«فاتت يا ونيان»... قصة هروب لم يتم ودفاع عن الدرعية حتى الرمق الأخير

عن أسر الإمام عبد الله بن سعود والغزال الجريح في «أبان»

حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
TT

«فاتت يا ونيان»... قصة هروب لم يتم ودفاع عن الدرعية حتى الرمق الأخير

حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)

«فاتت يا ونيان» عبارة أطلقها الإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى، وأصبحت مقولة سائدة في الجزيرة العربية منذ إطلاقها قبل عشرات العقود، وتستخدم للدلالة على ما لا يمكن تداركه أو تنفيذه في حينه، ولم يُنتبه إليه إلا وقد فات الأوان.

هذا المثل له قصة بل قصص أقرب إلى الخيال منها للواقع، ولكنها بسيناريو وشخصيات حقيقية وأحداث واقعية وإمام أشغل الأعداء، ومستشار مخلص وجيش عرمرم من القتلة والمجرمين يطوقون الأسرى فلا يمكنهم التنفس أو الهروب. إمام وحاكم دولة كبرى، وفارس ووزير وكاتم أسرار هذا الحاكم كانوا ضمن الأسرى. وترتب على عدم الأخذ بهذا المثل مقتل الحاكم بعد أسره، وتضعضع دولته على أثر معارك طاحنة مع الغازي، وتدمير عاصمة الدولة القوية لإخفائها من الخريطة بعدما سيطرت الدولة السعودية الأولى على معظم مناطق الجزيرة العربية.

مسافرون في الصحراء (الشرق الأوسط)

قصة المثل

عادت الدولة ونهضت للمرة الثالثة وأصبحت لاعباً مؤثراً في المشهد العالمي وقبلة سياسية، عندما أعاد الملك عبد العزيز سفينة دولته لشاطئ الأمان، وأسّس دولته الثالثة. وخلال عقود بقيت تتطور حتى بلغت اليوم مرحلة من التكامل يمكن أن يطلق عليها دولة المستقبل، وذلك على يد سابع ملوك الدولة الثالثة الملك سلمان بن عبد العزيز، وبمعاونة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

وبالعودة إلى المثل القائل «فاتت يا ونيان»، التقت «الشرق الأوسط»، بمحمد بن راشد أبو نيان، أحد أحفاد ونيان بن نصر الحربي الذي رد عليه الإمام عبد الله بن سعود عندما وصل إلى أحد الجبال المنيعة، وذكر قصة الغزال التي تعد الأوثق. وعن ذلك يقول أبو نيان: ارتبطت قصة هذا المثل المتداول في الجزيرة العربية بالإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى، ووزيره وكاتم أسراره، وأحد فرسان جيش الدولة السعودية الأولى والثانية ونيان بن نصر العلوي الحربي.

وقصة المثل مشهورة ومتداولة حتى وقتنا الحالي، ومفادها أنه خلال فترة حكم الإمام عبد الله بن سعود كان هناك مد عسكري عثماني بقيادة إبراهيم باشا عام 1231هـ. واتجه إلى المدينة المنورة حيث تتمركز قوات الدولة. وسار بهذه القوات قاصداً مقر الدولة السعودية الأولى في الدرعية.

وفي الثالث من جمادى الأولى 1233 كان إبراهيم باشا على مشارف الدرعية وبدأ في حصارها. وأطلقت نيران المدافع بكثافة باتجاه مزارع الدرعية وأسوارها، واستبسل الإمام عبد الله بن سعود ورجاله في مواجهة هذه القوات التركية والدفاع عن الدرعية وأهلها.

حصار حتى نفاذ المؤن

وقامت عدة مواجهات بين الجيشين، وبقي الوضع على ما هو عليه لوقت غير وجيز، حيث لم يستطع إبراهيم باشا التقدم باتجاه الدرعية، حتى وصله الدعم بالمعدات والأسلحة الثقيلة، فانعكس الأمر ورجحت كفة القوات التركية.

مع ذلك صعب عليهم اقتحام أسوار الدرعية وطالت محاصرتها، وتمركز الإمام عبد الله بن سعود ورجاله مقاومين الحصار وسط الدرعية حتى نفدت المؤن والذخائر، وبات الخطر يهدد المدينة وأهلها، فقرر الإمام عبد الله بن سعود أن يخرج ويسلم نفسه شرط ألا يمس أحد من أهالي الدرعية بمكروه. وبالفعل سلّم الإمام نفسه لإبراهيم باشا وقواته، وكان معه في الأسر رفيقه ووزيره وكاتم أسراره ونيان بن نصر الحربي.

استراحة في بطن الوادي

وفي طريق نقلهم من نجد إلى الحجاز تمهيداً لترحيلهم إلى مصر مرّت قافلة الجيش التركي بمنطقة المطلاع، غرب منطقة القصيم بين جبال مشهورة أبان الأحمر وأبان الأسمر، فتوقفت قافلة الجيش للاستراحة في بطن الوادي، فألمح ونيان للإمام عبد الله بن سعود بالهروب من الأسر. وقال وكأنه يحدث الإمام عبد الله ورفقته أحاديث السفر المعتادة:

«يا إخواني، قبل سنوات كنت ماراً بأبان الأحمر، هذا الذي عن يسارنا فرأيت قطيعاً من الوعول، فأطلقت نار بندقيتي على أحدها فجرحته جرحاً بليغاً بدليل أثر الدماء التي رأيتها على الأرض فتبعته، ولكنه لجأ إلى أبان الأحمر. دخلت الجبل خلفه، فدهشت لسعته، وصعوبة مداخله، ومنعة من يلتجئ إليه، ولم أستطع الاهتداء إلى الوعل الجريح بعدما دخل في شعاب أبان». وكان بذلك يوحي بفكرة الالتجاء إلى جبل أبان الأحمر والإمام لم ينتبه لذلك، فيما ونيان لا يستطيع أن يفصح عن قصده؛ خوفاً من الحراس والجنود المرافقين.

ولما ابتعد الموكب عن الجبل بحيث لم يعد ممكناً للإمام عبد الله بن سعود اللجوء إليه، ذكر ونيان ما كان يرمي إليه من قصة الوعل الجريح، وقال الإمام مخاطباً حاشيته: «فاتت يا ونيان!»، فأصبح ذلك قولاً مأثوراً لدى أهل نجد.

واستكمالاً لسيرة ونيان، فقد عاد وانضم تحت لواء الإمام تركي بن عبد الله ومن بعده الإمام فيصل بن تركي طيلة قيام الدولة السعودية الثانية. واستقرت أسرة آل ونيان من أحفاد ونيان بن نصر الحربي في بلدة العويند التي منحت لجدهم ونيان من الإمام فيصل بن تركي، وأيد ذلك جلالة الملك عبد العزيز بوثيقة أكد فيها ما أمضاه ومنحه الإمام فيصل بن تركي، وحدّد حدود المنح، وذلك في شهر رجب عام 1363ه.

يُشار إلى أن جبل «أبان» بشقيه الأحمر والأسمر الذي شهد قصة المثل ذكره الشعراء الأقدمون، ومنهم امرؤ القيس، فكان أول من قال الشعر عن العرب:

كَأَنَّ أَبَانًا فِي أَفَانِينِ وَدْقِهِ

كَبِيْـرُ أُنَاسٍ فِي بِجَـادٍ مُزَمَّـلِ

كما ذكره الشاعر لبيد بن ربيعة في قوله:

دَرَسَ المَنا بِمُتالِعٍ فَأَبانِ

وَتَقادَمَت بِالحُبسِ فَالسوبانِ

ولم يكن رأس الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى عبد الله بن سعود مطلوباً في حصار الدرعية فحسب، بل في كل معركة من المعارك الكثيرة التي واقعهم فيها بمناطق مختلفة من الجزيرة العربية، وفي ظروف بيئية واقتصادية بالغة الصعوبة. وعلى تباعد مناطق الصراع وتعددها، أظهر السعوديون قوة وبسالة في الدفاع عن الأرض، وطرد الغازي شر طردة.

أحد أعيان الجزيرة في الدولة السعودية الأولى (الشرق الأوسط)

