تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

TT

تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)
مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)

بين روايات التأسيس والتوحيد وحكايات البناء والتطوير روابط ووشائج، وتاريخ دولة متصل لأكثر من 300 عام فيه الكثير من الصفحات المضيئة والقصص الملهمة، ومن يغص في أعماقه وينقب في وثائقه ويستجلي أوضاعه، ويقرأه وفق سياقه التاريخي وظرفه الزماني والمكاني، يدرك أبعاد اتجاهاته السياسية وتحولاته الاجتماعية ونهضته الفكرية، وملاحمه التنموية بل وحتى رؤيته الممتدة. كيف لا وهو تاريخ دولة وسيرة أمة.

أمة غُيّب دورها فنهضت من كبوتها لاستعادة أمجادها، ودولة أعادت لجزيرة العرب اعتبارها ووصلت ما انقطع من تاريخها العربي، أشرقت شمسها ثم أفلت وتكرر ذلك مرتين في حالة نادرة؛ بل فريدة.

من هنا أطلق المؤرخون المعاصرون على الحقب أو الأدوار الثلاثة للدولة السعودية مصطلحات «الأولى والثانية والثالثة» وتداولوها بوصفها حقباً تاريخية مع أنها لم تكن أسماءً رسمية، وبمحاولة تتبع متى بدأ استخدام هذا التقسيم يتبين أنه حديث نسبياً (في عهد الملك فيصل) وأن أول من استخدمه القانوني والمؤرخ الدكتور منير العجلاني. وإن كان ذلك يتطلب مزيداً من التدقيق والبحث، لكن سبق وأن استخدم مصطلح (الدور الأول) و(الدور الثاني) في عهد الملك عبد العزيز عند مؤرخين مثل أمين الريحاني وفؤاد حمزة.

مراحل بناء الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن سنوات ضعف أو غياب الدولة؟ لأنها هي سبب هذا التقسيم المنطقي من الناحية التاريخية، مع أنني أراها سنوات الربط بين الأدوار. ولا بد - قبل ذلك - من إدراك «حجم الرصيد التاريخي الذي أسسته الدولة (الأولى)» والذي استفادت منه «الثانية» و«الثالثة» وبنتا عليه. من هنا تأتي أهمية استذكار تاريخ الدولة السعودية بكل مراحله وتحولاته، واستحضار إرثه العريق ورصيده الكبير وجذوره الراسخة في ذكرى يوم التأسيس، وإلقاء مزيد من الضوء على جوانب لم تستوف حقها من ذلك التاريخ العريق.

مبادئ الدور الأول من الدولة السعودية

يرى الكاتب والباحث السياسي جبران شامية أن مشروع الدولة النهضوي في دورها الأول تضمن مبادئ لا يمكن تجاهلها، منها «الاهتمام بالعلم والمعرفة بالمعنيين الديني والدنيوي، والإصلاح القضائي وتوفير الأمن، وكسر التقليد وإعلان حق العقل في فهم النصوص، وتقييد القرار والإدارة السياسية بالأصول الدستورية، والإصلاح التربوي والاجتماعي، والكفاح من أجل الوحدة أو الاتحاد وتجاوز الإقليمية وتوسيع الاتصال بالعالم الخارجي».

ويوجز شامية حديثه عن «الدولة السعودية الأولى» فيما يلي من نقاط:

أولاً، إنها «كانت دولة عربية إسلامية ونداً عربياً قوياً على مستوى الحكم للشعوبية التركية وغيرها. وثانياً أنها نشأت في ظروف عالمية وعربية ومحلية شديدة التعقيد، وصمدت في وجه حملات القمع والتخذيل. ثالثاً أنها قدمت صورة جديدة بالنسبة للقرون الماضية من صور الحكم الإسلامي، ونمطاً متقدماً من أنماط الحكم السعودي في الجزيرة العربية. ورابعاً أنها تركت بصماتها الواضحة في التطورات العقلية والاجتماعية التي حدثت في جزيرة العرب من بعد، كما تركت آثارها العميقة في محيطها الأقرب (الخليج العربي)، ودائرتها المحيطة (الوطن العربي)، ومجالها العريض (العالم الإسلامي)».

ويؤيد ذلك السير هارفرد جونز بريدجز المقيم السياسي في بغداد (1798 - 1806م) بقوله: «إن النظام الذي سارت عليه الدولة السعودية هو نظام حر بكل ما في الكلمة من معنى. وأن العدل والأمن والانضباط كان أهم عناصر التحول التي أدخلتها تلك الدولة في حياة عرب الصحراء». ويقارب ذلك أستاذ التاريخ الدكتور عبد الكريم الغرايبة بقوله: لقد نجح آل سعود بنقل عرب الجزيرة نحو المدنية، «الأمر الذي لم يحققه أي نظام حكم في التاريخ، واستتب الأمن والنظام والوحدة في بلاد لم تعرف هذه الأمور من قبل».

