كرد سوريا يدرسون اللغة الأم دون اعتراف... وبأجندة سياسية

الكردية تغطي جميع المراحل التعليمية وفريق خبراء يحاول التخلص من «منهج التلقين»

الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)
الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)
TT

كرد سوريا يدرسون اللغة الأم دون اعتراف... وبأجندة سياسية

الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)
الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)

على منصة مرتفعة في ساحة إعدادية «شجرة الدر» للبنات في بلدة «الدرباسية» الحدودية مع تركيا، وقفت المديرة «ستيره أيو» لتردد الشعار اليومي بلغتها الكردية الأم: Roj baş (صباح الخير بالعربية)، ومن بعدها تردد الطالبات بصوت عال: Roj baş Mamoste (صباح الخير أستاذة)، إيذاناً ببدء الفصل الثاني من العام الدراسي الحالي.

من بين 1770 مدرسة، تُدرس هذه الإعدادية المنهاج الكردي منذ مطلع 2016 بعدما اعتمدت «الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق» سوريا الكردية بصفتها لغة رسمية إلى جانب العربية والسريانية، وطبقته تدريجياً على جميع المراحل التعليمية في مدن وبلدات الدرباسية وعامودا والقامشلي والمالكية والقحطانية وغيرها من مناطق الغالبية الكردية التابعة لمحافظة الحسكة، إضافة إلى عين العرب «كوباني» ومنبج، الواقعتين بريف حلب الشرقي، وبعض مدارس الرقة، شمال البلاد، التي يرتادها تلاميذ وطلبة من القومية الكردية.

تقول ستيره أيو، التي تشرف على نحو 400 طالبة في «شجرة الدر»، إن الطالبات يتعلمن اليوم ألف باء الكردية ونطقها السليم، ويدرسن العلوم المختلفة بهذه اللغة على نحو لم تكن هي نفسها تتمتع به خلال التسعينات، حينما كانت تتلقى الدروس بغير لغتها الأم.

«كنت أدرس باللغة العربية عند والدي الذي كان مدرساً قبل 3 عقود. كان من المحزن أن أتحدث معه بالعربية في المدرسة، ونعود إلى لغتنا الكردية في المنزل (...) في الحقيقة كنت أواجه صعوبة في فهم الدروس بغير لغتي الأم»، تقول ستيره.

اليوم في إعدادية «شجرة الدر»، تُلقى المحاضرات باللغة الكردية، وبين أيدي الطالبات كتب ومطبوعات بلغتهن الأم. تشعر ستيره بالغبطة وهي تصف مشهداً نادراً بالنسبة لها: «صرنا نتحدث الكردية في كل مكان».

المدرسة بيريفان حسين مدرسة اللغة الكردية تعطي دروسها بلغتها الأم (الشرق الأوسط)

لغة محظورة

على مدى عقود حُرم كرد سوريا، البالغ عدهم نحو مليوني ونصف نسمة، من القراءة والكتابة بلغتهم الأم، وبعد تولي نظام حزب «البعث» الحاكم السلطة بسوريا في سبعينات القرن الماضي بلغت ذروة سياساته العنصرية عندما منع الرئيس الراحل حافظ الأسد والد الرئيس الحالي بشار الأسد؛ الكرد من التحدث بلغتهم الأم في المدارس والدوائر الحكومية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

مع انسحاب القوات النظامية من أنحاء كثيرة من سوريا بداية عام 2014، توفرت للكرد فرصة لتشكيل إدارات ذاتية في 3 مناطق يشكلون فيها غالبية سكانية: الجزيرة السورية، عفرين، وعين العرب «كوباني» بريف حلب.

منذ ذلك الوقت، باتت المناهج في هذه المناطق منفصلة تماماً عن التعليم الحكومي في سوريا، إذ اعتمدت اللغة الكردية بشكل كامل في جميع الدروس، فيما يمكن للطالب المتخرج الالتحاق بكليات ومعاهد خاصة بالإدارة، وفقاً لرئيس هيئة التربية والتعليم بمقاطعة الجزيرة مصطفى فرحان.

يقول فرحان لـ«الشرق الأوسط»، إن نحو 1774 مدرسة مؤهلة، من الأول الابتدائي حتى الـ12 الثانوي بفرعيه الأدبي والعلمي، يرتادها 204 آلاف طالب وتلميذ، يدرسون بثلاث لغات رئيسية، وهي لغات سكان وشعوب المنطقة، العربية والكردية والسريانية.

