«المونادولوجيا»: ميتافيزيقيا الشبكة العنكبوتية

هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
TT

«المونادولوجيا»: ميتافيزيقيا الشبكة العنكبوتية

هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)

«المونادولوجيا» هو عنوان الكتاب الذي أصدره الفيلسوف الألماني لايبنتز سنة 1714 م. وكان بمثابة وصيته الفلسفية التي كثّف فيها مبادئ فلسفته بعد أن خاضت غمار اللاهوت والرياضيات والفيزياء والمنطق والميتافيزيقا. ولكن نظرية المونادولوجيا شكّلت مع ذلك إنجازاً ومنعطفاً في تاريخ الفلسفة بشكل عام، وفي فلسفة لايبنتز بشكل خاص، إذ إنها أتت في بداية القرن الثامن عشر لتمهد لتحرير الخطاب الفلسفي من النهج اللاهوتي بعد أن كانت اللغة اللاهوتية ما تزال ماثلة في بعض فلسفات القرن السابع عشر، وخصوصاً في كتابه «خطاب الميتافيزيقا». على ذلك فإن «المونادولوجيا» ليست مجرد تكثيف لفلسفة لايبنتز، بل هي على العكس تشكل إنجازاً أو إتماماً لهذه الفلسفة يضعها على منعطف أساسي في تاريخ الفلسفة العام.
في البداية يعرف لايبنتز الموناد كما يلي: «الموناد التي سوف نتحدث عنها هنا ليست شيئاً آخر سوى جوهر بسيط يدخل في المركّبات. والبسيط يعني أنه من دون أجزاء». (ص95)** نلاحظ هنا أن لايبنتز تحدث عن جوهر بسيط وعن موناد، في حين أنه في «خطاب الميتافيزيقا» لم يستعمل مصطلح موناد، ولم يتحدث إلا عن جواهر فردية تتميز بمحمولات، وتتصف بأنها كائنات روحية أو أشخاص معينين كأن نقول مثلاً إن الإسكندر هو جوهر فردي. الجديد هنا إذن هو الحديث عن بساطة الموناد وعن عدم امتلاكها لأجزاء.
ولكن لماذا توجد هذه المونادات؟ إنها ضرورية، وذلك لأن هناك تركيبات ولأن المركّب ليس سوى تجميع للجواهر البسيطة. وينتج عن بساطة الموناد عدم وجود الامتداد ولا الصورة ولا القسمة، وبالتالي فإن هذه المونادات هي بمثابة ذرات طبيعية حقيقية أي أنها عناصر الأشياء. هكذا فالوجود الحقيقي يتمثل في ذرات الطبيعة.
وبما أن المونادات بسيطة، فهي من دون أجزاء وأبواب ونوافذ، وبالتالي لا شيء يستطيع التأثير فيها من خارجها.
ولكن بساطة الموناد لا تحجب عنها بعض المزايا الإيجابية؛ ومن أهم هذه المزايا الإدراك الحسي والنزوع. وبالتالي، فإن كل موناد لها مزاياها، وليس هناك موناد متطابقة مع الأخرى؛ والتغيير الذي نشهده في الأشياء لهو خير دليل على ذلك. ومن جهة أخرى، فإن الموناد هي معرضة للتغير، ولكن تغيرها يأتي من مبدأ داخلي، وبالتالي لا بد من أن يكون في كل موناد كثرة من الانفعالات والعلاقات. هذه الكثرة الموجودة داخل كل جوهر بسيط هي التي تجعل كل موناد مختلفة عن غيرها من المونادات.
أما الإدراك الحسي فهو ليس سوى تمثّل لهذه الكثرة المنضوية في الوحدة. أما ميزة النزوع فتتمثل في ميل الموناد للانتقال من إدراك حسي إلى آخر. وللدفاع عن وجود الكثرة في الجوهر البسيط يقول لايبنتز: «نحن نختبر بأنفسنا وجود كثرة في الجوهر البسيط، وذلك عندما نجد أن أقل فكرة يمكن أن نلاحظها تنطوي على تنوع في الموضوع. هكذا فإن كل أولئك الذين يعترفون بأن النفس هي جوهر بسيط عليهم الاعتراف بهذه الكثرة في الموناد». (ص97)
بعد ذلك ينتقل لايبنتز إلى تمييز درجات الكمال في الموناد؛ وهذا التمييز يرتكز على معايير الإدراك الحسي والنزوع والذاكرة والعقل. إن درجة الكمال الأولى توجد لدى ما يسميه لايبنتز الأنتيليشيا (Entéléchie)، التي هي عبارة عن موناد بسيطة تملك ما يكفي لتكون مصدر حركتها الداخلية. هذا يعني أن كل جوهر بسيط يتمتع بميزتي الإدراك الحسي والنزوع هو موناد بدرجة الأنتيليشيا.
