كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

براغماتي إلى أبعد الحدود... وفصيله أشبه بـ«كلية عسكرية»

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
TT
20

كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

منذ تحول الثورة السورية إلى العمل العسكري بعدما استبعد النظام السابق خيار التفاوض واستخدم القوة المفرطة في قمع المظاهرات عام 2011، شهدت البلاد طفرة في الفصائل المسلحة التي ترواحت بين إسلامية جهادية وأخرى معتدلة، بحسب موقعها من طيف التشدد والتدين الذي شكل قاعدتها المشتركة.

وفي أواخر عام 2011 تأسست إحدى أكبر الفصائل باسم «حركة أحرار الشام»، وتجمع بين الجهادية والإخوانية بأجندات محلية. ويمكن القول إن «أحرار الشام» هي أول فصيل دمج بين الجهادية والمحلية، سابقة بذلك «هيئة تحرير الشام» نفسها التي كانت تؤمن بالجهادية العالمية إبّان تبعيتها لتنظيم «القاعدة» وحتى لحظة فك ارتباطها به في يوليو (تموز) 2016.

وبمراحل تحولها وصعودها كافة، التي بلغت أخيراً بمعركة «ردع العدوان» وأوصلت «هيئة تحرير الشام» وقائدها «أبو محمد الجولاني»/ أحمد الشرع إلى حكم سوريا الجديدة، تميزت الهيئة بهيكلية داخلية دقيقة أقرب إلى «كلية عسكرية» بحسب وصف أحد القياديين السابقين في «الهيئة»، الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط».

طفل يجلس على أكوام من الذخيرة في معرة نصرين في إدلب نهاية 2021 (غيتي)
طفل يجلس على أكوام من الذخيرة في معرة نصرين في إدلب نهاية 2021 (غيتي)

«أحرار الشام»

في البدايات كان فصيل «أحرار الشام» أكثر الفصائل السورية أدلجة وتنظيماً معاً، وكان لقادته أمثال حسان عبود وأبو يزن الشامي كاريزما قوية وثقل في الأوساط الثورية، فكانت إلى جانب أسماء أخرى كعبد القادر الصالح (قائد لواء التوحيد) شخصيات وازنة في الأوساط الثورية بمختلف مشاربها.

وبقي هذا حال الحركة حتى يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2014. حين قتل قادتها في تفجير استهدف اجتماعاً لمجلس شورى الحركة في بلدة رام حمدان بريف إدلب. وهو تفجير لا تزال ملابساته غامضة حتى اليوم، أودى بحياة قائد الحركة أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) ونحو أربعين آخرين من القياديين والشرعيين، لتبدأ مرحلة التراجع التدريجي في القوة والنفوذ وتصل سريعاً إلى أدنى مستوياتها فتتحول فصيلاً صغيراً موزع الولاءات بين فصائل أكبر كـ«الجيش الوطني» و«هيئة تحرير الشام».

ويذكر أن «الجيش الوطني السوري» فصيل تشكل في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2017، من 36 فصيلاً مسلحاً مثل «الجبهة الشامية»، و«جيش الإسلام»، و«فيلق المجد»، و«الفرقة 51»، و«لواء السلام»، و«فرقة السلطان شاه» المكونة بشكل أساسي من التركمان.

«لواء التوحيد»

من الفصائل الكبرى في سوريا، التي تميّزت بالقوة والنفوذ وقبول شعبي واسع أكثر من «جبهة النصرة»، «لواء التوحيد» الذي تأسس في 21 يوليو (تموز) 2012 وضمّ مجموعة من الكتائب العسكرية المحلية للقتال في مناطق ريف حلب الشمالي.

ويعد «لواء التوحيد» التشكيل الأكبر في المعارضة المسلحة في تلك المرحلة والممثل الأبرز للتيار الإسلامي «المعتدل» الذي يزاوج بين السلفية المعتدلة والإخوانية والخطاب «الوطني» المحلي. إنه أحد أكثر الفصائل التي ضمت في بداياتها أطيافاً متنوعة من الجهادي المعتدل إلى الإخواني إلى ما تعارف على تسميته «الإسلامي الوطني» أو حتى «الوطني الصرف» بمعنى غير الإسلامي؛ ما يعكس واقع التذبذب في توجهات تلك الفصائل فكرياً وآيديولوجياً.

