السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

«الولاية الثانية» تغير قواعد الاشتباك قبل عام ساخن من الانتخابات العراقية

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر
TT

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

السوداني والمالكي... حرب باردة وأكثر

تدور حرب باردة بين نوري المالكي ومحمد شياع السوداني. يتحرك الاثنان بسرعة نحو حلبة الانتخابات المقبلة. هناك، سيكون الصراع مؤذياً ومفتوحاً، كما يرجح سياسيون في حزب «الدعوة الإسلامية»، و«الإطار التنسيقي». إلا إذا حدثت صفقة بينهما.

من المفترض أن ينتخب العراقيون، العام المقبل، ممثليهم في البرلمان، لكنَّ رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، يدفع لجعلها مبكرة. في الحالتين سيتفاوض اللاعبون على قانون انتخابات جديد ينسجم مع المتغيرات، ومحاولة السوداني مزاحمة الكبار أبرز متغير في اللعبة.

مع أن كثيرين يشككون في إمكانية الاقتراع المبكر، إلا أن التلويح به قد يكون ورقة ضاغطة على السوداني في سياق الحرب الناعمة، فالأهم من موعد الانتخابات هو قانونها الجديد.

المالكي هو أكثر السياسيين الذين يُظهرون شغفاً بصياغة القانون. يقول مقربون منه وأشخاص عملوا لصالحه في كتابة صياغات ومقترحات، إن الرجل يفكر في «نصب الأفخاخ» للسوداني، الذي يطمح لولاية ثانية، أكثر من انشغاله حتى بحظوظه الشخصية في البرلمان المقبل.

المالكي «الأب المؤسس»

ينظرُ المالكي إلى نفسه على أنه صانع لملوكٍ غير متوجين. ملوك يعملون لديه، في خدمة مشروع بدأ عام 2006، يوم توَّجته ظروف وأقدار برئاسة الحكومة. جاء وقتها بديلاً مغموراً لإبراهيم الجعفري الذي نبذته المعادلة الإيرانية - الأميركية في العراق.

أنصار «الإطار التنسيقي» يرفعون صورة المالكي خلال مظاهرة بالقرب من المنطقة الخضراء في بغداد 12 أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

«تَعلم المالكي أكثر من غيره فنوناً في السياسة»، يقول أشخاص عملوا معه وخاصموه خلال العقدين الماضيين. المناورة والتنقل السلس بين الأقطاب أبرز ما يجيده، إلى جانب «انحيازه المذهبي، وريبته الشديدة»، اللذين يجذبان إليه كل «الشيعة الطامحين والخائفين».

حتى بعد خروجه من الحكومة، بقي المالكي عرَّاباً للمشروع السياسي الشيعي، تلجأ إليه أحزاب «الطائفة» كلما تعرض النظام لتهديد، حتى لو كان من الشيعة أنفسهم. بهذا المعنى هو «الأب المؤسس، وكل الآخرين أبناء وأحفاد»، على حد تعبير قيادي سابق في «حزب الدعوة».

قدم المالكي نفسه «منقذاً لشيعة العراق المعاصر». آخر مرة كان قد لملم شتاتهم حين حاول زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الانقلاب عليهم، وطردهم من الحكومة بعدما حاول التحالف مع السنة والكرد (2020). يرى كثيرون أن دور المالكي في «الإطار التنسيقي» منذ أن تشكلت حكومة محمد شياع السوداني، عزز صورته راعياً لدولة الشيعة العميقة. وفي عقل المالكي أنه عمقها الوحيد.

يتوقع رئيس الوزراء الأسبق من حلفائه عدم تجاوز مكانته التاريخية وحدود زعامته، لكن ما الذي يمكن أن يحدث حين يتمرد أشخاص صنعهم المالكي وخلق مشروعهم السياسي؟ ماذا لو قرر السوداني الترشح لولاية ثانية؟

«الابن الضال»

كان السوداني مهندساً زراعياً يعمل لصالح الحكومة في محافظة ميسان (جنوب) حين احتلت القوات الأميركية العراق وأسقطت نظام صدام حسين. ولأنه موظف بدرجة رفيعة وابن عائلة شيعية معارضة، عُيّن منسقاً بين إدارة المدينة وسلطة الحاكم الأميركي في بغداد، لتسيير الأعمال.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (رويترز)

في السنوات اللاحقة، تدرج السوداني في الإدارات العامة. كان من الواضح أن الرجل يجيد الحياة داخل المؤسسات الحكومية، ويمكنه الصمود أمام تقلباتها. إنه «مسلكي» على نحو متمرس، كما يصفه سياسيون موالون له.

يبدو أن المالكي شعر بأن السوداني هو «رجله المناسب». تحول إلى ركن ثابت في الحكومات اللاحقة؛ وزيراً لحقوق الإنسان والتجارة والعمل والصناعة في 3 حكومات. كان الرجل من الصف الثاني أو أقل، لكنه راسخ في الواجهة العامة للمشروع الشيعي على مدار سنوات.

عام 2019، احتج مئات الآلاف من الشبان الشيعة على الحكومة. قفز السوداني من سفينة حزب «الدعوة»، وصعد قارباً صغيراً. أسس حزب «تيار الفراتين» وأراد دخول نادي الشيعة الكبار. بعد عامين، وقع عليه الاختيار رئيساً للحكومة بصفقة صعبة.

