«أوسلو المتبخر»... يتبرأ منه الجميع ويتنفسون من رئته

30 عاماً من الاتفاقات الفلسطينية ــ الإسرائيلية المُعلقة

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)
المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)
TT

«أوسلو المتبخر»... يتبرأ منه الجميع ويتنفسون من رئته

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)
المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

مشهدان لا ينساهما الفلسطينيون بشكل خاص؛ نزول الرئيس المصري أنور السادات من طائرته في مطار بن غوريون الإسرائيلي يوم الـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1977، بعد سنوات من حرب أكتوبر، والمصافحة التاريخية بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض الأميركي في 13 سبتمبر 1993، بالنظر إلى أن الرجلين حاربا إسرائيل طويلاً في معارك كبيرة وصغيرة، ومثّلا، كلٌّ في مرحلة ما من تاريخ بلاده، رمزاً لنصر نهائي محتمل كان يداعب عقول الفلسطينيين والعرب. متفقان أحياناً كثيرة، ومختلفان أكثر حول مفاهيم متعلقة بالحرب والسلام، قبل أن يلتحق عرفات بالسادات ويقبل ببدء طريق كان عرضه عليه قبل سنوات طويلة.

بالنسبة لعرفات والفلسطينيين، كان اتفاق «أوسلو» الذي أنجز بعد «معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية» بـ14 عاماً، تحولاً كاملاً ومربكاً إلى حد كبير.

يروي الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في مذكّراته حول المصافحة التاريخية بين عرفات ورابين كيف أنهما تصافحا بعد لحظات من التردد، وتمارين كان أجراها سابقاً (كلينتون) مع معاونيه لكي يتأكد من تفادي أي معانقة، وذلك عبر وضع يده اليسرى على الذراع اليمنى لعرفات.

كانت المصافحة التاريخية إعلاناً صريحاً للعالم بولادة «اتفاق أوسلو» الذي لم يحقق للطرفين ما أرادا منه؛ فمن جهة لم يجلب الأمن للإسرائيليين، وعلى الجانب الآخر لم يحقق الدولة للفلسطينيين.

كان يفترض أن يكون «اتفاق أوسلو» مؤقتاً ينتهي بإقامة دولة فلسطينية بعد 5 سنوات من توقيعه، أي في عام 1998. لكن الاتفاق تحول من مؤقت إلى دائم ظل حياً، لكنه في وضع موت سريري.

حصار للجميع

«اتفاق أوسلو» إنه «اتفاق إعلان المبادئ - حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية»، وتم توقيعه في 1993/9/13. ونصّ الاتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلية على مراحل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنشاء «سلطة حكم ذاتي فلسطينية مؤقتة» لمرحلة انتقالية تستغرق خمس سنوات، على أن تُتوج بتسوية دائمة بناء على القرار رقم 242، والقرار رقم 338. كذلك تحدث الاتفاق عن وضع «حد لعقود من المواجهة والنزاع»، وعن اعتراف كل جانب «بالحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة» للجانب الآخر.

وتعامل الاتفاق مع الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم، بوضوح تام آنذاك، وتضمن أن:

أ - تبدأ فترة السنوات الخمس الانتقالية عند الانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا.

ب -تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة إسرائيل وممثلي الشعب الفلسطيني في أقرب وقت ممكن، ولكن بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.

ت - من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، واللاجئون، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية، والحدود، والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك.

وتمخض الاتفاق، كذلك، عن تشكيل لجنة الارتباط المشتركة الإسرائيلية - الفلسطينية من أجل معالجة القضايا التي تتطلب التنسيق وقضايا أخرى ذات اهتمام مشترك، والمُنازعات.

المصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحاق رابين أمام الرئيس بيل كلينتون في البيت الأبيض يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

ويتضح من النص أنه كان اتفاقاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وينظم العلاقة بين الطرفين... ولكن ما الذي طُبّق منه على الأرض؟

بعد سنوات قليلة فقط، توقفت إسرائيل عن استكمال عملية انسحاب قواتها المقررة من المناطق، وبدلاً من ذلك زادت من نشاطاتها الاستيطانية في كل مكان، بل استباحت المناطق المصنفة «أ»، وهي الأراضي الواقعة تحت الولاية الأمنية الفلسطينية الكاملة.