وكان «لواء التوحيد» أبرز فصائل الثورة السورية التي خاضت معارك كثيرة وعلى جبهات مختلفة، لعل أهمها المعارك مع «حزب الله» اللبناني في بلدة القصير عام 2013. لكن بعد مقتل قائده عبد القادر الصالح في استهداف مباشر بغارة جوية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2013، سرعان ما اضمحل هذا الفصيل أيضاً وتفكك، وتوزعت قياداته وعناصره بين فصائل مختلفة كل بحسب توجهه.

مقاتلون من «هيئة تحرير الشام» في حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)
مقاتلون من «هيئة تحرير الشام» في حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

«جيش الإسلام»

من الفصائل البارزة التي لعبت أدواراً أساسية، «جيش الإسلام» الذي يتخذ من بلدة دوما في ريف دمشق معقلاً له، وفرض سيطرته على غالبية الحواضن الثائرة المحيطة بالعاصمة من الغوطة الشرقية في ريف دمشق وبلدة القلمون ومحيطها وصولاً إلى الحدود اللبنانية. كذلك سيطر «جيش الإسلام» على أحياء داخل العاصمة وأطرافها الشرقية، أهمها القابون وبرزة البلد وجوبر وزملكا وغيرها، وصولاً إلى ساحة العباسيين، أهم الساحات الدمشقية بعد ساحة الأمويين.

يشكّل «جيش الإسلام» بتوجهه «السلفي الجهادي» المعلن من عشرات المجموعات المسلحة العاملة في العاصمة وريفها صيف عام 2013 حتى بلغ عدده أكثر من 25 ألف مقاتل بتجهيزات عسكرية متوسطة وثقيلة، بينها دبابات وعجلات مدرعة وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ظهرت في الاستعراض العسكري الذي نظمه «جيش الإسلام» ربيع عام 2015 لدى تخريج دفعة من مقاتليه بلغت 1700 مقاتل.

وعلى رغم توجهه السلفي الجهادي، فقد دخل هذا الفصيل في جولات قتال مع «جبهة النصرة» و«فيلق الرحمن» المقرب منها، وكذلك تنظيم الدولة (داعش)؛ ما أدى إلى إضعافه بشكل كبير. لكنه بقي متماسكاً إلى حد كبير في بنيته العسكرية حتى لحظة مقتل زعيمه زهران علوش في غارة جوية يُعتقد أنها روسية نفذت في 26 ديسمبر 2015.

وكغيره من الفصائل التي تفككت بمقتل قائدها، لم يستطع «جيش الإسلام» الصمود طويلاً على رغم ما كان يتلقاه من دعم، ولم يتمكن من الحفاظ على مناطق سيطرته ونفوذه السابقة مقارنة بـ«هيئة تحرير الشام».

وبذلك تلاشى واضمحل كأغلبية فصائل الثورة السورية التي فاقت «هيئة تحرير الشام» عدداً وتلقت دعماً مادياً وإعلامياً وشعبياً، التي كانت تحمل اسم «جبهة النصرة» حينها، التي كانت مصنفة - ولا تزال - على قوائم الإرهاب العالمية؛ ما ساهم أيضاً في عزلتها حتى على الإعلام العالمي، على عكس بقية الفصائل. لكن، هذه العزلة هي نفسها التي ستتيح للتنظيم رص صفوفه وتقوية عوده بعيداً عن الأضواء والتأثيرات الخارجية.

التحدّي والصمود

في حين انشغل قادة معظم فصائل المعارضة المسلحة التي تزامن صعودها مع صعود جبهة النصرة كمثل «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» و«لواء التوحيد»، بالتنافس فيما بينهم على النفوذ في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات نظام بشار الأسد، ومحاولاتهم حصد الشعبية في الأوساط الثورية والحواضن الاجتماعية، كان قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) يعمل بصمت بعيداً عن الضوضاء ولم يظهر للعلن حتى عام 2016، عندما أعلن فك ارتباطه بتنظيم «القاعدة»، ثم عاد وانكفأ إلى حد بعيد.

