في بداية هذا المقال لا بد من تبرير عنوانه. في الواقع نحن استوحينا هذا العنوان من موقفين فلسفيين حول موضوع الظاهرة التقنية المعاصرة التي غيرت حياة الإنسان بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية: الموقف الأول يعود إلى الفيلسوف الإيطالي إمانويل سفيرينو (Severino)، والموقف الثاني يعود إلى الفيلسوف الألماني هانز يوناس (JONAS).
ولكن قبل عرض الموقفين لا بد لنا من الإشارة إلى إشكالية التقنية التي تتمفصل حول مجموعة من الأسئلة التي بدأت تشغل وتقلق الفكر الإنساني منذ أن شعر الإنسان كأنه أصبح يعيش بانتظار يوم آخر من إنجازات الحلف القائم بين سلطات العلم والتقنية والتكنولوجيا. في الواقع، بعد أن سيطر سحر التكنولوجيا الحديثة واعتاد الإنسان على إنجازاتها الجبارة والسريعة أصبح هذا الإنسان، الذي بدأ تحقيق إنسانيته من خلال مشروع السيادة على الطبيعة بواسطة الفعل التقني، أصبح يشعر بالخطر الداهم الذي بدأ يهدد هذه الإنسانية في ذاتها والآتي من التماهي بين مشروع السيادة الإنسانية على الطبيعة والمشروع التقني، فأصبح هذان المشروعان في حال من السباق الدائم ومن التلازم الضروري والمأزقي. من هنا ظهرت مجموعة من الأسئلة نوجزها فيما يلي:
كيف يستطيع الإنسان المحافظة على بقائه أمام أهوال الطبيعة من دون اللجوء إلى الفعل التقني؟
من أين يأتي نداء الفعل التقني؟ من الإنسان ذاته أم من الكينونة (هايدغر)؟
هل الإنسان، صاحب مشروع السيادة على الطبيعة وامتلاكها (ديكارت)، أصبح وسيلة لمشروع سيادة المشروع التقني؟
إلى متى وإلى أي حد سيستمر نزوع الإنسان نحو السيادة المطلقة على الطبيعة مع حاجته إلى الانجرار في مشروع العقلانية التقنية السلطوية؟
وهل الإنسان الذي بدأ رحلة البحث عن الحقيقة منذ آلاف السنين سيجد في التقنية المعاصرة المتمثلة في ميادين التكنولوجيا المتطورة معالم ظهور حقيقة الكون والحياة، وبالتالي هل سيتحول إلى مجرد مُسهم في هذه الصيرورة في مسار ظهور الحقيقة؟
في الواقع، إن هذه الأسئلة ولدت أمام التطور الهائل في ميادين الأبحاث العلمية المتعلقة بالإنسان والهندسة الوراثية وصولاً إلى الادعاء بإمكانية صناعة أو خلق إنسان بمواصفات محددة. وهذا المسار بدأ منذ النصف الثاني من القرن العشرين. والدليل على ذلك ظهر في مقابلة تلفزيونية في أواخر الثمانينات مع فرنسوا جاكوب الحائز على جائزة نوبل في ميدان الهندسة الوراثية، حيث أعلن أنه لو تم السماح لأبحاث الهندسة الوراثية بأن تأخذ مداها لكان بالإمكان صناعة إنسان بالمواصفات التي نريدها. بالطبع إن هذا الموقف يستند إلى تطور التقنية وإلى الحلف القائم بين العلم والتقنية. وأمام التطور الهائل في العلم والتكنولوجيا برز «تيار تحويل الإنسان» (trans-humanısme) وتعديل مواصفاته الجينية من خلال التقنية المتطورة، بحيث يصل عمر الفرد إلى مئات السنين. وأكثر من ذلك بدأنا نشهد ولادة مرحلة «ما بعد الإنسان» (post-humanisme) من خلال الاعتماد على الذكاء الصناعي وعلى الإنسان الآلي (Robot).
إن هذا الوضع الذي وصلنا إليه من خلال التقنية المظفرة أثار حفيظة الفليلسوف الإيطالي إمانويل سفيرينو (SEVERINO) الذي اعتبر أن التقنية أصبحت آخر الآلهة بالنسبة إلى «تيار التحويل أو التعديل الإنساني»، بحيث إن التقنية المتطورة حلّت مكان الله الذي خلق الأشياء والعالم من عدم. في الواقع إن وجهة نظر سفيرينو تتلخص في أنه يعتبر على مثال الفيلسوف اليوناني برمنيدس أن الكون يكون وبأن العدم لا يكون. على ذلك، فإنه يعتبر القول بالخلق من عدم هو بمثابة جنون. في مقابلة مع مجلة «Philosophie» الفرنسية عدد رقم 125 يناير (كانون الثاني) 2019 يقول: «إن الكائنات البشرية في عصر التقنية تتماهى مع الإله الخالق؛ إنهم يعتقدون بأنهم يصنعون من العدم أشياء لم تكن موجودة من قبل مثل الذكاء الصناعي والمفاعل النووي وسيستم الاتصالات القائم على المعلوماتية وكل الأدوات التي تجعل من حياة الإنسان ممكنة...». ويختم سفيرينو هذه المقابلة بالقول: «إن التقنية أصبحت إلهنا الأخير وسيدنا، وهذا ما تعترف به نزعة تحويل وتعديل الإنسان. ولكن بما أن هذه النزعة ولدت من الجنون وأن مشروعها غير قابل للتحقق، فهي لن تنقذنا ولن تقدم لنا الخلود الموعود، حيث الفلسفة وحدها بصفتها المنفتحة على حالة عدم الجنون تستطيع أن تقودنا إلى البعد الحقيقي للأبدية».