في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، دخل السوداني منزل هادي العامري وفي يده ورقة دوّن فيها التزامات يطلبها من رعاة الحكومة في «الإطار التنسيقي». كان المالكي وقيس الخزعلي، زعيم حركة «عصائب أهل الحق» قد جهزا في المقابل ورقة التزامات «ينفذها السوداني ما دام في المنصب».

فحوى الورقة التي سُلمت للسوداني كانت تعكس «عقل المالكي»، الذي تسرب لاحقاً إلى خطاب «الإطاريين» بأن «مهندساً زراعياً كُلف مهام رئاسة الوزراء».

السوداني أراد أن يصبح أكثر من هذا، وأكبر. لقد بدأ عمله في الحكومة هادئاً، لأن أيام الولاية الأولى كانت مخصصة لتصفية تراث سلفه مصطفى الكاظمي. على الأقل كانت «التعليمات» القادمة من «الإطار» تشدد على ذلك.

طموحات السوداني

لاحقاً، أظهر السوداني لمحة قوية عن طموحاته. قدم نفسه وعدد من وزرائه على أنه شخص يريد التركيز على الخدمات والتنمية، بعد أن حصل على تأمين الموازنة الثلاثية، بسقف مالي غير مسبوق.

بالنسبة إلى «الإطار التنسيقي»، لا خطر سياسياً من حكومة تقدم الخدمات، بل «لا معنى لهذا في خلق الأوزان السياسية» كما يقول سياسيون شيعة. كانوا يرون ذلك «خدمة عكسية لصالحهم»، مع إبقاء «العين مفتوحة» على طموحات السوداني.

«انفجر السوداني». يقول سياسيون إنه بعد عامين من الحكم بات يسيطر على نحو 50 نائباً انشقوا «عملياً» عن «الإطار التنسيقي»، ويُلوِّح بأن «كل نائب سابق هو شريك محتمل» في كتلة السوداني الجديدة، في البرلمان المقبل.

الضربة الموجعة للإطار والمالكي –هكذا يأمل السوداني أن تكون– هي تحالفه مع المحافظين الثلاثة الأقوياء، أسعد العيداني في البصرة، ومحمد المياحي في الكوت، ونصيف الخطابي في كربلاء. جميعهم متمردون على «الإطار التنسيقي».

تحدثت «الشرق الأوسط» مع قيادات شيعية مشغولة بتقدير أوزان الفاعلين بالأرقام، رجحوا وزن السوداني بنحو 60 نائباً، وهناك من يتفاءل بأكثر من هذا.

«ودائع في حساب» المالكي

المالكي سيقطع طريق السوداني. في مارس (آذار) الماضي، ضرب في نفسه مثالاً ليشرح مصير السوداني. قال في مقابلة تلفزيونية: «فزت بـ103 مقاعد في انتخابات 2014. لم أحصل على رئاسة الحكومة (...) لأن الوفاق السياسي لم يحدث، فما معنى أن يحصل أي أحد الآن على 60 مقعداً؟ لا شيء. فالأرقام وحدها لا تكفي».

بالعودة إلى ذلك التاريخ، كان المالكي فائزاً بالفعل، ولأنه فشل في الحصول على إجماع الشيعة والكرد، اضطر إلى إخراج حيدر العبادي من أدراج «الدعوة»، بديلاً من «الصف الثاني»، بوجه ناعم، تماماً كالسوداني الآن. الفارق أن العبادي، ورغم أنه تحمَّل مشقة الحرب ضد «داعش» وموازنة شبه خاوية، عاد إلى صفوف الإطار ولم يغامر بأكثر من هذا، إلا ما ندر.

لماذا يصر المالكي على تضييق الخناق على رئيس الوزراء الحالي؟ يعتقد زعيم ائتلاف «دولة القانون» أنه «من غير المقبول أن يسحب شخص ينتمي إليك الأموال من حساب شركة تملكها». بهذه البساطة يقدم سياسي مطلع هذه الاستعارة ليشرح كيف يفكر المالكي الآن.

لقطة من فيديو تُظهر غاضبين يُنزلون صورة المالكي عن أحد مقرات «حزب الدعوة» جنوب العراق

يعتقد المالكي أن السوداني «يختلس» من رصيده السياسي، ويستخدم أدوات الدولة العميقة، ويمد يديه إلى جمهوره الشخصي، ويخلق تحالفات جديدة خارج المعادلة، خارج التحالف الأهم في العراق. المالكي حين يراقب هذه المتغيرات يتذكر أنه هو «من صنع السوداني وهو مَن عليه إعادته إلى النظام». في الحقيقة إنه مؤمن بذلك.

مع ذلك، لا يستطيع المالكي خوض معركة مفتوحة مع السوداني الآن. إنه مكبّل بتقاليد تيار اليمين الشيعي في العراق وضرورات نموه وازدهاره، كما أن رئيس الحكومة لم يعد سهلاً، ليس هو نفسه الذي دخل بيت العامري بورقة «حقوق وواجبات». لقد تحول إلى مركز للتوافق الإيراني - الأميركي، وهو أفضل دور يجب أن يلعبه رئيس وزراء في العراق. ألم يكن المالكي كذلك في ولايته الأولى؟

ما يستطيع المالكي فعله الآن للإيقاع برفيقه السابق السوداني، هو -على المدى البعيد- صياغة قانون انتخابات جديد يجرِّد رئيس الحكومة من أي صلاحية ومنفذ وقدرة على استخدام موارد السلطة في الانتخابات. هذا ما يقوله، وما يريده حرمان السوداني من فرصة تَمتعَ بها المالكي عام 2010، على سبيل المثال.