مقاتلون من حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب في سبتمبر 2018 (غيتي)
مقاتلون من حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب في سبتمبر 2018 (غيتي)

تشكلت «هيئة تحرير الشام» (أو جبهة النصرة سابقاً) من تحالف طوعي أو قسري لعدد من الفصائل والتنظيمات المسلحة، كـ«جبهة أنصار الدين» و«حركة نور الدين الزنكي» و«جيش السنة» و«لواء الحق» وغيرها، وتحالف طيف واسع من التشكيلات الأصغر المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، وأبرزها «إمارة القوقاز» و«الحزب الإسلامي التركستاني» و«جيش العزة» و«جيش النصر»، وشهدت هي الأخرى تحولات مهمة وانشقاقات وانتقالات بين التشكيلات العسكرية. لكن ما ميّز «هيئة تحرير الشام» عن الفصائل والمجموعات الأخرى، قدرتها على تغيير مرجعيتها الفكرية وفق ما تفرضه معطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، ومعطيات خريطة النفوذ والتحالفات في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات الأسد.

والواقع أنه قبل انشقاقها عن تنظيم «داعش» في ربيع عام 2013، كانت «جبهة النصرة» الفصيل الأقوى في محافظة دير الزور من حيث القدرات القتالية بأعداد تتعدى 7 آلاف مقاتل، بحسب التقديرات، وأسلحة متوسطة وثقيلة معظمها من تنظيم «داعش» في العراق. وأدى الانشقاق هذا إلى تراجعها مؤقتاً، لكنها سرعان ما أعادت ترتيب صفوفها وتمكنت من تجاوز مرحلة الضعف التي رافقت نهاية قتالها مع «داعش» الذي انتزع منها السيطرة على محافظة دير الزور وبلدة الشحيل، معقلها الرئيس، وأخرجها من معادلة التوازنات في المحافظة كلها.

لكن «جبهة النصرة» التي انسحب مقاتلوها من دير الزور إلى محافظة إدلب، عادت ونجحت في الانطلاق من جديد لبناء قوة فرضت نفسها بحلول نهاية معركة حلب أواخر عام 2016، وتشكيل «هيئة تحرير الشام» في فبراير (شباط) 2017.

وخلافاً للفصائل التي اضطرت للاندماج مع غيرها لضمان بقائها، مثل حركة «أحرار الشام» على سبيل المثال التي اندمجت مع «حركة نور الدين الزنكي» تحت مسمى «جبهة تحرير سورية»، تمكنت «تحرير الشام» من الحفاظ على استقلالها التنظيمي.

بل أكثر من ذلك، انضمت إليها بعض الفصائل الصغيرة مثل «جبهة أنصار الدين» و«جيش النصر» وهما من التنظيمات المسلحة المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، أو القريبة منه، وغيرهما.

وكلما مرّ الوقت، ازدادت «تحرير الشام» نفوذاً وقوة، إلى أن تمكنت مطلع 2019 بعد موجة من القتال مع «حركة أحرار الشام» و«حركة نور الدين زنكي» وفصائل أخرى من إحكام سيطرتها على كامل محافظة إدلب، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظات حلب وحماة واللاذقية.

قائد يعرف جنوده

يقول سامي محمد، وهو قيادي شرعي ثم عسكري سابق في «تحرير الشام»، لـ«الشرق الأوسط»: «أهم عامل في بقاء واستمرارية (تحرير الشام) هو استقلالية القرار، وكاريزما القيادة التي يتمتع بها أحمد الشرع وقادة (تحرير الشام)، وتأثيرهم المباشر على عناصرهم، بالإضافة إلى الانضباط العالي والتزام العناصر والقادة بقرارات القيادة».

أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)
أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)

ولفت محمد إلى الأمر الآخر والمهم جداً هو الثقة التي بناها أحمد الشرع مع العناصر والقادة، فهو يعرف كل قادة الصفوف كلهم حتى الصغيرة ويلتقي بهم وبالعناصر بشكل دائم، وهذا عزز الثقة ومكانته بينهم وداخل التنظيم، بعكس حال الفصائل التي تتسم بالفوضوية والارتجال في القرارات».

