في ذكرى بيعة ولاية العهد السابعة... صلابة نظام وقوة إرادة

تحولات سريعة ونمو اقتصادي ومتابعة لصيقة من عراب رؤية 2030

الأمير محمد بن سلمان (واس)
الأمير محمد بن سلمان (واس)
TT

في ذكرى بيعة ولاية العهد السابعة... صلابة نظام وقوة إرادة

الأمير محمد بن سلمان (واس)
الأمير محمد بن سلمان (واس)

يحتفل السعوديون هذه الأيام بالذكرى السابعة لبيعة الأمير محمد بن سلمان بولاية العهد في السعودية (26 رمضان 1438هـ - 21 يونيو (حزيران) 2017م)، في وقت شهدت فيه البلاد تحولات سريعة يصعب رصدها، إلا أنها تصب في «بناء دولة المستقبل»، ضمن «رؤية 2030» التي عرّابها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومن خلفه إيمان الشعب السعودي برؤية القائد، والعمل على دفع عجلة التنمية في بلاده، بتنظيمات وقوانين وإصلاحات هيكلية، وبأهداف مرسومة وطرق واضحة، وقد عبّر الأمير محمد بن سلمان عن شعوره تجاه الشعب السعودي بعد أشهر قليلة من توليه ولاية العهد قائلاً: «أنا واحد من 20 مليون نسمة، أنا لا شيء بدونهم، وأنا أقل وأضعف مثال فيهم كلهم، هم اللي يحفزونني وهم اللي يدفعونني للأمام...»، وكأنه يستحضر مقولة جده الملك عبد العزيز: «أنا قوي بالله ثم بإيماني ثم بشعبي...، وأنا أسير وإياهم كفرد واحد، لا أفضل نفسي عليهم ولا أتبع في حكمهم إلا ما هو صالح لهم...».

أصالة النظام السياسي

تميزت الدولة السعودية منذ تأسيسها قبل 3 قرون بأصالة نظامها السياسي، فهو ليس نظاماً مستورداً أو مستنسخاً أو مفروضاً من قوى أخرى؛ علاوة على أنه لم يأت من فراغ، أو ينشأ في غير بيئته، بل كان نابعاً من جذور تاريخية، وعمق إسلامي، وتراث وبيئة عربية نقية. فجذوره التاريخية تمتد إلى تأسيس إمارة الدرعية قبل قرابة 6 قرون، والدولة قامت على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وهي الوريثة الشرعية للحضارة العربية الإسلامية، كما أنها الوحيدة التي استطاعت توحيد الجزيرة العربية تحت حكم عربي مستقل بعد أكثر من عشرة قرون من التفرق والشتات، وإعادة مركزية الحكم العربي إلى جزيرة العرب وإلى قلبها تحديداً، فكان منبع الدولة السعودية تلك البيئة العربية الخالصة، وكانت الحلم العربي الذي تحقق بعد طول غياب.

قصر المصمك في الرياض (هيئة التراث السعودية)

من هنا أتى تفرد نظامها السياسي الذي قام على جذور راسخة، وأصالة سياسية، وشرعية دستورية، تمثلت في قبول ورضا شعبيَّيْن واسعين تجليا في «بيعة» الشعب لحكامه، وتأكد عند محاولات القضاء على نظام الحكم أكثر من مرة، وفي مراحل استرداد «آل سعود» الحكم بالتفاف الشعب حول من يرونه الحاكم الشرعي، كما حصل مع الإمام تركي بن عبد الله، ومع ابنه الإمام فيصل، ثم مع الملك عبد العزيز، لتكون البيعة - بوصفها مفهوماً وممارسة - أحدَ أركان العقد الاجتماعي السعودي التي تُميز هذا العقد، كما تُميز النظام السياسي السعودي عن غيره.

