ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية
TT

ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

لطالما اعتمد اقتصاد المملكة العربية السعودية بشكل رئيسي على النقد، وهذا نابع من ثقافة غنية بالأسواق المحلية التقليدية والمساومات. إلا أن هذا التفضيل، الذي عززه انعدام الثقة في الأنظمة المصرفية والافتقار إلى الأطر التنظيمية للمعاملات عبر الإنترنت، يتغير بسرعة. ففي الوقت الحاضر، ورغم أن ثلثي سكان المملكة تقلّ أعمارهم عن 35 عاماً، وتحتلّ المملكة المرتبة الثالثة عالمياً في استخدام الهواتف الذكية، فإن المملكة تشهد تحولاً سريعاً في تفضيلات الدفع. ولا يقتصر هذا التغيير على إعادة تشكيل سلوك المستهلك فحسب، بل هو أيضاً عنصر محوري في السرد الأوسع للتحول الرقمي، مما يمهّد الطريق لنظام أكثر كفاءة للتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية.

وفي مجتمع كانت التقاليد الثقافية تحدد فيه تفضيل المعاملات النقدية، تحتضن المملكة الآن الثورة الرقمية. ويتجلى هذا التحول في الطريقة التي يتكيف بها المستهلكون والتجار بسرعة مع الأنشطة المالية عبر الإنترنت. فقبل جائحة كورونا، كان الدفع عند التسليم الطريقة المفضلة لمعاملات التجارة الإلكترونية. أما اليوم، فقد تسارع اعتماد الدفع الرقمي بشكل كبير مع وجود عدد كبير من الشباب الذين يمتلكون مهارات رقمية كبيرة، بالإضافة إلى تأثير جائحة كورونا.

الدفع الرقمي

في عام 2020، على سبيل المثال، ارتفعت معاملات الدفع الرقمي في المملكة بنسبة 75 في المائة، فيما شهدت عمليات السحب النقدي من أجهزة الصراف الآلي انخفاضاً كبيراً. والواقع أن هذا التحول نحو المدفوعات الرقمية ليس مسألة راحة فقط أو استجابة للاتجاهات العالمية. إنها خطوة استراتيجية تتماشى مع «رؤية المملكة العربية السعودية 2030»، التي تهدف إلى تسريع الاقتصاد الرقمي وزيادة المعاملات غير النقدية. وقد أدّت المبادرات الحكومية، مثل إطلاق نظام سداد، والجهود التي يبذلها البنك المركزي السعودي (ساما) لتنظيم وتوحيد قطاع الدفع الرقمي، إلى تبسيط الدفع الإلكتروني وتعزيز الثقة بين المستخدمين. وكان لهذا الإطار التنظيمي دور حاسم في تشجيع اعتماد خدمات الدفع عبر الإنترنت، وجعل المعاملات الرقمية أكثر أماناً وموثوقية.

تطبيقات الدفع

يعتبر قطاع التجارة الإلكترونية في المملكة العربية السعودية، والمتوقع أن يتجاوز 13.2 مليار دولار أميركي بحلول عام 2025، مستفيداً مباشراً من هذا الاتجاه نحو الدفع الرقمي. ومع تزايد راحة المستهلكين في الدفع عبر الإنترنت، ارتفع الطلب على التجارة الإلكترونية، كما حدث خلال الفترة من 2019 إلى 2020 حيث شهد التسوق عبر الإنترنت زيادة بنسبة 60 في المائة.

وقد أدى ظهور تطبيقات الدفع المحمولة مثل Apple Pay وGoogle Pay والعديد من التطبيقات المحلية إلى تسهيل هذا التحول، مما جعل الدفع عبر الهواتف الذكية أكثر راحة من أي وقت مضى. هذه الراحة المتزايدة في المعاملات الرقمية لا تعزز فقط راحة المستهلك، وإنما تدفع إلى توسيع قطاع التجارة الإلكترونية، مما يستلزم اتباع نهج مبتكر في مجال الخدمات اللوجيستية لمواكبة هذا النمو.

كما أن التطور السريع في طرق الدفع داخل المملكة العربية السعودية ليس مجرد اتجاه رائج، بل هو تحول يعيد تشكيل التجارة الإلكترونية وقطاع الخدمات اللوجيستية، خاصة في مجال توصيل الطلبات. فتقليل التعامل النقدي يؤدي إلى تبسيط عملية التسليم، وتقليل الأخطاء وتعزيز الكفاءة، ويدعم في الوقت نفسه أهداف الاستدامة البيئية عن طريق تقليل استخدام الورق وتحسين مسارات التسليم، مما يؤدي إلى تقليل استهلاك الوقود والبصمة الكربونية.

من جهة أخرى، يؤدي النمو في المدفوعات الرقمية إلى زيادة الطلب على خدمات التوصيل، مما يجعل إدارة نقاط التسليم المتعددة وتحسين مسارات التوصيل مسألة بالغة الأهمية. ولعلّ أبرز التحديات التي واجهتها المملكة العربية السعودية تقليدياً في خدمات التوصيل كان غياب نظام واضح وموحد لعناوين التسليم. فغياب الرموز البريدية والعناوين الدقيقة يؤدي غالباً إلى الاعتماد على المكالمات الهاتفية والوصف التفصيلي من قبل العملاء، مما يزيد من التعقيد ويسبب تأخيراً محتملاً في عمليات التوصيل.

للتغلب على التحديات في توصيل الطلبات، تتجه شركات الخدمات اللوجيستية الرائدة في المملكة العربية السعودية بشكل متزايد إلى تبني التقنيات المبتكرة.