وبحسب محمد، فإن «هيئة تحرير الشام» هي أشبه بكلية عسكرية فعلية، بعيدة عن المناطقية سواء لجهة انتماء العناصر أو القادة، بعكس الفصائل التي كان يغلب عليها الطابع المناطقي، وأحياناً العائلي. كما أن خطاب الجماعة لم يكن مناطقياً، بل اعتمدت في سردياتها الحديث عن سوريا كاملة. وعما يقصده محمد بالكلية العسكرية، يقول: «هناك هيكلية قيادية وتنظيمية واضحة بالإضافة إلى مركزية اتخاذ القرار وتنفيذ السياسات التي ترسمها القيادة عبر المجموعات، وهذا عزز كثيراً قوة (تحرير الشام) بعكس الفصائل التي ليس للقيادة المركزية قيمة حقيقية فيها؛ فكل فصيل يتكون من مجموعات محلية تعمل بشكل مستقل وتتبع الفصيل الأساسي بالاسم فقط».

الاستقلالية وتجاوز الخطوط

ويقول محمد الإبراهيم، المعروف باسم «أبو يحيى الشامي»، وكان قائداً عسكرياً في أحد الفصائل الإسلامية، والمُطّلع على تقلبات الفصائل: «إن أهم عامل من عوامل صعود (هيئة تحرير الشام) هو الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها، وقدرتها على تجاوز الخطوط المرسومة».

ويشرح الشامي في اتصال مع «الشرق الأوسط» قوله بأن بقية الفصائل ذات التبعية المباشرة لدول معينة، التزمت بخط هذه الدول إلى حد بعيد ووقفت عند سقف محدد لها، بينما عدم تبعية «تحرير الشام» بشكل مباشر حررها من التقيد بسياسة خارجية، فكانت متحررة وقادرة على التصرف بما تمليه مصالحها المباشرة وصولاً حتى إلى تدمير بقية الفصائل.

الرئيس السوري أحمد الشرع على فرس أسود في دمشق (متداولة)
الرئيس السوري أحمد الشرع على فرس أسود في دمشق (متداولة)

ويلفت الشامي إلى أن «ذلك لم يكن فقط بسبب قوتها الذاتية، بل بسبب تصنيفها الدولي كياناً إرهابياً، وعدم انخراط الدول في علاقة معلنة معها على غرار فصائل أخرى». وأضاف: «هذا البعد الدولي الظاهري والقرب الخفي أتاح لها هامشاً واسعاً من الاستقلالية؛ ما جعل قدرتها على المناورة والتميز عن بقية الفصائل أكثر قابلية».

ويؤكد الشامي أن «الجولاني، في صراعاته مع فصائل الثورة، وضع كل الاعتبارات جانباً وسعى خلف مصالحه ومصالح فصيله. فكان يقاتل بكل شراسة ويحرص على التغلب. على عكس فصائل كثيرة ارتضت بأنصاف الحلول».

وأخذ الشامي على بقية الفصائل «جبنها» أحياناً في المواجهات مع «هيئة تحرير الشام»، فكانت تقبل بالحلول التي يطرحها الجولاني وتصدق في كل مرة أنه يريد الصلح بينما هو يخدعها ليضعفها ثم يفككها ثم يقضي عليها.

ويضيف الشامي: «هناك تسجيل صوتي منتشر لحسن الدغيم، (الذي كان مسؤول التوجيه المعنوي في الجيش الوطني السوري ثم أصبح الناطق باسم لجنة الحوار الوطني في إدارة أحمد الشرع بعد سقوط النظام السابق) قال فيه صراحة إن الجولاني شخص براغماتي، يضحي بأي شيء وأي شخص من أجل الوصول إلى السلطة». وبحسب الشامي، فإن «هذه البراغماتية كانت العامل الأهم في إدارة الهيئة، والقضاء على خصومها ومنافسيها أو تحييدهم، وإعادة استيعابهم ما أدى إلى إفراغ الساحة من أي مشاريع منافسة، بحيث لم يبقَ سوى مشروع حكومة الإنقاذ، التي انتقلت لاحقاً إلى دمشق بعد التحرير».

مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)
مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

وختم الشامي بالقول إن «خبرة الجولاني العملية اكتسبها في سوريا، فلم تكن لديه هذه القدرات سابقاً. لكنه طموح جداً، ويُجيد الاستفادة من الإنجازات كما تعلم الدروس من أخطاء (داعش) و(النصرة)».

وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الفوز ممكناً لولا أن ساهم رجال كثيرون لا سيما الشرعيون من «جبهة النصرة» و«هيئة تحرير الشام»، وخارجهما في توطيد شرعية الجولاني ومكانته من خلال الدعاية الدينية. وأبرز هؤلاء مسؤول إدارة التواصل السياسي زيد العطار المعروف تنظيمياً بـ«أبو عائشة»، وأصبح اليوم وزيراً للخارجية (أسعد الشيباني)، والمسؤول الأمني «أبو أحمد حدود» أو أنس خطّاب الذي أصبح اليوم أيضاً مديراً للاستخبارات العامة.

النصر... نصر مشترك

ويقول القيادي السابق في الجيش الحر علاء الدين أيوب، المعروف باسم «الفاروق أبو بكر»، والذي قاد مفاوضات خروج الفصائل من حلب عام 2016: «اختلفنا سابقاً حول سلوك (جبهة النصرة) – ثم (فتح الشام) – ثم (هيئة تحرير الشام)، في تعاملها مع فصائل الجيش الحر. لكن لا يمكننا إنكار أنها كانت الأكثر تنظيماً وتدريباً من بيننا. وعملت الهيئة على تنظيم صفوفها وتدريب مقاتليها، لكن في الوقت عينه لا يمكن نسب النصر الذي تحقق أخيراً لها وحدها».

أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير الماضي (رويترز)
أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير الماضي (رويترز)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «كان للنصر في عملية ردع العدوان عوامل كثيرة، منها الخارجي كالتدافع الدولي والصراع بين الدول ومنها الداخلي الشعبي والعسكري الذي انعكس في نضال عشرات الآلاف من المقاتلين في المعارك ضمن فصائل الثورة... ومع ذلك، يُحسب للهيئة تفوقها على غيرها في استغلال الفرص».

وأردف أيوب قائلاً: «نعلم جميعاً المرحلة التي سبقت سيطرة الهيئة على إدلب، والمعارك التي خاضتها ضد بقية الفصائل. ولا يمكننا إغفال أن السبب الرئيسي برأيي في سيطرة الهيئة دون غيرها كان تشرذم الفصائل، وعدم قدرتها على تقديم نموذج موحد ومتماسك».

وتابع: « طغت الأنا، وظهر أمراء حرب حولوا فصائلهم أدوات استثمار لتحقيق مكاسب شخصية مالية وسلطوية، فضعفت الفصائل والانتماء إليها. وقد عزز هذه الصورة الدعم الخارجي، وارتهان الكثير من قادة الفصائل لإملاءات الجهات الداعمة».

تشكيلات بولاءات كثيرة

أما بالنسبة للتشكيلات السياسية وأبرزها «الائتلاف الوطني السوري» الذي يمثل الجناح السياسي للمعارضة المسلّحة والمخوّل بالتفاوض قبل سقوط النظام، فقد تشكل بدعم وغطاء تركي وإقليمي ما جعل ولاءات معظم الشخصيات والمجموعات داخله مقيدة بالدول التي ساهمت في إنشائه.

مارة يعبرون من خلف زجاج خلال إطلاق نار في دمشق (غيتي)
مارة يعبرون من خلف زجاج خلال إطلاق نار في دمشق (غيتي)

وختم أيوب بقوله: «على مدار أربعة عشر عاماً من الثورة السورية، برزت قيادات كثيرة كانت تمتلك خلفيات دينية وشعبية وثورية، مثل: زهران علوش، عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد، وحسان عبود زعيم (أحرار الشام) معه أبو يزن الشامي، وجمال معروف زعيم فصيل (جبهة ثوار سوريا) الذي قضت عليه (تحرير الشام) عام 2014، لكنهم أبعدوا عن المشهد، سواء بالاغتيال الجسدي أو بالاغتيال المعنوي بينما كان الجولاني الأوفر حظاً في البروز بعد تخفٍّ، والنجاة ثم الفوز بفضل عوامل عدة، أهمها، تجربته السابقة في العراق، وقدراته الأمنية والعسكرية».