وخلال السنوات اللاحقة، رفضت إسرائيل مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية التي تتحكّم بقدرة الاقتصاد الفلسطيني على التطوّر والاستقلال، واتخذت إسرائيل إجراءات أدّت إلى تعطيل المرحلة الانتقالية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال.

لكن مسألة واحدة لم تخلّ بها إسرائيل أبداً، وهي المسألة الأمنية؛ إذ استمرت في احترام التنسيق الأمني مع السلطة.

وخلال 30 عاماً كاملة، على اتفاق «أوسلو» يمكن القول إن السلطة الفلسطينية جاهدت من أجل إبقائه حياً، رغم إعلانها مراراً أنه منتهٍ، فيما أرادته إسرائيل في غرفة العناية المركزية، لا حياً ولا ميتاً، بينما عملت مجموعات مثل «حماس» على إسقاطه بالقوة، رغم أنها شاركت في السلطة التي نشأت بموجبه.

لم يستطع الفلسطينيون التخلص منه؛ لأنهم ببساطة لا يمكن أن يحتفظوا بالسلطة من دون «أوسلو»، أما الإسرائيليون فإن إعلانهم أنهم في حِلّ منه، يعني حَلّ السلطة الفلسطينية وعودتهم إلى احتلال الضفة الغربية، وهو آخر ما يريدون أن يصلوا إليه. باختصار يكرهه الجميع لكنهم يتنفّسون من رئته، حتى إنه ظل يحاصرهم ويفرّخ اتفاقات أخرى.

تفاهمات بلا تطبيق

وجدت السلطة نفسها معلقة بـ«أوسلو»، وفي محاولة إبقائه على قيد الحياة عقد الفلسطينيون اتفاقات أخرى مع إسرائيل يمكن وصفها بملاحق «أوسلو» أو «أولاد وبنات الاتفاق الأم»، مثل اتفاق «غزة - أريحا» (1994)، واتفاق «باريس الاقتصادي» (يوليو «تموز»، 1994) واتفاقية «طابا أو أوسلو الثانية» (1995)، واتفاق «واي ريفر الأول» (1998)، و«واي ريفر الثاني» (1999)، ثم «خريطة الطريق» ثم اتفاق «أنابوليس» (2007).

بعد ذلك، عقد الطرفان سلسلة من الاجتماعات ودفعوا إلى الأمام تفاهمات، من بينها مفاوضات أطلقها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في 2013، واجتماعات خماسية أمنية في العقبة في المملكة الأردنية، وشرم الشيخ في مصر هذا العام، لكنها جميعها لم تنجح.

بلا التزام

لم يلتزم الإسرائيليون بأي اتفاق عقدوه مع الفلسطينيين، بل أوصلوا السلطة راهناً إلى مرحلة ضعف غير مسبوقة، بعدما غيروا إلى حد كبير وظيفتها، وبدأت تعيش واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق، تقلّصت فيها المساحات التي تسيطر عليها من دون أفق سياسي واقتصادي، مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ويكفي ما أشارت له منظمة «السلام الآن» اليسارية الإسرائيلية حول أن اتفاقية «أوسلو» قبل 30 عاماً، ساهمت بشكل كبير في زيادة عدد المستوطنات والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة من 110 آلاف مستوطن في الضفة الغربية، ونحو 140 ألف مستوطن في شرق القدس آنذاك إلى 465 ألف مستوطن في الضفة الغربية، اليوم يقيمون في نحو 300 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وما يقارب 230 ألف مستوطن في شرقي القدس، وهو وضع فرض على الطاولة سؤالاً معقداً حول ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستحل نفسها أو تنهار.

الأكيد أنها لا تخطط لذلك، لكن أمين سر اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير» حسين الشيخ، أقر بأن السلطة غير قادرة، قائلاً لمجلة «فورين بوليسي» إن «السلطة غير قادرة على تقديم أفق سياسي للشعب. وإنها غير قادرة على حل مشاكل الشعب المالية والاقتصادية الناتجة عن الاحتلال، ولكن ما البديل للسلطة الفلسطينية؟... الفوضى والعنف».