وفصلت «الإدارة الذاتية» عمليتها التربوية في مناطق نفوذها عن وزارة التربية والتعليم التابعة للحكومة السورية، كما حظرت توزيع المناهج الحكومية في المدارس الخاضعة لها، وألفت مناهج جديدة شملت جميع المراحل التعليمية، بما فيها المراحل الجامعية والمعاهد المتوسطة، لكن الشهادة الصادرة من هيئاتها غير معترف بها من قبل وزارة التربية بدمشق. يقول فرحان: «ربطنا حلقات الإعدادية والثانوية بالجامعات والمعاهد التابعة للإدارة، ليتمكن الطلبة من إكمال تعليمهم العالي».

هناك 3 جامعات تابعة للإدارة الذاتية؛ «روج أفا» في القامشلي بريف الحسكة، و«كوباني» في «عين العرب» بريف حلب، وجامعة «الشرق» في الرقة.

مع ذلك، يشدد المسؤول الكردي على أن النظام التعليمي في مناطق الإدارة سيكُمل مستقبلاً النظام التربوي للدولة السورية. يقول فرحان: «الكردية ستصبح جزءاً من النظام التربوي لأنها لغة مكملة للعربية (...) الحركة الكردية بسوريا كانت تسعى منذ عقود للاعتراف الدستوري باللغة الكردية وتعليمها بالمدارس الرسمية».

تلميذات قبل دخولهن الصفوف الدراسية في مدرسة «شجرة الدر»... (الشرق الأوسط)

«حلم تحقق»

في فصل دراسي داخل مدرسة «شجرة الدر» جلست طالبات يرتدين قميصاً فضي اللون، وهو اللون الرسمي المعتمد لطلبة المرحلة الإعدادية؛ أمام كل طالبة كتاب مطبوع باللغة الكردية وكانت المدرّسة «مايا معيشي» المتحدرة من الدرباسية، تقرأ صفحات من منهج التاريخ، وخلال سردها محطات من تاريخ سوريا والشرق الأوسط عموماً، دونت على السبورة عبارات كردية بأحرف لاتينية.

قبل 15 عاماً، كانت «مايا معيشي» طالبة في المدرسة نفسها، وقضت سنوات تعليمها باللغة العربية، وتقول «كان حلماً لكل كردي الوقوف هنا للتعلم بلغتنا الكردية، حتى الأمس القريب كنت أتعلم بالعربية وأعاني الأمرين من طريقة الفهم وأسلوب المدرس لأنها لم تكن لغتنا الأم (...) كان حلماً وتحقق».

في فصل دراسي آخر، زميلة مايا، المدرسة نيرمين، تعطي مادة الرياضيات باللغة الكردية، رغم أنها درست هذه المادة بالعربية. ومنذ 6 سنوات تمكنت أخيراً من استعمال لغتها الأم بحرية.

لم يكن الأمر سهلاً على نيرمين، التي تقول إن تدريس الرياضيات بالكردية يتطلب ترجمة دقيقة للمصطلحات العلمية من العربية واللاتينية.

«التدريس بالكردية تجربة حديثة. كنت أعاني كثيراً في تجهيز المحاضرات، لكن بعد الاستعانة بخبراء اللغة تمكنت من إعطاء المادة بالكردية 100 في المائة».

وعلى ما تقول نيرمين، فإن استخدام الكردية في المناهج خلال السنوات الأولى واجه صعوبات جدية، بسبب قلة المهارات اللغوية وتعدد الأقسام التعليمية والافتقار لمختصين لغويين، لكن الحال تغير بعدما توفر كادر متخصص لجميع المواد والأقسام.

وبدا أن الطالبات في «شجرة الدر» سعيدات بتداول الكردية سواء في الفصول الدراسية أو في مناقشتها مع المدرسات. تقول الطالبة شيلان قادر (13 سنة)، إنها تتعلم بالكردية وتطمح إلى أن تصبح طبيبة، بينما كانت تبتسم وهي تحمل كتاب مادة اللغة الكردية.

«منذ صفوفي الأولى وأنا أحب الكتابة والقراءة بلغتي الكردية، حلمي أن أصبح مدرسة حتى أعلم تلاميذي لغة شعبنا»، تقول طالبة أخرى تدعى ميادة التي تدرس في الصف التاسع، بينما تتحدث زميلتها بالفصل، دلال حسين، عن حبها لمادة الكردية: «لأنها تاريخنا وحضارتنا، وهذه لغتنا الأم التي نحب أن نحافظ عليها».