مقالات ذات صلة

المشرق العربي إسقاط طائرة استطلاع إسرائيلية نوع «درون» في سماء بلدة كويا بريف درعا الغربي

توغل قوات إسرائيلية بجبل الشيخ غرب سوريا

تمكن مسلحون محليون من إسقاط مسيَّرة إسرائيلية استطلاعية في منطقة وادي اليرموك بريف درعا الغربي في جنوب سوريا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
رياضة عالمية محمد سامح خلال الإعلان عن التشكيلة الوزارية الجديدة (الوكالة العربية السورية للأنباء)

«حكم السلة» محمد الحامض... أول وزير للرياضة في سوريا

أصبح محمد سامح الحامض أوَّل وزير للرياضة والشباب في تاريخ سوريا، بعدما تم السبت تشكيل أول حكومة للبلاد منذ تسلُّم «هيئة تحرير الشام» مقاليد الحكم.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي هند قبوات تلقي كلمة قبل أداء اليمين وزيرة للشؤون الاجتماعية والعمل (الرئاسة السورية)

هند قبوات... الوزيرة الوحيدة في الحكومة السورية الجديدة

أعلن الرئيس السوري تشكيلة الحكومة السورية الجديدة، المكونة من 23 وزيراً، بينهم وزيرة واحدة، هي هند عبود قبوات التي تولَّت حقيبة الشؤون الاجتماعية والعمل.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الخليج الرئيس أحمد الشرع خلال الاحتفال بإعلان الحكومة (الرئاسة السورية)

السعودية تتطلع للتعاون مع الحكومة السورية في تعزيز العلاقات

رحبت السعودية بإعلان تشكيل الحكومة السورية، معربة عن أملها في أن تحقق تطلعات الشعب السوري.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«رحلة إلى إدلب» تكشف فجوات عميقة بين السوريين

شباب من منطقة حارم في القلعة التاريخية وبدا جزء منها مدمراً (الشرق الأوسط)
شباب من منطقة حارم في القلعة التاريخية وبدا جزء منها مدمراً (الشرق الأوسط)
TT
20

«رحلة إلى إدلب» تكشف فجوات عميقة بين السوريين

شباب من منطقة حارم في القلعة التاريخية وبدا جزء منها مدمراً (الشرق الأوسط)
شباب من منطقة حارم في القلعة التاريخية وبدا جزء منها مدمراً (الشرق الأوسط)

عند التاسعة صباحاً من يوم جمعة وصلنا إلى مدينة إدلب، في رحلة سياحية انطلقت من العاصمة دمشق قبل أربع ساعات، كأول رحلة ينظمها فريق «دروبنا للمسير» إلى شمال غربي سوريا بعد سقوط النظام.

في الرحلة مشاركون من مختلف الأعمار، ولكنهم كلهم يكتشفون إدلب للمرة الأولى. عند الوصول إلى جسر الرستن سيطر الخوف على الجميع، وارتفعت الدعوات والصلوات.

هنا، لا تزال الحُفَر التي أحدثها القصف الروسي قبيل سقوط النظام شاهدة على ما عاشته تلك المناطق. ومع إظهار أبو محمد، سائق الحافلة وابن مدينة داريا، براعةً في اجتياز المسافة الخطرة، بدأت الرحلة تتحول من نشاط سياحي إلى نشاط سياسي تتخلله نقاشات وتبادل آراء.

في الساحة الرئيسية عند مدخل مدينة إدلب أُنشِئَت جدارية رسم عليها خريطة سوريا باللون الأخضر، وكُتب عليها: «سوريا لكل السوريين»، وعلى الوجه الآخر كُتب «إدلب الخضراء» ودُوّن تحتها تاريخ سقوط النظام. وعند قاعدة الجدارية الضخمة، غفا يافع متدثراً بحرام صوفي على فراش إسفنجي، في مشهد بائس يعبر إلى حد بعيد عن المشهد السوري الراهن بين الأمل وثقل تركة الحرب.

