يافعون ينتظرون مصيرهم في مركز تأهيل «أشبال الخلافة»

بعضهم تجاوز سن الرشد... وحكومات بلادهم لا تعترف بهم

TT

يافعون ينتظرون مصيرهم في مركز تأهيل «أشبال الخلافة»

مهجع الشبان في مركز هوري وبدا اثنان يلعبان الشطرنج (الشرق الأوسط)
مهجع الشبان في مركز هوري وبدا اثنان يلعبان الشطرنج (الشرق الأوسط)

لطالما تباهى تنظيم «داعش» الإرهابي بمقاتليه الصغار أو من كان يسميهم بـ«أشبال الخلافة»، خلال سنوات حكمه. وهؤلاء هم ضحاياه المنسيون الذين شهدوا طفولة قاسية تعرضوا خلالها للحروب ومشاهد عنف وإعدامات و«غسيل أدمغة» للتنشئة على الفكر المتشدد. ولاحقاً تخلى آباؤهم عنهم ثم رفضتهم حكومات بلادهم خشيةً أن يتحولوا خطراً عليها.

عاش هؤلاء الأطفال وقد تجاوز بعضهم اليوم سن الرشد، في مخيمات أنشئت خصيصاً لهم، فيما زجّ آخرون في السجون. قلة ممن حالفهم الحظ نقلوا إلى مراكز إعادة تأهيل ودمج وينتظرون اليوم مصيرهم.

داخل غرفة مسبقة الصنع في مركز متخصص لإعادة تأهيل أبناء عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي، شمال شرقي سوريا، ترقص مجموعة من الفتيان بأجساد متمايلة وحركات منتظمة تجمع مهارات الرقص والغناء بمجموعة أنشطة أخرى، ضمن برنامج متكامل لإعادة تأهيلهم ودمجهم في «مركز هوري لحماية وتعليم الأطفال» الذي تم افتتاحه في 2017.

أكثر من 100 طفل أجنبي بالمركز

يقع المركز في قرية تل معروف، شرق مدينة القامشلي، وهو مخصص للأطفال الأجانب، هو الثاني من نوعه في مناطق «الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرقي» سوريا.

يروي إرنست (17 عاماً) المتحدر من مدينة فرانكفورت الألمانية، كيف يواظب يومياً على حصة الموسيقى ويستمع إلى الأغاني الغربية المفضلة لديه، إلى جانب تعلم مهارات الرقص والرشاقة البدنية، لأنها تدخل الراحة والطمأنينة إلى نفسه. يروي هذا الشاب ذو العينين الخضراوين قصة مقتل والده الذي كان عنصراً في صفوف «داعش» بمدينة الرقة السورية، بينما تعيش والدته وشقيقتاه في مخيم الهول.

وقال بمفردات عربية ركيكة: «تعطيني التمارين طاقة إيجابية، هنا أفضل من مناطق (داعش) حيث عشت لسنوات، لكنني أفضّل مخيم الهول لوجود والدتي وإخوتي هناك».

يشرف على هذه الحصة مدرس موسيقى من أكراد سوريا، يدعى فرمان (32 عاماً) يحرص على الاهتمام بهؤلاء الشبان عبر تعليمهم مهارات الرقص، في إطار مجموعة طرق وأدوات نفسية للعلاج من المشاهد والصور القاسية التي خلفها «داعش» في أفكارهم. وأشار فرمان في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «تفاعل هؤلاء الشباب إيجابي لأنه يضخّ الحماسة ويمنحهم الطاقة الإيجابية فالموسيقى والرقص يساعدان على الاندماج سريعاً في المجتمعات والتعافي من قساوة حكم (داعش)، وتدخل بالجوانب النفسية وتحرك المشاعر لديهم».

يضم المركز أكثر من 100 طفل من جنسيات عدة، بينها الأميركية والتركية والألمانية والمصرية والروسية وشبان يتحدرون من دول المغرب العربي؛ تونس والمغرب، ومن إندونيسيا والسويد وفنلندا، تتراوح أعمارهم بين 11 و22 عاماً، نُقلوا من مخيمي «الهول وروج» ومن السجون والمحتجزات.