يستخدم كرد سوريا الأحرف اللاتينية في القراءة والكتابة، بينما تندرج ضمن مجموعة اللغات الهندو – أوروبية في الشرق الأوسط، وضع قواعدها الأمير جلادت بدرخان، حين نشر عام 1932 كتابه المعروف: «الأبجدية الكُردية وأسس القواعد الكُردمانجية»، الذي صدرت طبعته الأولى في دمشق، وما زال يعد مرجعاً لتدريس قواعد اللغة الكردية.

وتعتمد «الإدارة الذاتية» اللهجة الكرمانجية، وهي توازي العربية الفصحى، يتقنها ويفهما جميع الكرد في العالم.

بحسب الإدارة الذاتية، يبلغ الكادر التدريسي في مناطق الجزيرة السورية نحو 17 ألفاً خضعوا لدروات في مؤسسة «اللغة الكردية» التابعة للإدارة، أحد هؤلاء رزكار سليمان محمد، الذي يعمل في إدارة هذه المؤسسة منذ تأسيسها نهاية 2011.

اكتسب رزكار مهارات اللغة في أكاديمية «جلادت بردخان» أكبر جهة كانت تدرس الكردية سراً خلال سنوات حكم نظام «حزب البعث»، وبعد تخرجه في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق التحق بالكادر التدريسي الكردي لتأسيس «جيل جديد»، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «تعمل المؤسسة في البحث عن معاني اللغة وتجميع مفرداتها الأصيلة الضائعة، وهي بمثابة قاموس لجميع أبناء الشعب الكردي للعودة إليه عند الحاجة».

ويأمل الخبير الكردي أن تعترف الحكومة السورية بالشهادات الصادرة عن مدارس الإدارة: «لحماية دراسة الطالب الكردي أينما وجد وأينما سافر، هذا مستقبل أبناء البلد ومن حق أي طفل الدراسة بلغته الأم، ونأمل أن تعترف منظمة الأمم المتحدة واليونيسيف بها»؛ خصوصاً بعد أن دخلت الكردية محرك البحث «غوغل».

«مؤسسة المناهج» التابعة للإدارة الذاتية، التي توازي «مديرية الكتب والمطبوعات» بالحكومة السورية، هي من تؤلف وتطبع المناهج المدرسية لجميع المراحل التعليمية، باللغتين الكردية والعربية، وتضم مؤلفين ومختصين بجميع المواد العلمية والأدبية.

هفند إبراهيم هو المسؤول عن هذه المؤسسة، ويحمل إجازة بقسم علم الاجتماع من جامعة دمشق، قبل أن ينضم وآخرون إلى أولى حلقات مؤسسة «رشيد كرد» التي تحولت فيما بعد لنواة مؤسسة «اللغة الكردية» التي انطلقت نهاية 2011 من مدينة عامودا المجاورة لبلدة الدرباسية.

تتحمل هذه المؤسسة عبء تحديث المناهج وتطويرها، ويقول هفند إبراهيم، إنها تخضع للتعديلات بشكل دوري لأنها كلاسيكية وتعتمد على التلقين.

«نعمل على تطوير هذه المناهج عبر إدخال الوسائل والأدوات الحديثة، وتقوية مهارات التفاعل بين الطالب والمدرس (...) خطة التغيير ستستمر حتى عام 2025».

تلميذات داخل صف دراسي يتفاعلن مع درس باللغة الكردية في «شجرة الدر»... (الشرق الأوسط)

أجندة سياسية

ينتقد أكاديميون ومختصون تجربة الإدارة في تدريس اللغة الكردية وأدلجة المناهج وانحيازها لـجهة سياسية، لا سيما نشر صور تمجد شخصيات حزبية ومقاتلين يظهرون بزي عسكري موالين لجهات سياسية، بينما تفتقر المدارس إلى قاعات الدروس الملائمة والمختبرات العلمية والمكتبات المتخصصة.