هكذا إذن، إن تأليه التقنية لن يصب في خانة تحرير الإنسان من جنون الاعتقاد بإمكان الخلق من عدم والعودة إلى العدم، وذلك لأن الكون يكون دائماً والأشياء تظهر وتتخفى في الكينونة الأبدية.
ولذلك تستمر المسألة التقنية في إثارة التساؤلات والمفارقات. ومن أهم هذه المفارقات تلك التي تجعلنا في آن واحد مقيمين في المجال التقني ومرتابين تجاه المصير الذي يدفعنا إليه. فالإنسان المعاصر يفتخر بأنه وريث الحداثة الفلسفية والعلمية والتقنية ولكنه بدأ ينوء تحت أثقالها وسلطاتها بدلاً من أن يحقق من خلالها مشروع السيادة على الطبيعة وامتلاكها. وهذه المفارقة شكلت الأرض الخصبة لطروحات ما بعد الحداثة التي انتفضت تجاه هذه السلطات وتجاه العقل التركيبي الكلي أو الشمولي والعقل التكنولوجي.
إذن، المعضلة التكنولوجية طرحت على الإنسان المعاصر مسألة المصير، وبالتالي مسألة مسؤولية الإنسان الراهن تجاه مستقبل البشرية جمعاء. فهل يحق للإنسان المعاصر تقرير مصير الكون بما فيه من بشر وحجر؟ وهل يحق له تقرير مصير الأجيال القادمة؟ إن هذه الأسئلة دفعت بالفيلسوف الألماني هانز يوناس إلى طرح القضية في كتابه المنشور تحت عنوان «مبدأ المسؤولية، أخلاق من أجل الحضارة التكنولوجية» (Le principe responsabilité, une éthique pour la civilisation technologique). في هذا الكتاب، يطرح يوناس إعادة صياغة الأخلاق انطلاقاً من فكرة المسؤولية. ولذلك ينطلق من الأخلاق الكانطية، خصوصاً من القواعد التي أرساها كانط في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق». ويركز على دور الأمر القطعي أو الواجب الإلزامي في تأسيس مبدأ المسؤولية، ويحاول أن يستبدل بصيغة كانط، صيغة أخرى تنسجم مع دعوته للإنسان المعاصر إلى الالتزام بالمستقبل البشري وإلى عدم المخاطرة حتى ولو كان ذلك منطقياً بمصير الأجيال القادمة.
وسنحاول التقاط الفرق بين صيغتي كانط ويوناس. الأمر القطعي لدى كانط يقول: «افعل بطريقة تستطيع معها أن تريد بأن تصبح حكمتك قانوناً كونياً»، ويلاحظ يوناس أن مسألة الاستطاعة هنا هي مسألة منطقية تتعلق بمدى عدم تناقض العقل مع ذاته، أي أن الإنسان العاقل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كونه واحداً من الكائنات العاقلة، ولذلك عليه أن يحكم بطريقة يكون فيها حكمه كونياً. وبالتالي، فإن الاعتبار الأساسي للأخلاق هنا ليس أخلاقياً بل منطقي، إذ إن الاستطاعة أو عدم الاستطاعة هنا تعبر عن التواؤم أو عدم التواؤم منطقياً، وليس عن موافقة أو عدم موافقة. هذا يعني أن الإنسان يستطيع منطقياً أن يريد أو لا يريد تقرير نهاية البشرية. هذا على صعيد المنطق. ولكن على صعيد الأخلاق يجدر التساؤل: من يعطي الحق لحلقة معينة من السلسلة البشرية أن تقطع هذه السلسلة؟ قد يكون من حق أو من واجب جيل معين أو جماعة معينة أن تضحي بنفسها من أجل قضية ما، ولكن لا يحق لها أن تتخذ قراراً بقطع السلسلة البشرية، وذلك لأنها مسؤولة عن المستقبل أكثر مما هي مسؤولة عن الحاضر، وبالتالي الأمر القطعي عند يوناس يتحول إلى أخلاق من أجل الأجيال القادمة، ليس بمعنى أننا يجب أن نضع من الآن قواعد أخلاقية تلتزم بها الأجيال القادمة، بل بمعنى أن تكون أخلاقنا الراهنة مسؤولة تجاه أجيال المستقبل.
- باحث وأستاذ جامعي لبناني
التقنية المعاصرة بين التقديس والمسؤولية الأخلاقية
التقنية المعاصرة بين التقديس والمسؤولية الأخلاقية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة