خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

حكومة الجلالي أمام استحقاقات حياتية عاجلة

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
TT

خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)

مع تشكيل الحكومة السورية الجديدة برئاسة محمد الجلالي، تصدرت مسألة تحسين الأوضاع المعيشية مطالب المواطنين الذين أنهك الفقر غالبيتهم العظمى. وبينما لم يكسر التطور الحاصل، حالة اليأس من حدوث انفراجة، بسبب معاناة الأسر مع الحكومات السابقة، خصوصاً الأخيرة التي وُصفت بـ«حكومة التجويع»، استبعدت مصادر متابعة أن تستطيع الحكومة الجديدة انتشال البلاد من التدهور الاقتصادي الحاد، لأن الأمر مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد، ولأن رئيس الحكومة وأعضاءها «ليسوا أصحاب قرار»، بل مجرد «موظفين» ينفّذون قرارات السلطات العليا.

مهمة مستحيلة

يأتي تشكيل الحكومة الجديدة في وقت تعاني فيه كل القطاعات في مناطق الحكومة السورية من تدهور ينحدر بشكل يومي إلى قعر جديد، ومن تفاقم الفساد، وتعمق الفقر والجوع وازدياد نسبتهما.

وتقول مهندسة تقطن وسط دمشق: «فقدنا القدرة على التحمل. وأحياناً تفوق وجبة البيض قدراتنا».

وتشهد الأسواق حالة انكماش غير مسبوقة رغم حصول تخفيضات بنسبة 20 إلى 50 في المائة على كثير من المواد الأساسية والغذائية منذ نحو أسبوعين أو أكثر حسبما رصدت «الشرق الأوسط».

لكنَّ صاحب بقالية في منطقة الزاهرة جنوبي دمشق، يؤكد أنه «لا يوجد إقبال على الشراء، لأنه لا توجد سيولة بين الناس التي تسعى لتأمين الخبز».

طفلان يفترشان الشارع في أحد أحياء جنوب دمشق (الشرق الأوسط)

محمد، وهو من سكان حي «دف الشوك» شرقي دمشق، يقول: «لا كهرباء، وتأمين الماء يحتاج إلى مرتب موظفَين اثنين، وأسطوانة الغاز باتت تصل كل 90 يوماً... هذه ليست عيشة. يجب تأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية».

وما زاد الأوضاع سوءاً، تجدُّد أزمة المواصلات منذ ثلاثة أسابيع، بسبب توقف محطات الوقود عن تزويد حافلات النقل الخاصة بمادة المازوت نتيجة النقص الحاد.

ويؤشر إلى ذلك مشهد تجمع الحشود في مواقف الحافلات، وانتشار أعداد كبيرة في الشوارع الرئيسية عائدين إلى منازلهم سيراً على الأقدام.

«الحكومة مشكورة أوصلتنا إلى هذا الحال»، يقول موظف لـ«الشرق الأوسط» وهو عائد مشياً من مكان عمله في وسط دمشق. ويوضح: «عدا عن الانتظار الطويل، الركوب في حافلة يحتاج إلى خوض معركة بسبب الازدحام». ويلفت إلى انقطاع كثير من زملائه عن العمل بسبب ندرة المواصلات، وبعضهم لعدم توفر أجور النقل لديهم، بينما يؤكد سائق حافلة توقف غالبية أصحاب حافلات النقل عن العمل لعدم توفر المازوت.

أول رئيس حكومة من الجولان

وبعد عشرة أيام من تكليف الجلالي، خلفاً لرئيس الوزراء السابق حسن عرنوس، صدر مرسوم رئاسي بتشكيلة الحكومة الجديدة. ومن أبرز التغييرات تعيين نائب وزير الخارجية والمغتربين بسام الصباغ وزيراً للخارجية، خلفاً للوزير فيصل المقداد الذي أصبح نائباً لرئيس الجمهورية، ومفوضاً بمتابعة تنفيذ السياسة الخارجية والإعلامية في إطار توجيهات رئيس الجمهورية.

رئيس الوزراء السوري الجديد محمد غازي الجلالي (الإخبارية السورية)

والجلالي، وفق معلومات «الشرق الأوسط»، يتحدر من قرية «راوية» إحدى قرى هضبة الجولان السورية المحتل، وتنتمي عائلته إلى عشيرة «الهوادجة» العربية، وهو أول شخصية تنحدر من الجولان يتم تكليفها بتشكيل الحكومة في عهدَي الأسد الأب والأسد الابن.

