الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات
TT

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

مع مضينا باتجاه عالم يقوم على الاتصالات المترابطة والتنقُّل الذكي من المهم للجهات المعنية بمجال التنقُّل والمواصلات الدفع باتجاه توفير حلول مبتكَرة، تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية الهائلة التي تشهدها المدن. فالعدد المتكاثر من الناس يرتبط بالأعداد الكبيرة للمركبات الموجودة على الطرقات، التي تُقدَّر حالياً بنحو 1.2 مليار مركبة يومياً. وعند اقتران هذا مع البنية التحتية التقليدية للمواصَلات، تنتج عن ذلك بيئة مدنية مكتظّة جداً، الأمر الذي يُبرِز الحاجة لحلول نقل مستدامة وقابلة للتعديل وفق الطلب. وبينما تواجه هذا الشيء تحدّيات لوجستية، إلا أنه في الوقت ذاته يفتح المجال أيضاً أمام انبثاق فرص بارزة للأعمال.

منعطف بارز

ضمن هذا السياق، يستطيع الأفرقاء المعنيون بقطاع التنقُّل والمواصَلات الاستفادة من الحاجة الاقتصادية والتوجّهات السائدة في الأسواق للتركيز على مسارات استراتيجية باتجاه تحقيق مستقبل التنقُّل المنشود، وذلك كجزء من محافظهم المقبلة.

ومع اقترابنا من بداية عام 2024، فإننا نصل إلى منعطف بارز في الثورة بمجال المواصَلات، ويدفع بهذا الاتجاه التبنّي القوي للمركبات الكهربائية (EV) والمركبات ذاتية القيادة (AV) وتقنيات الاتصال المتطوّرة، التي ستستمر بصياغة التوجّهات في قطاع السيارات على مدى السنوات المقبلة. من جهة أخرى، يتوجّب على التقنيات الموجودة في المجموعة المقبلة من المركبات، التي نتوقّع رؤيتها على الطرقات، ألا تُعنى بمعالَجة مشكلة الازدحام المروري فقط، بل أيضاً تلبية المتطلّبات الملحّة فيما يتعلّق بإحداث أثر مناخي إيجابي واعتماد عمليات مستدامة فعلياً.

أنظمة أكثر ذكاء

ونشير إلى أن المستقبل القريب سيشهد تحوُّلاً إلى أنظمة أكثر ذكاءً وترابُطاً من ناحية الاتصالات، التي من شأنها أن تغيّر طريقة التنقُّل في المدن، وتفتح آفاقاً جديدة أمام الابتكار والاستثمار في الجيل المقبل من أساليب المواصَلات المتطوّرة.

أحد التوجُّهات البارزة ضمن هذا المجال يقوم على تعزيز سُبُل الاتصالات وتوسعة نطاق قدراتها عبر تقنية إنترنت الأشياء (IoT). وأمر مهم يجب تسليط الضوء عليه هو أن العملاء صاروا يتوقّعون التكامل السلس بين مختلف الخصائص والوظائف، أكانت تتعلّق بالترفيه أم الصيانة المنزلية أم التعليم، وغير هذا الكثير – ويُترجَم هذا عبر ما يتوقّعونه من المركبات التي يقودونها. وتناغماً مع هذا المشهد البارز بقطاع التنقُّل، تظهر الحاجة لمركبات حديثة تعمل وكأنها هواتف ذكية على عجلات. فالعميل في العصر الحالي لا يُقدِّر عنصر التكامل فقط، بل يسعى أيضاً لمزيد من التطوّرات في التقنيات، وهو ما يُرسي الأرضية الصلبة لمجموعة الخيارات المطروحة في مجال التنقُّل، التي تكون متميّزة بالاتصال من أساسها.

هذا الاتجاه مثبَت عبر تقارير بارزة من قطاعات الأعمال، مثل دراسات ماكينزي الأخيرة التي تشير إلى أن السيارات المتصِلة تشكّل عنصراً حيوياً ضمن مستقبل قطاع السيارات. فنحو 55 في المائة من المسؤولين بقطاع السيارات يعتبِرون أن السيارات المتصِلة – المركبات التي تستخدم الاتصالات والخصائص الرقمية لتوفير تجربة تنقُّل معزَّزة ومعرَّفة برمجياً – هي واحدة من توجّهين اثنين بارزين يصوغان مستقبل هذا القطاع، بحيث تأتي مباشرة بعد التحوُّل الكهربائي.