خيارات جديدة

يمكن فهم التوجه العام في رام الله من خلال تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، في كلمة له خلال اجتماع المانحين AHLC في مقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، قال فيها إن «اتفاق (أوسلو) للسلام تبخر في كل الجوانب؛ الأمنية والسياسية والقانونية والمالية»، متهماً الحكومة الإسرائيلية بالعمل بشكل منهجي على تقويض قيام الدولة الفلسطينية، ودفع السلطة الوطنية إلى حافة الانهيار.

لكن إذا كانت السلطة تعد «أوسلو» قد تبخر، فما هو بديله؟

محمود عباس في نيويورك الشهر الماضي أمام «الجمعية العامة للأمم المتحدة» (أ.ف.ب)

يطالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أمام الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، «تجسيد استقلال دولة فلسطين كاملة السيادة بعاصمتها القدس الشرقية، على حدود عام 1967، وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، وخاصة القرار 194، وتطبيق قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، التي تؤكد عدم شرعية الاحتلال والاستيطان، خاصة القرار 2334، وكذلك مبادرة السلام العربية».

تصريحات عباس هذه أعادت «مبادرة السلام العربية» إلى الواجهة، بعدما حاولت إسرائيل إبقاءها طي النسيان.

المبادرة العربية

و«مبادرة السلام العربية»، هي مبادرة أطلقها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، في «قمة بيروت» عام 2002، عندما كان ولياً للعهد، وتهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية، وعودة اللاجئين، والانسحاب من هضبة الجولان، مقابل السلام مع إسرائيل.

وطالبت المبادرة إسرائيل بـ«الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو (حزيران) 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان». ودَعت كذلك لقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية. وتتضمن المبادرة أنه إذا استجابت إسرائيل لتلك المطالب فعندئذ تَعدّ الدول العربية النزاع العربي - الإسرائيلي منتهياً، وتدخل في «اتفاقية سلام» بينها وبين إسرائيل، مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.

رفض الإسرائيليون الاقتراح مراراً وتكراراً، وبعدما ظنوا أنه أصبح طي النسيان، وبثوا عبر وسائل إعلامهم أن محادثات اتفاق سلام محتمل مع السعودية تتجاهل المبادرة، قال سفير المملكة العربية السعودية لدى فلسطين، قنصلها العام في القدس، نايف بن بندر السديري من رام الله، مرتين على الأقل، إن «مبادرة السلام العربية نقطة الارتكاز لأي عملية سلام مستقبلية»، و«النقطة الأساسية في أي اتفاق قادم».

تصريحات السديري التي لم تعجب إسرائيل كان متفقاً عليها مع الفلسطينيين.

وقال اشتية نفسه في أثناء لقائه السديري لاحقاً إن هناك توافقاً فلسطينياً - سعودياً على أن مبادرة السلام العربية هي الأساس المقبول لكل الأطراف.

وقال مسؤول فلسطيني لم تكشف هويته لوسائل إعلام إسرائيلية: «لقد أوضح لنا السعوديون أنهم لن يتخلوا عن القضية الفلسطينية، صحيح أن ما يتم مناقشته الآن أقل من الدولة. لكن نحن نتحدث عن طريق للوصول إلى هناك».


مقالات ذات صلة

غوتيريش: يجب أن تصمت البنادق خلال أولمبياد باريس

رياضة عالمية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال لقائه بتوماس باخ رئيس الأولمبية الدولية (رويترز)

غوتيريش: يجب أن تصمت البنادق خلال أولمبياد باريس

حثّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش دول العالم على وقف الصراعات المسلحة بوصفه جزءاً من الهدنة الأولمبية، مع افتتاح أولمبياد باريس 2024.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شمال افريقيا مخيم للسودانيين النازحين داخلياً من ولاية سنار في منطقة الهوري بمدينة القضارف شرق السودان في 14 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