 

أفراد من المجتمع السعودي بأزيائهم المختلفة (الشرق الأوسط)

وهذه التوطئة مهمة لفهم أسباب استمرارية الدولة رغم محاولات إنهائها وتدمير عاصمتها ومحو تراثها والتنكيل بأبنائها، والمفارقة الكبرى أننا أمام حالة نادرة في التاريخ فيما يتعلق باستمرار الدولة السعودية حضوراً وغياباً. فعمر الدولة منذ تولي الإمام محمد بن سعود إمارة الدرعية 297 عاماً ومجموع سنوات ضعفها أو غيابها لا يتجاوز 17 عاماً على أعلى التقديرات، أي بنسبة أقل من 6 في المائة من إجمالي عمر الدولة، وتلك السنوات وإن كانت غياب الحكم على الأرض، فإنها كانت سنوات الاستعداد لاسترداد الحكم وحضور رمزية الدولة مع حكامها الشرعيين بغض النظر عن مكانهم. ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرويشد:

«كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية ولا يتخلون عنها»، وأورد عدة قصص عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي أر بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون، وكتب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)».

سنوات الضعف

وفي سنوات ضعف الدولة (وأؤكد هنا على كلمة ضعف لأنني أرى أن الشرعية لم تسقط)، كان غياب آل سعود قسرياً لكن دورهم كان حاضراً ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع، وقد يكون هذا ما قصده أستاذ التاريخ الدكتور عبد الفتاح أبو علية بقوله إن «المفهوم الزمني للدور (السعودي) أوسع وأعم من مفهوم الدولة الزمني».

وإذا كانت أسباب غياب الدولة مفهومة، فالسؤال الذي يجب أن يُسأل لماذا عادت الدولة؟

يجيب الدكتور أبو علية: «مع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهومية السياسية، فإنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، إذ ظلت أفكار دعوتها ماثلة في أذهان الناس، وظل المجتمع النجدي يكن الولاء للأسرة السعودية». كذلك يرى الدكتور الغرايبة: «إن الدرعية انتصرت بانتحارها المشرف لا بجيوشها»، وأن «تضحياتها لم تذهب عبثاً... فلولا البطولات التي أبداها آل سعود دفاعاً عن بلدهم، ولولا سمو الفكرة التي دعوا إليها»، لما استطاع عبد العزيز آل سعود أن يؤسس ملكه في القرن العشرين».

وفي سنوات ضعفها وغيبتها لم تكن الدولة حاضرة في ذهن قادتها فحسب، بل أيضاً في وجدان الناس. ومن جميل ما مر علي في هذا الباب، ما سمعته من أستاذ التاريخ السعودي الدكتور عبداللطيف الحميد: «أن عدداً من تجار نجد وأغنيائها كانوا يحملون زكاتهم للكويت أثناء إقامة الإمام عبد الرحمن فيها ويدفعونها له، بصفته الحاكم الشرعي». ولعل ذلك هو ما دفع المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان إلى القول، بعد تدمير الدرعية:

«مع أن أسرة سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد». ويواصل مانجان توقعاته عن عودة الحكام الشرعيين: «وإذا كان الرعب الذي تنشره اليوم جيوش محمد علي يضمن خضوع المهزومين، فإنه مما لا شك فيه أنهم بعد موت ذلك الأمير سيستفيدون من الحماسة الحربية التي هي الميزة الطبيعية لكل الأجيال الجديدة لاستعادة مملكة كانوا يستطيعون الدفاع عنها أمداً طويلاً».

لم تخب توقعات مانجان، فاسترد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الحكم الذي أسسه جده الإمام محمد بن سعود بعد مدة قصيرة من ذلك التنبؤ، كما استرده عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بعد ذلك، فالأس الخصب الذي أشار إليه مانجان تَفَتَحَ من جديد. لكن مملكة عبد العزيز أتت متفوقة بتجاوزها الإمارة والسلطنة، وحكمه كان مختلفاً. فلم يركن إلى الإرث والرصيد التاريخي لأجداده فقط وإنما قرأ التاريخ أيضاً، ووعى مساره واستوعب دروسه واستفاد من تجارب أسلافه فبنى هياكل دولته وطور أدواتها وممارساتها تماشياً مع مقتضيات عصره، مع المحافظة على أصالتها وركائزها. والأهم يبقى أنه أسس مدرسته الفريدة في الحكم والسياسة التي تلقى فيها أبناؤه الملوك مهارات الحكم وفنون السياسة، ناهيك عن كونهم امتداد لبيت ملك عريق ينتمي لأرض الجزيرة العربية، يؤمن بمبادئها ويعرف قيمها وشمائلها وحاجات إنسانها، ويستحضر كل منهم فلسفة عبد العزيز التي كانت مختلفة فعدلّت أبيات المتوكل الليثي:

لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا

«نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا»، هكذا قال مخاطباً الأديب المهجري أمين الريحاني الذي يلخص اختلاف عبد العزيز عن سابقيه:

«الحق يقال إن السلطان عبد العزيز آل سعود استعاد في دوره الأول، دور الفتوحات، ملك أجداده، وعزز هذا الملك بالعدل والأمن، وبالدين الذي هو في نجد مصدر الاثنين، فلا يخطئ ولا يموه إذا قال: نبني كما كانت تبني أوائلنا، ولكنه في تحضيره البدو، وفي تأسيس الجديد من المدن والقرى التي تدعى الهجر، وفي استخدامه من يحسن الخدمة مهما كان مذهبه، وفي إعطاء امتياز (الأحساء) لشركة أجنبية، وفي إرساله فتياناً من نجد إلى مصر ليتلقنوا فيها العلوم الحديثة، وفي استحضاره إلى الرياض السيارات وبعض الأطباء والمهندسين؛ في كل هذا ما يثبت قوله إنه يفعل فوق ما فعل أجداده ولا يبالي إذا كان المشايخ والعلماء لا يرضون دائماً عن هذه الخطة. إذ ليس لهم أن يعترضوه بشيء في سياسته الداخلية والخارجية التي لا تمس الدين. وهو، وإن قيل إنه شديد التعصب لمذهبه، يحسن المداراة فيتجاهل فيما لا يضر، ويتساهل فيما هو مفيد لبلاده. قد يفوه أحد العلماء أحياناً بكلمة فيها بعض ما يكنه من الوجد والأسى فيقول مثلاً: في أيام أجدادكم يا طويل العمر كانت الدنيا مستريحة من هذه المشاكل الجديدة كلها، فيسمع عبد العزيز ويبتسم ثم يسير في سبيله ليتم مقاصده. وقلما يكترث مما يشيعه عنه الأعداء وفيهم من الأدباء من يجهلون نجد الحديث. لذلك تضاربت الآراء في كثير من الشؤون التي تتعلق به وببلاده».

كتب الريحاني كلامه هذا عام 1924، أي قبل 100 عام بالتمام، ويظل كثير مما قاله ينطبق على واقعنا اليوم، ولا بد من التأكيد على نقطتين جوهريتين تتعلقان بمنجز الملك عبد العزيز لم تنل حقهما من الدراسة والإبراز: الأولى أنه أسس نهجاً دستورياً لانتقال الحكم في الدولة، والثانية أن التغيير الاجتماعي الذي أحدثه كان كبيراً بمقاييس عصره، وبالمقارنة مع التطورات الاجتماعية التي حدثت في الدور الأول للدولة السعودية.

أعراف متطورة

وسار أبناء عبد العزيز على نهجه مستحضرين فلسفته في التفوق، فأدى كل ملك من ملوك المملكة العربية السعودية دوره وسلم الأمانة كاملة وأفضل مما تسلمها. وهذه مفارقة أخرى لا نراها في كثير من الدول، لذا علينا ألا ننسى أن المملكة العربية السعودية دولة عريقة لكنها ليست جامدة؛ بل مُجددة ومتجددة، طورت عبر قرون تاريخها وعقود دولتها الحديثة كماً من الأعراف والتقاليد الملكية، التي تتميز بها الأنظمة ذات الجذور الراسخة، واستفادت من كل ما هو جديد ومفيد، متكئة على إرثها العظيم ورصيدها التاريخي الكبير. وهي تتميز الآن بتوجهات تجديدية وإبداعية تكرس تقاليدها الملكية وتزيد عليها أو تعيد تقديم بعضها بما يتناسب وتوجهات العصر.

ولا أدل على ذلك من النهضة الكبرى التي تعيشها اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبإشراف ومتابعة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كما أن التحولات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع السعودي الآن تفوق أي تحول سابق. لذا أرى أن محاولة فصل هذه الإنجازات عن أبعادها التاريخية، تعد تجاوزاً لطبيعة هذه المآثر الملكية العريقة والمتصلة لثلاثة قرون، ولتاريخها الممتد لستة قرون، والذي يحتفل السعوديون بأحد إنجازاتها الفريدة وأيامها المجيدة، يوم التأسيس.

وعن مراجعة تقسيمات تاريخ الدولة التي أرى أنها وضعت لاستيعاب حقب التاريخ، فأدت ببعض المؤرخين المتأخرين أن يجعلوه تاريخ ثلاث دول بينما هو تاريخ متصل لدولة واحدة مرت بأدوار وعهود عدة وظلت مستمرة على مبادئها التي أسست عليها رغم كل ما مرّ بها.


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!