هذا التبدُّل لا يَعِدُ بتخفيض التكاليف فحسب، بل يُمكِنه أيضاً توليد مصادر إيرادات جديدة لصالح المنخرطين به وذلك ضمن نطاق واسع من النظام الإيكولوجي العام لقطاع التنقُّل. وتتميّز الاتصالات بكونها تترافق مع فرصة تخصيص تجربة القيادة لفئات مختلفة من العملاء، وتلبية متطلّباتهم المحدَّدة كما يظهر من خلال دراسة سابقة لدى ماكينزي، بالإضافة للتمكُّن من التعامل مع مجموعة تحدّيات فيما يتعلّق بالسلامة والاتصال والترفيه.

لكن لأجل تحقيق المنافع التي توفرها الاتصالات وجعلها واقعاً فعلياً، ينبغي تخطّي مختلف المعوّقات المحتمَلة، وهذا يشمل بشكل أساسي التأكُّد من اعتماد توجّه موحَّد مدعوم من مختلف الأفرقاء، بمن فيهم الجهات الناظمة والعملاء وموفرو خدمات الاتصال والمعنيون بقطاع التنقُّل وغيرهم من الجهات الأخرى. وتَكمُن النقطة الأساس في تسهيل سُبُل الاتصال والتأكّد من أن الخيارات المستقبلية المتلاحقة التي يتم توفيرها تتوافق مع الاحتياجات المحدَّدة للعملاء، وأن تتمحور حول ثلاثة أبعاد مختلفة هي: البُنية التحتية، إدارة المعرفة، والتعاوُن.

1. بناء بُنية تحتية متينة لاتصالات معزَّزة

ترتكز استراتيجية التنقُّل الملائمة للمستقبل على عنصر أساسي هو البُنية التحتية التي يتم التخطيط لها بعناية. فخارج نطاق المكوّنات الحسّية كمحطّات شحن المركبات الكهربائية على سبيل المثال لا الحصر، تتجه الحكومات والهيئات الناظمة للاستثمار في البُنية التحتية الرقمية المنيعة. بناءً عليه، تُعتبَر الرؤية الواضحة فيما يتعلّق بالتحوُّل الرقمي أمراً ضرورياً جداً لتمكين الاتصال السلس بين المركبة والبُنية التحتية، وكذلك بين المركبة والمركبة. ضمن هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن العديد من المدن قد استثمرت بشكل مزداد في العلاقة الرمزية بين قطاع التنقُّل والبنية التحتية للاتصالات، مما يساعد في جعل تجارب السائقين متناغمة أكثر مع المستقبل المقبل. وكنقطة إثبات لهذا الشيء، نتطلّع إلى ما يجري في دبي، التي تعمل باتجاه تحقيق الاستراتيجية الوطنية للتنقُّل الذكي لدولة الإمارات العربية المتحدة. وهذا الأمر سيستمر في السنوات المقبلة، وذلك لضمان تلبية الطلبات المتزايدة على أنظمة التنقُّل الذكية.

وبالنظر للمستقبل، فمن المرجَّح أن تأخذ مخطَّطات البنية التحتية بعين الاعتبار قابلية التعديل لجهة الحجم والتكيُّف، والقدرة على استيعاب التقنيات البارزة مثل تقنية اتصالات «5G» بهدف إرسال البيانات في الوقت الفعلي وضمان توافر بيئة آمنة للمركبات المتصِلة.

ارتفعت صادرات السيارات الصديقة للبيئة في كوريا الجنوبية خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2023 بنسبة 32.5 في المائة وذلك بفضل الطلب العالمي القوي على السيارات الكهربائية (رويترز)

ومع اعتماد البُنية التحتية العامّة على الابتكار، فإن المطلوب هو الالتزام والاستثمار من القطاع الخاص لتعزيز الفرص والإمكانات أكثر. وأحد الأمثلة على الابتكار بهذا المجال هو التزام شركة «جنرال موتورز» بتوفير سُبل اتصال متطوّرة جداً تترافق مع السلامة والحلول الترفيهية عبر تقنية «أونستار». وتتميّز «أونستار» بكونها تُرسي معايير جديدة، إذ إنها توفر خدمة الاتصال ضمن مركبات علامات «شيفروليه»، «جي إم سي» و«كاديلاك» التجارية، بالإضافة للارتقاء بخدمات السلامة والأمن الموجودة فيها. وفي ظل توافرها حالياً في كل من الإمارات العربية المتحدة والكويت والمملكة العربية السعودية - مع خطط لمزيد من التوسّع في المنطقة - فإنها تُحدِث بالفعل ثورة في تجربة القيادة عبر توفير مستويات عالية من الملاءمة وراحة البال والخصائص الذكية المتاحة عبر الاتصالات، التي تشهد دوماً ابتكارات مستمرّة نحو الأفضل.

