حروب إسرائيل بعد 1973... كيف بدأت وإلى أين انتهت؟

حصار بيروت يصدم... و«صبرا وشاتيلا» تُروع... واستهداف غزة متواصل

TT

حروب إسرائيل بعد 1973... كيف بدأت وإلى أين انتهت؟

دخان يتصاعد بعد غارات جوية إسرائيلية على مبنى في غزة عام 2021 (أ.ب)
دخان يتصاعد بعد غارات جوية إسرائيلية على مبنى في غزة عام 2021 (أ.ب)

استفاق اللبنانيون في 6 يونيو (حزيران) 1982 على عملية عسكرية إسرائيلية واسعة، وصلت إلى بيروت وأثارت صدمة داخل وخارج البلد الذي تحولت نصف مساحته تقريباً ساحةً مشتعلة، احتل خلالها الإسرائيليون، الجنوب وبيروت وأجزاء من جبل لبنان والبقاع.

والغزو الذي سمّته إسرائيل «عملية سلام الجليل»، كان أوسع عملية عسكرية تخوضها تل أبيب بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، ذلك أن «عملية الليطاني» التي أطلقتها في 14 مارس (آذار) 1978، كانت محدودة في جنوب ضفة «نهر الليطاني» جنوب البلاد.

ويُعتقد أن حجم العملية كان الأكبر بالنسبة لإسرائيل؛ إذ زجت بآلاف الجنود بقيادة آرييل شارون الذي كان وزيراً للدفاع آنذاك، وأدى الاجتياح إلى إنهاك المؤسسات الحكومية اللبنانية المضطربة أصلاً جراء الحرب الأهلية (1975: 1990)، وحوّل لبنان ساحة حرب ما بين الإسرائيليين، والقوات الفلسطينية، والأحزاب اللبنانية، والجيش السوري.

كانت ذريعة الإسرائيليين أن عمليتهم رداً على محاولة اغتيال سفير تل أبيب في لندن شلومو أرجوف، في 3 يونيو 1982، والتي نفذتها جماعة «فتح - المجلس الثوري» (المنشقة عن «منظمة التحرير الفلسطينية») بقيادة أبو نضال.

وتمثلت أهداف تل أبيت في: إجلاء كل القوات العربية عن لبنان ومن ضمنها الجيش السوري، وتدمير «منظمة التحرير الفلسطينية» بقيادة ياسر عرفات، وتوقيع اتفاقية سلام مع الحكومة اللبنانية، وضمان أمن المستوطنات الإسرائيلية الشمالية.

الدبابات الإسرائيلية تحاصر بيروت في 21 يوليو 1982 (أ.ف.ب)

استمرت الحرب الإسرائيلية على لبنان حتى عام 1985 وأسفرت عن سقوط نحو 17 ألف قتيل وإصابة أكثر من 30 ألف شخص من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، وانسحبت بعدها القوات الإسرائيلية إلى خلف الشريط الشائك في جنوب لبنان.

وصحيح أن الحرب بشكلها المعروف انتهت عام 1985، إلا أن آثارها لم تنتهِ حتى 25 مايو (أيار) من عام 2000 عندما انسحب الجيش الإسرائيلي وأعوانه فعلياً من جنوب لبنان.

صبرا وشاتيلا

مثّلت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا التي بدأت في 16 سبتمبر (أيلول) 1982 واستمرت ليومين، وراح ضحيتها أكثر من 800 قتيل، غالبيتهم من النساء والأطفال الفلسطينيين والبنانيين، الصورة الأكثر مأساوية لهذه الحرب.

ولا تزال مشاهد تلك المجزرة عالقة في ذاكرة المواطن اللبناني حسن حرب، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «قوات الاحتلال الإسرائيلي وبعض الميليشيات اللبنانية التي كانت تساندها، ارتكبت أبشع مجزرة بتاريخ البشرية، بعد خروج المقاتلين من بيروت (الغربية) نتيجة اتفاقية وقف إطلاق النار».

ويروي حرب الذي كان منضوياً في تنظيم «المرابطون»، أن «آرييل شارون (رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل) تعهّد وقف الأعمال العسكرية فور خروج مقاتلي (فتح) و(المرابطون) وتحالف أحزاب القوى الوطنية والإسلامية، لكن وما إن تأكد من خلو بيروت من المسلحين، أشرف شخصياً (شارون) على تنفيذ المجزرة بدمٍ بارد».

