الإخوة الأعداء: البرهان وحميدتي... نهاية صداقة أشعلت السودان

جمعتهما حرب دارفور وفرَّقتهما السلطة

TT

الإخوة الأعداء: البرهان وحميدتي... نهاية صداقة أشعلت السودان

قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)
قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)

«أخوّة الكاب حدّها الباب»، مَثل متداوَل بين العسكريين السودانيين، يعني أن الصداقة بينهم مؤقتة وقابلة للانقلاب إلى عداوة في أي وقت، متى ما تضاربت مصالحهم، وأن خصومتهم ستُحسم بالرصاص والحراب.

هذا بالضبط ما سيسجله التاريخ عن علاقة الصديقين اللدودين، قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، و«أخوه» السابق قائد «قوات الدعم السريع»، الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي».

فمنذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي والرجلان يتقاتلان، ويتبادلان الشتائم، كأنه لم تكن بينهما أخوّة سابقة وصداقة.

فكيف بدأت العلاقة بين الرجلين، وأين، وكيف تطورت، ثم لماذا تحولت إلى «أُخوّة كاب»؟

الإخوة الأعداء

بعد عشرين عاماً من علاقة سلاح تحولت إلى صداقة حميمة، بلغت خلافات الرجلين، أو تنافسهما على المنصب الأول، حد الاحتراب ونقض الصداقة التي نسجتها المعارك والمصالح، فتفجر الخلاف بين القوتين اللتين كان الرجلان يصفانها بالمتانة، حتى قبيل اندلاع حرب أبريل الأخيرة بسويعات، بيد أن كلاً منهما كان يضمر للآخر في الحقيقة شراً كثيراً. ثم، فجأة، دوَّى الرصاص وتساقطت القنابل والصواريخ، التي تستهدف قتل الآخر، وبدأ «صراع الفيلة» الذي دمَّر كل شيء، وما زال الرجلان يتصارعان حتى اليوم، ويدمّران في صراعهما السودان وأهله.

حميدتي، قال في حوار سابق أجرته معه «الشرق الأوسط» عندما كان لا يزال نائباً للبرهان، إنه بدأ حياته «تاجراً»، ثم انضم لقوات حرس الحدود عام 2004 إبان الحرب بين الجيش السوداني والحركات المتمردة في إقليم دارفور. وحسب كتاب «ما بعد الجنجويد»، للكاتبة جولي فلينت، فإن قوات حرس الحدود كانت تحت إمرة العقيد «المتقاعد» وقتها، مفوض جبل مرة (2002 - 2005) عبد الفتاح البرهان، حين كان اللقاء الأول بين الرجلين.

من نيرتتي إلى القصر

البرهان يؤدي التحية وهو يستمع إلى النشيد الوطني في بورتسودان 27 أغسطس (رويترز)

يوافق على هذه المعلومة العقيد المتقاعد، الطيب المالكابي، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»، إن العلاقة بين الرجلين بدأت في دارفور، عندما شغل البرهان منصب معتمد محلية نيرتتي، في أثناء وجود حميدتي في قوات حرس الحدود. وكان البرهان منسقاً للقوات المسلحة في أثناء حرب دارفور.وحرس الحدود هي القوة التي تطورت لتصبح لاحقاً «قوات الدعم السريع».

شارك حميدتي من موقعه في قوات حرس الحدود، بفاعلية كبيرة في الحرب ضد الحركات المسلحة في دارفور. وهو ما دفع الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى إصدار مرسوم عام 2007، عيّن بموجبه حميدتي ضابطاً برتبة عميد، وألحقه وقواته بجهاز المخابرات العامة. ثم في عام 2013 أعاد البشير هيكلة تلك القوات وأطلق عليها اسم «قوات الدعم السريع» بقيادة حميدتي، ومنحه صلاحيات وامتيازات واسعة لم تعجب رئيس هيئة أركان الجيش. ولم يكن البشير يرغب في بقاء تلك القوة تحت إمرة جهاز المخابرات العامة، وكان يشك في مدير الجهاز، وقتها صلاح عبد الله «قوش»، الذي اتهمه بالضلوع في محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة.

قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»... (أرشيفية - رويترز)

وانتهز البشير تلك المناسبة وحوَّل «قوات الدعم السريع» حديثة التكوين لتصبح تحت إمرته ومسؤولة أمامه مباشرة، بصفته رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش، مما جعلها تتمتع بمزيد من الاستقلالية في تحركاتها وتصرفاتها، وأطلق على قائدها حميدتي لقب «حمايتي»، مما يعني أنه قربه ليكون حماية له من أي محاولة انقلابية.