الإنسان محور اهتمام الدولة

مرت الدولة السعودية بمنعطفات وتحولات، بيد أن التحول الأكبر حدث مع الملك عبد العزيز؛ ففي عهده أصبحت (مملكة)، وكان هو الأول من آل سعود الذي حمل لقب (ملك)، وعلى يديه تطورت هياكل الدولة وأنظمتها ومؤسساتها. واستطاع الملك عبد العزيز بعميق رؤيته أن يبني نظاماً صلباً للحكم، تطور معه العقد الاجتماعي (التقليدي)، والذي عادة يتم تناوله من النواحي النظرية، دون إنزاله على الحالة السعودية وصفاً وتفصيلاً، أو حتى فهماً لخلفياته وتطبيقاته وممارساته. فهو نشأ أصلاً بسبب تحقيق الدولة السعودية لما كان يبحث عنه إنسان هذه الأرض، فكان ارتباط المواطنين وثيقاً بدولتهم وقيادتهم منذ البداية؛ لحاجتهم إلى (الحكم الرشيد) الذي يوفر لهم الوحدة والأمن والاستقرار والعدل والتنمية.

تلك الحاجات الكبرى والمفاهيم العظمى التي لا يدركها إلا من فقدها. من هنا نشأ الترابط بين القيادة والمجتمع في أساسه، ذلك الأساس والجوهر الذي بقي أصله ثابتاً حتى اليوم.

وهذا العقد أعمق بكثير مما يتصوره الآخرون، فهو متجذر في نفوس الحكام والمحكومين على حد سواء، أعاد إرساءه عبد العزيز ورجاله وأبناء شعبه، ورعاه ملوك البلاد من بعده، وتوارثه الشعب السعودي جيلاً بعد جيل. بقي متنه راسخاً، وإن طرأت تغيرات على بعض هوامشه تزامنت مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي مرت بها البلاد في مراحل مختلفة، وبالتالي فهو عقد له أساس ثابت وأبعاد متحركة.

خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان (واس)

إن المتتبع لكلمات ملوك المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز يلحظ أن الإنسان السعودي هو محور اهتمامهم. يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز: «النهج التنموي في المملكة يستهدف صنع نهضة شاملة ومستدامة، محورها وهدفها الإنسان الذي سيدير الحاضر، ويصنع تنمية المستقبل».

الحكم الرشيد

أما عن (الحكم الرشيد) فهو مفهوم عربي إسلامي في أصله، استعادته المنظومة الدولية مؤخراً بمسمى (الحكم الصالح أو الراشد أو الجيد، وأُفضّلُ استخدام مصطلح الحكم الرشيد لارتباطه بتراثنا السياسي العريق)، ورأتْه بديلاً للديمقراطية التي فشلت تطبيقاتها في الدول النامية، وجوهره النظام السياسي في الإسلام الذي هو جوهر النظام السياسي السعودي، بينما الديمقراطية الغربية تجربة إنسانية حققت نجاحات ومُنيت بإخفاقات، ومع ذلك فهي نظرياً فكرة جذابة، لكنها عملياً أعادت إنتاج احتكار رأسمال في أيدي الأقلية الثرية مع ضغط الطبقة الوسطى من خلال إثقالها بالضرائب، وإشغالها بالبحث عن الرزق فتحولت الديمقراطية بذلك إلى أداة لإعادة استعباد البشر، و«استخدام الدول لها أداةَ قهر طبقية للحفاظ على الملكية»، كما يصفها الفيلسوف الألماني كارل ماركس صاحب النظرية الماركسية. أما المفكر والطبيب الفرنسي الدكتور ألكسيس كاريل فيقول: «إنَّ هذا المذهبَ (الديمقراطية) يتهاوَى الآنَ تَحتَ ضرباتِ تجارِبِ الشعوبِ، ومِن ثَمَّ فإنَّه ليس مِنَ الضروريِّ التمسُّكُ بزَيْفِه، إلَّا أنَّ نجاحَ الديمقراطيةِ قد جعَلَ عُمرَها يطولُ بشكلٍ يدعو لِلدهشةِ، فكيف استطاعَتِ الإنسانيةُ أنْ تَقبَلَ مِثلَ هذا المذهبِ لِمِثلِ هذه السنواتِ الطويلةِ؟...، صحيحٌ أنَّ الناسَ مُتساوون، ولكنَّ الأفرادَ ليسوا مُتساوين، فتَساوي حُقوقِهم وَهْمٌ مِنَ الأوهامِ، ومِن ثَمَّ يَجبُ ألَّا يتساوى ضَعيفُ العقلِ مع الرَّجُلِ العبقريِّ أمامَ القانونِ، كما أنَّه لا حقَ للأغبياء المجردين من الذكاء ومشتتي العقل غير القادرين على الانتباه أو بذل الجهد، في الحصول على التعليم العالي. ومِن خَطَلِ الرأيِ أنْ يُعطَوْا قوةَ الانتخابِ نَفْسَها التي تُعْطى لِلأفرادِ مُكتَمَلي النُّموِّ، كذلك فإنَّ الجنسَيْنِ لا يتساويان، فإهمالُ انعدامِ المُساواةِ أمرٌ خطيرٌ جدّاً، لقد أسهَمَ مبدأُ الديمقراطيةِ في انهيارِ الحضارةِ بمعارضةِ نُموِّ الشخصِ الممتازِ...، لقد أدت مساواة الناس طبقاً للمثل الأعلى للديمقراطية إلى تغلب الضعفاء، ففي كل مكان يُفضّل الضعفاء على الأقوياء، ولهذا يتلقون كل مساعدة وحماية، وكثيراً ما يكونون موضع الإعجاب. وهم كالمريض والمجرم والمجنون يستدرّون عطف الجمهور...، ولما كان مِنَ المستحيلِ الارتفاعُ بالطبقاتِ الدُّنيا، فقد كانت الوسيلةُ الوحيدةُ لتحقيقِ المُساواةِ الديمقراطيةِ بيْنَ الناسِ هي الانخفاض بالجميع إلى المُستوى الأدنى، وهكذا اختَفَتِ الشخصية». توفي كاريل عام 1944، فماذا كان سيقول لو شاهد ما يحصل اليوم باسم الديمقراطية؟