تنديد أممي بـ«أنماط مقلقة» من الانتهاكات الجسيمة في السودان

قال محقّقون من الأمم المتحدة، الثلاثاء، إن أشخاصاً وقعوا ضحايا عنف الحرب الأهلية في السودان التقوهم في تشاد، وثّقوا «أنماطاً مقلقة» من الانتهاكات الجسيمة.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شؤون إقليمية صواريخ إسرائيلية تحاول اعتراض مقذوفات أطلقها «حزب الله» (إ.ب.أ)

بهدوء وسرية وتحت الأرض... استعدادات إسرائيلية لمواجهة «حزب الله»

يستعد المستشفى الرائد في شمال إسرائيل لصراع شامل مع «حزب الله» المتوقع أن يكون أكثر تدميراً من المواجهات السابقة.

«الشرق الأوسط» (حيفا)
شؤون إقليمية صورة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزعها مكتبه لزيارته الأخيرة للمقر العملياتي لسلاح الجو في تل أبيب

نتنياهو يوجه قيادات الجيش بوقف تسجيل النقاشات العسكرية في أيام الحرب الأولى

أمر بنيامين نتنياهو الجيش بالتوقف عن تسجيل الاستشارات الأمنية والنقاشات الوزارية التي جرت في مركز العمليات تحت الأرض في مقر القيادة العسكرية خلال الأيام الأولى.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب )
تحليل إخباري جنود إسرائيليون خلال عمليات في قطاع غزة (الجيش الإسرائيلي- أ.ف.ب)

تحليل إخباري معارك غزة... هل تطول وتصير حرب استنزاف؟

حتى الآن، لم ترتقِ الحرب على غزة من المستوى التكتيكي إلى الاستراتيجي. ينطبق هذا على التنظيمات الفلسطينيّة، كما على الجيش الإسرائيلي.

المحلل العسكري

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

TT

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)
عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)

في الثالث عشر من يوليو (تموز) الحالي، وفي تمام الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت واشنطن، تردد طنين الأخبار العاجلة في كل أرجاء البلاد، والعالم: الرئيس السابق دونالد ترمب أُصيب بإطلاق نار في حدث انتخابي في بنسلفانيا.

ترمب المدمَّى الوجه، وقف مُحكماً قبضته أمام الكاميرات، ومشى بثبات برفقة أعضاء الخدمة السرية المسؤولين عن حمايته، فاستقلَّ سيارته متوجهاً إلى مستشفى محلي لتلقي العلاج.

لحظات صدمت الشارعين الأميركي والدولي. فمحاولة اغتيال رئيس أميركي سابق هي لحظة مخيفة، وتاريخية في الولايات المتحدة، تعيد إلى الأذهان مشاهد اغتيال رؤساء سابقين كجون كينيدي وأبراهام لينكولن، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان، الرئيس الجمهوري السابق، وتعد تكراراً لسوابق خطيرة من الإخفاقات الأمنية لعناصر الخدمة السرية كادت تودي في هذه الحالة بحياة رئيس سابق ومرشح رئاسي.

فشل أمني «ذريع»

بمجرد اتضاح الصورة بعد مغادرة ترمب ساحة الجريمة، صُعق الجميع لدى رؤية ما جرى: منفّذ الاعتداء، الأميركي البالغ من العمر 20 عاماً ماثيو كروكس، متسللاً بوضوح فوق سطح أحد المباني القريبة من موقع الخطاب، وبيده بندقية «آر 15».

دونالد ترامب مغادراً المنصّة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري في ملوواكي (أ ف ب)

كروكس تمكن من الاقتراب بشكل مثير للعجب من ترمب الموجود على مسافة 140 متراً منه، وإطلاق النار قبل قنصه من أحد عناصر الخدمة السرية، فيما وُصف بأكبر خرق أمني منذ محاولة اغتيال ريغان.

ويتحدث مارك هيريرا رقيب الشرطة السابق ومدير الأمن المسؤول عن المنشآت التجارية التابعة لوزارة الأمن القومي عن الإخفاقات الأمنية المحيطة بالحادثة، فيقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إن أحد أسباب القلق الأساسية هي المحيط الأمني. وأوضح: «لقد تمكن مطلق النار من الوصول إلى موقع مشرف على الحدث، مما يدل على تقصير شديد في حماية المحيط بشكل فعّال».