حرب اليمن

تعززت علاقة البرهان وحميدتي مجدداً في 2015، عندما اشتركا في الحرب لدعم الحكومة الشرعية في اليمن، وشاركا معاً في تجهيز المقاتلين من «الدعم السريع» والجيش للمشاركة في «عاصفة الحزم» التي شنها التحالف العربي بقيادة السعودية ضد انقلابيي اليمن.

وفي عام 2017 أجاز المجلس الوطني (البرلمان) قانون «قوات الدعم السريع»، الذي جعل منها قوات عسكرية «مستقلة» نظامية. ورغم أن القانون نص على أنها تعمل تحت إمرة الجيش، فإنها فعلياً كانت تتبع رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش مباشرةً، بوصفها قوات «خاصة به».

إقالة ابن عوف وتنصيب البرهان

عندما بدأت الثورة الشعبية ضد نظام حكم الإسلاميين في ديسمبر (كانون الأول) 2018، أمر باحضار «قوات الدعم السريع» لقمع الثوار، لكنّ حميدتي، ووفقاً لإفادة سابقة لـ«الشرق الأوسط» أيضاً، قال إنه استدعى قواته لدعم الثورة، وليس لضرب الثوار، وإنه اتخذ موقفاً مخالفاً لرئيسه بحماية المتظاهرين، بعدما كان قد راج أن البشير طلب منه قمع الثوار، وإنْ أدى ذلك لقتل ثلثهم.

البرهان بين جنود القاعدة البحرية في بورتسودان 28 أغسطس (أ.ف.ب)

ولعب حميدتي الذي كانت قواته قد بسطت، تقريباً، سيطرتها على العاصمة الخرطوم، دوراً مهماً في إطاحة البشير وحكومته، إلى جانب عدد من صغار الضباط في الجيش، ما اضطر «اللجنة الأمنية» العليا التي شكّلها البشير من كبار الضباط، وكان حميدتي أحد أعضائها، إلى التوافق على تغيير البشير وتشكيل مجلس عسكري انتقالي برئاسة قائد الجيش وقتها، الفريق أول عوض بن عوف، الذي مكث في السلطة ليوم واحد فقط، اضطر بعده للاستقالة، بضغط شعبي.

ومن ثمَّ جرى التوافق على اختيار البرهان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي كما اختير حميدتي نائباً له. وبذلك عاد الرجلان مجدداً للاتحاد والعمل معاً، وهو الأمر الذي لخصه لـ«الشرق الأوسط» اللواء المتقاعد كمال إسماعيل بقوله: «التقى حميدتي البرهان في دارفور، وهناك ربطتهما علاقة وطيدة جداً، نتجت عن العمليات العسكرية المشتركة التي كانا ينفّذانها معاً، لأن وجود قائدين يتطلب تنسيقاً عسكرياً محكماً، وثقةً متبادلة وعلاقة متينة. وحين أصبح حميدتي قائداً لـ(قوات الدعم السريع) توطدت علاقة الرجلين أكثر».

ويوضح اللواء إسماعيل أن علاقة الرجلين لم تتأثر بتمرد حميدتي على البشير في أثناء الثورة الشعبية، ورفضه طلبه «قتل ثلث الشعب»، بل تطورت باتفاقهما على إطاحة قائد الجيش الفريق أول عوض بن عوف، وقادة آخرين في اللجنة الأمنية التي أطاحت بحكومة البشير، وكانت تخطط لإطاحة رأس النظام والإبقاء على مؤسساته.

محمد حمدان دقلو حميدتي «الشرق الأوسط»

يقول اللواء إسماعيل إن حمَّيدتي نظَّف الطريق للبرهان الذي كان يتولى منصب المفتش العام للجيش، ليكون قائداً له، مما جعل علاقة الرجلين تتعمق أكثر، فكافأه البرهان بتعيينه نائباً له في رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، واشتغل الرجلان معاً للتخلص من أعضاء «اللجنة الأمنية» المناوئين لهما، وأبرزهم مدير جهاز المخابرات العامة صلاح عبد الله (قوش).