2. المعايير ونقل المعرفة

إن المستقبل المتصِل يزدهر بالاعتماد على معايير تتميّز بكونها غير مقيَّدة ومقبولة دولياً، ليس فيما يتعلّق بالبرمجيات فقط، بل فيما يخصّ الأجهزة والمعدّات أيضاً. فالدور المحوري الذي تلعبه وظيفة نقل المعلومات في تعزيز الاتصالات خلال السنوات المقبلة لا يُمكِن أبداً التقليل من شأنه. ولقد رأينا حتى اليوم تطوّرات بارزة باتجاه تعزيز مفهوم التشغيل التبادلي، الأمر الذي يساهم بمنع ابتكار تقنيات تتصف بكونها محصورة وتعيق الابتكار الإضافي. وبالتالي، فإن إدارة المعرفة من هذه الناحية لا تشجّع فقط على تعزيز الكفاءة أكثر، بل تسرّع أيضاً عمليات التطوير عبر تفادي الازدواجية غير اللازمة ضمن الجهود المبذولة بواسطة مختلف الجهات المعنية بهذا المجال.

أما بالنسبة للعميل، فإن الاتصال المحسَّن يُترجَم إلى ميّزة مهمة تتمثّل بالإدارة الشاملة للمركبة – مع المنفعة الإضافية التي تقوم على تخصيص النتائج بحيث تتوافق مع السلوكيات الفريدة للسائق نفسه. وبحالة «أونستار» فإن هذا يظهر بشكل التنبيهات التشخيصية، التقارير الشهرية، إشعارات الصيانة وتحديثات البرمجيات عبر الأثير، وهو ما يُمكِّن المستخدمين أكثر عبر منحهم المزيد من السيطرة والفهم الإضافي لمركباتهم، مما يضمن التمتُّع بتجربة قيادة سلسة. ويجري تخصيص هذه التحديثات وفق الاستخدام المفرَد، بحيث يتم تسليط الضوء على مكامن التحسُّن لدى كل سائق على حِدَة، وهو ما يُمكِن الاستفادة منه والارتقاء به لإعداد عقليات قيادة تكون أكثر إدراكاً في المستقبل.

3. تعاوُن على نطاق شامل

من المُمكِن دفع عملية تطوّر قطاع التنقُّل المتصِل بشكل أفضل عبر تعزيز توافق متطلّبات الخدمات العامّة مع المعلومات والمعارف العميقة الذي يتمتّع بها القطاع الخاص. بالتالي، ومن خلال المناسَبات والفعاليات التجارية والمنصّات الحوارية التبادُلية، فإن الحكومات وهيئات التنظيم المدني وشركات التقنية ومصنِّعي السيارات وغيرهم من الأفرقاء المعنيين سيستمرّون بالتلاقي والتعاوُن مما يوجد بيئة تفضي إلى مزيد من الابتكار.

والتعاوُن لا ينحصر فقط بالحوار، بل بالشراكات الاستراتيجية أيضاً ووضع السياسات التنظيمية الجديدة التي من شأنها أن تحفّز على مزيد من التبنّي لهذا التوجّه بين أوساط كل الجهات المعنية. ومن المهم التأكيد على أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص تلعب دوراً محورياً في تطوير قطاع التنقُّل الذكي، وهي تُنشئ مسارات مخصَّصة تتيح التعامل الفعّال مع أي تحدّيات معيَّنة وفريدة من نوعها قد تواجهها المجتمَعات.

وفي ظل مضيّنا باتجاه عالم يقوم على الاتصالات المترابطة والتنقُّل الذكي، من المهم جداً للجهات المعنية بمجال التنقُّل والمواصلات أن تعي أهمية الجهود التعاونية المشترَكة في الدفع باتجاه توفير حلول مبتكَرة.