ويؤكد هيريرا أهمية توسيع المناطق المحمية قدر المستطاع خصوصاً في المناطق المرتفعة التي توفر «موقعاً استراتيجياً»، ويقول محذراً: «مواقع من هذا النوع تسمح لطلقات البندقية بإصابة أهدافها بدقة مدمرة»، على غرار ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الـ35 جون كينيدي الذي قضى بعد إصابته بطلقات نارية وهو في سيارته إلى جانب زوجته جاكلين في ولاية تكساس في عام 1963».

عناصر من جهاز الخدمة السرية يحيطون المرشح الجمهوري دونالد ترامب وهو يدخل سيارته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (أ ب)

العميلة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كاثرين شوايت، تلفت إلى وجود «ثغرات» محتملة في خطة عناصر الخدمة السرية لحماية ترمب، وتفسر قائلة في حديث مع «الشرق الأوسط»: «سيتم النظر على وجه التحديد فيما إذا كان المحيط الأمني للمكان ضيقاً بما سمح لمطلق النار من الاقتراب. كما سيتم تقييم التقارير عن رؤيته قبل إطلاق النار لتحديد ما إذا كانت هناك فرصة ضائعة للتدخل قبل ذلك». وذلك في إشارة إلى شهادات شهود عيان في موقع الحادثة قالوا إنهم نبهوا العناصر الأمنية إلى وجود مسلح على سطح المبنى قبل إطلاق النار بدقائق، كهذا الشاهد الذي قال لشبكة (بي بي سي) إنه رأى المسلح قبل أن يطلق النار: «كنت أفكر، لماذا لا يزال ترمب يتكلم؟ لماذا لم يسحبوه من المنصة؟ ثم سمعنا 5 رصاصات...».

ويسلّط هيريرا الضوء على مشكلة أخرى وهي ردة فعل عناصر الخدمة السرية بعد إصابة ترمب، فيرى أن إخراجه من موقع الحادثة كان غير منظم «مما أدى إلى تعريضه للخطر في 3 مناسبات منفصلة»، ويشدد على ضرورة أن يكون الرد على هذه التهديدات سريعاً وحاسماً لضمان سلامة الرئيس، وهو ما لم يظهر في الرد على هذه الحادثة، على حد تعبيره.

تحقيقات واتهامات

على ضوء هذه المعطيات، تواجه الخدمة السرية ومديرتها كيمبرلي تشيتل، المرأة الثانية التي تتسلم هذا المنصب في التاريخ الأميركي، انتقادات حادة بسبب هذه الإخفاقات الأمنية، وصلت إلى حد فتح تحقيقات تشريعية بهذا الخصوص، واستدعاء تشيتل للإدلاء بإفادتها أمام الكونغرس في مواجهة دعوات لاستقالتها. ويقول النائب الجمهوري جايمس كومر، رئيس لجنة المراقبة والإصلاح الحكومي، الذي استدعى تشيتل: «هناك كثير من الأسئلة يطالب الشعب الأميركي بالحصول على أجوبة عنها».

ولا تقتصر هذه الدعوات على الجمهوريين فحسب، بل تتخطاها لتشمل الديمقراطيين على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوصى بفتح تحقيق مستقل بشأن الأمن القومي لتقييم ما جرى متعهداً بـ«مشاركة نتائج التحقيق مع الشعب الأميركي».

شرطيان أميركيان يقفان أمام منل توماس ماثيو كروكس المتهم بالتورط في محاولة اغتيال ترامب (رويترز)

وبانتظار هذه التحقيقات المتفرقة، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقه الخاص في عملية الاغتيال، وهذا ما ذكرته شوايت، مشيرةً إلى أن «إف بي آي»، التابع لوزارة العدل، والخدمة السرية، التابعة لوزارة الأمن القومي «سيعملان معاً مع وكالات فيدرالية أخرى للغوص في تفاصيل ما جرى وتشخيص نقاط الضعف». وأضافت: «هذا يتضمن مراجعة الخطط وإجراء مقابلات مع عناصر الأمن وقوات الأمن المحلية».

