مصريون وسوريون يتذكرون معركتهم بفخر رغم «التشويش»

ميراث تحفظه حكايات المعاصرين وتوثّقه صور المقاتلين

TT

مصريون وسوريون يتذكرون معركتهم بفخر رغم «التشويش»

أطفال يلعبون فوق دبابة قتال إسرائيلية أميركية الصنع في متحف مصري مخصّص لذكرى حرب أكتوبر (أ.ف.ب)
أطفال يلعبون فوق دبابة قتال إسرائيلية أميركية الصنع في متحف مصري مخصّص لذكرى حرب أكتوبر (أ.ف.ب)

عند كل ذكرى لحرب أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973، موعد لا يخطئه المصريون مع جدل متجدد حول «آخر الحروب» الكبرى التي خاضها الجيش المصري. ورغم مضي خمسة عقود على الحرب، فإن أحاديث «الفخر» لا تزال ميراثاً متداولاً من جيل إلى جيل، تحفظه حكايات الجدات، وترسم معالمه ملامح الآباء الذين قضوا في الحرب، أو بعدها، تاركين خلفهم صورة في زي عسكري، تُزيّن جدران البيوت.

ويعزو مؤرخون ومواطنون ارتباط المصريين بالحرب إلى «وشائج ذات أبعاد عدة، تختلط فيها وقائع القتال، بتفاعلات اجتماعية، وقومية، وذاكرة جمعية تتفق على أهمية ذلك الفصل من التاريخ الوطني»، بحسب الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان.

يقول الدسوقي، لـ«الشرق الأوسط»: إن الجيل الشاب من المصريين يتفاعل مع ذكرى حرب أكتوبر من خلال ما يتم نشره من أحاديث مع رجالات الجيش في الحرب، والمذكرات واليوميات التي سبق نشرها، ويعاد طباعتها. وأشار المؤرخ المصري إلى أن الوسائط التكنولوجية الحديثة «ساعدت على زيادة التفاعل، من خلال سرعة تداول الإفادات، والسير البطولية، فضلاً عن توفير الكتب الرقمية».

وبينما يقرّ بتراجع الاهتمام أحياناً، يقول: إن ذلك «لم يؤثر على نظرة المصريين الشباب للصراع مع إسرائيل، وخاصة في ظل واقع القضية الفلسطينية».

أطفال مصريون يلتقطون صوراً لمشاهد تجسّد «حرب أكتوبر» في متحف خاص بالمعركة في القاهرة (أ.ف.ب)

وعبر موقع «فيسبوك»، نشرت صفحة باسم «اكتشف معنا السويس»، صورة لمنزل قديم، في سبتمبر (أيلول)، قبل أيام من حلول ذكرى الحرب، تقول: «عند دخولك لهذه المدينة ستجد لافتة كُتب عليها: ارفع رأسك عالياً، أنت في مدينة الأبطال. بيوت السويس القديمة، وما زالت آثار طلقات النار على جدرانها موجودة حتى الآن».

ويحتفظ مواطنو مدن إقليم قناة السويس في مصر (الإسماعيلية والسويس وبورسعيد)، بمشاعر فخر إزاء الحرب، تغذيها أغنيات شعبية عن الصمود، عُرفت بها خلال سنوات الصراع في مطلع سبعينات القرن الماضي.

ويرى الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، أن هناك «معركة تديرها إسرائيل في الإعلام لإثبات أنها انتصرت في حرب 1973»، ويقول لــ«الشرق الأوسط»: «أجد شباباً مثقفين يعرفون حقيقة ما جرى، يردّون على الذين يشوّهون تاريخ حرب أكتوبر ويُفحمونهم بقراءاته. وهذا النوع من الشباب هو الذي نريده ليحافظ على وعيه التاريخي وهويته».

وخلال الأعوام القليلة الماضية، دأب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على الترويج عبر المنصات الاجتماعية، مع حلول ذكرى الحرب، لإفادة تقول: إن هذه المواجهة «التي بدأت بمفاجأة كبيرة، انتهت بنصر عسكري إسرائيلي وفتحت أبواب السلام مع أعظم دولة عربية»، وهو ما قوبل بتعليقات مضادة من المصريين الذين دافعوا عن «السردية المصرية لمجريات الحرب ومآلاتها».

