بروفايل: جهاد أزعور... اقتصادي على قائمة المرشحين للرئاسة اللبنانية

دبلوماسيته وصداقاته تبعدان عنه صفة «مرشح تحدّ»

بروفايل: جهاد أزعور... اقتصادي على قائمة المرشحين للرئاسة اللبنانية
TT

بروفايل: جهاد أزعور... اقتصادي على قائمة المرشحين للرئاسة اللبنانية

بروفايل: جهاد أزعور... اقتصادي على قائمة المرشحين للرئاسة اللبنانية

تكاد القوى السياسية في لبنان، تُجمع على أن الدكتور جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، المطروح اسمه كمرشح محتمل للرئاسة اللبنانية، ليس مرشح تحدٍّ لأحد. إذ لم تصدر عنه، طوال السنوات الطويلة الماضية التي شغل فيها مواقع بالحيّز العام، مواقف حدّة. بل نأى بنفسه إلى حد كبير عن التجاذب السياسي، في أقسى مرحلة استقطاب وانقسام سياسي في البلاد، وحافظ على موقعه الوسطي انطلاقاً من ميزتين: الأولى إصراره على البقاء شخصيةً ماليةً واقتصادية «تكنوقراطية»، والثانية أنه نسيب المرشح الرئاسي والنائب الراحل جان عبيد الذي احتفظ، هو الآخر، بعلاقات متينة مع سائر الأطراف، رغم التنافس مع بعضها بعضاً على رئاسة الجمهورية. غير أن هاتين الميزتين لا تعدان كافيتين حتى الآن، ليُنتخب رئيساً للبنان، إذ تظل حظوظه متأرجحة، بالنظر إلى أن المعارضة لا تزال تنتظر موقفاً حاسماً من رئيس «التيار الوطني الحر» (التيار العوني) جبران باسيل، وثانيهما ممانعة ثنائي «حزب الله» و«حركة أمل» لدعم ترشيح أي شخص بديل عن رئيس «تيار المرَدة» سليمان فرنجية الذي يدعم الثنائي وصوله إلى القصر الجمهوري.

في الخريف الماضي، بدأت القوى السياسية اللبنانية تبحث عن مرشحين جديين يمكن أن يحظوا بتوافق معظم القوى السياسية توصلاً لانتخاب رئيس للجمهورية. وكان اسم الدكتور جهاد أزعور في صدارة اللوائح الخاضعة للتباحث، إلى جانب قائد الجيش العماد جوزيف عون، على خلفية أن الطرفين يعتبران مرشحين وسطيين، إلى جانب شخصيات أخرى ضمن لوائح المرشحين غير المسيّسين، أو غير المحسوبين على الأحزاب، ومن خارج الكادر التقليدي للمرشحين طبيعياً للرئاسة.

والمعروف أن لبنان يعاني فراغاً رئاسياً منذ عدة أشهر، حين فشلت القوى السياسية في الاتفاق على شخصية يمكن أن ينتخبها ثلثا أعضاء البرلمان، أو يؤمنوا انتخابهم بحضور ثلثي أعضاء المجلس في يوم الانتخاب. ويعد هذا الملف أكثر الملفات الضاغطة في هذا الوقت، كون الفراغ في سدة الرئاسة يعطل الاستحقاقات والإصلاحات والتعيينات، ويتسبب عملياً في عرقلة عمل السلطة التنفيذية.

* سيرة شخصية ومهنية

استند ترشيح أزعور إلى سيرته الذاتية والمهنية. فعلى الجانب الشخصي، لم يُعرف عنه مواجهة أي طرف سياسي طوال السنوات الماضية، احتفظ بعلاقة طيبة مع رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، والتقى به خلال السنوات الماضية كممثل عن صندوق النقد الدولي. ثم إنه يرتبط بعلاقة طيبة برؤساء الحكومات السابقين، كونه كان مقرّباً من رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، حيث شغل موقع وزير المال في حكومة السنيورة الأولى بين عامي 2005 و2008، وبالتالي، كان معروفاً في أوساط «تيار المستقبل» وقوى 14 آذار، رغم أن موقعه في الحكومة كان تقنياً بما يتخطى المواقف السياسية، فلم يستفزّ «حزب الله» في تلك المرحلة. كذلك ارتبط بعلاقة متينة برئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، كامتداد لعلاقة خاله المرشح الرئاسي الأسبق والنائب والوزير الراحل جان عبيد.

ولذا يقول عارفوه إن «مواقفه لا تتسم بالحدة»، وتالياً، «لا تنطبق عليه مواصفات مرشح التحدي»، فضلاً عن أنه «لا ينفعل، ويتعاطى بليونة مع الملفات، ويمتاز بالدبلوماسية، ومطّلع على التوازنات اللبنانية من خلال علاقته الوثيقة بخاله الراحل جان عبيد». ويؤكد عارفوه أنه «منفتح على جميع المكونات اللبنانية، وينبذ الطائفية والمذهبية».