وتفسر شوايت، التي شمل عملها التنسيق مع الشرطة المحلية للتحقيق في حوادث إطلاق النار والرد عليها، مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن الحوادث الداخلية في الولايات المتحدة، فتقول: «يعمل عناصر (إف بي آي) مع الخدمة السرية بشكل متواصل لمشاركة الاستخبارات حول التهديدات المحدقة بالأشخاص الذين يتطلبون الحماية، ويشارك المكتب بالتعاون مع عناصر الشرطة المحلية بالتخطيط للأحداث العامة»، لكنها تستطرد مشيرةً إلى أن «إف بي آي» هي الوكالة الوحيدة المسؤولة عن التحقيق في كل مرة يحصل فيها اعتداء على مسؤول فيدرالي، وتعطي مثالاً على ذلك بالتحقيقات في محاولات اغتيال الرئيسين السابقين رونالد ريغان وجيرالد فورد قائلة: «(إف بي آي) تجمع الأدلة وتحللها وعناصرها سيجرون مقابلات مع الحاضرين لوضع جدول زمني وصورة كاملة لمن كان متورطاً في الاعتداء. وفي حال اتضحت ضرورة توجيه تهم جنائية يطلب المكتب من وزارة العدل النظر في توجيه هذه التهم».

توصيات

وبانتظار هذه التحقيقات، تُجري الخدمة السرية تحقيقاتها الخاصة حول الثغرات الأمنية المحتملة، والإصلاحات التي يجب أن تُفرض للحؤول دون تكرار حوادث من هذا النوع. ويقول فيريرا إنه من الضروري جداً تعزيز تدريبات القوى الأمنية في الخدمة السرية المسؤولة عن حماية شخصيات بارزة، معتبراً أنه كان من الواضح من خلال رد فعل العناصر الموجودين حول ترمب أن بعضهم يفتقر للتدريب الكافي. ويفسر ذلك قائلاً: «لقد رأينا فريق الخدمة السرية يتردد عدة مرات ويعرّض الهدف (ترمب) للخطر. يجب تحديد الأدوار والمسؤوليات بوضوح لكل عضو في الفريق. هذا يخفف من التردد ويضمن اطّلاع الجميع على مهامهم المحددة في حال الطوارئ». ويضيف فيريرا، المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية لمنشآت وزارة الأمن القومي التجارية: «يجب أن تمر الفرق بتمارين مكثفة، مما يعني إجراء تدريبات منتظمة وواقعية تحاكي مجموعة متنوعة من التهديدات المحتملة لضمان سرعة التصرف. كما يجب التركيز بشكل أساسي على التدريب في أجواء ضاغطة لمساعدة العناصر على الحفاظ على رباطة جأشهم واتخاذ قرارات سريعة تحت الضغط».

إخفاقات سابقة

تكرَّر على لسان الكثيرين مقارنة بين حادثة إطلاق النار على ريغان في العاصمة الأميركية واشنطن في عام 1981 التي أُصيب خلالها بجروح أدت إلى مكوثه في المستشفى لمدة 12 يوماً، وحادثة إطلاق النار على ترمب من حيث الإخفاقات الأمنية. وهذا ما قاله النائب الديمقراطي روبن غاليغو، الذي تحدث عن «أكبر فشل أمني على أعلى المستويات منذ محاولة اغتيال الرئيس ريغان».

يتفق عنصر الخدمة السرية المتقاعد تيم مكارثي مع توصيف ما جرى بـ«الفشل الأمني»، ويقول مكارثي الذي كان ضمن العناصر المكلفين بحماية ريغان، وأُصيب بطلقة نارية في صدره جراء محاولة الاغتيال: «عندما يُصاب شخص تحت حماية الخدمة السرية، فهذا يعد فشلاً لأن هذا يجب ألا يحصل». ويتابع مكارثي في مقابلة مع شبكة (إن بي سي): «قد يكون الأمر فشلاً فردياً أو من نوع آخر، لكنه فشل من دون أدنى شك. إن محاولة اغتيال ريغان كانت فشلاً أمنياً لأنه أُصيب بجراح. وما جرى مع ترمب هو فشل أمني ويجب أن ننظر إلى أسبابه».