وعبر التبنّي العام للتوجُّهات السائدة في قطاع السيارات إضافة لخيارات العملاء المفضَّلة، فإننا نستطيع الدخول في عصر جديد يتميّز بكونه ذكياً ويستجيب بديناميكية للاحتياجات المتطوّرة لعالمنا الذي يتميّز بكونه أكثر اتصالاً من قبل.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف
خاص رئيس الاحتياطي الفدراسي في مؤتمر صحافي 13 ديسمبر (أ.ف.ب)

خاص 2024... سنة معقّدة ومحورية للاقتصاد العالمي

الانخفاضات المتوقعة في معدلات الفائدة من قبل المصارف المركزية الرئيسية في يونيو (حزيران) 2024 تأتي مصحوبة بجوانب من عدم اليقين.

سمير عساف

«سودان بديل» في مصر يمنح أبناءه ملاذاً آمناً... ويثير حساسيات

TT

«سودان بديل» في مصر يمنح أبناءه ملاذاً آمناً... ويثير حساسيات

حضور سوداني لافت في الشوارع والميادين (الشرق الأوسط)
حضور سوداني لافت في الشوارع والميادين (الشرق الأوسط)

حين كانت الشمس تهبط في الأفق لتأذن لليل بالقدوم، بعد نهار صيفي ملتهب أشار الشاب السوداني مصعب حمدان (33 عاماً) بيده إلى «ميكروباص» متوجه نحو نهاية شارع السودان النابض بالحياة والصخب بالجيزة، ليكتشف عقب صعوده أن السائق والركاب جميعهم من بني وطنه.

لم يُبد مصعب (عامل النظافة بإحدى الشركات الخاصة) بحي المهندسين، أي إيحاء بالتعجب جراء هذا الانتشار اللافت لـ«الجلباب والتوب» بالأحياء المصرية، التي تكرست ملاذاً لآلاف النازحين الفارين من الحرب.

مقهى شعبي بالجيزة يضم تجمعاً سودانياً (الشرق الأوسط)

بعدما أسدل الليل ستاره؛ وصل مصعب إلى شارع «الملكة» المكتظ بالوجوه السمراء، ليجد لافتات المتاجر المضيئة وقد أضيأت بعبارات مثل «سنتر أم درمان لأجود اللحوم السودانية»، ومقهى «ملتقى أحباب السودان»، ومخبز «باب جنقرين للخبز البلدي السوداني»، و«مطعم القراصة» و«سلطان الكيف» التي تقع جميعها في نطاق جغرافي ضيق.

«نحن نعيش في مجتمع سوداني متكامل بمصر، لا ينقصنا أي شيء سوى المساحات الفسيحة وظلال الأشجار الوارفة»، وفق ما يقول مصعب لـ«الشرق الأوسط».

متجر لبيع الملابس السودانية (الشرق الأوسط)

الحضور السوداني الكثيف في أحياء مصرية، عكسته أرقام رسمية أشارت إلى وصول أكثر من نصف مليون نازح سوداني إلى الأراضي المصرية منذ اندلاع الحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع» العام الماضي، بينما أكد سوادنيون تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» أن «الأعداد الحقيقية تفوق هذا الرقم بكثير، لا سيما بعد عبور أعداد كبيرة منهم بشكل غير نظامي عبر الصحراء على مدار الأشهر الماضية».

وتشكل الجالية السودانية في مصر من المقيمين والنازحين الجدد أكثر من نصف عدد المهاجرين بها، والذين يصفهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأنهم «ضيوف مصر»، وتقدر حكومته عددهم بنحو 9 ملايين شخص بينهم أكثر من 5 ملايين سوداني.

انتشار لافت للمحال السودانية بمحافظة الجيزة المصرية (الشرق الأوسط)

وتسبب التدفق الكبير في عدد السودانيين منذ اندلاع الحرب الأخيرة في بلادهم، في الضغط على مكاتب المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين، في القاهرة والإسكندرية، حيث يتم استقبال نحو 3 آلاف طلب لجوء يومي، مما رفع عدد السودانيين المسجلين لدى المفوضية 5 أضعاف عمّا كان عليه سابقاً، ليبلغ اليوم 300 ألف. ويمثل هذا الرقم 52 في المائة من مجمل عدد اللاجئين المسجلين في مصر لدى المفوضية في أبريل (نيسان) الماضي.