تقول المصادر إن خبراء انتخابات يعملون مع المالكي منذ شهرين على صياغة قانون جديد للانتخابات. لقد وصل الآن إلى مرحلة متقدمة، خصوصاً بعد إشراك لاعبين سنة وكرد في الأجواء.

لكن اللافت أن المالكي مستعد لصياغة قانون لا يوفر له فرص الفوز، بل يكرس خسارة السوداني.

على المدى القريب، يحاول المالكي، أيضاً، اصطياد حلفاء السوداني والإيقاع بهم. يقول صناع قرار في الإطار التنسيقي إن السوداني حين يصل إلى الأمتار الأخيرة من الانتخابات المقبلة سيكون محظوظاً لو احتفظ بواحد من المحافظين الثلاثة الأقوياء. «سيطيح بهم المالكي»، يقول سياسي عراقي.

السوداني ليس سهلاً

يعرف رئيس الحكومة أن الشيعة في الانتخابات المقبلة سيواجهون ديناميكية جديدة، قد تنتهي فيها صيغة «الإطار التنسيقي» بالانشطار أو بالتحول إلى مراكز ثقل جديدة؛ وجزء من خطة السوداني أن يكون على رأس أحدها.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (أ.ف.ب)

يمكن للسوداني قطع الطريق على قانون الانتخابات الجديد وإحباط جهود حزب «الدعوة». يقول مقربون إن «رئيس الحكومة سيخوض حوارات شاقة مع السنة والكرد. ثمة تسويات عديدة قد تُقنعهم بمغادرة مطبخ المالكي».

ورغم أن الحفاظ على الحلفاء ليس مضموناً في العراق، فإن السوداني سيكافح للحفاظ عليهم، بينما يعمل على كسب مزيد من عتاة المرشحين الشيعة، لا سيما المحافظين والعسكر.

«السوداني يتعلم من المالكي»، وجزء من الاضطراب داخل الإطار التنسيقي هو «غرور الآباء المؤسسين وانزعاجهم من جرأة التلاميذ»، يقول قيادي شيعي، ويعتقد أن السوداني ليس المتمرد الوحيد، فالخزعلي يشق الطريق ذاته في محاولة عبور المالكي.

يقول، وهو مطلع على أجواء الحرب الباردة مع المالكي ويميل إلى كفة السوداني، إن الأخير يقدم نفسه «شريكاً موثوقاً للاعبين أساسيين في المنطقة، بما فيهم إيران»، وإنه «يقف على طريق شراكات واعدة مرتبطة باتفاقات تهدئة، وشكل جديد للشرق الأوسط، أساسه الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في العراق».

«مشانق» الانتخابات

في السنة الأخيرة من عمر الحكومة، ستنتقل الحرب الناعمة إلى شكل آخر أكثر سخونة. يشكك كثيرون بأن الاضطرابات الأخيرة في العراق على وقع «قضايا الفساد وتورط موظفين حكوميين في ملفات مشبوهة»، مجرد إحماء وتحضير لما سيحدث.

لقد جرب المالكي والسوداني مواجهات محدودة بينهما. السوداني تفوق في جولات محدودة، لكنّ زعيم «دولة القانون» سجل نقاطاً.

يضرب سياسي كردي مثالاً على ذلك: «خلال الأشهر الماضية، حاول السوداني اختراق الحكومتين المحليتين في ديالى وكركوك برعاية تفاهمات مع فائزين في الانتخابات المحلية، لكن المالكي المتمرس حسم منصب المحافظ في الأولى، وكسر توافقات السوداني في الثانية».

«من الآن وصاعداً سيبدأ نصب المشانق الانتخابية» يقول سياسي سُني يشارك في مفاوضات سرِّية حول تعديل قانون الانتخابات، ويتوقع خريطة جديدة للشيعة، ستتأثر بها القوى السنية والكردية.

مع ذلك، فإن ما يسربه السياسيون الشيعة بشأن الحرب الناعمة بين السوداني والمالكي، وما توشك أن تتحول إليه محاولات «كسر عظام»، يكشفان عن قلق تيار اليمين الشيعي على مستقبله بعد عامين من الزهو والنفوذ.

لا يمانع المالكي كتلة صغيرة يقودها السوداني في البرلمان المقبل. «لا بأس بنموذج عمار الحكيم وهادي العامري وآخرين، يدورون في فلك عشرة مقاعد»، يقول القيادي في الإطار، لأن المعركة الآن تتعلق بـ«لعبة الأرقام»، كل شيء يستعر حول تحديدها وتحجيمها لمنع خريطة «مفاجآت».

«سلطة الأرقام تتفوق»، لأن الاعتقاد الشيعي السائد يفيد بأن عوامل التأثير الكلاسيكية بدأت تضمحل في المشهد الانتخابي، مثل المرجعية الدينية والأميركان، «أما إيران فتفضل التدخل، في اللحظة الأخيرة بعد صبر ومراقبة شديدة».

لكن كيف يتصور القادة الشيعة نهاية هذه الحرب الباردة؟ يتحدث كثيرون عن ثلاثة خيارات؛ أن يصمد السوداني، أو يعقد صفقة مع المالكي برعاية طرف ثالث، أو يخرج أحدهما بإصابات سياسية بليغة.