وهنا، يقول الأكاديمي المصري جمال شقرة: إن على المؤرخين والمؤسسات المعنية بالتنشئة الاجتماعية «مواجهة الأكاذيب والشائعات عبر العمل على تنمية الوعي التاريخي، وضخ مادة علمية موثّقة حول حرب أكتوبر في الفضاء الافتراضي، بأشكال مختلفة».

في عام 2019، حقق فيلم «الممر»، وهو إنتاج مصري عن كتيبة مصرية في فترة «حرب الاستنزاف» التي مهّدت لحرب أكتوبر، إيرادات عدّها نقاد قياسية، بلغت 73 مليوناً، و616 ألف جنيه (الدولار يساوي 30.9 جنيه) بعد عشرة أسابيع في دور العرض، وفق تقارير صحافية مصرية.

أسرة مصرية تحضر عرضاً في متحف «بانوراما حرب السادس من أكتوبر» بالقاهرة مطلع الشهر الحالي (أ.ف.ب)

ويقول المصري حسام الجارحي (45 عاماً): إن حرب السادس من أكتوبر «عصيّة على النسيان أو التزييف مهما تباعدت السنون». ويوضح الشاب الذي يعمل مديراً بأحد مصانع مدينة السادات (أنشئت بقرار جمهوري في عام 1978)، أن تفاعل الشباب الآن «يمكن رصده من خلال المشاركة الواسعة عبر المنصات الاجتماعية عندما تحل ذكرى الحرب».

ويضيف، في نبرة حماسية لـ«الشرق الأوسط»: «أولادي لم يشهدوا الحرب، ومع ذلك يفاخرون بحكايات الأجداد والأقارب الذين قضوا سنوات طويلة في ثياب الجندية المصرية. كفاح المصريين في السادس من أكتوبر لم يكن مرتبطاً فقط بالجهد العسكري؛ فقد كانت الأمهات في البيوت، والآباء في الحقول، يوصون أبناءهم بالثأر العسكري من هزيمة 1967 القاسية».

ويشير الجارحي إلى أغنية ألّفها شاعر العامية المصري الراحل، أحمد فؤاد نجم، عقب نكسة 1967، عن قصة لمجند مصري يدعى عبد الودود يتلقى رسالة من أسرته عندما كان مرابضاً على الجبهة ومما جاء فيها: «واه يا عبد الودود... يا رابض عالحدود... ومحافظ عالنظام... كيفك يا واد صحيح... عسى الله تكون مليح... وراقب للأمام... عقولَّك وانت خابر... كل القضية عاد... حِسّك عينك تزحزح... يدّك عن الزناد... خليك يا عبدو راصد... لساعة الحساب... آن الأوان يا ولدي... ما عاد إلا المعاد».

ويضيف الجارحي: «هذه الأغنية عبّرت منذ كتابتها وتداولها، وحتى اليوم، عن الموقف الشعبي المصري في الحرب». ويبدي اعتقاده أن مصادر الشبان المصريين عن الحرب أكثر من أن تُحصى، وخاصة مذكرات الذين شاركوا في الحرب، وفي مقدمتهم الفريق سعد الشاذلي، (رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية بين 1971 وحتى أواخر 1973)، وصاحب أشهر مذكرات عسكرية عن الحرب، والمعنونة: «حرب أكتوبر... مذكرات الشاذلي».

ماذا عن سوريا؟

خمسون عاماً مرّت لم تخفف من وهج الرواية الرسمية السورية بشأن بطولات «أسطورية» لوقائع «حرب أكتوبر (تشرين الأول) التحريرية 1973» بل تزداد عاماً بعد آخر، إلى حد أن اعتبار «معركة تشرين (أكتوبر)» لا تزال متواصلة حتى اليوم، وفق ما تذهب تقارير وكالة الأنباء الرسيمة في المناسبة؛ إذ تفيد بأن «التشابه في العدوان وأدواته وأهدافه يجعل ذكرى حرب تشرين (أكتوبر) التحريرية أكثر من مجرد حدث يُحتفل به كل عام، فقد تحولت إلى واقع معيش في ميادين التصدي للإرهاب في سوريا، وغيرها من دول المنطقة».