تجمُّع سوداني على أحد المقاهي (الشرق الأوسط)

ولهذا السبب فإن المفوضية تتوقع «ازدياد الطلب على التسجيل بشكل مستمر في الأشهر المقبلة بسبب الوضع المضطرب في السودان، مع عدم وجود آفاق فورية لسلام مستدام في الأفق»، مقدرةً عدد السودانيين الذي ينتظرون التسجيل بنحو ربع مليون شخص.

تكتلات

شوارع العاصمة المصرية التي يبدو عليها الهدوء نهاراً، بفعل الحر القائظ، يملأها الصخب كلما اقترب قرص الشمس الذهبي من المغيب، حيث يجري تلطيفها بالمياه قبل أن تتمدد إليها كراسي المقاهي، التي يفضلها سودانيون للقاء بعضهم في ملاذهم الجديد المكتظ بأحياء مثل: «الملك فيصل»، وأرض اللواء، وإمبابة بالجيزة، وحدائق المعادي بالقاهرة، والعاشر من رمضان بالشرقية، وبعض مناطق الإسكندرية، وأسوان، حيث فرضت المتاجر والمطاعم والمخابز وصالونات الحلاقة ومحال بيع الملابس والعطارة واللحوم السودانية نفسها بشكل متزايد، وهو ما وُصف في وسائل الإعلام المصرية بـ«التكتلات السودانية».

لا تخطئ العين الوجود السوداني اللافت في الشوارع (الشرق الأوسط)

لا تخطئ العين الملامح السودانية والثوب التقليدي في الشوارع الرئيسية والفرعية بالقاهرة والجيزة، حيث يوجد الباعة السودانيون ومواطنوهم ممن اقتحموا مجالات عمل كانت مقتصرة على مصريين لعقود، من بينها قيادة سيارات الأجرة والميكروباص داخل الأحياء الشعبية؛ وهو ما عدّه مصعب «أمراً معبِّراً عن سرعة اندماج الوافدين الجدد في تفاصيل الحياة في مصر».

ومن فرط حضور «الزول»، (كلمة معناها الرجل في اللهجة السودانية)، أصبح معتاداً استخدام المفردات السودانية في المتاجر والشوارع والحارات ووسائل المواصلات، لكنَّ محمد عبد المجيد سائق إحدى سيارات الأجرة، التي تعمل في شارع السودان بالجيزة يتقن اللهجة العامية المصرية، ولذلك يجد بعض المصريين صعوبة في معرفة كونه سودانياً.

جانب من إقبال سودانيين على مفوضية اللاجئين بالقاهرة (مفوضية اللاجئين)

لقد تكيف عبد المجيد صاحب الوجه الدائري الباسم مع تفاصيل القيادة في الشوارع القاهرية، فبات يحفظ أسماء ومواقع المحطات عن ظهر قلب، مؤكداً أنه في أوقات متكررة تكون معظم حمولة سيارته من الركاب السودانيين الذين يندمج معهم بتشغيل أغانيهم الفلكلورية: «تشعر كأنك في فرح وليس في مواصلات عامة».

عبد المجيد ليس السائق السوداني الوحيد على خط «شارع السودان» بالجيزة، لكنه واحد من بين 30 سائقاً يحترفون السير في الزحام ويهربون منه إلى شوارع ضيقة بديلة.

السائق السوداني محمد عبد المجيد (الشرق الأوسط)

في أحد أروقة حي فيصل الشهير بالجيزة، كان صاحب متجر العطارة السوداني الستيني عادل محمد، الذي عكست عيناه طمأنينة ترسخت على مدى السنوات الخمس التي قضاها في مصر، ينتظر زبائنه المعتادين في المساء.

محل جزارة «أم درمان» لبيع اللحوم (الشرق الأوسط)

«رغم أن معظم زبائني من السودانيين المقيمين هنا فإن جيراني من المصريين يشترون منّي بهارات الطعام والزيت والسمن والسكر»، وفق قوله لـ«الشرق الأوسط». موضحاً أن «سبب اكتظاظ المنطقة بالسودانيين يعود إلى تفضيل كثير منهم الإقامة بجوار أقاربهم وعائلاتهم لتقليل الشعور بالغربة، وهو ما خلق مجتمعاً سودانياً متكاملاً هنا». مؤكداً أن «السودانيين يتمركزون في الجيزة، بدايةً من أول محيط شارع فيصل الشهير حتى نهايته لمسافة تقترب من 10 كيلومترات».