ورغم ذكراها المؤلمة التي عايشها بعد تسليم سلاحه، يقول حرب: إن «الإسرائيليين افتتحوا المجزرة بقتل رجل مسّن يبلغ من العمر 83 عاماً أمام محله الذي كان يبيع من خلاله الكعك عند مدخل صبرا». ويضيف: «الجرائم بحق الأبرياء ارتُكبت بالرصاص، والسكاكين والفؤوس وفسخ الشخص إلى نصفين».

شاهد آخر على مجزرة «صبرا وشاتيلا» هو المسعف عبد القادر الترك، والذي كان يعمل حينها في فرق انتشال جثث القتلى من صبرا وشاتيلا، يشير إلى أن «أغلب المقاتلين الذين سلّموا أسلحتهم اقتادهم الإسرائيليون إلى داخل المدنية الرياضية في بيروت وأعدموهم ميدانياً».

وأوضح الترك لـ«الشرق الأوسط»، أن «قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت بصدد استكمال مجازرها، إلّا أن انبعاث الروائح الكريهة لجثث القتلى بالشوارع وارتفاع درجات الحرارة جعلها تتوقف وتنكفئ».

وقال: «لقد اضطر الإسرائيليون وشركاؤهم اللبنانيون، إلى طمر عشرات القتلى بالردم والأتربة لتخفيف الروائح»، لافتاً إلى أن «قسماً كبيراً من الجثث جرى تلغيمها وكانت تنفجر برجال الإسعاف وتقتل بعضهم».

معادلة جديدة

وتختلف تقديرات الخبراء بشأن ما حققته إسرائيل من تلك الحرب، ويلفت مدير «مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري» الدكتور رياض قهوجي، إلى أن «حرب اجتياح لبنان كان هدفها إخراج (منظمة التحرير) من لبنان، وفرض معادلة تؤدي إلى سلام مع بيروت، وبشكل عام نجحت إسرائيل في هدفها الأول، بينما كان هناك ثمة توجه لإبرام اتفاق سلام كان شبه مُنجز (اتفاق 17 أيار)، لكن الأمور ساءت بفعل التطورات الداخلية في لبنان، وبالتالي فإنها بالمعايير العسكرية والاستراتيجية كانت ناجحة بالنسبة لإسرائيل».

وداع ياسر عرفات قبل مغادرته بيروت عام 1982 (غيتي)

لكن، وعلى الجانب الآخر، يعتقد عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين، هيثم زعيتر، أن «إسرائيل ورغم الدمار والمجازر التي ارتكبتها خلال اجتياح لبنان، لم تحقق غايتها بالقضاء على منظمة التحرير واغتيال ياسر عرفات وطمس القضية الفلسطينية، بل إنه بخروج (فتح) وأبو عمار من لبنان إلى تونس، جرى إعادة تقييم سياسي وعسكري لما حصل، وعادت الحركة وقائدها إلى داخل فلسطين أقوى من ذي قبل».

«عناقيد الغضب»

بعد نحو 14 سنة من اجتياح 1982، أعادت إسرائيل الكرّة في عملية عسكرية واسعة نفذتها في جنوب لبنان في 11 أبريل (نيسان) 1996 أسمتها «عناقيد الغضب» واستمرت 16 يوماً، وذلك رداً على إطلاق «حزب الله» ثلاث دفعات من الصواريخ على مستوطنتي «نهاريا» و«كريات شمونة» شمال فلسطين؛ ما أسفر عن إصابة 37 مستوطناً.

وخلال القصف الإسرائيلي الذي استهدف مناطق واسعة في الجنوب، ووصل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، ارتكبت إسرائيل مجزرتين، الأولى وقعت في بلدة «المنصوري» في 13 أبريل قرب حاجز لقوات الطوارئ الدولية، أسفرت عن مقتل 9 مدنيين غالبيتهم أطفال، أما المجزرة الأخرى فوقعت في 18 أبريل في بلدة «قانا»، حيث قصفت الطائرات الحربية مقراً تابعاً لقوات حفظ السلام الدولية، لجأ إليه المدنيون وقضى فيها 102 من النساء والأطفال.

منقذ من الصليب الأحمر اللبناني يركض بعد إصابة سيارة بصاروخ مروحية إسرائيلية عام 1996 (غيتي)

وهذه المرة يعتقد الدكتور قهوجي أن «(عناقيد الغضب) فشلت بكل المقاييس وانتهت لصالح لبنان»، مستشهداً بأن رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري «استغلّ علاقاته الدولية لتحسين مركز لبنان عالمياً، ونجح بإنهاء تلك الحرب التي كانت فاشلة سياسياً بالنسبة لإسرائيل، وأضرّت مجازرها بصورة تل أبيب عالمياً».