مقالات ذات صلة

انطلاق عمليات الاقتراع للانتخابات الرئاسية الجزائرية للجالية بالرياض

الخليج السفير الجزائري شريف وليد يدشن عملية اقتراع الانتخابات الرئاسية في السفارة بالرياض (الشرق الأوسط)

انطلاق عمليات الاقتراع للانتخابات الرئاسية الجزائرية للجالية بالرياض

انطلقت الاثنين عمليات الاقتراع للانتخابات الرئاسية الجزائرية لرعايا البلاد المسجلين على القوائم الانتخابية للدائرة الانتخابية بالرياض.

فتح الرحمن يوسف (الرياض)
شمال افريقيا صورة واحدة للمرشحين الثلاثة للانتخابات الجزائرية (الشرق الأوسط)

الجزائر تقر تدابير خاصة لتأمين الانتخابات الرئاسية

غلق كل الأسواق الأسبوعية بكل أنواعها، بالإضافة إلى منع سير مركبات نقل مواد البناء، وصهاريج الوقود، وتأجيل كل التظاهرات الرياضية والثقافية.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا رجل الأعمال التونسي والنائب السابق المرشح للانتخابات الرئاسية العياشي زمال (لقطة من فيديو)

توقيف مرشح للرئاسة التونسية بشبهة تزوير التزكيات

تتهم المعارضة هيئة الانتخابات، بقطع الطريق أمام شخصيات معارضة من خلال وضع شروط مشددة للترشح للرئاسة

«الشرق الأوسط» (تونس)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس (د.ب.أ)

شولتس يدعو إلى استثناء اليمين المتطرف من التحالفات بعد الانتخابات في ألمانيا

حضّ المستشار الألماني، أولاف شولتس، الأحزاب الرئيسية، اليوم (الاثنين)، على الوقوف في وجه «حزب البديل من أجل ألمانيا» المتطرّف، بعدما حقق الحزب مكاسب تاريخية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا رجل الأعمال التونسي والنائب السابق المرشح للانتخابات الرئاسية العياشي زمال (لقطة من فيديو)

توقيف المرشح الرئاسي التونسي العياشي زمال

قال عضو في حملة المرشح الرئاسي التونسي العياشي زمال، لوكالة «رويترز» للأنباء، إن الشرطة ألقت القبض عليه.

«الشرق الأوسط» (تونس)

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

TT

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)
متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)

يصعبُ وضع خط زمني واضح للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى حوادث العنف الأخيرة ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما ترتب عنها من مظاهرات ضد الوجود التركي ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية في مناطق الشمال السوري.

في تلك الحوادث يتبدل موقع السوريين بين كونهم ضحايا لموجات العنصرية في تركيا، وضحايا التهميش في مناطق سيطرة المعارضة. ولولا الزمن الفاصل بين تلك الحوادث وأسبقية وقوع إحداها قبل الأخرى وإن بأيام معدودة أو ساعات أحياناً، لأمكن اعتبار أي منها سبباً لما بعدها أو نتيجة لما قبلها. لكن الواقع المعاش ليس بهذا الوضوح.

خطورة تسريب البيانات

في الأيام القليلة الماضية، تراجعت حدة الصدامات المباشرة على خلفية أحداث قيصري، لكن بعض المؤشرات المقلقة بقيت تظهر بين الحين والآخر، سواء على شكل مزيد من «الأحداث الفردية» كاعتداء في مطعم هنا أو حديقة عامة هناك، إلى أن جاء تسريب بيانات أكثر من 3 ملايين سوري مقيم في تركيا عبر حساب على منصة «تلغرام» باسم «انتفاضة تركيا» ليدق ناقوس خطر من نوع جديد. فقد تضمنت البيانات، معلومات حساسة، مثل الأرقام الوطنية للأشخاص السوريين دون سواهم من المقيمين الأجانب، واسم الأب والأم، ومكان وتاريخ الولادة، وعنوان السكن ورقم الهاتف. وهذه قواعد بيانات شخصية يفترض أنها محفوظة لدى دوائر الهجرة بالدرجة الأولى بالاضافة إلى الجهات المختصة الأخرى، ويأتي تسريبها ليضع مزيداً من الضغوط على السوريين؛ لأنه يعرّض سلامتهم للخطر. فليس سراً أن هجمات في قيصري قبل 3 أيام فقط على هذا التسريب، ترافقت مع تداول المهاجمين معلومات محددة عن أماكن السوريين وأرزاقهم؛ ما يشكل تنبيهاً خطيراً لما قد يحدث مع انكشاف هذه البيانات وإمكانية استخدامها للملاحقة والترهيب.

اللافت، كان تعامل السلطات التركية مع المسألة وكأنها مجرد خطأ تقني؛ إذ أعلنت دائرة الهجرة أن المعلومات الواردة في البيانات «قديمة نسبياً»، ثم قامت بحذف القناة عن «تلغرام»، في حين سارعت وزارة الداخلية بإعلان أن المسؤول عن التسريب هو طفل يبلغ من العمر 14 عاماً. وأضاف بيان الداخلية أنه «سيتم القبض على جميع الذين يحاولون خلق الفوضى، ومن يستخدمون الأطفال في استفزازاتهم».