ملاذ بديل

لم تكن مواقع «التواصل الاجتماعي» بعيدة عن رصد هذا الوجود السوداني الكثيف في مصر، حيث كرست بعض مقاطع الفيديو فكرة وجود «سودان بديل في البلاد، ومن بينها تعليق مؤثّر سوداني تندَّر على الوجود المكثف لأبناء وطنه بحي فيصل بالجيزة قائلاً: «إذا كنت سودانياً تعيش في الخارج وترغب في رؤية أهلك وبلدك ما عليك سوى الذهاب إلى الجيزة المصرية».

وهو ما يؤكده مصعب، معتبراً أن «مراكز التعليم والمتاجر والمطاعم والمقاهي السودانية على اختلاف أشكالها وأنوعها؛ قد فرضت وجودها على الشارع المصري، حتى بات الخبز السوداني الأبيض ملمحاً مهماً في متاجر مصرية عديدة».

مَخبز سوداني (الشرق الأوسط)

وتشعر زينب مصطفى، وهي سيدة خمسينية قَدِمت إلى مصر من الولاية الشمالية بالسودان، بـ«الأمان» وهي تجلس داخل شقة فسيحة بمنطقة «اللبيني» بحي الهرم (غرب القاهرة) رفقة أبنائها وأختها وبناتها.

مكثت زينب فترة طويلة في مصر من دون زوجها الستيني الذي «لحق بها أخيراً بعد تمكنه من دخول مصر بشكل غير نظامي عبر الصحراء، وهو يبحث راهناً توفيق أوضاعه ليتمكن من العمل في أي وظيفة».

ويعد عشرات آلاف السودانيين الفارين من نار الحرب في السودان، مصر «الملاذ الأفضل» راهناً، لامتلاكها مقومات الحياة والبنية التحتية، ومن بينهم فاطمة حسن التي تمكنت من دخول مصر عبر مسارات التهريب الوعرة أخيراً.

سودانيات في محطة مترو «السودان» بالقاهرة (الشرق الأوسط)

خشيت فاطمة على بناتها من «الاغتصاب على يد الميليشيات المسلحة بالسودان»، وقررت دخول مصر بشكل غير نظامي، وفق ما قالته لـ«الشرق الأوسط».

الحر الشديد والعطش أنهكا فاطمة وبناتها الثلاث على مدار ساعات طويلة لم يذقن فيها طعم الراحة أو النوم، قبل أن تنجح في الوصول إلى الجيزة لتنضم إلى شقيقتها التي سبقتها إلى هناك منذ عدة أشهر، حسب قولها.

ورغم الإعلان عن توقيف حافلات لنازحين سودانيين دخلوا البلاد بطريقة غير نظامية في شهر يونيو (حزيران) الماضي، فإن عبد الله قوني المقيم في حي المعادي بالقاهرة منذ 15 عاماً ويقصده الكثير من النازحين السودانيين الجدد للمساعدة في توفير مسكن أو فرصة عمل، يؤكد «وصول نحو 11 حافلة من أسوان تقل سودانيين يومياً كلهم من المهاجرين غير النظاميين الذين يدفع الواحد منهم نحو 500 دولار أميركي للمهربين نظير نقله إلى مصر»، وهو ما تؤكده فاطمة كذلك.

تعليم

ومن بين أهم ملامح «السودان البديل» رؤية التلاميذ من أصحاب البشرة السمراء وهم في طريقهم من وإلى المدارس السودانية التي زاد عددها بشكل مطّرد خلال الأشهر الأخيرة، مما دعا السلطات المصرية إلى إغلاق بعضها من أجل «تقنين الأوضاع».

ويقدِّر سامي الباقر، المتحدث باسم نقابة المعلمين السودانية، عدد المدارس السودانية في مصر بنحو 300 مدرسة للتعليم الأساسي والمتوسط.

متجر في منطقة فيصل التي تشهد تكتلاً كبيراً للجالية السودانية (الشرق الأوسط)

ووجهت السفارة السودانية في القاهرة التي نقلت مقرها قبل سنوات من جاردن سيتي إلى حي الدقي، الشكر إلى الحكومة المصرية على تعاونها في إنجاح امتحانات الشهادة الابتدائية السودانية في شهر يونيو (حزيران) الماضي، عبر 6 مراكز تعليمية تابعة للسفارة، مشيرةً في بيان لها إلى «مشاركة 7 آلاف طالب إلى جانب أكثر من 400 مراقب من المعلمين».