وبعد نكسة يونيو (حزيران) عام 1967، نزحت عائلة الجلالي إلى دمشق، واستقرت في القسم الشرقي من حي التضامن جنوب دمشق، حيث ترعرع في الحي ودرس في مدارسه، وتمكن والده غازي الجلالي بحكم عمله أمين فرقة في «حزب البعث» من الحصول على إيفاد خارجي لابنه الوحيد على نفقة الحزب لمتابعة تحصيله العلمي العالي في جامعة مصرية، وذلك بعد حصوله على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق عام 1992.

وإثر اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، نزحت عائلة الجلالي أواخر العام نفسه من حي التضامن، وسكنت في «مدينة البعث» بمدينة القنيطرة، في حين بقي الجلالي يقيم في دمشق.

والجلالي من ضمن 45 اسماً اختارهم الرئيس بشار الأسد ليكونوا أعضاء في اللجنة المركزية لـ«حزب البعث» خلال انتخابات الحزب الأخيرة في مايو (أيار) الماضي، بعدما أفرزت نتائج الانتخابات 80 عضواً.

وفي يوم تكليفه، أعاد الجلالي نشر مقولة كان قد نشرها العام الماضي على صفحته الشخصية في موقع «فيسبوك» لفردريك باستيا، المنظِّر الليبرالي الكلاسيكي والاقتصادي السياسي الفرنسي، الذي يعد من أنصار المذهب الحر في الاقتصاد، وعاش في القرن التاسع عشر، وقال فيها: «ليس هناك إلا فارق واحد بين الاقتصادي الجيد والاقتصادي السيِّئ، وهو أنَّ الاقتصادي السيِّئ يقصر نفسه على التأثير المرئي. أما الاقتصادي الجيد فيأخذ في حسبانه معاً التأثير الذي يُمكن أن يُرى وتلك التأثيرات التي يجب التنبؤ بها».

محل ألبسة رجالية وسط دمشق (الشرق الأوسط)

تباين في الآراء والأرقام

وعلى أن الشارع متفق اليوم على ضرورة إحراز تقدم ولو بسيطاً على مستوى الخدمات الأساسية إلا أن التعيين الجديد أُحيط بآراء متباينة كثيرة. فقد نشرت صحيفة «صاحبة الجلالة» الإلكترونية المحلية أبرز آراء ومقترحات الجلالي قبل الإعلان عن تكليفه. ومن ذلك على سبيل المثال أن «تدني القدرة الشرائية للمواطن يجعل السكن في المرتبة الثانية ضمن أولوياته، رغم أنه حاجة ماسة. إلا أن حاجة الطعام والشراب اليومية تحتل المرتبة الأولى ضمن تلك الاحتياجات»، و«على الحكومة أن تعزز بداية المناخ الاستثماري من خلال توفير بنية تحتية آمنة للاستثمار».

في المقابل، جاءت تعليقات على منشور «صاحبة الجلالة» تقول: «لن نحكم حتى نرى نتيجة أفعاله لا أقواله. الناس جاعت»، و«نفس أقوال عرنوس، ومن قبله (عماد) خميس ومن قبله (وائل) الحلقي، ونفس أقوال الذي سيأتي بعد الجلالي، وهكذا دواليك، والحال من سيئ لأسوء».

وبقي في الحكومة الجديدة التي تضم 27 وزيراً، 11 وزيراً من الحكومة السابقة منهم وزراء الدفاع والداخلية والأوقاف، في حين دخل 14 وزيراً جديداً بينهم الإعلامي والخبير الاقتصادي زياد غصن، الذي آلت إليه حقيبة وزارة الإعلام، بينما بدل اثنان حقيبتيهما.

موظفون لا أصحاب قرار

مصدر مقرب من دوائر صنع القرار في دمشق، استبعد أن تتمكن الحكومة الجديدة من إيجاد حلول للأزمات الغارقة فيها البلاد. وقال المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط»: «الأمر لا يتعلق بالأشخاص، القضية هي أن رئيس الوزراء في سوريا والوزراء ليسوا أصحاب قرار. هو أكبر موظف في الحكومة، والوزراء موظفون أيضاً. هم ينفِّذون قرارات تصدر من فوق».

وأضاف المصدر: «قرار استبعاد أكثر من 600 ألف عائلة من الدعم الحكومي الذي جاء ضمن خطط إلغاء الدعم، لم يُصدره عرنوس، وكذلك قرارات رفع الأسعار».

عجوز تجمع النفايات والبلاستيك وسط دمشق (الشرق الأوسط)

ورأى المصدر أن «الانفراج الاقتصادي مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد منذ فترة طويلة»، وقال: «الغرب يطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، والدول العربية تطالب بتنفيذ المبادرة العربية للحل في سوريا والمعروفة بـ(خطوة مقابل خطوة)».