إنترنت الأشياء

بالفعل، يتم استخدام نظام تحديد المواقع العالمي وأنظمة إنترنت الأشياء، وأنظمة إدارة النقل المتقدم إلى تحقيق رؤية فورية وأذكى في توصيل الطلبات. ولا تعزز هذه التقنيات تخطيط الطريق وكفاءة التوصيل فحسب، وإنما تضمن أيضاً تلبية الطلب المتزايد على التجارة الإلكترونية باستخدام حلول لوجيستية متطورة بالقدر نفسه. ويعتبر دمج هذه التقنيات بمثابة شهادة على التزام الصناعة بالتغلب على التحديات الجوهرية في التوصيل، لا سيما في سياق المشهد الرقمي سريع التطور.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن الاستخدام المحتمل للطائرات من دون طيار والمركبات ذاتية القيادة هو أيضاً وسيلة رائعة لتعزيز خدمات التوصيل. يمكن لهذه الحلول المتطورة أن تُحدث ثورة في كفاءة وسرعة عمليات التوصيل، خاصة في المناطق التي يصعب الوصول إليها أو خلال أوقات الذروة.

في غضون ذلك، شرع البريد السعودي في تنفيذ برنامج طموح - نظام العنوان الوطني - لتوفير عنوان لكل مقرّ عمل أو إقامة. يحصل الأفراد أو الشركات الذين يسجلون عناوينهم على رمز قصير مكوّن من 8 خانات (4 أحرف و4 أرقام)، مما يوفر نظام عناوين موحداً وشاملاً لجميع المناطق والمدن والقرى في المملكة العربية السعودية، بدقة تصل إلى متر مربع واحد، مما يساعد على تجنب تأخر التوصيل. ويتمثل التحدي الآن في تشجيع تجار التجزئة الإلكترونية على تضمين «العنوان القصير» الجديد في طلبات عملائهم لاعتماد المسألة بشكل أسرع وأكثر توحيداً.

رغم التحديات، تقوم الشركات في المملكة العربية السعودية بتوسيع شبكاتها المحلية واستكشاف أدوات التوصيل حسب الطلب، مما يسمح للعملاء بتحديد أوقات التسليم ومواقعه. ومع ذلك، فإن الحفاظ على التوازن بين جودة الخدمة وإدارة التكاليف يظل تحدياً مستمراً وأساسياً في هذا القطاع.

حلول مبتكرة

نتوقع في المستقبل أن يصبح التآزر بين وسائل الدفع عبر الإنترنت والتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية أكثر تكاملاً وتطوراً. ومن المتوقع أن يؤدي انتشار وسائل الدفع الرقمية إلى زيادة أنشطة التجارة الإلكترونية، مما يستلزم حلولاً لوجيستية مبتكرة. ولا يقتصر هذا التطور على تعزيز الأنظمة الحالية فحسب؛ وإنما أيضاً خلق فرص وتحديات جديدة في المشهد اللوجيستي.

في الختام، يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية. وسوف نشهد في المستقبل تزايداً في المعاملات الرقمية السلسة والحلول اللوجيستية الفعالة، مما يعزز نمو قطاع التجارة الإلكترونية ويساهم في تحقيق الأهداف الاقتصادية الأوسع للمملكة. ومع استمرار المملكة العربية السعودية في تبني التحول الرقمي، فإن مستقبل التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية لا يبدو واعداً فحسب، بل هو أيضاً جزء أساسي من النمو الاقتصادي والتنويع في البلاد.


مقالات ذات صلة

شركات البتروكيميائيات السعودية تتحول للربحية وتنمو 200% في الربع الثالث

الاقتصاد موقع تصنيعي لـ«سابك» في الجبيل (الشركة)

شركات البتروكيميائيات السعودية تتحول للربحية وتنمو 200% في الربع الثالث

سجلت شركات البتروكيميائيات المدرجة في السوق المالية السعودية (تداول) تحولاً كبيراً نتائجها المالية خلال الربع الثالث من 2024.

محمد المطيري (الرياض)
الاقتصاد مشهد من العاصمة السعودية وتظهر فيه ناطحات السحاب في مركز الملك عبد الله المالي (كافد) (رويترز)

 «موديز» ترفع التصنيف الائتماني للسعودية بفضل جهود تنويع الاقتصاد

رفعت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني تصنيف السعودية إلى «إيه إيه 3» (Aa3) من «إيه 1»، مشيرة إلى جهودها لتنويع اقتصادها بعيداً عن النفط.

«الشرق الأوسط» (نيويورك) «الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد جانب من المؤتمر الدبلوماسي لمعاهدة قانون التصاميم في الرياض (الشرق الأوسط)

السعودية تسطر التاريخ باعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم

سطرت السعودية التاريخ بعد أن جمعت البلدان الأعضاء في المنظمة العالمية للملكية الفكرية المكونة من 193 دولة، للاتفاق على معاهدة الرياض لقانون التصاميم.

بندر مسلم (الرياض)
الاقتصاد العوهلي متحدثاً للحضور في منتدى المحتوى المحلي (الشرق الأوسط)

نسبة توطين الإنفاق العسكري بالسعودية تصل إلى 19.35 %

كشف محافظ الهيئة العامة للصناعات العسكرية المهندس أحمد العوهلي عن وصول نسبة توطين الإنفاق العسكري إلى 19.35 في المائة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد مركز الملك عبد الله المالي في الرياض (الشرق الأوسط)

التراخيص الاستثمارية في السعودية ترتفع 73.7%

حققت التراخيص الاستثمارية المصدرة في الربع الثالث من العام الحالي ارتفاعاً بنسبة 73.7 في المائة، لتصل إلى 3.810 تراخيص.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.