وجامعياً قدّر أيمن عاشور، وزير التعليم العالي المصري، عدد الطلاب السودانيين الذين التحقوا العام الماضي بالجامعات المصرية بأكثر من 10 آلاف طالب.

وكان من بين النازحين السودانيين عدد كبير من الفنانين الذين استقروا في القاهرة على غرار الممثلة إيمان يوسف، والمخرج أمجد أبو العلا والمخرج محمد الطريفي والممثل نزار جمعة، الذين يرتحلون إلى الخارج لحضور فعاليات فنية ثم يعودون من جديد إلى مصر.

وبينما يلجأ السودانيون الذين دخلوا البلاد بشكل نظامي إلى توثيق عقود إيجار شققهم السكنية بمكاتب الشهر العقاري إلى جانب تسجيل أبنائهم في المدارس للحصول على إقامات قانونية في مصر، فإنه لا يوجد أمام النازحين غير النظاميين سوى «التصالح مع وزارة الداخلية المصرية» عبر إنجاز استمارة «تقنين وضع» ودفع رسوم تبلغ ألف دولار، أو التقدم إلى مفوضية اللاجئين والحصول على بطاقة «طالب لجوء».

حساسيات مصرية

مع هيمنة «الجلباب» و«التوب» السودانيين على شوارع وحارات مصرية، وتداول مقاطع لتجمعات سودانية كبيرة في القاهرة عبر «السوشيال ميديا»، والقلق من أخبار طرد مستأجرين مصريين لتسكين سودانيين بدلاً منهم؛ ظهرت بوادر «الحساسية» من «التكتلات السودانية» في مصر.

كما أثارت خرائط رفعها سودانيون لبلادهم تضم مثلث «حلايب وشلاتين»، (أقصى جنوب مصر مع الحدود السودانية)، جدلاً واسعاً، مما دفع السلطات المصرية أخيراً إلى اتخاذ إجراءات ضد هؤلاء النازحين وصلت إلى ترحيل بعضهم إلى بلادهم، وفق مصادر مصرية.

وزاد من وتيرة التحفظات، الإبلاغ عن إجراء أسر سودانية عمليات ختان لبناتهم في مصر، وهو ما واجهه مسؤولون مصريون بالتشديد على ضرورة تفعيل القانون المصري الذي يُجرِّم ختان الإناث.

ودخل إعلاميون مصريون على خط انتقادات «التكتلات السودانية»؛ وكان أبرزهم قصواء الخلالي، التي أعربت عن «قلقها» إزاء وجود تكتلات للاجئين في مناطق شعبية، معتبرةً هذا الأمر «خطيراً للغاية». فيما حذرت الإعلامية عزة مصطفى من «سيطرة بعض اللاجئين على مناطق كاملة من القاهرة، بعد مغادرة مصريين لها عقب رفع إيجارات الشقق». مشيرةً إلى «تداعيات تحمل مصر فاتورة ضخمة جراء استضافة اللاجئين على أراضيها».

وكغيره من عشرات المصريين الذين يعدّون أنفسهم «متضررين من الوجود السوداني المكثف»، لم يُخفِ السباك الستيني عيد محمود، صاحب الجسد النحيل تذمره من «هيمنة النازحين على المربع السكني الذي كان يقيم فيه بالقرب من جامعة القاهرة».

يقول عيد بنبرة يملأها الاستياء: «أجبرتني مالكة الشقة على إخلائها لتسكين أسرة سودانية بدلاً مني».

وبعدما كان عيد الذي يعول 3 فتيات يدفع 1600 جنيه مصري (الدولار الأميركي يساوي نحو 48 جنيهاً) بدل إيجار شهري خلال السنوات الماضية فإن مالكة العقار تحصل راهناً على 6 آلاف جنيه من المستأجرين السودانيين الجدد. وهو ما دفع مصريين إلى «دعوة الحكومة إلى التدخل حفاظاً على السِّلْم المجتمعي».

واضطر عيد إلى البحث عن شقة أخرى في منطقة توصف بأنها «متواضعة»، بـ3 آلاف جنيه.

وتفاعل برلمانيون مصريون مع دعوات تقنين أوضاع اللاجئين، من بينهم سهام مصطفى عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، التي شددت في تصريحات تلفزيونية على أن «كل دول العالم ترفض دخول أي لاجئ أو مهاجر دون أوراق إثبات إقامته بهدف حصر أعداد الأجانب حفاظاً على الأمن القومي».