ولا شك أن الأمر أكثر تعقيداً من وصول حكومة ذات كفاءة أو لا. فتطبيق القرار الدولي الذي صدر في 2015 يقضي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وانتقال سلمي للسلطة، مرهون أيضاً بالعقوبات الاقتصادية وأولها قانون قيصر الأميركي الذي فُرض في 2020 وكان بداية الانهيار الاقتصادي السريع في البلاد.

وحسب المصدر، حتى بعض الانفراجات القليلة التي لاحت، سواء مع بعض العواصم العربية أو مع أنقرة وكان من شأنها ان تنفِّس الاحتقان المعيشي والاقتصادي داخلياً لم تُترجَم استثمارات فعلية على الأرض.

وعلَّق المصدر على مسألة تزامن تشكيل الحكومة الجديدة مع إشارات من دمشق منذ بداية العام الجاري إلى أنها بدأت عملية إصلاح إداري، شملت الأجهزة الأمنية وتشكيلات عسكرية و«حزب البعث»، بالقول: «(تغييرات) شكلية. هل تم استئصال مافيات الفساد المتحكمة في البلاد؟ وهل تراجعت جرائم القتل والسرقة والخطف؟ الوقائع على الأرض تقول: لا».

وسبق أن كشف وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم الذي جرت إقالته من حكومة عرنوس في مارس (آذار) 2023، في منشوراته، عن أن الدولة «تخسر مبلغ 38 ألف مليار ليرة كل عام بسبب سرقة الدقيق والقمح والخبز».

تنفيس مدروس

وبعدما تحولت الحكومة السابقة إلى تسيير أعمال، عقب انتخابات مجلس الشعب في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، كان لافتاً تصاعُد حدة الانتقادات الموجهة إليها.

وتعليقاً على قرارها أن يحصل المواطن العائد إلى البلاد عبر مطار دمشق الدولي على «شيك» ورقي بقيمة 100 دولار ملزَم بتصريفها قبل دخوله البلاد، على أن يتسلم قيمته لاحقاً من المصارف التجارية بدلاً من الأجهزة الموجودة في المطار، كتبت «صاحبة الجلالة» في منشور: «فيما يخص قرار الشيك للمائة دولار. لماذا نتحدث عنه بصيغة المجهول؟ مَن اقترح هذا القرار؟ ولماذا؟ ومَن وافق عليه؟ حددوا لنا مَن اقترح ومَن وافق؟ ليس كل قرار غبيّ يسجَّل ضد مجهول».

الخبير الاقتصادي عامر شهدا، كتب على صفحته الشخصية على «فيسبوك»: «ما أمنياتكم للحكومة في رحيلها بعد ساعات؟ بالنسبة لي أدعوهم للبكاء على الأطلال التي خلَّفوها».

وأوضحت مصادر متابعة في دمشق، في تفسيرها لأسباب الحملة ضد الحكومة، لـ«الشرق الأوسط»: «أغلبية ما يُنشَر في مواقع أو صفحات موالية خصوصاً ما يتعلق بالحكومة، يأتي بتوجيه من السلطة من أجل التنفيس عن المواطنين».

في 8 مايو (أيار) الماضي، وبعد تقديم عرنوس عرضاً أمام مجلس الشعب حول ما نفَّذته حكومته، نشر شهدا منشوراً مطولاً ناقض فيه ما تضمنه العرض.

سوق باب سريجة وسط دمشق المختص ببيع المواد الغذائية واللحوم والخضار وتبدو فيه حركة المارة ضعيفة جداً (الشرق الأوسط)

وقال: «تمنينا أن نسمع من معاليكم وضعاً مقارناً لنسب الهدر والفساد من عام 2020 لغاية 2024، وأن نسمع وضعاً مقارناً عن انتشار الجريمة والسرقات في المجتمع وانخفاض أعمار الداخلين لسوق الدعارة».

وعرض شهدا ما سمّاها «أرقام الشعب السوري»، منذ تشكيل عرنوس الحكومة عام 2020، وقال: «بفضل شماعة العقوبات وارتفاع الأسعار العالمية وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي ريعي، موازنة 2020 بلغت (2.9) مليار دولار، بينما في 2024 أصبحت (2.6) مليار دولار. وسعر الصرف الرسمي في 2020 كان 434 ليرة مقابل 800 في السوق السوداء، بينما في 2024 وصل سعر الصرف الرسمي إلى 13 ألف و500 ليرة».