وبمزجٍ بين الماضي والحاضر، تطرقت أسرة المهندس السوري الشاب عامر (28 عاماً) إلى ذكرى «حرب تشرين (أكتوبر)»، غير أن الابن عامر أجاب عن سؤالنا: «ماذا تبقَّى في ذاكرة السوريين من حرب تشرين (أكتوبر)؟»... أجاب بسؤال آخر: «بل يجب أن نسأل: ماذا بقي من سوريا والسوريين؟».

عامر الذي طلب ذكر اسمه الأول فقط، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرواية الرسمية بشأن الانتصار في الحرب أفضت إلى تبريد جبهة الجولان بموجب اتفاقية دولية وبالتالي السقوط بالتقادم». وربما يمكن تفسير تشاؤم عامر، عند وضعه في مواجهة الحنين المتدفق من حديث والده (70 عاماً) عن «ذكريات حرب تشرين (أكتوبر)، والزخم والحماس الذي خيَّم على السوريين عموماً حينذاك، خصوصاً في الأيام الأولى التي شهدت تسطير أروع البطولات».

جنود سوريون يهاجمون موقعاً إسرائيلياً على جبل الشيخ في سوريا يوم 29 أكتوبر 1973 (غيتي)

يتحدث الأب عمّا رآه عندما «كان الناس في دمشق والمناطق القريبة من الجبهة يصعدون إلى الأسطح لمشاهدة إسقاط الطائرات الإسرائيلية». مستطرداً: «لقد انتظر السوريون والعرب تلك الحرب لرد الاعتبار للكرامة العربية التي أهدرتها هزيمة يونيو (حزيران) المشينة، وتداعي العرب من (المغرب والعراق والأردن والسعودية والكويت) للوقوف في خندق واحد مع السوريين والمصرين ضد إسرائيل... لقد خضنا الحرب وكلنا ثقة بأننا سنحرِّر القدس»!

ويضيف الأب السوري أن «ساحة السبع بحرات وسط دمشق التي أُعيد تأهيلها مؤخراً سُميت ساحة (التجريدة المغربية) تكريماً للفرقة المغربية التي شاركت في حرب تشرين (أكتوبر) بسبب قتالهم ببسالة على جبهة الجولان واستشهاد العشرات منهم ودفنهم في سوريا».

برهان وطنية

و«التجريدة المغربية» فرقة مشاة عسكرية مغربية أرسلها المغرب إلى سوريا في يونيو 1973 للمشاركة في حرب تشرين (أكتوبر)، وشاركت بشكل أساسي في معارك الجولان خلال الأيام الأولى، وقادها الجنرال عبد السلام الصفريوي، وتم تكليف الكولونيل عبد القادر علام بتسليمها للقيادة السورية، وكان في مقدمة الشهداء المغاربة في حرب تشرين (أكتوبر).

وبالعودة إلى الابن عامر الذي أكلت الحرب الدائرة في سوريا 13 عاماً من عمره، يقول الشاب: إن «أقصى طموحه الآن هو الهجرة».

ومع ذلك فإن السوريين في محافظة السويداء التي تشهد احتجاجات مناهضة للحكومة منذ أكثر من شهر، لم يجدوا سوى ذكرى حرب تشرين (أكتوبر) عند إثارة الجدل حول ولاء ضابط متقاعد من أبناء المحافظة، وكان من براهين وطنيته مشاركته في رفع العَلم السوري على مرصد جبل الشيخ الذي تم تحريره في حرب تشرين (أكتوبر).

«حرب تشرين (أكتوبر) ورغم اقتصار تذكرها سنوياً على الإعلام الرسمي، فإنها لا تزال تمثل نقطة مضيئة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، لدى معاصريها، وذلك رغم عدم تحقيق أهدافها بمحو آثار هزيمة يونيو 1967»، حسب تقييم صحافي سوري بارز تحدث إلى «الشرق الأوسط» شريطة عدم ذكر اسمه لعمله بالإعلام الرسمي.