يقول مدير مركز «هوري للأحداث» هفال أحمد لـ«الشرق الأوسط»: «لدينا اليوم بين 110 و150 يافعاً تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عاماً»، موضحاً أن غالبية هؤلاء الأطفال كانوا ينتمون سابقاً إلى ما كان يعرف بـ«أشبال الخلافة». وأضاف: «تعيش أمهات بعضهم في المخيمات، بينما قتل الآباء أو يقبعون في السجون، ومنهم يتامى من دون أولياء أمور».

وتتنوع دروس المركز بين اللغتين العربية والإنجليزية والموسيقى والرياضيات والرسم، كما يتعلمون فنون الخياطة والطبخ، ويعمل القائمون على المركز على تدريب الأطفال على لعبة الشطرنج ويشاهدون أفلاماً وثائقية ورسوماً متحركة في غرفة مخصصة. وقال أحمد: «المجموعة تضم 15 يافعاً، منهم من يذهب لحصة الموسيقى أو للورشات المهنية، وآخرون يتعلمون اللغة»، وينطبق هذا النظام على تناول وجبات الطعام وهي 3 وجبات، وتحديد وقت محدد لكل فئة للدخول إلى المطعم.

قاعة الدراسة خلال امتحان للغة العربية في مركز هوري (الشرق الأوسط)

ويتألف المبنى من طابق واحد، تتوسطه ساحة كبيرة للفسحة الصباحية، ويضم مجموعة من غرف النوم حيث لكل مقيم سرير، بينما خزانة الملابس مشتركة. ويخضع الفتية لبرنامج يومي مكثف، فتفتح الأبواب من الساعة 6 صباحاً حتى 8 مساء، وينتقلون بعد وجبة الإفطار إلى قاعات الدراسة وورشات الأعمال اليدوية، كما يمارسون خلالها الرياضة، وخصوصاً كرة اليد، ويُحضرون طعامهم بيدهم.

المطبخ وصالة الطعام حيث يساعد الشبان في إعداد وجباتهم في مركز هوري للتأهيل (الشرق الأوسط)

فنلندي يحب الرسم

في غرفة ثانية مخصصة لتعلم الخياطة، انهمكت مجموعة من الشبان بالماكينات لحياكة قمصان رجالية وفساتين مسحوبة تصاميمها من الإنترنت. وحرصت المدربة على متابعة جميع المتدربين، فتوصي أحدهم كيف يخرز الخيط بالإبرة وكيفية تشغيل الماكينة وتمرير قطعة القماش المقصوصة، بينما يأتي شاب آخر، ويسألها عن كيفية صناعة أكمام القميص، فيما علق ثالث فستاناً بلون زاهٍ في مكان مخصص للمعروضات.

مشغل الخياطة في مركز هوري للتأهيل (الشرق الأوسط)

أحد هؤلاء الشبان يدعى أرثر، وهو من العاصمة الفنلندية هلسنكي. كان هادئ الطبع وقليل الكلام، يلبس بيجامة وخفاً رياضياً من ماركة عالمية. روى قصة مجيئه إلى سوريا بداية 2015 وكان عمره 13 عاماً. فبعدما انفصل والداه، تزوجت الأم من رجل من أصول مغاربية أقنعها بالسفر إلى مناطق سيطرة التنظيم والقتال في صفوفه، وبعد معركة الباغوز وسقوط خلافة التنظيم العسكرية شرق الفرات ربيع 2019، قتل الزوج ونقلت العائلة إلى مخيم الهول.

وقررت سلطات الإدارة الذاتية نقل أرثر إلى «مركز هوري» للتأهيل قبل بلوغه 18 عاماً، وزجّه في السجون، وقال: «عادت والدتي وإخوتي إلى مسقط رأسنا، وأنا أنتظر موافقة الحكومة لإعادتي أيضاً، هنا أقضي وقتاً في تعلم الرسم، وأطمح أن أصبح رساماً، أما أبي فلم يتصل بي منذ مجيئنا لسوريا».