يوليو 2006

على أثر انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في شهر مايو 2000، تراجعت العمليات العسكرية لـ«حزب الله» كثيراً، لكن تنفيذه عملية خطف جنديين إسرائيليين عند الخطّ الأزرق، تسبب في حرب جديدة عُرفت بـ«حرب يوليو (تموز)» في عام 2006، وخلّفت أكثر من 1300 قتيل لبناني، ودماراً هائلاً بالبنية التحتية.

كان هدف «حزب الله» اختطاف جنود إسرائيليين للضغط على حكومتهم ومبادلتهم بأسرى لبنانيين في سجون إسرائيل، لكن الجيش الإسرائيلي شنّ هجوماً جوياً على جنوب لبنان، مستهدفاً محطات الكهرباء ومطار بيروت وشبكة من الجسور والطرق؛ مما أدى إلى مقتل العشرات.

وانضمت قوات بحرية إسرائيلية للهجوم، واستدعى الجيش الإسرائيلي فرقة احتياط مؤلّفة من ستة آلاف جندي لنشرها سريعاً شمال إسرائيل، ودخلت قوات بريّة إسرائيلية إلى جنوب لبنان وخاضت معارك طاحنة مع مقاتلي «حزب الله».

دامت الحرب 33 يوماً وانتهت بالقرار 1701 الذي أوقف العمليات العسكرية، بعد مقتل أكثر من 1300 لبناني، غالبيتهم من المدنيين وجرح الآلاف، بينما اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل 120 عسكرياً من جنوده وجرح 314، إضافة إلى مقتل 45 مدنياً إسرائيلياً. ويرى قهوجي أن «حزب تموز كانت فاشلة بالمعايير الإسرائيلية؛ إذ أعقبتها محاكمة لرئيس الوزراء إيهود أولمرت وقيادات عسكرية». ويخلص إلى أنه «باستثناء اجتياح عام 1982، فإن كل حروب إسرائيل بعد أكتوبر 1973 كانت فاشلة بمعايير أهدافها السياسية».

أما الخبير العسكري والاستراتيجي العميد الركن خالد حمادة، فيذهب إلى أن إسرائيل «حققت في حرب عام 2006 مكسباً سياسياً مُهماً تمثّل بالقرار 1701، حيث أدخلت 12 ألف جندي أجنبي إلى الحدود مع لبنان، ومنذ ذلك الوقت لم ينفذ (حزب الله) أي عملية عابرة للحدود باتجاه إسرائيل».

وقال حمادة لـ«الشرق الأوسط»: إن «أهم ما ترتب لبنانياً على حرب 2006، هو وقف أنشطة (حزب الله) العسكرية في الجنوب، ليصبح الأخير متفرغاً للداخل اللبناني للعب أدوار سياسية وأمنية وعسكرية، كما بات منصرفاً للحروب التي تخوضها إيران في الدول العربية من سوريا إلى العراق واليمن».

حروب ضد غزّة

وقائع المواجهة الإسرائيلية في لبنان، قد تكون مشابهة لحروبها داخل الأراضي الفلسطينية، خصوصاً مع قطاع غزّة الذي صنّفته تل أبيب «كياناً معادياً لها» بعد سيطرة حركة «حماس» عليه، وشنّت عملية واسعة ضده مطلع شهر يونيو 2006، عنوانها تحرير الجندي جلعاد شاليط الذي أسرته حركة «حماس» وفرضت حصاراً شاملاً على القطاع.

في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، بدأت إسرائيل حرباً على قطاع غزة استمرّت 23 يوماً، أطلقت عليها اسم «عملية الرصاص المصبوب»، وردت عليها الفصائل الفلسطينية بعملية أسمتها «معركة الفرقان»، كان هدف قيادة إسرائيل «إنهاء حكم حركة (حماس) في القطاع»، والقضاء على المقاومة الفلسطينية وإنهاء قصف المستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ، وأسفرت هذه الحرب عن أكثر من 1430 قتيلاً فلسطينياً، وتدمير نحو 10 آلاف منزل دماراً كاملاً أو جزئياً، في حين اعترفت إسرائيل بمقتل 13 إسرائيلياً بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين.