كثيرة هي الآراء الغربية التي تنتقد الديمقراطية، ناهيك عن عيوبها الأخرى وعدم نجاحها في الدول النامية. من هنا جاء إطلاق مفهوم «الحكم الرشيد» من قبل المنظمات الدولية، والذي يتقاطع مع مبادئ الحكم في الإسلام، لكنه يختلف عنها بتطور آلياته ومعاييره ومؤشرات قياس أدائه، ويركز على أسلوب إدارة الحكم واحترام خصوصية وتجربة كل مجتمع إنساني، ويراعي سياقاته السياسية والثقافية والاجتماعية، ويدعم ويصون حقوق الإنسان ورفاهه، ويوسع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم، ويهدف إلى تنمية إنسانية مستدامة. أما عن قياس معايير ومؤشرات تلك التنمية، فوفقاً لتعريف البنك الدولي هي: «الطريقة التي تباشر بها السلطة في إدارة موارد الدولة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية».

الشرعية الدستورية

وإذا علمنا أن العقد الاجتماعي هو إحدى نظريات نشوء الدول التي تعني أن نظام الدولة السياسي يستمد شرعيته من هذا العقد، وحاولنا إنزاله على الحالة السعودية، لوجدنا أن المجتمع السعودي قلّد حكامه آل سعود شرعية دستورية قلّ نظيرها في التاريخ، والسبب في تقديري يكمن في الأسس أو الأركان التي استندت إلى أو تفرعت من تلك الشرعية الدستورية، وهي:

1 - الشرعية الدينية: وتتمثل في البيعة - بوصفها دسترة للحكم - تربطه بأصوله ومرجعياته في الشريعة الإسلامية.

2 - الشرعية التاريخية: المتمثلة في ممارسة آل سعود الحكم وتمرسهم في إدارة شؤون الدولة لمئات السنين.

3 - شرعية الأمن: حيث ارتبط اسم آل سعود بالاستقرار وتوفير الأمن الذي كان مفقوداً قبل قيام الدولة.

4 - شرعية التنمية: التي لم تتوفر من قبل لإنسان هذه الأرض، والتي كلما زادت عززت شرعية النظام.