مشغل الخياطة في مركز هوري وبدا يتابع تعليمات إحدى المرشدات (الشرق الأوسط)

وشدّد الإداري هفال أحمد على أن المركز ليس بسجن للأحداث، وقال: «هو عبارة عن مركز تأهيل أبوابه مفتوحة ويقدم برامج ترفيهية، بينها طاولة زهر والشطرنج ومشاهدة التلفاز وبرامج وثائقية». وعن مستوى الاستجابة، أوضح: «لدينا تقييمات دورية كتابية وشفوية لكل حالة، وليست بمهمة سهلة، إذ يواجه فريقنا التعليمي تحديات عدة، بينها تعدد الجنسيات واللغات التي يتحدث بها هؤلاء اليافعون».

ويشرف على البرامج متخصصون تربويين ومعالجون نفسيون بالتعاون مع منظمة «إنقاذ الطفولة» الدولية.

زيارات عائلية بين المخيمات

يسمح لهؤلاء الأحداث بالاتصال مرة أسبوعياً بذويهم القاطنين في المخيمات، كما يسمح لذويهم بزيارتهم، وتتكفل سلطات الإدارة الذاتية بنقلهم من المخيم للمركز. ويقول أحمد: «لدينا شبان بعمر الـ20 و22 ولكن قررنا إبقاءهم ريثما يتم ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية لأن المحاكم المحلية لا تنظر بدعاوى الأجانب».

وتحدث باسيم (18 عاماً)، وهو تونسي، كيف تم تنسيبه إلى «أشبال الخلافة» بداية قدوم عائلته لسوريا منتصف 2015 وكان عمره 9 سنوات. وقال: «اعتقدنا أننا سنتابع تعليمنا نظراً لوجود أطفال من بلدي».

أما السويدي ماتيو (17 عاماً) الذي كان راقداً في سريره بعدما أجريت له عملية دوالي فقد أصبح يتيماً بعد مقتل والديه في سوريا أواخر 2018. وقال: «اتصل جدي وأهل والدي الذين يعيشون في أوزبكستان لإعادتي، لكن أنا أريد العودة لبلدي السويد، هناك خالتي وأصدقائي وذكريات طفولتي».

ومنذ 2018، استعاد نحو 30 دولة غربية وعربية نحو 450 امرأة وألف طفل، وفق إحصاءات سلطات «الإدارة الذاتية».

قصة أخوين مصريّين

في هذا المركز يعيش أيضأً الأخوان المصريان عبد الرحمن وعبد الله. يروي عبد الرحمن، البالغ اليوم 21 عاماً، كيف انفصلت والدتهم عن والدهم وقررت هي السفر إلى سوريا بعدما أخبرتهم عن نيتها قضاء سياحة في تركيا.

وبالفعل سافرت الأم والابنان جواً من مطار القاهرة إلى ولاية أورفا الحدودية مع سوريا. وبعد قضاء ليلة واحدة في الفندق، اتجهوا نحو المناطق السورية ودخلوا سراً عبر منطقة سلوك التابعة لمحافظة الرقة، ولم يعلم الطفلان آنذاك أن والدتهما تريد الاستقرار في مناطق التنظيم.

يقول عبد الرحمن: «حاول أبي كثيراً منع أمي من الدخول لمناطق (داعش)، لكنها أصرت فقرر تطليقها».

أما عبد الله، الذي كان يبلغ 8 سنوات فقط، فلم يعلم أن مجرى حياته سيتغير كلياً بقرار من والدته، وأنه سيقضي 10 سنوات من عمره في مناطق «داعش» ومخيم الهول قبل فرزه إلى هذا المركز.

ويروي عبد الرحمن أن والدته «تزوجت من قيادي (داعشي) مصري. وبعد عامين ونصف عام قتل في قصف جوي في بلدة الشدادي، ثم انتقلت بهما إلى الرقة حيث قتلت هي أيضاً». بعدها عاش الأخوان في كنف عائلات مصرية التحقت بصفوف التنظيم حتى نهاية 2018، وحين استسلمت العائلة المصرية لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، ونقلت إلى مخيم الهول، افترق الأخوان.