أب وأطفاله يعبرون أمام محال مغلقة لسوريين في ولاية بورصة التركية (أ.ب)

ليلة الرعب في قيصري

قبل حادثة تسريب البيانات كانت الشرارة التي أطلقت موجة العنف الأقوى ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما لحقها من رد فعل سوري على الرموز والمؤسسات التركية في الشمال السوري وأدت إلى اشتباكات مباشرة أودت بحياة 11 سورياً على يد القوات التركية في مناطق الشمال السوري.

فقد انتشر مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي لشاب يتحرش جنسياً بطفلة في مدينة قيصري التركية مع إشاعة أنباء مغلوطة بأن الرجل سوري والطفلة تركية. خلال ساعات، كانت مجموعات تركية شبه منظمة بدأت في تنفيذ هجمات استهدفت بالحرق والتكسير سيارات ومحال تجارية ومساكن للسوريين في قيصري، وكل من يشتبه بأنهم سوريون في الشوارع. وعلى رغم تأكيد ولاية قيصري بأن الرجل سوري، وقد جرى اعتقاله، وأن الطفلة سورية وتم نقلها إلى أحد مراكز الحماية التابعة لوزارة الأسرة، فإن الهجمات ضد السوريين لم تتوقف، بل توسعت إلى أكثر من مدينة تركية واستمرت بضعة أيام تعرّض خلالها حتى السياح في مدينة كإسطنبول لهجمات ومضايقات.

هذا الجو دفع مئات الآلاف من اللاجئين إلى ملازمة منازلهم، وإسدال الستائر والاعتماد على خدمات التوصيل والحرص على الهدوء والتحدث بالتركية في المواصلات العامة عند ضرورة الانتقال أو الامتناع عن التحدث مطلقاً في الشوارع أو الأماكن العامة. الحدائق والشوارع في المدن ذات الكثافة السورية خلت تماماً من العائلات وأُغلقت المحال التجارية ولم يعاد فتحها حتى وقت الكتابة. أما الذين يملكون سيارات خاصة واضطروا إلى الخروج في هذه الفترة، فقد ركنوا سياراتهم خوفاً، واعتمدوا على المواصلات لكون سيارات الأجانب في تركيا تحمل رمزاً خاصاً يبدأ بحرف M أو MP وبالتالي يمكن تمييزها بسهولة في الشوارع.

ولعل أكثر المتضررين كانوا أصحاب المحال التجارية وعمال المياومة في مصانع الألبسة أو القطاع الزراعي الذين لم يخرجوا للعمل منذ نحو أسبوع تقريباً، وهم الحلقة الأضعف بشكل عام، ولا سيما في أوقات كهذه. فلحظة اللقاء النادرة بين الأحزاب السياسية المتخاصمة، هي لدى تحميل اللجوء السوري مسؤولية الأزمات في البلاد، وخصوصاً الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تركيا منذ أكثر من سنتين، بما في ذلك التضخم الذي بات يتجاوز 70 في المائة.

تحريض عفوي - منظّم

أشارت صحيفة «يني شفق» التركية إلى أن المشاركين بأعمال العنف ضد السوريين كانوا يتواصلون عبر 4 مجموعات في «واتساب» كانت تُستخدم سابقاً للتهرب من عمليات الشرطة الروتينية، وتضم كل منها نحو 500 شخص.

اللافت، أن هذه المجموعات انقلبت فجأة للتحريض ضد السوريين، ومشاركة مواقعهم، وتخطيط وتنظيم الهجمات عليهم وعلى أرزاقهم. وكالة «الأناضول» الرسمية التركية، نقلت في اليوم التالي لأحداث قيصري عن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا، خبر توقيف 1065 شخصاً في أنحاء البلاد، وحبس 28 منهم، وصدور أمر فرض الرقابة القضائية بحق 187 شخصاً. الوزير أوضح أن قوات الأمن التركية أوقفت 855 شخصاً في ولاية قيصري وحدها، تبين أن 468 منهم لديهم سوابق جنائية.

ويقول المحامي السوري والناشط المدني محمد الصطوف إن هذه الخلفيات للموقوفين تعطي صورة عن الشبكات المسؤولة عن الهجمات المنظمة وطريقة عملها، لكنها لا تفسر المشاركة العفوية لمئات الأتراك العاديين، في الاعتداء على المنازل والأشخاص.

تفسير الحكومة بحسب الصطوف، وهو يحمل الجنسية التركية أيضاً، ينكر وجود مشكلة في تركيا، تتعلق بكراهية الأجانب عموماً وبينهم السوريون. فطول أمد اللجوء السوري، والاحتكاكات اليومية والثقافية، ساهمت مع مرور الوقت في تسهيل لوم الأتراك العاديين للسوريين وتحميلهم مسؤولية تردي الظروف المعيشية خلال السنوات الأخيرة.

وتكشف أحداث قيصري، عن درجة الاحتقان ضد الأجانب، وإمكانية انفجاره في أي لحظة وأي مكان، لأسباب قد تكون مصطنعة، ولأهداف تسعى أطراف ثالثة لاستغلالها وتوجيهها. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الاكتفاء بتضخيم النزعة القومية التركية، ورهاب الغرباء، وخطاب الكراهية المنتشر اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفسير ما يحدث، فإن الخطاب المضاد الساعي للتهدئة قد يكون مبالغاً في تبسيطه أيضاً.