5 - شرعية السيطرة: بتوحيدهم البلاد والمحافظة على كيان الدولة ومواردها وفرض القوانين وحفظ النظام.

6 - الشرعية الأخلاقية: وتتمثل في القيم المشتركة بين الحاكم والمحكوم واحترام التقاليد.

7 - شرعية الحكم الرشيد: وهو مبدأ السياسة الشرعية في التراث السياسي الإسلامي وملخصه «سياسة الدنيا وحراسة الدين».

وكل هذه المفاهيم والمبادئ وغيرها نرى أنه تم تأصيلها في مواد النظام الأساسي للحكم.

ومع هذا كله، يجب إدراك تميز آل سعود بقدرتهم على إنجاب القادة الاستثنائيين، يقول المفكر السعودي الدكتور يوسف الحزيم: «لقد اختبرتهم الجزيرة العربية قبل 300 عام منذ نشأة الدولة السعودية، وقد وجدت اختيار غيرهم انتحاراً سياسياً يعود بالبلاد والعباد إلى التفرق والتشرذم والأثرة وسيطرة روح الغاب وانعدام الأمن وانتكاس القيم الدينية والأخلاق العامة، ما ينذر بخراب البناء والعمران».

السعوديون وعقدهم الاجتماعي

ويبقى السعوديون أكثر من يعرف أبعاد عقدهم الاجتماعي وعلاقتهم الوشائجية بدولتهم وقيادتهم، حيث يتميّز العقد الاجتماعي السعودي بالديناميكية في العلاقات بين المكونات المجتمعية فيما بينها من جهة، وفي علاقتها مع السلطة من جهة أخرى، حيث تتجاوز تلك العلاقات بشقيها: الجانب النفعي المباشر أو حتى الاقتصادي بشكل عام، فهو عقد تشاركي تكافلي تتقاطع فيه المواطنة مع عدد من العناصر، ومن أهمها بالنسبة للسعوديين (الأمن الوطني)، والذي يعدّونه خطاً أحمرَ، وأثبتت التجارب أن الرهان فيه يكون دائماً على الوعي السياسي المجتمعي.

الأمير محمد بن سلمان لدى استقباله المواطنين في المدينة المنورة 13 مارس 2024 (واس)

وهذا كله يتطلب شرحاً مستفيضاً ودراسة مستقلة، لكن المهم هنا أن أسس هذا العقد ترسخت مع الأيام، فقد لمس الناس ما للدولة من فضل كبير في تحويل واقعهم المعيش من الشتات إلى الاستقرار، ومن الفوضى إلى استتباب الأمن، فانتظمت حياة الناس واستقرت أوضاعهم واجتمعت كلمتهم، ناهيك عن الأبعاد القيمية للدولة التي فرضت واقعاً جديداً كان له تأثيره على سلوكيات وتعاملات الشعب، وأثره على طبيعة الحكم وممارساته، فازداد التفاف الشعب حول نظامه الملكي، وازداد معه حرص النظام الملكي على شعبه وبذل الغالي والنفيس لتحقيق آماله.

الشعب العظيم

يقول الملك عبد العزيز: «سأجعل منكم شعباً عظيماً، وستستمتعون برفاهية هي أكبر كثيراً من تلك التي عرفها أجدادكم». لقد عمل الملك المؤسس على تحقيق الكثير لأبناء شعبه مع البناء المؤسساتي للدولة، والصهر الاجتماعي، وتوطيد الأمن، وإرساء مبادئ العدل، وغير ذلك من الخطوات التي عززت وحدة واستقرار الأقاليم التي انضوت تحت حكمه، وتماسك مجتمعاتها، واستمر ذلك إلى ما بعد توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية.

الملك عبد العزيز وابنه الملك سعود (واس)

كل هذه العوامل ساعدت المملكة على الوقوف في وجه كثير من الأطماع والمؤامرات، وتجاوز كثير من الأزمات، إضافة إلى تميّز نظام الحكم السعودي بالمرونة والقدرة على احتواء التحديات، حيث واجهت المملكة العربية السعودية على مر تاريخها كثيراً منها على مختلف الصعد، وأثبتت أجهزة الدولة قدرتها في مواجهتها والتعامل السريع مع الأزمات.