المحلات التجارية كانت مغلقة، وعدد المارة قليل؛ فاليوم يوم العطلة الأسبوعية. إلا أن مشهد النساء والرجال القادمين من العاصمة حرك فضول الشباب والأطفال، وراحوا يتوافدون على الساحة لاستطلاع أسباب الزيارة.

بيوت مهدمة في بلدات محافظات إدلب (الشرق الأوسط)
بيوت مهدمة في بلدات محافظات إدلب (الشرق الأوسط)

«نحبهم ولا يحبوننا»

محمد صابرين شاب عبَّر عن فرحه بالزائرين، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «نظام الأسد ظل يقصفنا حتى آخر أيامه. البناء الذي نسكنه نزل عليه عشرون صاروخاً... ماذا فعلنا لقصفنا هكذا؟!». وأضاف مرحباً: «أهل إدلب طيبون جداً ويصنعون (شعيبيات) طيبة جداً»، وهي حلوى محلية تشتهر بها إدلب.

ويعود محمد ليؤكد: «تحملنا القصف حتى تتحرر سوريا كلها ونذهب إلى دمشق ويأتي أهل دمشق إلينا». قاطعه شاب آخر تزامن مروره في الساحة بقول جازم: «أبناء المدن الأخرى لا يحبون إدلب ويتهموننا بالتشدُّد وهم لا يعرفوننا»، ثم انضم شاب ثالث مظهراً امتعاضه من رد ممازح بأن دمشق أحبَّت أبو محمد (الرئيس أحمد الشرع) أكثر من إدلب، حيث كان الناس يتظاهرون ضده. وقال بنزق: «أبو محمد الجولاني شيخنا نحبه ونريده أن يعود إلينا».

صحافية فرنسية شاركت في الرحلة لاحظت أن الأجواء في إدلب أقل توتراً وأكثر رحابة من الأجواء في العاصمة. هاشم غزال من حارم أخبرنا أنه عندما تحرَّرت الطرقات والمناطق، تطوَّع لتوزيع الخبز في الأحياء الفقيرة، لكنه اصطدم بجفاء بعض أبناء مدينة حلب، واعتبارهم أن «أهل إدلب كلهم مقاتلون متشددون متعطشون للدماء».

سعد أحمد صاحب سلسلة مقاهٍ في إدلب يشارك هاشم الرأي، ويقول: «الذين يتهمون أهالي إدلب بالتشدد يتجاهلون أن مجتمعنا محافظ من قبل الثورة»، مطالباً بضرورة إطلاق عملية «اندماج بين السوريين» بعد التحرُّر من نظام الأسد. وأضاف: «عندما زرتُ أقربائي في دمشق فوجئتُ بأسئلة حول فرض النقاب وحكم الشرع، وكأن إدلب ليست سوريا».

لكن يبقى أن أكثر ما يؤلم سعد، وكان من المقاتلين أثناء الثورة «مبالغة أهالي المدن التي كانت تحت سيطرة النظام بالاهتمام بالأسواق الحديثة في إدلب المليئة بالبضائع التركية والأجنبية»، متمنياً على السوريين القادمين إلى إدلب الاطلاع على واقع المخيمات قبل التوجه إلى الأسواق، فـ«هذا ما يستحق الاهتمام»، بحسب قوله.

مخيمات لجوء... و«أدلبة» دمشق

في الطريق إلى حارم (30 كلم شمال غربي إدلب) تناثرت مخيمات اللاجئين على امتداد مساحات واسعة، ومنها ما تم تخصيصه للاجئين من مناطق ريف دمشق. ويعتز الأدالبة بأن محافظتهم احتضنت نازحين من مناطق سورية عديدة، ويقدرون عدد المخيمات بأكثر من 1124 مخيماً. مرافقنا محمد الشيخ من فريق «ملهم» التطوعي تحدَّث عن الجهود التي تبذل في مشروع «قادرون» لبناء وحدات سكنية في منطقة حارم للمتضررين من الزلزال؛ حيث تم إنجاز 352 شقة سكنية في أرمناز، كما تحدث عن وضع سكان المخيمات وضخامة هذا الملف.