ولكن الجوهر البسيط الذي يمتاز بامتلاكه للذاكرة، إضافة إلى الميزتين السابقتين، فهو يستحق اسم النفس. ومع ذلك فإن لايبنتز يصنف النفس إلى حيوانية وعاقلة أو روح. فالنفس الحيوانية تتمتع بالذاكرة، ولكنها لا تفعل سوى تقليد العقل، وبالتالي فإن أفعالها تقع تحت نطاق العادة. أما الروح، أي النفس العاقلة، فإنها تتيح لنا الاستدلال والارتفاع إلى مستوى الحقائق الأبدية التي تتعلق بنا وبالله، وذلك بالاستناد إلى مبدأين كبيرين وهما: مبدأ التناقض ومبدأ السبب الكافي. وبالتالي فهو يميز بين نوعين من الحقائق: الحقائق الضرورية أو حقائق الاستدلال والحقائق العرَضية أو الحادثة؛ وهو يعتبر أن مبدأ السبب الكافي يمكن أن يطبق على هذين النوعين من الحقائق. وانطلاقاً من مبدأ السبب الكافي حيث لكل حادث سبب يكفي لوجوده، يلاحظ لايبنتز أن سلسلة الأسباب يمكن أن تذهب إلى اللانهاية نظراً إلى إمكانية قسمة الأجسام إلى اللانهاية؛ ولكن كل هذه السلسلة تدخل في السبب النهائي الذي لا بد أن يكون سبباً كافياً، وأخيراً خارج سلسلة الأشياء الحادثة.
من هنا ينتقل لايبنتز في القسم الثاني من «المونادولوجيا» إلى البرهان على وجود الله فلسفياً، حيث يقدم ثلاث حجج: الحجة الأولى أتت في سياق معالجة السبب الكافي للقضايا الحادثة، حيث يستنتج لايبنتز قائلاً: «وهكذا فإن السبب الأخير للأشياء يجب أن يكون في جوهر ضروري لا تكون فيه التغيرات التفصيلية إلا بطريقة الفيض كما في النبع، وهذا ما نسميه الله». (ص102) ومن هذه الحجة يستنتج لايبنتز أحادية الله وكماله: «بما أن هذا الجوهر هو سبب كافٍ لكل التفاصيل التي ترتبط بكل شيء، فليس هناك إذن سوى إله واحد وهذا الإله يكفي». (ص102) وبما أنه ليس هناك شيء خارج هذا الجوهر يمكن أن يكون مستقلاً عنه، فهو يتمتع بكل الواقع الممكن، وبالتالي فإن الله هو كامل بالمطلق، طالما أن الكمال ليس سوى عظمة الواقع الإيجابي، حيث لا حدود تحده وحيث الكمال لامتناهٍ. وبما أن المخلوقات تتميز بمحدوديتها فهي تأخذ كمالها من كمال الله. إذن، هذه الحجة الأولى هي حجة بعدية، إذ يستنتج لايبنتز وجود الله كسبب كافٍ لوجود الأشياء الحادثة وكمصدر ضروري لها.
أما الحجة الثانية، فهي حجة قبلية، إذ إن الله ليس فقط مصدراً للوجود، بل هو أيضاً مصدر للماهيات بما هي حقيقية. إذن، الحجة القبلية تتلخص في أنها تؤكد وجود الله قبلياً كمصدر للماهيات وللإمكانات وللحقائق الأبدية.
