قصة الإمام عبد الله بن سعود من حصار الدرعية الأخير حتى مقتله في إسطنبول

لم يحتمل تدمير عاصمته فآثر الاستسلام وإنقاذ ما أمكن

قافلة تسير خارج الدرعية (الشرق الأوسط)
قافلة تسير خارج الدرعية (الشرق الأوسط)
TT

قصة الإمام عبد الله بن سعود من حصار الدرعية الأخير حتى مقتله في إسطنبول

قافلة تسير خارج الدرعية (الشرق الأوسط)
قافلة تسير خارج الدرعية (الشرق الأوسط)

تحدثت الأميرة الدكتورة جواهر بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود، الباحثة المتخصصة في الدراسات الوثائقية المتعلقة بالتاريخ السعودي، عن شجاعة الإمام عبد الله بن سعود أثناء الحصار الأخير للدرعية ومفاوضاته مع العسكر العثماني، ثم استسلامه وأسره ونقله إلى إسطنبول، حيث قتل، فقالت إنه وبعد خمسة أشهر من الحصار، كانت الدرعية لا تزال صامدة تقاوم نقص الغذاء والسلاح والرجال وبقيت تقاوم شراسة هجمات إبراهيم باشا الذي عانى هو أيضاً من صلابة السعوديين وشجاعتهم، رغم الأسلحة الحديثة والمستشارين العسكريين الذين صاحبوا الحملة ومن انضم إليها.

الإطباق على آخر المعاقل

وكان للمعلومات الاستراتيجية التي قدّمها الفارون من الدرعية دور كبير في إطباق إبراهيم باشا على حي الطريف آخر معاقل الدرعية والتضييق عليه من خلال قصف المدافع، ما أدى إلى تهاوي مبانيه. وذكرت الوثائق العثمانية أن الإمام عبد الله بن سعود لم يتحمل هذا المشهد، فبادر بحشد ما تبقى من قواته، ووقعت بينه وبين القوات العثمانية معركة عنيفة وصفتها الوثائق العثمانية بالقتال العظيم.

واستمر الإمام عبد الله في مجالدة قوات إبراهيم باشا، ما يوضح عدم نيته للاستسلام. وذكر إبراهيم باشا في خطابه لوالده أنه «تم الاستيلاء على كل الأماكن في الدرعية، ما عدا القصر الذي تحصن فيه (الإمام) عبد الله»، الذي استمر قصفه ثلاثة أيام متتالية حاول فيها الإمام عبد الله مقاومة ضراوة الحصار بطريقة وصفتها السجلات البريطانية أنها كانت أشد عناداً، ولكنه تلفَّت فلم يجد حوله سوى نفر قليل ممن تبقى على ولائه. فأرسل لإبراهيم باشا يطلب التفاوض، فخرج مبعوث من قبله لإبراهيم باشا في (8 من ذي القعدة 1233هـ/ 9 سبتمبر/أيلول 1818م)، وما إن وصل حتى توقفت مدافع العثمانيين عن القصف. وبعد بضع ساعات قدم الإمام عبد الله بن سعود لمعسكر إبراهيم باشا للتفاوض.

تباين السجلات البريطانية والعثمانية

وأشارت السجلات البريطانية إلى أن سلوك إبراهيم باشا اتسم بالتعالي والتعجرف أثناء استقبال الإمام عبد الله، الذي كان في مرحلة التفاوض للاستسلام، الذي ربطه بأربعة بنود: الحفاظ على حياة المقاتلين الذين لا يزالون على ولائهم له، والإبقاء على أفراد أسرته، وعدم هدم الدرعية، وضمان سلامته. إلا أن الوثائق العثمانية لم تتطرق لأي منها، في حين أن الوثائق البريطانية أكدت موافقة إبراهيم باشا على جميع البنود، بينما أشارت السجلات البريطانية إلى أنه تم التحفظ على شرطين؛ هما سلامة الدرعية والإمام عبد الله، الذي طلب مهلة 24 ساعة لحسم أمره.