فض اعتصام القيادة

ووفقاً للواء إسماعيل، فإن العلاقة بين الرجلين مضت بسلاسة، إلى أن جاءت «جريمة فض اعتصام القيادة العامة»، التي اتفق عليها الطرفان، لكنَّ حميدتي شعر بأنه جرى توريطه فيها من خلال التنفيذ الذي تم بأيدي عسكريين بلباس «الدعم السريع»، بقيادة أحد ضباط الجيش المنتسبين لـ«الدعم السريع»، الذي أُلقي القبض عليه وظل في سجن «الدعم السريع» حتى قيام الحرب، فتوترت علاقة الرجلين قليلاً.

كان حميدتي قد سبق وذكر أنه جرى «توريطهم» في تلك الجريمة وتحميلهم وزرها، من خلال عناصر تنظيم الإخوان في الجيش والأجهزة الأمنية.

وزال التوتر بعد تكليف حميدتي رئاسة وفد التفاوض بين العسكريين والمدنيين، وأوكل له توقيع «الوثيقة الدستورية» التي حكمت الفترة الانتقالية، ومن ثم «اخترع» له البرهان منصب نائب رئيس مجلس السيادة غير الموجود في الوثيقة الدستورية، ثم كلّفه ملف مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة، والذي توِّج بتوقيع اتفاقية جوبا لسلام السودان عام 2020.

لكنّ الخلافات عادت لتبرز في «مجلس السيادة الانتقالي»، ولم تعد العلاقة ودودة مثلما كانت. ويقول اللواء إسماعيل: «يرجع التوتر إلى وجود جيشين متنافسين بقيادة رجلين متنافسين على السلطة، وهو أمر كفيل بتحفيز صراع السلطة بينهما».

ووفقاً لتقارير الشهود وقتها، فإن العلاقة بين الرجلين كانت تتوقف على علاقتهما بالمدنيين في الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. فكلما ارتفعت وتيرة التوتر بين العسكريين والمدنيين تقارب الرجلان أكثر، وهو ما أوصل البلاد إلى انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021، الذي أطاح الحكومة المدنية.

ويتابع اللواء إسماعيل: «أذكر تماماً أن البرهان وحميدتي كانا متوافقين تماماً على الانقلاب، لأن علاقتهما بالمدنيين ساءت كثيراً».

فخ الانقلاب

حميدتي، وبعد أيام قليلة من الانقلاب، شعر بأن ثمة فخاً جديداً نُصب بهدف «توريطه»، وفقاً لحديث سابق مع القائد الثاني لـ«قوات الدعم السريع»، عبد الرحيم دقلو (شقيق حميدتي)، الذي ذكر أن فشل الانقلاب تكشَّف لهم منذ الأيام الأولى، وأنه أعاد مجدداً أنصار الإسلاميين إلى مواقعهم في السلطة والنفوذ. وفي هذا قال اللواء إسماعيل: «حميدتي تحدث مع البرهان عن وجود تقارير للأجهزة الأمنية التي تلقياها كان خاطئة، وطلب منه إقالة مدير جهاز المخابرات جمال عبد المجيد، ومدير جهاز الشرطة، ورئيس هيئة أركان الجيش».

قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)

ويستطرد اللواء إسماعيل: «أقال البرهان كلاً من مدير الشرطة ومدير المخابرات، لكنه امتنع عن إقالة رئيس هيئة الأركان، تحسباً لما يمكن أن تثيره إقالته من مشكلات داخل الجيش».

وبدأت رحلة «تنصل» حميدتي من الانقلاب باكراً، وظهر ذلك في الجهود التي بذلها نائبه وشقيقه عبد الرحيم، من أجل إعادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى مكتبه، في اتفاق مع البرهان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، أي بعد أيام من وضعه تحت الإقامة الجبرية، لكنّ البرهان كان متمسكاً بالانقلاب، على الرغم من عدم تمكنه من الإيفاء بأي وعد من وعوده بتكوين حكومة، كما لم يقبل الشارع السياسي و«تحالف الحرية والتغيير» عودة حمدوك بتلك الطريقة، مما اضطره إلى تقديم استقالته.

ويرى اللواء إسماعيل أن الخلافات كانت متوقَّعة بين الرجلين منذ دخلا مجلس السيادة الانتقالية. ويقول: «هناك طموحات سياسية لكلا الرجلين، وكان كل واحد منهما يريد إبعاد الآخر والاستيلاء على السلطة كاملة».

وكان المفكر والسياسي الحاج وراق، قد تنبأ في وقت باكر باحتمال صراع الرجلين، رغم «الصداقة» التي كانت تجمعهما. وقال في أمسية سياسية إن المؤسسة العسكرية تشهد خلافات، وخلافاتها ستُحسم بالسلاح، وذلك بعد انتقاد كل من قائدي الجيش و«الدعم السريع» لخلافات المدنيين في الحكومة الانتقالية. وأضاف وراق أن المؤسسة العسكرية الأمنية تمثل أكبر خطر على البلاد.