مخيم للنازحين في منطقة حارم في محافظة إدلب (الشرق الأوسط)
مخيم للنازحين في منطقة حارم في محافظة إدلب (الشرق الأوسط)

محمد سعيد بشتيني معتقل من بلدة حمورية بريف دمشق تحرّر من سجن صيدنايا بعد سقوط النظام، وجاء إلى إدلب حيث لجأ والداه، قال: «لن أفكر في العودة إلى دمشق لأنها قاسية جداً»، بحسب قوله. فبعد خمس سنوات من الاعتقال في صيدنايا باع خلالها والده بيته وكل ما يملك ليدفع رشاوى للسجانين، خرج بعد سقوط النظام ليجد أن «الدمشقيين لم يعرفوا بما يجري في صيدنايا! كنا نموت تحت التعذيب، وكانوا يعيشون حياة طبيعية»!

النساء معيار الاغتراب

حالة من الاغتراب وفجوة كبيرة بين المناطق تكشَّفت فجأة للسوريين بين من سكنوا مناطق النظام وأبناء محافظة إدلب التي أطلق عليها اسم «مناطق المحرر»، وكان محظوراً عليهم التواصل، حتى لو باتصال هاتفي، تحت طائلة الاعتقال.

في دمشق اليوم من يتحدث عن محاولة «أدلبة» سوريا، ويرى أن القادمين من الشمال جاءوا إلى العاصمة بعقلية الفاتحين الذين يتقاسمون الغنائم من مناصب وكراسيّ، كما يأخذون على الحكومة سعيها لتعميم تجربة إدلب في الإدارة، وكثيراً ما تتكرر جملة «دمشق ليست إدلب»، ناهيك بالمخاوف من «التشدد» وفرض النقاب.

زائرة تلتقط صورة تذكارية أمام إعلان يدعو لعدم التبرج والالتزام باللباس الشرعي في أحد مولات مدينة إدلب (الشرق الأوسط)
زائرة تلتقط صورة تذكارية أمام إعلان يدعو لعدم التبرج والالتزام باللباس الشرعي في أحد مولات مدينة إدلب (الشرق الأوسط)

بعض السيدات من غير المحجبات المشاركات في الرحلة أظهرنَ رغبة في اختبار تقبُّل أهالي إدلب لهن، لا سيما وقد شوهِدَت لوحة إعلانية الكبيرة تتصدر مدخل أحد المولات تنهي النساء عن التبرُّج، وتدعو إلى الالتزام باللباس الشرعي، فبادرت إحدى السيدات إلى التقاط صورة تذكارية أمام الإعلان.

المول الواقع في حي الجامعة، ويبدو حياً راقياً من حيث الأبنية ذات الواجهات الحجرية البيضاء والمبنية حديثاً، تعرَّض للقصف مراراً وأعيد بناؤه كما غالبية الأبنية في مدينة إدلب. وتظهر المولات كجزر ضوئية مبهجة وقد باتت مقصداً للسوريين من المناطق المحرَّرة حديثاً، كما تُعدّ متنزها للعائلات والنساء يتنزهن ويتسوقن؛ سواء منتقبات أو محجبات بوجه مكشوف ولباس ملوَّن. إلا أن كل تلك المظاهرة التي تشير إلى تعافي المحافظة لم تفلح كثيراً في التغطية على حالة البؤس العام.

ولم تتعرَّض النساء في الرحلة السياحية لمضايقات لعدم الالتزام باللباس الشرعي، كما كان متوقَّعاً، ولم يُلحَظ أي سلوك عدائي تجاههن، وإنما مجرد فضول ومحاولة معرفة إذا كان بينهن غير مسلمات.

رسامة الكاريكاتير أماني العلي في منزلها بمدينة إدلب (الشرق الأوسط)
رسامة الكاريكاتير أماني العلي في منزلها بمدينة إدلب (الشرق الأوسط)

وتعرفت المجموعة إلى رسامة الكاريكاتير الشابة أماني العلي، التي وصلت إلى العالمية برسوماتها ومقابلات أجرتها للإعلام الدولي وأفلام وثائقية عن سيرتها. وقالت: «(هيئة تحرير الشام) لم تكن راضية عن رسوماتي ولا حتى المجتمع، لكنني لم أتعرض لمضايقات بشكل مباشر».