ويقول الصحافي السوري: «اعتدنا خلال عملنا على مدى عقود الاحتفال سنوياً بهذه الذكرى، ومع تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة بدأت المساحات الكبيرة التي كان يخصصها الإعلام الرسمي للاحتفال بالمناسبة وتمجيد قائدها الرئيس الراحل حافظ الأسد تتقلص، وتنحدر نحو (التكرار)».

السردية الرسمية

أما على المستوى الرسمي، فإن الرواية بشأن حرب تشرين (أكتوبر)، «تفيد بتوغل الجيش السوري في الأيام الأولى من الحرب إلى عمق هضبة الجولان المحتل، إلا أن ما قلب موازين المعركة هو تدخُّل الولايات المتحدة الأميركية في اليوم السادس إلى جانب إسرائيل، التي بدورها شنَّت هجوماً معاكساً تصدى له الجيش السوري بمساندة عربية باستبسال عزّ نظيره، إلا أنه أجبر على التراجع، أمام تقدم إسرائيل لتصل إلى بُعد 40 كم من العاصمة».

طلبة سوريون يزورون متحفاً خاصاً بـ«حرب تشرين» ضمن رحلة مدرسية (فيسبوك)

ومع قبول سوريا في 24 أكتوبر قرار وقف إطلاق النار، بدأ ما سُميت «حرب استنزاف» التي استمرت حتى 31 مايو (أيار) عام 1974، وبعدها تم توقيع اتفاقية فك اشتباك أفضت إلى إعادة مدينة القنيطرة المدمرة إلى سوريا، مقابل إبعاد الجيش السوري عن خط الهدنة، وإحلال قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تنفيذ الاتفاقية، ولتبقى هضبة الجولان محتلة.

ورغم ذلك تَعد وزارة الدفاع السورية حرب تشرين (أكتوبر)، «محطة مفصلية في مسار الصراع العربي - الإسرائيلي»، وتقول إن من أهم نتائج حرب تشرين (أكتوبر) أنها انتزعت زمام المبادرة بالحرب من إسرائيل. مقللةً من أهمية الخسائر الجغرافية قياساً إلى النتائج العامة للحرب وتقول في عرضها لتلك النتائج عبر موقعها الرسمي على الإنترنت: «قد نكون خسرنا أرضاً هنا، وربحنا أرضاً هناك، إنما، مهما تكن حصيلة هذه الحرب العربية - الإسرائيلية من حيث الربح والخسارة الجغرافيتين، فالقضية ليست كما تريد إسرائيل تصويرها للناس، في محاولة يائسة منها لطمس آثار حرب تشرين (أكتوبر) التحريرية ونتائجها الإيجابية بالنسبة إلى الأمة العربية».


مقالات ذات صلة

تفاعل مصري مع بكاء السيسي خلال لقائه قادة القوات المسلحة

شمال افريقيا السيسي أكد أن المنطقة تمر بظروف صعبة ومصر تعد عامل استقرار مهماً في ظل الأحداث الراهنة (الرئاسة المصرية)

تفاعل مصري مع بكاء السيسي خلال لقائه قادة القوات المسلحة

تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع لحظات بكاء وتأثر للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقائه، الخميس، مع قادة القوات المسلحة المصرية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
شمال افريقيا تسعى الحكومة لتوفير بيئة عمل مناسبة للأطباء (وزارة الصحة المصرية)

مصر للحد من «فوضى» الاعتداء على الطواقم الطبية

تسعى الحكومة المصرية للحد من «فوضى» الاعتداءات على الطواقم الطبية بالمستشفيات، عبر إقرار قانون «تنظيم المسؤولية الطبية وحماية المريض».

أحمد عدلي (القاهرة )
شمال افريقيا مشاركون في ندوة جامعة أسيوط عن «الهجرة غير المشروعة» تحدثوا عن «البدائل الآمنة» (المحافظة)

مصر لمكافحة «الهجرة غير المشروعة» عبر جولات في المحافظات

تشير الحكومة المصرية بشكل متكرر إلى «استمرار جهود مواجهة الهجرة غير المشروعة، وذلك بهدف توفير حياة آمنة للمواطنين».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
خاص عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

خاص كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

تسبب الوجود السوري المتنامي بمصر في إطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد مشروعاتهم الاستثمارية.

فتحية الدخاخني (القاهرة )

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».