ولم تمر تلك الليلة على إبراهيم باشا كغيرها، فقد جافاه النوم بعد أن انتابه القلق لإدراكه أن إسقاط الدرعية لا يتوِّجه سوى القبض على الإمام عبد الله أو استسلامه، خصوصاً بعد أن قدّم هو ووالده محمد علي باشا وعوداً بذلك للسلطان العثماني. فمرت ساعات المهلة طويلة وثقيلة عليه خوفاً من أن تراود الإمام عبد الله فكرة الفرار، أو أن يقتل نفسه قبل أن يحزم أمره على الذهاب إلى القاهرة، لهذا أصدر أوامره إلى جميع قادة الفرسان بتشديد الحراسة في المواقع كافة.

وأخطأ إبراهيم باشا في تقدير الإمام عبد الله الذي كانت فرصة الهروب متاحة أمامه قبل الإطباق على قصره. ولو أن الإمام عبد الله نجح في الخروج من الدرعية وتفرق أفراد أسرته، لتوجب على العثمانيين أن يبقوا في الجزيرة العربية، وينتشروا على شكل فرق صغيرة لاقتفاء آثارهم في صحاري الجزيرة كما فعلت المسوّدة مع بني أمية، ولكان من الممكن أن ينجو البعض منهم بعد أن يستنزف العثمانيون.

وثيقة بريطانية لرسالة من الإمام عبد الله بن سعود يحتج فيها على تقديم بريطانيا الحماية لرعايا الحكومة التركية (الشرق الأوسط)

الفرار... فكرة مستحيلة

والسؤال الذي يتبادر للذهن: هل كانت فكرة فرار الإمام عبد الله تحت جنح الظلام قبل مرور المهلة ممكنة؟ فتركي بن عبد الله وأخوه زيد استطاعا الخروج من الدرعية أثناء المفاوضات، ولكن الإمام عبد الله قرر تحمل مسؤوليته بوصفه إماماً للسعوديين، ولم يكن ممكناً أن يُعرِّض شعبه وأفراد أسرته أو مَن تبقى منهم للخطر الأكيد بينما أصبحت فكرة فراره مستحيلة بعدما شدد عليه إبراهيم باشا الحراسة. فلن يغفر إبراهيم باشا ووالده حرب سنوات طويلة قد تُعرِّض مكانتهما لدى السلطان محمود الثاني للخطر، للحد الذي يفقد به محمد علي ولايته ونفوذه ومخططاته التوسعية. في حين أن السلطان محمود الثاني لن يكون أكثر رأفة به منهما، ولن يغفر له ما حققه أسلافه من سلب الدولة العثمانية نفوذها الديني والسياسي، بعد فشلها لأعوام عديدة في مجابهة النشاط السعودي الذي كاد يؤدي إلى إلغاء لقب «الخلافة» من سلطنة آل عثمان.

وهنا يتضح أن شجاعة الإمام عبد الله لم تقتصر على مواجهته حملات طوسون باشا ووالده محمد علي باشا ثم إبراهيم باشا منذ وطئت أقدامهم الجزيرة العربية عام 1226هـ / 1811م حتى حصار الدرعية عام 1233هـ / 1818م، بل إنه قرر تحمل مسؤوليته والذهاب إلى الأستانة وهو يدرك المصير المظلم والأكيد الذي ينتظره.

والمطلع على الوثائق العثمانية يجد أن مصطلح القبض على الإمام عبد الله قد تكرر في الوثائق العثمانية في العديد من مراسلات إبراهيم باشا. وهذا ينافي الوقائع التاريخية، لأنه في حالة القبض عليه فلن يكون هناك تفاوض أو شروط، وبذلك تستبعد هذه الفكرة.

ولم يكن الإمام عبد الله وأسرته يدركون مدى الرغبة الملحة للسلطان محمود الثاني ورجال دولته في استعجال مغادرتهم من الدرعية لحسم انتصارهم وعدم إعطاء فرصة لأي حراك عسكري. وغادر الإمام عبد الله الدرعية مكبلاً بالأغلال وسط حراسة مشددة، ترافقه كتيبة تتكون من 300 فارس و400 مقاتل من القوات العثمانية، وقد شُدد عليهم بضرورة منعه من الفرار إن حاول ذلك، ما يعكس مخاوف إبراهيم باشا حتى بعد إبرام الاتفاق مع الإمام عبد الله ومغادرته الدرعية مخترقاً هضاب نجد وسهولها أسيراً بعدما كان صاحبها وسيدها. فالفرصة التي أتيحت لأخيه مشاري بن سعود، الذي نجح في التسلل من قافلة الأسرى، لم تكن متاحة أمامه بأي شكل من الأشكال.


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