية شرق أوروبا من التمدد الروسي، خصوصاً مع تفاقم الأزمة بين روسيا و«الناتو» بسبب الحرب في أوكرانيا، زادت واشنطن وجودها العسكري في رومانيا وبلغاريا واليونان. وهو ما دعا نيكولاس بيرنز، السفير الأميركي السابق لدى الناتو وأثينا وأستاذ السياسة الدولية بجامعة «هارفارد»، إلى وصف اليونان خلال فعالية على الإنترنت لـ«صندوق مارشال الألماني» في بروكسل عام 2021 بأنها «أهم شريك عسكري للولايات المتحدة في شرق المتوسط».
كذلك رأى وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، الذي يعد أحد مهندسي الاتفاقية العسكرية مع اليونان، في تصريح له -بعد مغادرته منصبه– لصحيفة «كاثميريني» اليونانية في 29 مارس (آذار) 2022، أن «قاعدة كريت العسكرية الأميركية ستُغير موازين قوى المنطقة، وستؤمّن طرق التجارة البحرية العالمية». ومعلوم أن أثينا عززت أيضاً تحالفها مع أبرز شركائها التاريخيين في أوروبا، إذ وقَّعت مطلع العام الماضي مع فرنسا اتفاقية للتعاون العسكري يتضمن صد أي هجوم ضد إحداهما، وهذه الاتفاقية هي الثانية العسكرية بين الدولتين بعد توقيعهما في سبتمبر 2021 على اتفاقية الدفاع الثنائية.
هذه السياسة يراها الدكتور عبد اللطيف درويش «استمراراً لسياسات اليمين اليوناني على الصعيد العسكري»، حيث تسعى الحكومة إلى دعم قواها من خلال الانتشار العسكري الواسع في الجزر وشراء الأسلحة والطائرات من فرنسا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى النجاح الدبلوماسي الذي «حال خلال السنوات الأخيرة دون حصول تركيا على طائرات F16 وF52 الأميركية وأنواع أخرى من التجهيزات العسكرية الغربية، الأمر الذي خلق توتراً مع تركيا». ولكن في المقابل يرى الدكتور أحمد قنديل أن تعزيز العلاقات اليونانية - الأميركية، وإن كان يمثل ركيزة لبناء منظومة الأمن اليونانية، فإنه قد «يمثل في الوقت ذاته أداة لإثارة مخاوف تركيا، واستدعاء استقطابات دولية في المنطقة».
محطات مهمة في تاريخ «شرق المتوسط»
> تبدو منطقة «شرق المتوسط»، وبخاصة على المسرح «اليوناني - التركي - القبرصي»، حافلة بالمحطات التاريخية ذات الدلالة، التي تسهم إلى اليوم في صياغة ملامح العلاقة بين أطراف المنطقة. ولعل من أبرز تلك المحطات ما يلي:
- يرجع توتر العلاقات بين اليونان وتركيا إلى تأسيس دولة يونانية مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية عقب حرب الاستقلال اليونانية عام 1820، ومنذ ذلك الحين، لعبت العوامل القومية والدينية والجيو - سياسية دورها كمحفزات دائمة للتوتر بين الدولتين.
- تجدد الصراع بين تركيا واليونان، بعد مشاركة اليونان مع الحلفاء ضمن الحرب العالمية الأولى، في احتلال جزء من الأراضي التركية، وما جاء بعدها من «حرب تحرير» قادها مصطفى كمال «أتاتورك» انتهت بإنهاء «الاحتلال اليوناني» لغرب تركيا وتأسيس الدولة التركية عام 1923.
- بعد الحرب العالمية الثانية، ومن خلال «اتفاقية باريس 1947»، تخلّت إيطاليا عن سيادتها على 14 جزيرة في بحر إيجة لليونان، وهو ما أطلق خلافاً جديداً بين أنقرة وأثينا بسبب قرب هذه الجزر من السواحل التركية. وحتى الآن يبقي موضوع ترسيم الحدود البحرية بين تركيا واليونان في بحر إيجة وشرق المتوسط مشكلة دون حل جذري.
- عام 1966 اتخذ البرلمان التركي قراراً يفيد بأن إعلان اليونان مد حدودها البحرية في بحر إيجة إلى 12 ميلاً بحرياً يعني «إعلان حرب» بين البلدين.
- في 20 يناير (كانون الثاني) 2021 أعلن رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس مد الحدود البحرية لليونان في البحر الأيوني (جنوب بحر إيجة) إلى 12 ميلاً بحرياً، مع الاحتفاظ بحق اليونان في توسيع هذا الحق إلى بحر إيجة لاحقاً.
- عام 1974 قُسمت جزيرة قبرص عندما غزت تركيا ثلثها الشمالي، رداً على الانقلاب اليميني الذي وقع في الجزيرة بدعم من حكام اليونان العسكريين الانقلابيين.
- في ديسمبر (كانون الأول) 2019 وقّعت تركيا اتفاقية مع «حكومة الوفاق الوطني» الليبية، لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين تركيا وليبيا في البحر المتوسط، وهو ما رفضته مصر واليونان وقبرص.
- في 9 يونيو (حزيران) 2020 أبرمت إيطاليا واليونان اتفاقية لتعيين المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدولتين، ومثّلت الاتفاقية أهمية كبيرة لأنه يمكن استخدامها لتقويض اتفاق تركيا مع «حكومة الوفاق الوطني» الليبية.
- في 6 أغسطس (آب) 2020، وقّعت مصر واليونان اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بينهما بعد ما يقرب من 13 جولة تفاوضية خلال أكثر من 15 سنة. وتسهم الاتفاقية في إضفاء شرعية قانونية ودولية على كل الأنشطة البحرية المتعلقة باستغلال الثروات الطبيعية في المنطقة المشمولة بالاتفاق، كما أنها تؤمّن حقوق البلدين في أي اكتشافات مستقبلية للغاز في تلك المنطقة، وأعلنت تركيا اعتراضها على الاتفاق. مثّل التقارب اليوناني مع مصر في إطار «تحالف ثلاثي» يضم قبرص إلى جانبهما واحدة من قصص نجاح إدارة السياسة الإقليمية لحكومة ميتسوتاكيس الأولى