هكذا يتوصل لايبنتز إلى الحجة الأنطولوجية الشهيرة معدّلة حيث يقول: «هكذا فإن الله وحده (أو الكائن الضروري) يملك الامتياز في أنه يجب أن يكون موجوداً إذا كان ممكناً. وبما أنه لا شيء يمكن أن يمنع إمكانية ما لا ينطوي على أي حدود ولا على أي سلب، وبالتالي لا ينطوي على أي تناقض فإن هذا وحده يكفي لمعرفة وجود الله قبلياً». (ص103) انطلاقاً من هذ الحجج الثلاث يستنتج لايبنتز بأن الله وحده هو الوحدة البدائية، أو هو الجوهر البسيط الأصلي، وبالتالي فإن كل المونادات المخلوقة تأتي نتيجة ومضات متواصلة من الألوهة، بحيث تتوزع هذه الومضات تبعاً لقدرة المخلوقات على استقبالها ضمن حدودها الخاصة بها.
إذن، هناك المونادات، وهناك الله، وبينهما عالم المخلوقات الذي يأتي ليجسد العلاقة بينهما، حيث إن هذا العالم يكون حاصل نسبة صفات المونادات المحدودة إلى صفات الله اللامحدودة، بحيث إن الله الذي يملك القدرة والمعرفة والإرادة يعرف ويفهم العالم كأفضل نتاج يمكن أن تقدمه توليفة المونادات المتصفة بالإدراك الحسي والنزوع. هكذا بين نزوع المونادات وإدراكها الحسي وبين كمال الله يتكون عالم المخلوقات.
من هنا ينتقل لايبنتز في القسم الأخير من المونادولوجيا للحديث عن عالم المخلوقات وما يدور فيه من نشاط ما بين المونادات.
بما أن الموناد هي جوهر بسيط يتميز بالإدراك الحسي وبالنزوع وهو مقفل على ذاته ويتحرك من داخله، فإن عملية التفاعل والتأثير المتبادل ما بين المونادات تصبح عملية افتراضية ومثالية وتقوم على معيار مستوى الإدراك الحسي في كل موناد، بحيث إن الموناد التي تتميز بإدراك حسي غامض وملتبس تتلقى التأثيرات من داخلها، بحيث إن ميزتها الداخلية تضعها في تبعية لتوليفات المونادات الأكثر إدراكاً؛ وهذه العملية تتم بتدخل من الله، الذي يضبط العلاقة بين المونادات بحيث تكمل الواحدة نقص الأخرى في سبيل تركيب أفضل العوالم الممكنة.
بالتالي، فإن نظرية تفاعل المونادات البسيطة اللامحدودة العدد تؤدي بلايبنتز إلى بلورة مبدأ الأفضل حيث يقول: «على ذلك، وبما أن هناك عدد لا متناهٍ من العوالم الممكنة في أفكار الله، وبما أنه لا يمكن أن يوجد سوى عالم وحيد، فيجب أن يكون هناك سبب كافٍ لاختيار الله لهذا العالم دون غيره... وهذا السبب لا يمكن أن يوجد إلا في التناسب أو في درجات الكمال التي تنطوي عليها هذه العوالم، بحيث إن كل ممكن له الحق في ادعاء الوجود، قياساً إلى الكمال الذي ينطوي عليه... وهذا هو سبب وجود الأفضل الذي عرفه الله بالحكمة واختاره بإرادته وخلقه بقدرته». (ص105) إذن، الله اختار بمعرفته وإرادته وقدرته أفضل العوالم الممكنة، خاصة أنه اهتم منذ بداية الأشياء بملاءمة كل موناد مع كل المونادات الأخرى.
وهذا ما أدى بلايبنتز إلى إعادة تأكيده على أطروحة الانسجام المسبق، حيث إن علاقة وتلاؤم كل موناد مع غيرها من المونادات تجعل كل جوهر يبدو وكأنه مرآة العالم. وبذلك يمكن الحصول على أكثر ما يمكن من الكمال وتحقيق مبدأ الأفضل، وذلك لأن كل موناد تمثل كل العالم ولكن تمثلاتها هي في أكثريتها ملتبسة، وهي لا تعرف بشكل متميز سوى القليل من الأشياء؛ وبذلك تتكامل معرفتها مع معارف المونادات الأخرى حسب نظام الانسجام الكوني المسبق الماثل في فكر الله.