ثم، وفي 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، شنّت إسرائيل حرباً على غزّة استمرت ثمانية أيام، هدفها «تدمير المواقع التي تخزن فيها الصواريخ، وهي انطلقت على أثر اغتيال إسرائيل قائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة «حماس» أحمد الجغبري، وأدت الحرب إلى مقتل 180 فلسطينياً و20 إسرائيلياً.

توالت العمليات الإسرائيلية الموسعة ضد قطاع غزة، وفي السابع من يوليو 2014 أطلقت الدولة العبرية عملية «الجرف الصامد» التي استمرت 51 يوماً، نفذ خلالها الجيش الإسرائيلي أكثر من 60 ألف غارة على القطاع، أسفرت عن مقتل أكثر من 2300 فلسطيني ونحو 11 ألف جريح، في حين قُتل 68 جندياً إسرائيلياً و4 مدنيين.

دخان يتصاعد بعد غارات جوية إسرائيلية على مبنى في غزة عام 2021 (أ.ب)

وفي الخامس من أغسطس (آب) 2022 اغتالت إسرائيل قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لـ«حركة الجهاد الإسلامي»)، استتبعتها بعملية أسمتها «الفجر الصادق»، وعلّلت اختيار تلك التسمية بأنها «لتأكيد تركيزها على (حركة الجهاد) التي تتخذ اللون الأسود شعاراً»، وردت «الجهاد الإسلامي» بعملية أسمتها «وحدة الساحات»، وأطلقت خلالها مئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وطالت الصواريخ مطار بن غوريون.

ورغم استمرار معاناة الفلسطينيين منذ النكبة، يرى عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين هيثم زعيتر، أن إسرائيل «ورغم قوتها العسكرية الهائلة لم تحقق غايتها من الحروب داخل فلسطين». ويشير في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزّة، والمجازر التي ترتكبها أسبوعياً لم يوفر السلام لمواطنيها». ويتحدث عن عامل مهمّ للغاية يتمثل بـ«انتقال عمليات المقاومة إلى أراضي 1948، والمواجهة الشرسة مع القوات الإسرائيلية خلال تدنيس المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتجريف الأراضي والمنازل والتصدي الدائم للتوسع الاستيطاني».


مقالات ذات صلة

ملك الأردن يدعو إلى وقف عنف المستوطنين المتطرفين بحق الفلسطينيين فوراً

العالم العربي العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني (أ.ب)

ملك الأردن يدعو إلى وقف عنف المستوطنين المتطرفين بحق الفلسطينيين فوراً

دعا العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني اليوم الأربعاء إلى وقف «عنف المستوطنين المتطرفين» بحق الفلسطينيين ووضع حد للانتهاكات بحق المقدسات في القدس فوراً.

«الشرق الأوسط» (عمان)
العالم تعرّضت عشرات الآلاف من المباني للتدمير الجزئي أو الكلي في لبنان (رويترز)

الأمم المتحدة: وقف إطلاق النار في لبنان فرصة ضرورية للتهدئة لكنه لا يزال «هشاً»

قال عمران ريزا، نائب المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان ومنسق الشؤون الإنسانية، إن وقف إطلاق النار فرصة ضرورية للتهدئة في لبنان إلا أنه لا يزال هشاً.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
العالم العربي مقتل العشرات في أنحاء متفرقة من قطاع غزة (أ.ف.ب)

مقتل العشرات في أنحاء متفرقة من قطاع غزة... والدبابات تتوغل في خان يونس

توغلت دبابات إسرائيلية في الأحياء الشمالية في خان يونس بجنوب قطاع غزة اليوم، وقال مسعفون فلسطينيون إن ضربات جوية إسرائيلية قتلت 47 شخصاً على الأقل في القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (د. ب. أ)

نتنياهو يعلن استعادة جثة رهينة إسرائيلي من قطاع غزة

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اليوم (الأربعاء)، أن إسرائيل استعادت خلال عملية خاصة جثة رهينة إسرائيلي خطف في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

«الشرق الأوسط» (القدس)
شؤون إقليمية الجيش الإسرائيلي يقول إنه استعاد جثث 6 رهائن إسرائيليين من غزة (رويترز) play-circle 00:23

مقتل 6 رهائن في غزة ربما يكون مرتبطاً بضربة إسرائيلية

قال الجيش الإسرائيلي اليوم الأربعاء إنه استعاد جثث 6 رهائن إسرائيليين من غزة في أغسطس (آب) ربما ارتبط مقتلهم بضربة جوية إسرائيلية بالقرب من موقع احتجازهم.

«الشرق الأوسط» (القدس)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.