وذكر عبد الله أنه وصلته رسالة من شقيقه، عن طريق منظمة «الصليب الأحمر» الدولية أثناء مكوثه في مخيم الهول، يوضح فيها مكان وجوده في «مركز هوري» وقدم طلباً لجمع شملهما. وقال: «أصعب لحظة بعمري كانت وفاة والدتي، وأكثر لحظة فرحت فيها عندما التقيت بأخي عبد الرحمن من جديد. لا نريد أن نفترق».

شاب من نيويورك

من مدينة نيويورك الأميركية، سافر الشاب سولاي (19 عاماً) برفقة والدته الأميركية وزوجها إلى سوريا نهاية 2014، معتقداً أنه ذاهب في رحلة سياحة إلى تركيا، ليدخلوا سراً سوريا، واستقروا بداية في مدينة حلب شمال البلاد، ثم في منبج والباب والرقة، وتنقلوا في معظم المدن السورية.

هذا الشاب أكد أن والده منفصل عن والدته، ويعيش حالياً في كندا ولم يكن يعلم بسفرهما إلى سوريا، بعدما انقطعت الاتصالات بينهما منذ سنوات. ثم حدثت مشكلات بين والدته وزوجها الثاني أيضاً بعد سفرهم إلى سوريا، وانفصلا بسبب أحكام التنظيم الجائرة وقساوة الحياة.

وقال سولاي بصوت منخفض بالكاد كان يسمع: «طوال سنوات لازمت والدتي المنزل وكنت أساعدها، كانت تخشى عليّ كثيراً وتخاف من افتضاح أمرنا وإجبارنا على القتال في صفوف أشبال الخلافة»، ونقل أنه كان يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم معروفاً: «كنت أحلم أن أصبح مثل النجم ميسي».

البهو الخارجي المؤدي إلى مختلف القاعات في معهد هوري (الشرق الأوسط)

وفصل سولاي عن والدته في 2019 حيث بقيت هي في مخيم الهول ونقل هو إلى هذا المركز، ويقول: «اليوم كل شيء مختلف، هنا ألعب وأسمع موسيقى وأشاهد التلفاز».

ولم يخفِ هذا الشاب حزنه، لأن حياته تغيرت رأساً على عقب بعد قرار والدته الالتحاق بمناطق التنظيم، وختم حديثه قائلاً: «حياتي توقفت وتدمرت جراء ذلك القرار».


مقالات ذات صلة

المشرق العربي طائرة من سلاح الجو العراقي خلال إحدى المهمات ضد تنظيم «داعش» (أرشيفية - واع)

العراق: المجال الجوي غير مؤمّن بالكامل

أقر العراق بأن مجاله الجوي غير مؤمّن بالكامل، في حين أكد اتخاذ إجراءات لتحسين القدرات الدفاعية بعد التعاقد مع كوريا الجنوبية قبل أشهر لامتلاك منظومة متطورة.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي الجيش العراقي يُطلق النار على مسلحي «داعش» عام 2017 (رويترز)

العراق: انفجار قنبلة يصيب 4 في كركوك

كشفت مصادر بالشرطة أن أربعة أصيبوا عندما انفجرت قنبلة على جانب أحد الطرق في مدينة كركوك بشمال العراق اليوم (السبت).

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي عناصر من القوات الحكومية في البادية (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

دمشق تواصل تمشيط البادية شرق حمص وملاحقة «داعش» بدعم من الطيران الروسي

رجّحت مصادر محلية أن يكون هدف حملة تقوم بها قوات تابعة لدمشق هو تأمين طرق البادية السورية الواصلة بين مناطق الحدود مع العراق ومحافظة حمص.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي فوزية أمين سيدو امرأة إيزيدية اختطفها «داعش» في العراق وتم إنقاذها بعملية في غزة (وزارة الخارجية العراقية)

عملية بقيادة أميركية تحرر إيزيدية من غزة بعد 10 سنوات في الأسر

قال مسؤولون عراقيون وأميركيون إن شابة إيزيدية عمرها 21 عاماً اختطفها مسلحون من تنظيم «داعش» في العراق قبل أكثر من عقد تم تحريرها من قطاع غزة هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين. وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع. وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة. فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق». ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً. أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه. وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر. في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم. وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.