ولكن ما الذي يدور في هذا العالم؟ وكيف هي العلاقة بين المونادات من جهة وبين الأشياء أو الأجسام المركبة منها؟ هنا يعتبر لايبنتز أنه كما أن كل موناد تعبر عن كل المونادات الأخرى، فإن كل جسم يتأثر بكل الأجسام الأخرى مهما كانت بعيدة عنه. وبالتالي فإن الموناد بتمثيلها للجسم الذي ينتمي إليها فهي تمثل كل العالم، مما يعني أن طريقة تمثيل الموناد للعالم تتوقف على جسمها. ويضيف لايبنتز بأنه ينشأ عن التقاء الموناد بجسم معين ما هو كائن حي. وإذا كانت الموناد نفساً يكون هذا الحي حيواناً. وبما أن الجسم الحي هو دائماً عضوي فإن هيئة الجسم تعكس النظام الكامل للكون الذي تشكّل الموناد المرتبطة بهذا الجسم مرآة له. وبالتالي فإن الجسم الحي هو كالعالم منظم إلى اللانهاية وأن كل كائن حي يحتوي على عدد لا محدود من الأحياء الآخرين، الذين يمتلك كل واحد منهم نفسه مع الموناد المسيطرة فيه.
من هنا يعتبر لايبنتز أن الأجسام الحية والنفوس هي في علاقة تحولية؛ فلا الجسم ولا النفس لهما بدايات ونهايات محددة إذ إن كل شيء يخضع لمقتضيات الانسجام المسبق، مما جعل لايبنتز يستنتج حول علاقة النفس بالجسم قائلاً: «هذه المبادئ منحتني الوسيلة لتفسير طبيعي لاتحاد، أو بالأحرى، لتلاؤم النفس والجسم العضوي. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة بها؛ والجسم يتبع قوانينه أيضاً؛ وهما يلتقيان بفضل الانسجام المسبق فيما بين كل الجواهر، إذ إن هذه الجواهر هي جميعها تمثلات للعالم ذاته». (ص111)
إذن، طالما أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة وأن العلاقات بين المونادات وبين الأجسام تخضع لمبدأ الانسجام المسبق لم يبقَ سوى ترجمة هذا الواقع في سلوك النفوس، وبالتالي ينتهي لايبنتز في ختام المونادولوجيا إلى الاستثمار الأخلاقي لفلسفته، حيث يعتبر أن النفوس العاقلة هي التي أدركت من خلال مستوى كمال معرفتها أنها جزء من هذا العالم الذي يأخذ كماله من كونه يدخل في شراكة مع أكمل المونادات وعياً ومعرفة أي مع الله. على ذلك، فإن هذه النفوس تتميز بتفوقها على بقية النفوس وتشكل مدينة الله التي تجسد العالم الأخلاقي في العالم الطبيعي، حيث هناك انسجام بين فيزياء الطبيعة وبين الأخلاق الإلهية، وحيث تقوم أكمل مدينة ممكنة في ظل أكمل السلاطين، أي الله.
في الختام لا بد من التساؤل ما إذا كانت محاولتنا هذه قد نجحت بعض الشيء في تحقيق ما طرحته على نفسها من إثبات لدور المونادولوجيا في إنجاز «خطاب الميتافيزيقا» عند لايبنتز.
إن أبلغ رد على هذا التساؤل قد يكون بطرح التساؤلات التالية: أليست فلسفة لايبنتز متعددة الوجوه والأبواب والمفاهيم المتشابكة والمتلائمة والكونية، تشبه الموناد البسيطة الواحدة التي تمثل الله والعالم والكائنات المخلوقة؟ ألا تكمن قمة ميتافيزيقا لايبنتز في اختراعه لمفهوم الموناد، ذلك الجوهر البسيط الذي يحمل في ثنياته اللامتناهية وحدة الله وكثرة الموجودات؟ وبالتالي، ألا نستطيع القول إن إله المونادولوجيا هو عبارة عن مبدأ ميتافيزيقي أكثر منه لاهوتي؟ وأخيراً ألا يمكننا اعتبار مونادولوجيا لايبنتز، عالم الرياضيات المساهم في تأسيس المعلوماتية، كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر بفضل تكنولوجيا النانو والاتصالات والنظام الرقمي والأقمار الصناعية التي حولت «أفضل العوالم الممكنة» إلى قرية كونية؟
*باحث وأستاذ جامعي لبناني
** المقتطفات الواردة في النص مأخوذة من الكتاب التالي:
Leibniz، Discours de métaphysique، suivi de Monadologie، Gallimard، Paris1995



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».