وحسب الأرقام، ارتفعت تكاليف المعيشة بين 2022 و2023 بحدود 97.9 في المائة، فيما بقي الحد الأدنى للأجور عند راتب يناهز 93 ألف ليرة أي نحو 7 دولارات. وبلغ عدد السكان الذي يحتاجون إلى المساعدة نحو 15 مليون نسمة، 90 في المائة منهم تحت خط الفقر.


مقالات ذات صلة

البنك الأوروبي لإعادة الإعمار: نمو معتدل لمنطقة جنوب وشرق المتوسط 2.1 %

الاقتصاد تصاعد الدخان فوق جنوب لبنان عقب ضربة إسرائيلية في مدينة صور (رويترز)

البنك الأوروبي لإعادة الإعمار: نمو معتدل لمنطقة جنوب وشرق المتوسط 2.1 %

أظهر تقرير الآفاق الاقتصادية الإقليمية أن معدل النمو في منطقة جنوب وشرق المتوسط للنصف الأول من عام 2024 لن يتجاوز 2.1 في المائة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد مضخات في حقل نفط بولاية كاليفورنيا الأميركية (رويترز)

النفط دون تغيير يذكر في ظل تراجع المخزونات الأميركية واستمرار مخاوف الطلب

لم يطرأ تغيير يذكر على أسعار النفط، يوم الخميس، بعد هبوطها في الجلسة الماضية؛ إذ عوّض تأثير مؤشرات على ارتفاع الطلب على الوقود وانخفاض المخزونات الأميركية…

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
تحليل إخباري تصاعُد الدخان من موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت قرية خيام الجنوبية (أ.ف.ب)

تحليل إخباري اقتصاد لبنان في محنة الحرب: من دعم دولي في 2006 إلى فراغ مالي في 2024

شهد لبنان عبر تاريخه الحديث العديد من الحروب المدمِّرة التي تركت آثاراً كارثية على اقتصاده واستقراره الاجتماعي، أبرزها حرب يوليو 2006.

هدى علاء الدين (بيروت)
الاقتصاد عرض سبائك الذهب في مكتب «غولد سيلفر» في سنغافورة (رويترز)

مجدداً... الذهب في مستوى قياسي بفعل رهانات الفائدة وضعف الدولار

سجل الذهب مستوى مرتفعاً جديداً يوم الأربعاء، بدعم من ضعف الدولار الأميركي، وآمال خفض أسعار الفائدة مجدداً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد رجل عند مخرج مصفاة نفط في مقاطعة شاندونغ بالصين (رويترز)

النفط يتراجع وسط مخاوف من عدم قدرة خطط التحفيز الصينية على دعم الطلب

تراجعت أسعار النفط يوم الأربعاء، مع إعادة المستثمرين تقييم قدرة خطط التحفيز الصينية على دعم الاقتصاد بما يكفي لدفع مزيد من نمو الطلب على الوقود.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

TT

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

ما أخطر مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان؟ إنها لقاء يعقده مبعوث رجل صعب اسمه صدام حسين مع رجل صعب مقيم في السودان اسمه أسامة بن لادن، وأن تعرف أجهزة جورج بوش الابن أن اللقاء قد عُقد.

لا مبالغة في القول إن ذلك اللقاء كان الذريعة الأهم التي استخدمتها واشنطن في تبرير غزو العراق مستفيدةً من المناخات التي سادت أميركا بعد الهجمات التي شنتها «القاعدة» بزعامة بن لادن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على واشنطن ونيويورك.

لم يكن هناك أصلاً أي مبرر كي يؤثر بن لادن على مصير صدام حسين. ينتمي الرجلان إلى قاموسين متباعدين. ثم إن صدام رئيس دولة عريقة في المنطقة وليس زعيم فصيل. وهو ابن حزب علماني، مما جعله يختار طارق عزيز المسيحي وزيراً لخارجية البلاد، الأمر الذي تعذر في أماكن أخرى. ثم إنه ليس من عادة صدام أن يتنازل للانخراط في لعبة لا يكون صاحب القرار فيها.

لكن خطأ القبول بموعد في الخرطوم جعل صدام يدفع ثمن الاتصال بأسامة بن لادن رغم أن اللقاء انتهى إلى فشل. ويقول أحد الذين عملوا في المخابرات العراقية في تلك الفترة إن القوات الأميركية التي غزت العراق استولت على وثيقة أعدَّتها المخابرات وتقول فيها إن المبعوث العراقي نصح بصرف النظر عن فكرة التعاون مع بن لادن، وهو ما حدث.

صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)

والواقع أن التسعينات السودانية كانت شديدة الخطورة. ارتكب فيها نظام الرئيس عمر البشير ثلاثة أخطاء كبيرة هي: استضافة زعيم «القاعدة»، واستضافة أشهر مطلوب دولي آنذاك وهو كارلوس الفنزويلي منفِّذ عملية احتجاز وزراء «أوبك»، وتداخل مع الخطأين ارتكاب كبير تمثَّل في ضلوع الرجل الثاني في النظام علي عثمان طه في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

لم يتوقف بن لادن طويلاً عند ما حدث في الخرطوم في أغسطس (آب) 1994. ففي ذلك الشهر جاءت وحدة كوماندوز فرنسية واعتقلت كارلوس واقتادته إلى فرنسا حيث يهرم الآن في سجنه. ولم يكن هناك ما يسمح بقيام تعاون بين كارلوس وبن لادن حتى ولو جمعهما العداء للغرب. جاء كارلوس من ينابيع مختلفة. من مناخات الحزب الشيوعي الفنزويلي وأطل على العالم على يد الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ولا مبالغة في القول إن حداد حوّل كارلوس نجماً ورمزاً قبل أن يفترق الرجلان في بداية 1976. نفَّذ كارلوس بعد ذلك التاريخ هجمات، لكن زمن لمعانه انقضى بعد مغادرته عباءة حداد.

أغلب الظن أن بن لادن لم يشعر بالقلق من احتمال أن يواجه مصير كارلوس. فهو جاء إلى السودان مع ثروته. ثم إن سلوكه الشخصي مختلف عن سلوك كارلوس الذي تستهويه مناخات الليالي الصاخبة حتى في مدينة محافظة. لكن بن لادن لم يتنبه إلى أن نظام عمر البشير وحسن الترابي قد يرضخ أيضاً للضغوط وينصحه ذات لحظة بالمغادرة.

بن لادن «مستثمراً»

ما قصة بن لادن مع السودان؟ سألت صديقاً مطلعاً أن يروي، فقال: «جاء أسامة بن لادن إلى السودان مرتين. كانت الأولى على ما أذكر في نهاية أغسطس (آب) 1988. كان السودان قد تعرض في تلك الفترة لسيول وفيضانات خلَّفت ضحايا وأضراراً واسعة في بلد معروف الإمكانات. كنت في زيارة شخصية رفيعة حين دخل شابان هما أسامة بن لادن وأخوه الأصغر».

صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان

يتذكر الرجل أن أسامة «قدم نفسه بوصفه صاحب شركة إنشاءات وتحدث بلغة هادئة. تطرق إلى ما أحدثته السيول معبِّراً عن تعاطفه مع البلد. شدد على أهمية أن تكون في بلاد واسعة كالسودان شبكة طرق جيدة نظراً لما لذلك من فوائد اقتصادية وتنموية، ولأن هذه الشبكة تسهل عمليات الإغاثة في حال حصول كوارث طبيعية. وأعرب في اللقاء عن استعداد المؤسسة التي يديرها للمساهمة في شق الطرق وفي بعض عمليات الإغاثة. تحدث الرجل بصورة طبيعية ولم يكن اسمه آنذاك معروفاً إلا في سياق المشاركة في الجهاد الأفغاني ضد السوفيات».

ويضيف الراوي: «بعد تحرير الكويت على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة غادر بن لادن السعودية إلى السودان في 1991، وأعتقد أن ملفه صار هذه المرة في عهدة الأمن. اصطحب بن لادن معه إحدى زوجاته وأقام في محلة الرياض في الخرطوم في فيلا يملكها مغترب سوداني كان يعيش في السعودية اسمه عثمان سلمان. وكان سلمان مديراً لمصنع الشفاء الذي قصفته القوات الأميركية في 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون».

«الأفغان العرب» في السودان

طلب بن لادن من الجهات التي تتولى العلاقة معه السماح له باستقدام أفراد من مجموعته. في محلة سوبا الحلة التي تبعد 25 كيلومتراً عن الخرطوم. اشترى مزرعة كمزارع الباقير التي تبعد 60 كيلومتراً عن العاصمة والتي كانت تحتوي على عدد من العنابر. في محلة الرياض كان مع بن لادن سوري أصبح إماماً للمسجد القريب الذي كان بن لادن قليلاً ما يظهر فيه، وقد اعتُقل السوري المشار إليه لاحقاً في ألمانيا. في محلة سوبا الحلة لاحظ سكان أن شباناً بملامح غير أفريقية يركضون صباحاً في ما يشبه التدريبات وتبين لاحقاً أن هؤلاء من «الأفغان العرب».

منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)

كانت لدى بن لادن شركة اسمها «وادي العقيق» تولت بناء مطار في بورتسودان وشق أكثر من طريق، بينها طريق الخرطوم-العيلفون. وعلاوة على ذلك كان بن لادن مولعاً بتربية الخيول التي كانت أيضاً محط اهتمام عدد من أبناء كبار الشخصيات البارزة، وبينهم عصام نجل الدكتور حسن الترابي.

كان سلوك أسامة بن لادن أقرب إلى الانطواء. لم يكن يظهر في مناسبات عامة. لكنَّ وجود «الأفغان العرب» بدأ يثير بعض الإشكالات. كان هناك مثلاً إسلامي ليبي اسمه محمد عبد الله الخليفي يدخل مع جماعة «أنصار السنة» في جدالات حادة. في فبراير (شباط) 1994، ذهب الخليفي إلى مسجد الشيخ أبو زيد في الخرطوم وسحب رشاشه وقتل 20 شخصاً من «أنصار السنة». توجه بعدها مع رفاق له إلى منزل بن لادن وتبادل إطلاق النار مع حراس المنزل. بعد اعتقاله تبين أنه كان ينوي أيضاً اغتيال بن لادن والدكتور الترابي.

زار الراوي بن لادن وسأله إن كان يعرف هؤلاء فقال إنه كان يتعرف عليهم في مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان. وأضاف بابتسامة أن هؤلاء كانوا مولعين بمسألة التكفير. يُكفِّرون الحاكم ثم الجماعة ويُكفِّرون حتى أنفسهم.

كان أسامة بن لادن مستقراً في السودان. تردد لاحقاً وعلى لسان مسؤولين بارزين بينهم الترابي أن جهاز الأمن السوداني عرض ذات يوم على الجانب الأميركي تسليمه بن لادن لكنه رفض بسبب عدم وجود أسباب لمحاكمته في الولايات المتحدة. لكنَّ زلزالاً مفاجئاً سيغير المشهد السوداني لجهة علاقته بـ«الأفغان العرب».

محاولة اغتيال مبارك

في 26 يونيو (حزيران) 1995، نجا الرئيس حسني مبارك من محاولة اغتيال استهدفته في أديس أبابا خلال مشاركته في القمة الأفريقية. أثار الحادث ردود فعل عربية وإسلامية ودولية خصوصاً بعدما ألمح مبارك نفسه إلى احتمال علاقة «الجبهة الإسلامية» التي يتزعمها الترابي بالحادث.

سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)

وقع فشل المحاولة كالصاعقة على النظام السوداني بعدما لاحت في الأفق بوادر عقوبات دولية عليه. الرجل الذي أُصيب بالذعر هو الرجل الثاني في النظام، أي نائب الرئيس، علي عثمان طه، وهو كان «الرجل القوي» في عهد البشير. كان الرجل ضالعاً في المحاولة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن. وقد أوكل التنفيذ إلى «الجماعة الإسلامية» المصرية بزعامة مصطفى حمزة الذي نجح في الفرار من السودان بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل خمسة من المهاجمين.

خروج بن لادن

لم يكن أمام النظام غير السعي إلى محاولة خفض الأضرار والأخطار. أقال البشير كبار مسؤولي جهاز الأمن وتقرر تسفير «الأفغان العرب». وذات يوم جاء البشير ونائبه إلى مكتب الترابي وأبلغاه بأن ترتيبات مغادرة أسامة بن لادن قد أُنجزت. وزار الرجلان بن لادن في مقر إقامته، ثم تولت طائرة عسكرية نقله إلى أفغانستان.

البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)

احتضنت حركة «طالبان» زعيم «القاعدة» ووفَّرت له الملجأ الآمن. لم يكن الملا عمر يتوقع أن يكون هذا الزائر سبباً في سقوط نظامه. في أواخر التسعينات كان السؤال عن بن لادن طبيعياً حين يلتقي صحافي مسؤولاً سودانياً. سألت الرئيس عمر البشير فأجاب: «جاء بن لادن إلى السودان في أعقاب الحرب الأفغانية من مدخل الاستثمار في مجال الطرق والمطارات والزراعة، وهي مجالات ظل يعمل فيها وتعمل فيها شركات تابعة لأسرته منذ أمد طويل، وليس له أتباع أو شبكات تنبت بهذا المعنى في السودان سوى مجموعة قليلة من مساعديه ظلت دائماً حوله. ظل هؤلاء بعيدين عن الإعلام وأجهزته على أي مستوى، بل لم يشاركوا حتى في مناسبات ونشاط المجتمع العادي. لكنَّ أميركا جعلت منه بعبعاً ترى صورته في كل مكان وحتى بعد أن خرج من السودان وهي تعلم جيداً أنه يعيش في شبه عزلة في بلد بعيد، لكنَّ هواجسها تغلب معلوماتها».