مبادئ الدولة العربية الإسلامية

قدمت المملكة العربية السعودية نموذجاً للدولة العربية الإسلامية بمبادئها وقيمها ومواقفها، ومحاربتها للتيارات المنحرفة على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها، ومحافظتها على استقرار الدولة في مواجهة التهديدات، هذا النموذج السعودي الفريد عزز شرعية الدولة، ورفع مستويات الرضا الشعبي، وكان داعماً للاستقرار السياسي في المملكة العربيّة السعودية. الشعب السعودي يعي حجم المنجز الذي تحقق، ويعرف حجم الجهد الذي بُذل، فهو أولاً شريك في كل ما تحقق، كما أنه رأى حكمة قيادته في حمايته من حروب وأزمات يصعب حصرها، وشاهد ما حل بدول حوله من كوارث ومحن، إضافة إلى إدراكه العميق أن أعظم استثمارات دولته كان في بناء (الإنسان السعودي) ورعايته وحمايته، وهو ليس لديه الاستعداد للتفريط في كل هذه المنجزات التي عمادها الاستقرار، فعقد الخلافة الراشدة لم ينفك إلا بعد أن تفرق الناس في شأن الحكم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.

ولما آل الملك لبني أمية «تحققت لدولتهم من عوامل الاستقرار والتقدم ما جعلها عصراً ذهبياً في التاريخ الإسلامي، فالحكم الراسخ أساس الاستقرار، والاستقرار معول القوة، ولا يستقر الحكم في أي دولة إلا على عوامل مخصوصة تحددها التركيبة والثقافة الاجتماعية، وهو ما حدا بأعرق الديمقراطيات في العالم إلى الحفاظ على والدفاع عن ملكياتها حتى يومنا الحاضر، بوصفها حجر أساس في استقرار نظمها الدستورية واستمراريتها».

الإيمان بالدولة

لقد آمن السعوديون بمشروع عبد العزيز لتوحيد البلاد، وسقت دماؤهم أرض الجزيرة خلال ملاحم التوحيد، ووَرَّثوا أبناءهم ذلك الإيمان، فكل جيل يزداد قناعة بأهمية هذه الوحدة ودعم كل ما يحقق متطلباتها، رأينا ذلك مع كل خطر يهدد وحدة الوطن، وفي كل مرحلة، ومع كل خطوة نحو تطوير البلاد، ونراها اليوم في الإيمان برؤية المملكة 2030. يقول الدكتور الحزيم: «إن الروح السعودية شكّلها ميراث النبوة والعروبة وتقاليد وسلوم وسلوكيات (بدوية الصحراء) و(حضرية مدن الواحات وموانئ البحار)، ودعوة إصلاحية ووحدة وطنية منذ ثلاثمائة عام، وتجربة تحديثية ذات أفق منفتح، إن تلك الروح عميقة فتختار البدائل الوسطية فتجدد ذاتها فتستفيد...، وهي ضاربة أطنابها في عقولنا وفي اللاشعور تحديداً، وهي راسخة وعميقة وناجحة في الحفاظ على ذاتها وإدخال البدائل، ثم النمو وقد تعرضت لامتحانات تاريخية واجتازتها».

ولا نجد أفضل من حديث الأمير محمد بن سلمان مع مجلة «الأتلانتيك» الأميركية حول العقد الاجتماعي ونظام الحكم السعودي والديمقراطية وغيرها، يقول: «جميع الدول في العالم قائمة على معتقدات، فعلى سبيل المثال، أميركا قائمة على أساس المعتقدات التالية: الديمقراطية، والحرية، والاقتصاد الحر وغيرها، والشعب يكون متحداً بناء على هذه المعتقدات، فإذا طرحت السؤال التالي: هل جميع الديمقراطيات جيدة؟ وهل جميع الديمقراطيات مجدية؟ بالتأكيد لا.