فالقول إن الاحتجاجات هي اعتداء على «الأخوة التي تربط بين الشعبين التركي والسوري»، كما قالت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات (İHH) التركية في بيان لها يبدو أقرب لإغماض العيون عن الوقائع والاستماع للأمنيات. كما أن التراشق السياسي اليومي بين صانعي القرار والمعارضة في تركيا، والإعلان الأخير عن تقارب بين أنقرة ودمشق ثم عن لقاء مرتقب بين الرئيسين التركي رجب الطيب أردوغان والسوري بشار الأسد، بغرض إعادة السوريين إلى بلادهم بمعزل عن أمنهم، يضع اللاجئين، في موقع ضعيف ومكشوف، ولا يمنحهم أي احساس بالاستقرار والأمان.

متاجر سورية تعرضت للاقتحام والتكسير في أيار الماضي (الشرق الأوسط)

من يدفع أثمان اللجوء؟

بحسب بيانات دائرة الهجرة التركية، هناك 3 ملايين و114 ألفاً و99 سورياً يحملون بطاقات الحماية المؤقتة مقابل مليون و125 ألفاً و623 شخصاً يحملون تصاريح إقامة تترواح بين إقامات «سياحية» وأذونات عمل، وهذا لا شك رقم كبير للغاية في أي مجتمع مُضيف.

«لكن اللجوء السوري الطويل في تركيا ليس سبباً لتعثر الاقتصاد التركي في قطاعات كثيرة كالعقارات والصناعة وتداولات البورصة، ولا يتحمل مسؤولية التضخم المالي»، يقول الباحث الاقتصادي والأستاذ في جامعة لوزان جوزيف ضاهر لـ«الشرق الأوسط». ويضيف ضاهر: «على العكس من ذلك، ساهم اللجوء السوري في رفد سوق العمل التركية باليد العاملة الرخيصة، في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات؛ ما أدى إلى مزيد من تراكم رأس المال والأرباح لرجال الأعمال الأتراك». وبالتالي «لم يكن اللجوء سبباً في زيادة نسب البطالة الكلية ولا في تجويع الأتراك، كما تدعي عديد من الجهات الفاعلة السياسية التركية ذات التوجهات القومية والعنصرية». ويوضح ضاهر أن اللجوء السوري في تركيا، «ساهم في بدايته، بحدوث نمو في الاقتصاد التركي، مع هجرة كثير من الصناعيين ذوي الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من حلب وريفها ليفتتحوا ورشاتهم ومصانعهم جنوب تركيا».

وهؤلاء استثمروا أموالهم في الاقتصاد التركي واستعانوا بيد عاملة سورية وتركية على السواء ضمن شروط الاستثمار الاجنبي المعمول بها حتى الآن والتي تفرض توظيف 5 أتراك مقابل كل عامل أو موظف أجنبي أياً كانت جنسيته. لكن هنا أيضاً وبسبب التضييق الحكومي والمجتمعي وغياب أي آليات ناظمة واضحة اضطر كبار الصناعيين والمستثمرين السوريين، لا سيما في قطاعات صناعة النسيج والقطن والألبسة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية، إلى نقل مصانعهم وأعمالهم إلى مصر.

وفي 2014 بدأ تدفق أموال من نوع آخر إلى تركيا، وهي أموال المانحين الدوليين لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم. ولعل السبب الفعلي كان وقف قوافل الهجرة غير الشرعية براً وبحراً إلى أوروبا فيما عرف حينها بـ«أكبر أزمة لجوء» في التاريخ الحديث، لكن تركيا لم توفر جهداً في «استخدام قضية اللاجئين السوريين للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلات سياسية لتركيا، وأيضاً للحصول على مزيد من التمويل» بحسبما يقول ضاهر، مضيفاً: «كان لتركيا حصة وازنة في المساعدات الدولية بوصفها إحدى كبريات الدول المضيفة للسوريين».

وبحسب الأرقام المتوفرة على موقع المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، وصل إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي المخصصة لتركيا منذ عام 2011 ما يقارب 10 مليارات يورو. بينها 6 مليارات يورو بين عامي 2016 و2019، و535 مليون يورو في تمويل الجسر الإنساني عام 2020، و3 مليارات يورو كتمويل إضافي للفترة بين 2021 و2023.

لكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بحسب ضاهر، «غيّرت أولويات المانح الأوروبي، وأدت إلى ما بات يعرف بـ(تعب الممول)؛ ما تسبب بتراجع كبير في عدد المنظمات المدنية العاملة مع السوريين في تركيا والمعتمدة في تمويلها على المساعدات الأوروبية».

وعلى رغم تراجع الاهتمام الغربي بدعم اللاجئين السوريين في دول الجوار وبينهم تركيا، فإن ذلك «لا يفسر فعلياً الأجواء المشحونة بالعنصرية الموجهة ضدهم في المجتمع التركي. إذ بالأصل، نسبة كبيرة من السوريين في تركيا لا يقيمون في المخيمات، ولا يتلقون دعماً مالياً مباشراً، بل يعتمدون على أنفسهم في العمل، وبالتالي في توليد دخل يتم ضخه في الاقتصاد التركي»، كما يذهب ضاهر.