وهذا ما تعهد به النائب غاليغو الذي قال في رسالة إلى مديرة الخدمة السرية: «لا يمكن تكرار ما جرى، وأنا أطالب بتحمل المسؤولية».

وهي ليست المرة الأولى التي تواجه فيها تشيتل انتقادات من هذا النوع، فقد سبق أن تعرضت لموجة من الانتقادات جراء أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بعد أن أصدر تحقيق فيدرالي تقريراً قال فيه إن الوكالة محت رسائل هاتفية لعناصرها خلال الأحداث، كان من الممكن لها أن تسلّط الضوء على الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. وبررت الخدمة السرية سبب محو الرسائل بـ«تغيير في تقنيات النظام الهاتفي» في الوكالة.

وواجهت الوكالة انتقادات متكررة كذلك بعد دخول متسلل إلى منزل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، الذي يتمتع بحماية عناصر الخدمة السرية في عام 2023.

وفي 2021 تأخر عناصر الوكالة 90 دقيقة في إجلاء نائبة الرئيس كامالا هاريس من موقع وجود قنبلة خارج اللجنة الوطنية الديمقراطية.

أما في عام 2014 فقد تمكن متسلل من القفز فوق سور البيت الأبيض والدخول من الباب الأمامي قبل إلقاء القبض عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

ناهيك بفضيحة دعارة في كولومبيا في عام 2012 على هامش قمة الأميركيتين شملت أكثر من 20 امرأة في فندق في «كارتاخينا» تورط فيها عناصر من الوكالة ولطخت سمعتها.

ما «الخدمة السرية»؟

لم تكن مهمة الوكالة حماية المسؤولين في بداية عهدها، فقد أسَّسها الرئيس السابق أبراهام لينكولن في الخامس من يوليو (تموز) 1865 للتصدي لتزوير العملة، وكانت حينها تحت سلطة وزارة الخزانة.

بعد اغتيال الرئيس السابق ويليام كينلي، عام 1901 وجّه الكونغرس الوكالة إلى توفير الحماية للرؤساء لتصبح الوكالة الاستخباراتية الأولى الداخلية في الولايات المتحدة، قبل أن يتم تجيير مهمة جمع الاستخبارات الداخلية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى تأسيسه في عام 1908.

وبينما اقتصرت مهمة تأمين الحماية على الرؤساء فقط في بداية الأمر، عاد الكونغرس وطلب توسيع نطاقها بعد اغتيال السيناتور السابق والمرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت ف. كينيدي في عام 1968 لتشمل عائلات الرؤساء والمرشحين للرئاسة ونوابهم.

في عام 2003 نُقل الإشراف على الوكالة من وزارة الخزانة إلى وزارة الأمن القومي، وهي تتضمن 8300 عنصر، وتصل موازنتها السنوية إلى 3.2 مليار دولار.

أسماء مشفرة

يستعمل عناصر الخدمة السرية أسماء مشفرة للرؤساء وعائلاتهم والمسؤولين الأجانب والمقرات الفيدرالية الأميركية لدى التواصل فيما بينهم. وقد بدأت هذه السياسة لأسباب أمنية قبل تشفير التواصل الإلكتروني، لتصبح اليوم تقليداً معتمداً لدى الوكالة، وهنا بعض الأسماء المعتمدة:

باراك أوباما: رينيغايد، أو المتمرد.

دونالد ترمب: موغل، أي القطب أو الشخص المهم.

جو بايدن: سيلتيك، أي الشخص من أصول أوروبية – آيرلندية.

البيت الأبيض: القصر.

الكونغرس: بانشبول، أو وعاء العصير.

البنتاغون: كاليكو، في إشارة إلى شكله الخماسي.

وزارة الخارجية: بيردز، أي أو عين الطائر.

الموكب الرئاسي: بامبو.