الأمير محمد بن سلمان لدى ترؤسه أعمال القمة الخليجية مع دول وسط آسيا في جدة خلال شهر يوليو 2023 (واس)

إن دولتنا قائمة على الإسلام، وعلى الثقافة القبلية، وثقافة المنطقة، وثقافة البلدة، والثقافة العربية، والثقافة السعودية، وعلى معتقداتها، وهذه هي روحنا، وإذا تخلصنا منها، فإن هذا الأمر يعني أن البلد سينهار. والسؤال الأهم هو: كيف يمكننا وضع السعودية على المسار السليم، وليس المسار الخاطئ؟ السؤال ذاته يواجه أميركا: كيف يمكن للمرء أن يضع الديمقراطية والأسواق الحرة والحرية على المسار السليم؟ لأن هذه الأمور قد تسلك المسار الخاطئ، لذا فإننا لن نقلل من أهمية معتقداتنا؛ لأنها تمثل روحنا، فالمسجد الحرام يوجد في السعودية، ولا يمكن لأحد أن يزيله. لذا فإننا بلا أدنى شك لدينا مسؤولية مستمرة إلى الأبد تجاه المسجد الحرام.

السعودية دولة ملكية، أقيمت وتأسست على هذا النموذج، ولقد أخبرتكم أنه تحت هذه الملكية هناك نظام معقد يتكون من أنظمة قبلية من شيوخ قبائل ورؤساء مراكز وهجر...، إنني لا أستطيع تغيير السعودية من ملكية إلى نظام مختلف؛ وذلك لأن الأمر مرتبط بملكية قائمة منذ ثلاثمائة سنة، وقد عاشت هذه الأنظمة القبلية والحضرية التي يصل عددها إلى 1000 بهذا الأسلوب طيلة السنوات الماضية، وكانوا جزءاً من استمرار السعودية دولة ملكية. من بين أفراد العائلة المالكة، هنالك أكثر من خمسة آلاف فرد من عائلة آل سعود. وأعضاء هيئة البيعة اختاروني لكي أحمي المصالح الخاصة بالملكية، وتغيير هذا الأمر يعد خيانة لأفراد عائلة آل سعود، وكذلك خيانة للقبائل والمراكز والهجر وانقلاباً عليهم، وكل هذه المكونات تساعد على إحداث تغيير في السعودية، ولهذا فإنني لا أعتقد أنهم هم من يتسببون في إبطاء وتيرة التغيير، بل هم الأدوات التي تساعدني على القيام بالمزيد.

هناك الكثير من الأفكار الجاذبة، فالديمقراطية جذابة، وكذلك الملكية الدستورية جذابة، لكن الأمر يعتمد على المكان والطريقة والخلفية. فالديمقراطية في أميركا رائعة؛ إذ نتج عن الديمقراطية أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم، ودولة عظيمة، وقد نتج عنها العديد من الأشياء العظيمة في العالم بأكمله، لكنها وُجدت وصُممت بناءً على الوضع الذي كنتم فيه من إخراج البريطانيين وحتى توحيد أميركا، وبالتالي، فقد صممتم نظامكم السياسي، ومعتقداتكم الاجتماعية بطريقة تدعم أميركا، ومن ثم تطورتم، ولو نظرتم إلى أميركا قبل 100 سنة على سبيل المثال، ستجدون المعتقدات الاجتماعية السائدة حينها سخيفة! وحتى بالنسبة لنا في السعودية، نراها سخيفة، لذا لقد تطورت.

ولي العهد السعودي لدى ترؤسه نيابة عن خادم الحرمين القمة السعودية - الأفريقية التي عقدت في الرياض نوفمبر 2023 (واس)