الاتفاق الإطاري

في 5 ديسمبر 2022 أقرّ الرجلان بفشل «انقلابهما» المشترك، ووقّعا مع «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» اتفاقاً إطارياً قضى باستعادة الانتقال المدني، وتوحيد الجيش وخروج العسكريين من السياسة. لكن عاد الرجلان واختلفا لاحقاً على «عدد السنوات التي سيستغرقها دمج (قوات الدعم السريع) في الجيش»، وعلى القيادة الموحدة للقوات خلال الفترة الانتقالية.

يقول اللواء إسماعيل: «كبر الخلاف بين الرجلين، وعجز الجميع عن تهدئته، فصار أصدقاء الأمس أعداء اليوم». وتابع: «الخلاف كان متوقعاً في وقت مبكر، لأن علاقة الرجلين كانت علاقة مصالح وليست علاقة أهداف ومبادئ، ووجود جيشين في أي بلد يجعل استقراره مهدداً على الدوام».

وانتهز أنصار الرئيس السابق من الإسلاميين وأعضاء حزبه «المؤتمر الوطني»، اتساع التباعد بين الرجلين، فاشتغلوا عليه من أجل توسيع الهوّة بينهما، وهددوا بإفشال توقيع الاتفاق النهائي بين الجيش و«الدعم السريع» من جهة، والقوى المدنية الموقِّعة للاتفاق الإطاري من جهة ثانية، لأنه نص على إزالة تمكينهم ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها، وإبعادهم عن العملية السياسية، وبالتالي لن يستطيعوا العودة للمشهد السياسي قريباً، وهذا ما يؤكده قول اللواء إسماعيل: «هناك عناصر شعرت بالخلاف بين الرجلين وحاولت الاستثمار فيه، والاستثمار كان بداية الحرب».

تقارُب ونفور

إبان هذه الخلافات، تقارب البرهان وأنصار نظام البشير الذين يَعدّون «حميدتي» عدوهم اللدود الذي أسهم بشكل كبير في إطاحة حكمهم، فتطورت الخلافات بين الرجلين، ليتبادلا الاتهامات تلميحاً وتصريحاً.

البرهان يخاطب الجمعية العامة للامم المتحدة في سبتمبر الماضي عارضاً أسباب الجحرب في السودان (الأمم المتحدة)

وأوصلت خلافات الرجلين البلاد إلى حافة هاوية الحرب. وإزاء ذلك، حاولت القوى المدنية الموقِّعة على الاتفاق الإطاري التوسط بينهما، وإزالة التوتر ولملمة الخلافات التي تنذر بالحرب، وصولاً إلى توقيع الاتفاق الإطاري. وفي هذا يقول مصدر من داخل غرف الوساطة المدنية لـ«الشرق الأوسط»، إن عناصر النظام السابق لعبوا دوراً مهماً في إشعال جذوة التوتر بين الجيش و«قوات الدعم السريع». وتابع: «موقفهم كان معلناً، فقد هددوا فيه بإفشال الاتفاق الإطاري بأي ثمن، لأنه نصَّ على تصفية تمكين نظام الثلاثين من يونيو (حزيران) ومحاسبة الفساد، وتكوين جيش وطني، بما يُفقدهم أي فرصة للعودة إلى المسرح السياسي خلال فترة الانتقال».

وانتقل التوتر بين الرجلين إلى توتر بين الجيشين، لا سيما أن عدداً من قادة الجيش من الإسلاميين، رأوا في هذا التوتر فرصة للتخلص بسرعة من «الدعم السريع» ليعودوا مجدداً للسلطة.

ويتابع المصدر: «أصل التوتر يعود إلى خلافات الجيشين منذ ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، التي قَبِلَ (الدعم السريع) توصياتها ورفضها الجيش». ويضيف: «اختلف الرجلان كذلك على عدد السنوات التي يتم فيها إدماج (قوات الدعم السريع) وتوحيد القيادة العسكرية العليا وهيكلتها».

محاولات فاشلة

ولنزع فتيل الحرب الذي بدأ بالاشتعال، حاول «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» والقوى الموقِّعة على الاتفاق الإطاري، إطفاء النار الزاحفة، فأفلحت في جمع كلٍّ من قائد الجيش وقائد «قوات الدعم السريع»، بعد قطيعة طويلة، صباح 8 أبريل، بهدف إطفاء نار الحرب.