ورغم الشغف باللغة الكردية، يفضّل قسم من أهالي بلدة الدرباسية، أن يتعلم أبناؤهم في مدارس تعتمد المنهاج الحكومي بدلاً من منهاج الإدارة غير المعترف به، ولهذا الغرض سجلوا قيود أبنائهم بمدارس حكومية في الحسكة أو القامشلي، وافتتحوا دورات خاصة لدى معلمين يعطون الدروس النظامية.

من بين هؤلاء الأهالي سردار (47 سنة)، الذي أرسل جميع أبنائه إلى مدارس الحكومة في الحسكة، ويتلقون دروسهم عبر دورات خصوصية.

يقول سردار: «أنا مع الكردية وكانت حلماً لنا، لكن لا أريد مستقبلاً مجهولاً لأبنائي، فشهادات مدارس الإدارة غير معترف بها (...) الكردية لغة غير رسمية لا في سوريا ولا في أي دولة ثانية».

وترفض هيفي (37 عاماً) هي الأخرى إرسال ابنتيها لمدارس الإدارة بسبب «تدني المستوى التعليمي»، كما تقول: «نحن لا نجيد الكتابة والقراءة بالكردية بشكل سليم، فكيف للمدرس أن يلقن بناتي الكردية».

على مدار عقود اقتصر التدريس الحكومي في سوريا على اللغة العربية بوصفها اللغة الرسمية في البلاد، أضيف إليها لاحقاً في تسعينات القرن الماضي الإنجليزية والفرنسية بوصف كل منهما لغة أجنبية ثانية، ولم تجد اللغات المحلية في البلاد مثل الأرمنية والسريانية والكردية مكانها في المدارس الحكومية، وبينما كانت دور عبادة تدرس الأرمنية والسريانية حُرم الكرد حتى من هذا الامتياز الثانوي.

ولطالما مُنعت اللغة الكردية في سوريا، حتى مع محاولات الحركة السياسية للكرد انتزاع اعتراف دستوري بأحقية تعليمها في المدارس، لا سيما في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية سكانية على أن تكون مفتاحاً لحل قضيتهم العالقة والتعاطي الإيجابي معها.

لكن حداثة تجربة التدريس بالكردية، وصعوبات إدارية تتعلق بالاعتراف الرسمي بالشهادات، إلى جانب تسلل أجندة الأحزاب الكردية إلى مناهج التعليم، ستبقى تحديات تعيق نمو تجربة التعليم بهذه اللغة في منطقة يتحول التنوع فيها إلى بؤرة نزاع ثقافي واجتماعي.


مقالات ذات صلة

تراجع أعداد اللاجئين السوريين في تركيا لأقل من 3 ملايين

شؤون إقليمية أحد مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا (إعلام تركي)

تراجع أعداد اللاجئين السوريين في تركيا لأقل من 3 ملايين

تراجعت أعداد اللاجئين السوريين الخاضعين لنظام الحماية المؤقتة في تركيا إلى أقل من 3 ملايين لاجئ.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي تشييع اثنين من ضحايا هجوم تدمر في الحطابية بمحافظة حمص الجمعة (متداولة)

بعد هجوم تدمر... قيادات إيرانية تتحرك من سوريا نحو العراق

أنباء عن مغادرة قياديين في «الحرس الثوري الإيراني» وميليشيات تابعة لإيران، الأراضي السورية متجهة إلى العراق؛ خشية تعرضهم للاستهداف.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي رجال أمن وإنقاذ في موقع استهدفته غارة إسرائيلية في دمشق (أرشيفية - أ.ب)

تحذير أممي من انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي واسع»

رأت نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، نجاة رشدي، أن منطقة الشرق الأوسط تشهد «خطراً عميقاً»، ودعت إلى «عمل حاسم» لمنع انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي».

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان متحدثاً في البرلمان التركي (الخارجية التركية)

أنقرة: الأسد لا يريد عودة السلام في سوريا

أوضح وزير الخارجية التركي فيدان أن الرئيس السوري لا يريد السلام في سوريا، وحذر من أن محاولات إسرائيل لنشر الحرب بدأت تهدد البيئة التي خلقتها «عملية أستانة».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي هاربون من الحرب بلبنان يعبرون منطقة المصنع التي استهدفتها إسرائيل (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة: الغارات على تدمر هي «على الأرجح» الأسوأ في سوريا

قالت نجاة رشدي، نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، أمام مجلس الأمن: «ازدادت الغارات الإسرائيلية في سوريا بشكل كبير، سواء من حيث الوتيرة أو النطاق».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».