لكن السعودية بوصفها ملكية مطلقة، لا تعني أن الملك يمكنه أن يستيقظ غداً ويفعل ما يحلو له، فهناك أمر أساسي يقود الطريقة الشرعية لإدارة شؤون البلاد، وهو النظام الأساسي للحكم، الذي ينص بوضوح على أن هناك ثلاث سُلطات: الأولى السلطة التنفيذية، التي يقودها الملك كرئيس لمجلس الوزراء، أما السلطتان الأخريان (القضائية والتنظيمية)، فلا يقودهما، ولكن يقوم بتعيينهما، وإليكم مثالاً عن طريقة اتخاذ القرار، فقد أردنا السماح للمرأة بالقيادة منذ عام 2015، لكننا لم نستطع القيام بذلك قبل 2017، وهذا يوضح لكم كيف أننا نعمل وفقاً للقوانين، ووفقاً للنظام الأساسي للحكم، وأمام الشعب، أما لو أدرنا شؤون البلاد بعشوائية، كخيمة، فهذا يعني أن الاقتصاد بأكمله سينهار، ولن يستثمر أحد في السعودية، والسعوديون لن يؤمنوا بنا، فلا يمكننا إدارة شؤون البلاد بعشوائية. لقد جاءت الأسرة المالكة السعودية قبل 600 سنة، كأسرة حاكمة، حيث أسسوا الدولة السعودية قبل 300 سنة، ثم انهارت لمدة سبع سنوات، ثم عادت مرة أخرى، وانهارت لمدة 10 سنوات، ثم عادت مجدداً، وقد تعلمنا الكثير من الدروس، وتطورنا، كما تطور النظام، وكل جيل يأتي، يأتي بناءً على نظامٍ أساسه هذه السلطات الثلاث، وعندما يأتي ملك جديد، يأتي ولي عهد جديد، ولا يحاولان تقويض هذه السلطات؛ لأن هذه هي قوة السعودية».

وتبقى سلاسة انتقال الحكم المؤشرَ الأوضح على مدى صلابة النظام ورسوخه، وتماسك الوحدة الوطنية، فقد أرسى الملك عبد العزيز بثاقب بصيرته نهجاً دستورياً فيما يتعلق بولاية العهد، أثبت صلابته في «تثبيت دعائم الملك وتشييد أركانه وإدامة تسلسله». وحافظ أبناؤه من بعده على هذا النموذج الفريد للدولة، وطوروه في نطاقه الدستوري، وطبقوه بنضج ووعي سياسي يدعو إلى الفخر، ورسخوا تقاليد الحكم العريقة، ونجحوا في مزج معادلة التطور والأصالة، وظلت سلاسة انتقال الحكم في المملكة حالة لافتة طوال تاريخها، وتطور خلالها النظام الملكي السعودي، وتميز بعدد من السمات الخاصة به، ومنها إنشاء هيئة البيعة والتي تؤصل لنظام ملكي مؤسسي.

الملك سلمان والرؤية الشاملة

وجاءت قيادة الملك سلمان للمملكة العربية السعودية في مرحلة بالغة الحساسية، واستطاع بعميق رؤيته نقل الحكم إلى جيل أحفاد عبد العزيز ضمن رؤيته الشاملة لإعادة هيكلة الدولة وتجديد شبابها.

الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

إن انتقال المسؤولية لجيل الأحفاد في المملكة لحظة مفصلية تناولها الكثير من الباحثين عبر العقود الماضية تشاؤماً وتشكيكاً، وعندما أتت، لم يثبت نظام الحكم السعودي رسوخه فحسب، بل براعته في التهيئة للانتقال، وهو منجز سيسطره التاريخ بأحرف من نور للملك سلمان. حدث كل ذلك دون ضجيج إعلامي، وعكس كل التكهنات السابقة، الأمر الذي يبرهن على عراقة الأسرة المالكة والتقاليد الملكية التي تحكم أفرادها تجاه تحمل مسؤولياتهم، وحول ذلك قال الأمير محمد بن سلمان حينما سأله مراسل مجلة «الأتلانتيك» عن كيفية اختياره لولي عهده: «ستكون آخر شخص يعلم بشأن ذلك، هذه من المعلومات المحظورة التي لا يعلمها إلا نحن أبناء العائلة المالكة، الملك وأنا والأعضاء الـ34 في هيئة البيعة، وسيضحون بحياتهم قبل أن يتحدثوا عن أي من هذه الموضوعات».