وقال المصدر المشارك في تلك الاجتماعات، إنهم عقدوا اجتماعاً آخر بين البرهان وحميدتي في اليوم التالي، وبمشاركة رئيس هيئة أركان الجيش، الفريق الركن خالد عابدين، وكان مقرراً الطواف على قوات الطرفين من أجل التهدئة.وفي ذلك الوقت، برزت معضلة «قوات الدعم السريع»، التي صدرت لها الأوامر بالتوجه إلى القاعدة العسكرية الجوية في منطقة «مروي» شمال البلاد، حيث توجد قوات جوية مصرية هناك، وكان حميدتي يخشى استخدامها في ضرب قواته إذا اندلعت الحرب. يقول المصدر: «في ذلك الاجتماع، أبلغ حميدتي أنه حرَّك قوات من منطقة (الزرق) في دارفور إلى مروي، ووعد بسحبها متى أوفى البرهان بوعده سحب القوة الجوية المصرية. واتفق الطرفان في اجتماع يوم 9 أبريل على عقد اجتماع آخر ينزع فتيل الحرب يوم 10 أبريل، لكنّ الاجتماع لم يُعقد، لأن البرهان اعتذر عنه تحت ذريعة المرض». ويواصل المصدر قائلاً: «اكتشفنا لاحقاً أن البرهان لم يكن مريضاً، لكنه كان مجتمعاً مع جهة أخرى».

ويوضح المصدر أن حدة التوتر بين الجيشين ازدادت باطراد، وفي أثناء ذلك عقدت «الحرية والتغيير» اجتماعاً منفرداً مع البرهان في 14 أبريل، وتقرر تكوين لجنة ثلاثية، من عضو مجلس السيادة الهادي إدريس، ورئيسي هيئة أركان الجيشين، لزيارة منطقة مروي بهدف إزالة التوتر هناك، وقرروا عقد اجتماع صبيحة السبت 15 أبريل، لوضع اللمسات النهائية لإزالة التوتر، لكن الحرب اندلعت في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، فقطعت الطريق أمام أي حل سلمي كان المدنيون يسعون إليه.

وهكذا أنهت الحرب، التي أُطلق عليها اسم «حرب الجنرالين»، صداقة قديمة بين الرجلين عمرها نحو عشرين عاماً، فأصبحت عداوة، وأيّ عداوة، وأنهت «أخوّة الكاب عند الباب»... باب الحرب والمصالح المتضاربة.


مقالات ذات صلة

السودان: معارك الفاشر مستمرة... وطرفا الحرب يزعمان التفوق

شمال افريقيا مدينة الفاشر السودانية تعاني وضعاً إنسانياً متدهوراً (أ.ب)

السودان: معارك الفاشر مستمرة... وطرفا الحرب يزعمان التفوق

تضاربت الأنباء بشأن المعارك العسكرية المستمرة في مدينة الفاشر الاستراتيجية في شمال دارفور بالسودان، في ظل مزاعم من طرفي الحرب بالتفوق.

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (رويترز) play-circle 00:24

غوتيريش: السودان يعاني «كابوس» الجوع والأمراض والعنف الإثني

أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الاثنين، أن الشعب السوداني الذي يواجه معاناة كبيرة كل يوم، يعيش «كابوساً» من الجوع والأمراض.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
شمال افريقيا علم روسيا (رويترز)

سفارة روسيا بالسودان تحقق في تقارير إسقاط طائرة شحن فوق دارفور

قالت السفارة الروسية في السودان، الاثنين، إنها تحقّق في تقارير عن احتمال إسقاط طائرة شحن، على متنها أفراد طاقم روس في غرب البلاد.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا امرأة وطفلها في مخيم «زمزم» للنازحين قرب الفاشر شمال دارفور بالسودان مطلع العام (رويترز)

السودان بين أعلى 4 دول تعاني «سوء التغذية الحاد»

رسمت منظمة تابعة للأمم المتحدة صورة قاتمة للأوضاع الإنسانية في السودان، وصنّفته بين الدول الأربع الأولى في العالم التي ينتشر فيها سوء التغذية الحاد.

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا ملايين الأطفال والنساء في السودان يعانون من سوء التغذية الحاد (رويترز)

تقرير: معدل وفيات الحوامل جنوب درافور «صادم»

قالت منظمة «أطباء بلا حدود» إن «النساء الحوامل والأمهات والأطفال حديثي الولادة يموتون بمعدل صادم في ولاية جنوب دارفور بالسودان».

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.