وقائع حرب وصلح وخيانات

وفي تاريخه الحولي «تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد» لمؤلفه إبراهيم بن صالح بن عيسى، ذكر في إشارات متناثرة في كتابه عن وقائع بين الجيش السعودي في عهد الإمام عبد الله بن سعود، الذي نحن في صدد الحديث عنه وبين عساكر الأتراك ومن ولاهم، يقول ابن عيسى: «وفي سنة 1230هـ، أي بعد عام - من تولي عبد الله بن سعود مقاليد الحكم بوصفه الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى بعد وفاة والده الإمام الثالث سعود بن عبد العزيز بن محمد - قدم أحمد طوسون بن محمد علي بالعساكر العظيمة ونزل الرس والخبرا، وكان عبد الله بن سعود إذ ذاك في المذنب، فلما علم بذلك رحل من المذنب ونزل بلد عنيزة، وأميرها إذ ذاك من جهة عبد الله بن سعود نزل الحجناوي، وهي مزارع لأهل بلدة الرس تقع شرقها، وأقام عليها نحو عشرين يوماً يصابر عساكر الترك، ويقع بينهم مقاتلات ومجاولات من بعيد، ثم إن الصلح وقع بين أحمد طوسون وأحمد بن نابرت وبين عبد الله بن سعود على وضع الحرب، وأن عساكر الترك يرفعون أيديهم عن نجد، ويرفع عبد الله بن سعود يده عن الحرمين ولك منه يحج آمناً، وكتبوا بذلك سجلات فرحل أحمد طوسون ومن معه من العساكر غرة شعبان من هذه السنة (1230هـ)، وتوجهوا إلى المدينة المنورة».

كما أشار ابن عيسى إلى وقائع عام 1231هـ التي تمت بين الطرفين، وتم فيها الصلح، وانتقض بينهما لوجود خيانات وعدم امتثال الأتراك للصلح، مضيفاً في سياق آخر أن إبراهيم باشا نزل ببعض المدن في نجد ليصل ضرما، فحاربه أهلها فأخذها عنوة، وقتل من أهلها نحو 1300 رجل ونهب البلاد وأخلاها من أهلها، ثم ارتحل منها إلى الدرعية ونزلها في الثالث من جمادى الأولى من السنة المذكورة (1231هـ)، وجرى بينه وبين أهلها عدة وقعات.

وحاصل الأمر - والكلام لإبراهيم بن عيسى - أنه وقع الصلح بينه وبين أهل الدرعية على أن عبد الله بن سعود يخرج إليه ويرسله إلى السلطان، فيحسن إليه أو يسيء، فخرج عليه عبد الله بن سعود على ذلك. وذلك في تاسع ذي القعدة من السنة المذكورة، ولما كان بعد المصالحة بيومين، أمر الباشا عبد الله بالتجهز بالمسير إلى السلطان، فتجهز ثم أرسله مع رشوان أغا والدويدار، ومعهم عدد كثير من العسكر، فساروا به إلى مصر ثم إلى اصطنبول (كتبت هكذا)، وقتل هناك رحمه الله تعالى. وكانت هذه السنة كثيرة الاضطراب من نهب الأموال وسفك الدماء، وقد أرّخها محمد بن علي الفاخري المتوفى عام 1277هـ، وله رسالة دوّن فيها بعض حوادث نجد، نقل ابن عيسى أغلب ما فيها إن لم يكن كلها.

ويضيف ابن عيسى «ثم دخلت سنة 1234هـ، وإبراهيم باشا في الدرعية، ثم أمر أهلها أن يرتحلوا منها فرتحلوا منها، فأمر بهدمها وقطع أشجارها فهدموها وأشعلوا فيها النيران وتركوها خاوية، وتفرّق أهلها في البلدان، فلما فرغ إبراهيم باشا من هدم الدرعية رحل عنها، وترك في ثرمدا خليل أغا ومعه الكثير من العسكر وقصد المدينة المنورة. وأمر بنقل آل سعود وآل الشيخ بأولادهم ونسائهم إلى مصر، فنقلوا إليها. فلما وصل إلى القصيم أخذ معه حجيلان بن حمد، رئيس بلد بريدة، وسار به إلى المدينة المنورة».

معابر «حافة العالم»

وتقع بلدة العويند في أحضان سفح جبل طويق من الناحية الغربية، وكانت في الماضي قبل فتح الطرق المعبدة همزة الوصل بين اليمامة والبطين عبر طريق الحيسية المسماة سبع الملاف، التي يعبرها المسافرون بين الرياض والحجاز، وكان المغفور له جلالة الملك عبد العزيز يسلك هذه الطريق في رحلاته بين الرياض والحجاز، ويمكث في العويند للراحة، وأحياناً يقيم في العويند لعدة أيام في الرحلات الماطرة.

«وتُمثل بلدة العويند مكانة مهمة لاحتوائها على بعض المواقع الأثرية، منها الموقع المسمى حجيلا، الذي يعود إلى يحيى بن أبي طالب، والذي ذكره في قصيدته قبل وفاته في العراق في العصر العباسي، بالإضافة إلى المعابر الجبلية مثل معبر فهرين المسمى حالياً حافة العالم، ومعبر حجهور، ومعبر أبا الغبطان، التي يُذكر أن خالد بن الوليد قد سلكها أثناء حروب الردة».


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!