كلام البشير لا يُلغي أنه التقى الرجل مرات عدة في أثناء وجوده في الخرطوم ويصعب الاعتقاد أن الرئيس كان غير مطلع على علاقة حلقة في جهاز الأمن السوداني ببن لادن و«مزارعه».

وكان من الطبيعي أن أسأل الترابي نفسه، فقال: «نعم، قام بيني وبينه حوار محدود، فهو كان يبني في السودان طرقاً ومطارات وهو من أسرة تعمل في هذا المجال. لم يكن رجلاً يدخل في الساحات الفكرية والصحافية، ولم يُكتب عنه في الصحافة ولم يُرَ يوماً فيها. تحدثت معه عن أفغانستان وعن أننا كنا نخشى أن يترك الروس وراءهم بعد خروجهم منها أناساً ثوريين تمرَّسوا في تخريب (الباطل والاستبداد الأجنبي) ولكنهم لم يتمرنوا على أي شيء آخر فيحدث لهم ما حدث للثورة الفرنسية وكل الثورات الأخرى. قلت له إنني كنت أتحدث مع الإخوة في أفغانستان قبل سقوط كابل وكيف يجب أن يُحضِّروا لما بعد تحرير البلاد. وحدَّثته أن كابل سقطت قبل أن يتهيأوا لذلك ولم يكن لديهم بعد استعداد لإقامة مجتمع مسلم على مثالهم».

حسن الترابي (أ.ف.ب)

ورداً على سؤال عن الجهات التي طالبت بخروج بن لادن من السودان، قال الترابي: «جاء خروجه بطلب من البريطانيين نيابةً عن الأميركيين. المملكة العربية السعودية لم توجه ضغطاً مباشراً على السودان وهي لطيفة أصلاً. هو شعر بأن وجوده يُحرج العلاقات بين السودان والسعودية، والبَلدان تربطهما علاقات وثيقة جداً. العلاقات طيبة جداً ومن السودانيين نحو نصف مليون مواطن يعملون في السعودية ولم يطردوا واحداً منهم، وبن لادن لم يكن يريد أن يُحرج هذه العلاقات».

أفغانستان والمرحلة الأخطر

عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان لتبدأ المرحلة الأخطر في تجربته. بعد شهور من عودته سيطرت حركة «طالبان» على أفغانستان وعدّته ضيفاً عليها. بعد عامين فقط دوت تفجيرات في سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ووجهت واشنطن أصابع الاتهام إلى زعيم «القاعدة» المتحصن في أفغانستان، وتكرر الأمر نفسه بعد الهجوم الذي استهدف المدمرة «كول» الراسية في ميناء عدن. أصدر بن لادن في تلك الفترة بيانات توحي بأنه أطلق الحرب على الولايات المتحدة، لكن لم يتوقع أحد أن ينقل الحرب إلى أراضيها، وهو ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

حين حاول الرئيس جورج بوش الابن تبرير قراره بغزو العراق، أورد جملة اتهامات ضد نظام صدام تشمل أسلحة الدمار الشامل والقمع والمقابر الجماعية وانتهاك القرارات الدولية. لكنَّ التهمة التي استوقفت كثيرين كانت كلام بوش عن تعاون نظام صدام مع «القاعدة». لم تقدم الإدارة الأميركية دليلاً على تعاون من هذا النوع وظل الحديث عن علاقة بين نظام صدام و«القاعدة» مجرد تهمة لم يتقدم مَن يثبتها أو يقدم الدليل عليها.

قصة محاولات التواصل

أسوةً بصحافيين كثيرين أثار موضوع الاتصال بين صدام وبن لادن فضولي، فرُحتُ أسأل عنه. لم أعثر على جواب لدى معارضي صدام ولا لدى بعض الذين عملوا معه آنذاك. وكان لا بد من محاولة الوصول إلى «الصندوق الأسود» الحقيقي، أي إلى ذاكرة المخابرات العراقية في تلك الفترة. وافق رئيس شعبة أميركا في المخابرات، سالم الجميلي، على التحدث، وشاءت الصدفة أن يكون وراء المحاولة الأولى للاتصال بزعيم «القاعدة».