وهنا علينا إدراك متانة نظام الحكم الملكي السعودي الذي تحكمه آليات دستورية، وأعراف وتقاليد ملكية راسخة الجذور.

7 سنوات مذهلة

إن ما شهدته الأعوام السبعة الأخيرة أمر مذهل بكل المقاييس، ليس فقط من جهة المنجز السياسي والاقتصادي والاجتماعي المهول، ولكن من جهة الترتيبات البارعة لبيت الحكم. وكدأب كل من يعيش في خضم ما، سيصبح يوماً ما «تاريخاً» لأجيال تجيء، تسبر أغواره وتحاول فهم أسبابه، قد لا نكون في وعي كامل بقيمة ما يحدث اليوم، ولا لأبعاده السياسية والاجتماعية ناهيك عن عمقه التاريخي. ويكفي أن نختم بهذه المقتطفات، حيث يتوقع أن يَسألَ بعد سنوات كثير من المؤرخين - بفهمهم المحدود لجذور مؤسسة الحكم السعودية - كيف انتقلت مسؤولية وزارة كوزارة الداخلية إلى شاب كفء في مشهد إمارات المناطق الحاضر برموزه المخضرمة في شؤون الحكم المحلي، وكيف بات مجلس الوزراء السعودي ما بين غمضة عين والتفاتتها الأكثرَ شباباً وفاعلية، ليس في المنطقة فقط، بل في العالم كله.

إن مشهد ولي العهد وهو محاط بثلة من كبار رجالات الأسرة المالكة، وعلى محياهم السعادة والفخر وهم يتابعون سباق خيل اختارت بلادهم أن يكون الأغلى في العالم، كفيل بأن يقول للعالم كله إن بيت الحكم السعودي قد كسب - مجدداً - الرهان وسيكسبه دوماً، مرفوداً بشعب قلده شرعية لم يعرف تاريخ الدول مثيلاً لها.

ولي العهد السعودي خلال رعايته سباق «كأس السعودية» بميدان الملك عبد العزيز للفروسية في الرياض خلال فبراير 2024 (واس)


مقالات ذات صلة

الملك سلمان... رؤية ممتدة لـ16 عاماً تتحقق مع افتتاح قطار الرياض

الخليج خادم الحرمين الشريفين لدى افتتاح مشروع «قطار الرياض» ومشاهدة فيلم تعريفي عن المشروع (واس)

الملك سلمان... رؤية ممتدة لـ16 عاماً تتحقق مع افتتاح قطار الرياض

في وثيقة تاريخية يعود عمرها إلى عام 2009، قدم الملك سلمان بن عبد العزيز، عندما كان رئيساً للهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، رؤية شاملة لتطوير نظام النقل العام.

غازي الحارثي (الرياض)
الاقتصاد خادم الحرمين الشريفين يشاهد فيلماً تعريفياً عن مشروع «قطار الرياض» (واس)

«قطار الرياض» ينطلق برعاية ملكية

افتتح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أمس (الأربعاء)، مشروع «قطار الرياض»، الذي يُعدّ العمود الفقري لـ«شبكة النقل العام بمدينة الرياض».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يفتتح مشروع قطار الرياض (واس) play-circle 00:35

«قطار الرياض» ينطلق برعاية ملكية

افتتح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مشروع قطار الرياض (مترو الرياض) الذي يعد العمود الفقري لشبكة النقل العام في مدينة الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (الشرق الأوسط)

خادم الحرمين يدعو لإقامة صلاة الاستسقاء في جميع أنحاء السعودية

دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، إلى إقامة صلاة الاستسقاء في جميع أنحاء السعودية يوم الخميس المقبل.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ولي العهد مترئساً جلسة مجلس الوزراء المخصصة لإقرار ميزانية عام 2025 (واس) play-circle 00:51

الميزانية السعودية 2025... نمو مستدام مدعوم بالإصلاحات الاقتصادية

جاء إعلان السعودية عن ميزانية العام المالي 2025 التي أقرّها مجلس الوزراء السعودي ليظهر مدى توسع الاقتصاد السعودي.

مساعد الزياني (الرياض) عبير حمدي (الرياض)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!