جانب من إقبال سودانيين على مفوضية اللاجئين بالقاهرة (مفوضية اللاجئين)

مضيفةً: «إن مصر تستضيف ملايين الأجانب وتوفر لهم الخدمات بنفس الأسعار المقدمة للمواطنين دون زيادة، رغم الأزمة الاقتصادية الحالية».

وأغلقت السلطات المصرية أخيراً عدداً من المدارس السودانية بداعي عدم استيفاء الشروط. وطالبت سفارة السودان بالقاهرة، أصحاب المدارس، بـ«التزام ثمانية شروط، وضعتها مصر لتقنين أوضاع المدارس المغلقة»، وقالت إنها «تُجري اتصالات مستمرة لحل الأزمة».

ويرى عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير صلاح حليمة، أن «الإجراءات المصرية الأخيرة التي هدفت إلى تقنين أوضاع السودانيين في البلاد «طبيعية جداً في ظل ازدياد أعدادهم بالبلاد»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «تنظيم اللجوء والإقامة مع طلب زيادة المساعدات من المنظمات الدولية والإقليمية يعدان الخيار الأفضل راهناً للقاهرة».

فيما يؤكد محمد جبارة، أمين «العلاقات الخارجية» بجمعية الصداقة السودانية - المصرية، والمستشار الإعلامي السابق بسفارة الخرطوم في القاهرة، أن «التجمعات السودانية الكبيرة في الشوارع والميادين تثير حساسيات مجتمعية وأمنية بمصر». متهماً بعض أصحاب المدارس السودانية بالتسبب في إغلاقها، لا سيما بعد منح السلطات المصرية أكثر من مهلة لمطابقة المواصفات المحلية وتقنين الأوضاع.

إقبال لافت على مكتب مفوضية اللاجئين بالقاهرة (مفوضية اللاجئين)

وكشف عن «نية سفارة بلاده تنظيم مهرجان كبير بعنوان (شكراً مصر) كنوع من (رد الجميل) لاستضافتها جالية كبيرة من أبناء الوطن».

تخفيف الأعباء

بسبب الأزمة الاقتصادية، طالبت مصر المجتمع الدولي بدعمها في «تحمل أعباء اللاجئين». ورأى وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري، عقب لقائه مدير عام المنظمة الدولية للهجرة إيمي بوب، أن الدعم الذي تتلقاه مصر من المجتمع الدولي «لا يتناسب مع ما تتحمله من أعباء، في ظل ما يعانيه الاقتصاد المصري من تبعات الأزمات العالمية.

وأطلقت الحكومة المصرية أخيراً عملية لحصر أعداد اللاجئين المقيمين على أراضيها، بهدف احتساب تكلفة استضافتهم، والوقوف على الأعباء المالية، في ظل أزمة اقتصادية تعانيها البلاد.

وطالبت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بمصر، في بيان في شهر أبريل الماضي، بالحصول على 175.1 مليون دولار لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً للاجئين السودانيين الذين فروا إلى مصر منذ منتصف أبريل 2023.

سودانيون بالقرب من شارع السودان الشهير بالجيزة (الشرق الأوسط)

وبينما يؤكد الخبير الاقتصادي المصري الدكتور مدحت نافع، تكبد مصر أعباء اقتصادية جراء استضافة هذا العدد الكبير، فإنه في الوقت نفسه يرى أنه «يمكن الاستفادة منهم، إذا قُننت أوضاعهم المادية وطرق عملهم واستثمار بعضهم في مصر».

ويقترح نافع في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» تحصيل أي رسوم تخص الوافدين بمصر بالدولار، ويرى أنه يوجد من بين المقيمين في مصر مستثمرون يقدمون فرصة لتعزيز وجود رؤوس الأموال وحركة الاقتصاد.

ويراهن مصعب في النهاية على تفهم كثير من المصريين للأوضاع الخطرة في السودان، وعلى الروابط المشتركة بين الشعبين، لاستيعاب «الضيوف الجدد»، مؤكداً أن الحساسيات التي تنشأ بين «أبناء وادي النيل» ليست سوى «سحابة صيف عابرة» ستزول بمجرد انتهاء الحرب وتحسن الأوضاع في بلاده.