عودة طوعية وترحيل ممنهج

في السنوات القليلة الماضية تبنت أحزاب المعارضة التركية وحتى الحكومة التركية بمختلف تياراتها الشعبوية، خطاباً ولغة وسياسة أكثر تشدداً ضد اللاجئين السوريين، تبخر معها الكثير من آثار التضامن السابقة. وخلال السنة الأخيرة وحدها، أُعيد إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال غربي سوريا، نحو نصف مليون لاجئ، ضمن سياسة ترحيل ممنهج تسمى «العودة الطوعية»، ولكنها تجمع بين الترغيب والإجبار، والملاحقة والتضييق، والحملات المباغتة لاعتقال وتوقيف المخالفين لقواعد الحماية المؤقتة.

سوريون ينتظرون العبور إلى سوريا من تركيا عند معبر بالقرب من مدينة أنطاكيا فبراير 2023 (أ.ب)

وإن كان كل ذلك مفهوماً في معرض التراشق السياسي، إلا أنه يعجز عن تفسير بيان صادر عن 41 منظمة غير حكومية تركية في مدينة غازي عينتاب التركية، في 17 يونيو (حزيران) الماضي، يُحذّرُ من «تحولات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تهدد هوية المدينة ومستقبلها، وسط حياة لم تعد تُطاق تحت وطأة تدفق اللاجئين السوريين».

في هذا السياق، يقول الصطوف لـ«الشرق الأوسط»: «إن البيان شكّل صدمة للمشتغلين في العمل الإنساني. ولكن، حتى المنظمات المدنية، يمكن لها تحت ظروف شحن سياسية خانقة كما هو الوضع اليوم، أن تخضع لضغط الشارع ومزاجه، بما لا يستقيم مع أهدافها في العمل المدني. الأمر ذاته، تمكن ملاحظته معكوساً، في صمت المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في تركيا، من تصاعد موجة العداء للاجئين السوريين، التي تخشى من سحب ترخيصها أو إيقافها عن العمل أو ملاحقة أعضائها».

احتجاجات الشمال وعقدة المعابر

وسط الأجواء المشحونة والقلق الذي يعيشه السوريون في تركيا، جاء الحديث عن محاولة تقارب جديدة بين أنقرة ودمشق، بمبادرة عراقية ورعاية روسية ليؤجج مزيداً من المخاوف والتكهنات، لا سيما في الشمال السوري الخاضع لسيطرة تركية.

فاندلعت مظاهرات حاشدة في ريف حلب الشمالي منددة بالوجود التركي، نتيجة عدم التزامه بدوره كضامن للمعارضة في اتفاق آستانة، ومتهمة إياه بالتخلي عن مناطق المعارضة في الشمال الغربي لصالح النظام.

جنود أتراك عند نقطة عسكرية داخل الحدود مع سوريا في شمال حلب (أ.ف.ب)

الجانب التركي رد بإغلاق المعابر الحدودية، وقطع الإنترنت والاتصالات عن مناطق المعارضة. المظاهرات الغاضبة، تحولت بسرعة محاولاتٍ لاقتحام بعض المعابر مع تركيا، وأحداث عنف وتكسير لشاحنات تحمل لوحات تركية في ريف حلب الشرقي، وتمزيق للأعلام التركية. تصاعد لم يتوقف إلا بعد هجوم على قاعدة عسكرية تركية في مدينة عفرين شمال غربي حلب، ردّ جنودها بإطلاق نار مباشر تسبب بمقتل 4 من المهاجمين وإصابة العشرات.

كذلك، تخشى أوساط المعارضة في شمال غربي سوريا أن يكون أي تقارب على حساب هذه المناطق التي يقطن فيها نحو 6 ملايين سوري أكثر من نصفهم من النازحين والمهجّرين قسرياً من مناطق النظام. فبالنسبة إليهم، يبقى الوضع القائم على مساوئه وعلاته، أفضل من العودة إلى سيطرة النظام العسكرية والأمنية وإمساكه بالمعابر التي تعدّ شريان الحياة هناك.

وكانت محاولة التقارب السابقة بين النظام السوري وتركيا، تسببت بموجة احتجاجات في مناطق المعارضة، قبل أن تتوقف المحاولة في 2021؛ نتيجة إصرار النظام على انسحاب تام للقوات التركية من الأراضي السورية.

وفيما فُسّر كخطوة جديدة ضمن مسار التطبيع السريع، عودة الحديث عن إمكانية افتتاح معبر أبو الزندين الذي يربط مناطق الحكومة المؤقتة (المدعومة تركياً) بمناطق النظام، أمام الحركة التجارية، علماً أن أبو الزندين هو المعبر الوحيد الذي لا يزال مغلقاً منذ مارس (آذار) 2020 نتيجة انهيار محاولة التقارب حينها بين أنقرة ودمشق.

وسرعان ما تحولت قضية المعبر أزمةَ ثقة بين مناطق المعارضة والوجود التركي فيها، تدخلت فيها أطراف متعددة لغايات متناقضة، وتطورت إلى اشتباكات مسلحة، للمرة الأولى بين الطرفين.

وتشكّل المعابر، الشرعية وغير الشرعية، بين مناطق النظام والمعارضة، عقدة مركبة، تتداخل فيها عوامل محلية تتعلق بنزاعات بين فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت راية الجيش الوطني المدعوم تركياً، للسيطرة على إيرادات المعابر المالية، وما يسببه ذلك من فوضى أمنية وعدم استقرار عسكري.