قبل الغزو العراقي للكويت كانت العلاقات بين العراق والسعودية طبيعية وإيجابية. وقَّع البلدان اتفاقية أمنية تحظر التدخل في الشؤون الداخلية وتوقف نشاطات الأجهزة الاستخباراتية على أرض الدولة الأخرى إلا في حدود النشاط العادي للسفارات. وكان صدام حسين يتحدث بإيجابية عن السعودية ووقوفها إلى جانب العراق في الأيام الصعبة وكان يشيد بالملك فهد بن عبد العزيز واحترامه الروابط بين البلدين وعدم امتناعه عن تقديم أي دعم ممكن إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وروى أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي أن الملك فهد بذل جهوداً حثيثة في الساعات التي أعقبت بدء الغزو لتدارك الموقف وإعادة الأمر إلى طاولة المفاوضات، لكنَّ صدام كان ذهب بعيداً.

أدت الأزمة عملياً إلى سقوط الاتفاقية الأمنية والتزاماتها. حين بدأت تتوارد أخبار عن اتصالات تُجريها المعارضة العراقية مع السعودية، كتبت المخابرات إلى الرئيس تقترح إلغاء الاتفاقية الأمنية مع السعودية لكنه رفض. وعندما كررت المخابرات حديثاً عن الاتصالات بين المعارضة العراقية والرياض، طلب صدام تزويده بتقرير شهري عن هذا الموضوع. وفي وقت لاحق استنتج صدام أن السعودية بدأت تدعم فكرة تغيير نظامه فأصدر توجيهاً إلى المخابرات بـ«العمل بكل قوة خصوصاً لتقويض الوجود العسكري الأميركي في السعودية».

سالم الجميلي (الشرق الأوسط)

قال الجميلي: «حين يصدر توجيه من هذا النوع من الرئيس شخصياً، فعلى كل الأجهزة الأمنية أن تبحث عن كل الأوراق التي يمكن أن تسهم في تنفيذه. كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز، وكانت لدينا علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا - جناح عدنان عقلة. أرسل عبد الملك شقيق عدنان أن لدى الإخوان علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه. استدعيته واستقبلته في أحد فنادق بغداد فأكد استعداده للقيام بهذا الدور. حمّلته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار».

وأضاف: «عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً. أبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية إلى المنطقة، وأنْ لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. نحن نتحدث عن السنوات الأولى من التسعينات ولم تكن هناك عمليات لتنظيم (القاعدة) من قماشة 11 سبتمبر. وسمعت يومها من مدير (العمليات الخارجية) في الجهاز فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى».

لقاء بن لادن ومسؤول مخابرات صدام

فهم الجميلي لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني هو الدكتور حسن الترابي. ويقول: «أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع (القاعدة). وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد أنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو».

مصدر آخر رفض الكشف عن اسمه قال إن بن لادن أظهر في لقائه مع حجازي «شيئاً من المرونة بالنسبة إلى موقفه من نظام البعث العراقي». وأضاف أن بن لادن «طالب في حال التعاون أن تكون له معسكرات تقام تماماً خارج سلطة الدولة العراقية، وأن يمتلك حرية تحديد الأهداف والتوقيت». وأشار إلى أن «صدام سأل حجازي عن موقفه فردَّ بأن إدارة جماعة بن لادن لن تكون سهلة، وأن ثمن التعاون معه سيكون بالغ الخطورة. فطلب صدام من حجازي طي الموضوع نهائياً».

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

نهاية المعنيين بذلك الموعد الخطر معروفة. التفَّ حبل الإعدام حول عنق صدام حسين. وأعدمت السلطات العراقية فاروق حجازي الذي لجأ إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام لكنه أُرغم على التوجه إلى الحدود السورية - العراقية، حيث اعتُقل. وطاردت القوات الأميركية أسامة بن لادن حتى تمكنت منه وقتلته في باكستان.

تقع المدن أحياناً في إغراء التهور وتكلِّف نفسها على يد مغامرين ما يفوق طاقتها ثم ترتطم بالواقع وبالعالم. دفعت الخرطوم ثمن استقبال المطلوبين وعوقبت قبل أن تحاول خفض الأضرار وتغيير اتجاه البوصلة. هناك من يقول إن خرطوم البشير حلمت أن تكون عاصمة أعداء الغرب، وإن الترابي حلم بأن يكون مرجع حركات الإسلام السياسي في تكرار لتجربة الخميني. كلّف الرجلان السودان ما يفوق طاقته.