كذلك، هناك عامل يتعلق برغبة روسيّة في استعادة الحركة على الطريق الدولية حلب - اللاذقية M4، وفتح المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، كخطوة أولى لأي تطبيع محتمل. وبحسب صحيفة «الوطن» السورية شبه الرسمية، سيعود ذلك بالانتعاش الاقتصادي لمناطق النظام، وإعادة فتح طريق ترانزيت بين غازي عنتاب التركية مروراً بأعزاز في ريف حلب، إلى معبر نصيب عند الحدود الأردنية. ويتيح ذلك إمكانية تدفق البضائع التركية إلى الخليج العربي براً عبر سوريا، بعد انقطاع استمر 13 عاماً.

جهاد يازجي، باحث مختص بالاقتصاد السوري، قلل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» من التوقعات الاقتصادية المتفائلة لفتح المعبر أمام الحركة التجارية وقال: «انتقال البضائع لم يتوقف بين الطرفين، حتى مع إغلاق المعابر الرسمية، والتبادل التجاري لم ينقطع، إما عبر المعابر غير الشرعية أو عبر طرق طويلة تمر بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، موضحاً أن «أهمية افتتاح المعبر، ليست اقتصادية في هذه المرحلة، وإنما سياسية لأن المتضرر الفعلي هي شبكات التهريب التي تنشط في المنطقة، والحواجز الأمنية والعسكرية». وبالتالي، إذا صدقت الوعود التركية حول إنشاء إدارة مدنية بالكامل لإدارة المعبر، فالمستفيد بالدرجة الأولى بحسب يازجي هم «منتجو البضائع المحليون؛ لأن ذلك يسرع من حركة نقل البضائع، ويخفف من تكلفتها».

لكن الاحتجاجات المناهضة لمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق التي شهدتها مدينتا الباب وأعزاز بريف حلب كشفت الأطراف المشاركة.

متظاهر سوري أمام شاحنة تركية محترقة عند الحدود السورية - التركية (أ.ف.ب)

فالتشكيلات المدنية شاركت في المظاهرات لأسباب سياسية وتضامنية مع اللاجئين في تركيا، في حين أن أكثر من عارض افتتاح المعبر بشكل مباشر هي الشبكات المرتبطة بفصائل الجيش الوطني خشية خسارة مزدوجة؛ نقل إدارة المعبر لجهة مدنية، وانخفاض مردود عمليات التهريب نتيجة افتتاحه. وبالفعل، هاجمت مجموعة من القوى العسكرية المنظمة، المحسوبة على فصائل الجيش الوطني، المعبر، وعطّلت العمل به، بحسبما قال مصدر عسكري مطلع لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح المصدر أن «تلك الفصائل سواء كانت من عشائر دير الزور في المنطقة الشرقية، أو من ريف حلب، فهي متجذرة في المنطقة، ولها هرمية واضحة وعصبة تنظيمية، وقادرة على الدفاع عن مصالحها». وبالتالي، فإن «مهاجمة المعبر تدخل ضمن محاولة الضغط على الجانب التركي وفرض حصتها أو مصالحها».

وعلى أثر ذلك، تدخلت الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني (المدعوم من تركيا)، واعتقلت بعض المشاركين في الهجوم على المعبر وتعهدت بملاحقة «من تسوّل له نفسه فعل ذلك مجدداً»، وسط أنباء بإعادة المعبر إلى رعاية مباشرة من أنقرة؛ لضمان خط التقارب مع دمشق برعاية روسية.

مسلحون من فصائل المعارضة السورية في منطقة الباب التي شهدت احتجاجات ضد الوجود التركي (أ.ف.ب)

طريق سريع إلى باب موصد

خلال أقل من عشرة أيام، اندلعت موجات متعاقبة من الفوضى والعنف في مجتمعات محلية تقطن مناطق مختلفة على طرفي الحدود السورية - التركية، وانقلبت معها حياة مئات الآلاف وتعرّضت للخطر. الاكتفاء بتوصيف الأتراك بالعنصرية، كالاكتفاء بتوصيف السوريين بالضحايا، لن يقود إلى أي إمكانية لتجاوز المحنة الراهنة، وذلك كالإغراق بإنكار الوقائع والتغني بالأخوة بين الشعوب.

تراجع الاقتصاد التركي، وإن كان اللاجئون السوريون لا يتحملون مسؤوليته، إلا أنهم ضحاياه الاجتماعيين، بوصفهم الحلقة الأضعف. كما أن تصاعد العنصرية ضدهم، ليس سمّة خاصة بشعب ما؛ إذ يكفي النظر في ما يتلقاه اللاجئون في بقية دول الجوار، لمعرفة أن الحال من بعضه.

كذلك، فإن الفساد المستشري شمال غربي سوريا، وفشل تشكيلات المعارضة في إنتاج بدائل حوكمة تداولية، ليس ذنباً تركياً خالصاً وإن كان الأتراك يتحملون مسؤولية كبيرة في تغليب المحسوبية والاستزلام في علاقاتهم مع السوريين. فشل المعارضة في إقامة نموذج للحكم العادل في مناطقها، يقطع مع إرث النظام السوري في العنف والفساد، أمر ليس ثانوياً، ويجب أن يتحمل السوريون مسؤوليتهم عما آلت إليه أحوالهم.

وإن كانت الحملة العنيفة الأخيرة ضد اللاجئين تم احتواؤها اليوم، فلا يمكن التنبؤ بموعد ومكان موجتها المقبلة، في غياب أي حل عملي على الأرض، يقي مجتمع اللاجئين والمجتمعات المضيفة، خطر الصدام مجدداً.

* صحافي وباحث سوري