أما المعيار المهني لتسميته، فينطلق من سيرته المهنية، بالتزامن مع أسوأ أزمة اقتصادية ومالية يعيشها لبنان، حيث تتصاعد الدعوات لاختيار رئيس مختصّ بالوضع المالي، يضع لبنان على سكة الإصلاح، ويصيغ الاتفاقات مع المؤسسات الدولية، وفي صدارتها صندوق النقد الدولي، بغرض وضع البلاد على مسار النهوض الاقتصادي.

* كفاءة وخبرة اقتصاديتان

أزعور، الذي درس العلوم المالية والاقتصادية، وحائز دكتوراه في الاقتصاد من جامعات فرنسا، وشارك كباحث زميل في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، فضلاً عن دراسته القانون، عمل في شركة ماكنزي العالمية في لبنان، وكان أستاذاً محاضراً في الجامعة الأميركية في بيروت، كما عمل في شركة «بوز آلن» الأميركية في لبنان.

وفي عام 1999 تسلم أزعور موقع «مدير مشروع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» في لبنان، قبل أن يُعين وزيراً للمال في حكومة الرئيس السنيورة في عام 2005، حيث أشرف على البرنامج الإصلاحي والتطويري في الوزارة، وعمل على تحديث النظم الضريبية والجمركية اللبنانية.

هذه الكفاءات، أهّلته ليكون عضواً في الوفود اللبنانية التي أعدت مؤتمرَيْ «باريس 1» و«باريس 2» في مطلع الألفية. وبعد انتقاله من العمل الحكومي، تفرغ للعمل في القطاع الخاص والعمل التطويري في القطاع المالي، من خلال أبحاث حول الاقتصادات الصاعدة واندماجها في الاقتصاد العالمي، تُوجت بانضمامه إلى صندوق النقد الدولي في مارس (آذار) 2017، حين غدا مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق، ويشرف على عمل الصندوق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز.

وللعلم، طُرح اسم جهاد أزعور خلال السنوات الماضية ليشغل منصب حاكم مصرف لبنان، وتجدد الاقتراح خلال الفترة الماضية في ظل الأزمة، لكن أزعور رفض ذلك، وقالت مصادر مطلعة على الشأن المالي في لبنان، إنه أبلغ من فاتحه بالموضوع إنه مستمر في موقعه في صندوق النقد الدولي، ولا يطمح لموقع حاكمية مصرف لبنان.

* تحول في التجربة اللبنانية

منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فشل البرلمان 11 مرة في انتخاب رئيس؛ إذ لا يملك أي فريق سياسي أكثرية برلمانية تخوّله إيصال مرشح له.

لكن خلافاً لتجارب سابقة من عام 1976، بات مسار الملف الرئاسي أكثر وضوحاً في ظل الانقسام بين القوى السياسية اللبنانية، ولم تعد المعادلة اليوم قائمة على اختيار المرشح، بقدر ما باتت قائمة على «من يؤمن نصاب جلسة الانتخاب»، في إشارة إلى تأمين نصاب الثلثين في جلسة الانتخاب الثانية التي تتطلب حضور 86 نائباً من أصل 126، وفوز المرشح بأكثرية الأصوات، بعد الدورة الأولى التي تتطلب الحضور كما الاقتراع للمرشح بأكثرية الثلثين.

وجرت العادة في لبنان أن تفضي التوافقات السياسية المسبقة إلى انتخاب رئيس يحظى بأكثرية الأصوات، فيصبح التصويت في الجلسة تنفيذاً للتوافقات المسبقة، ولم يعرف لبنان، منذ انتخاب الرئيس الراحل سليمان فرنجية في عام 1970، منافسة حادة بين المرشحين، حين فاز فرنجية بفارق صوت واحد.

اليوم يتحول استحقاق انتخاب الرئيس إلى منافسة ديمقراطية للمرة الأولى منذ عام 1970، ويمكن أن تفضي إلى فوز أحد المرشحين بفارق بسيط في الأصوات في دورة الاقتراع الثانية. ويدعم كل من «حزب الله» و«حركة أمل» (الثنائي الشيعي)، فرنجية للوصول إلى الرئاسة، وهو ما يعارضه كل من «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، وهما الأكثر تمثيلاً في البرلمان بين القوى المسيحية، وذلك في ظل ضغوط دولية باتجاه إنهاء الشغور الرئاسي، واصطدمت المساعي بالانقسامات السياسية العميقة، وسط عجز أي طرف عن تأمين النصاب القانوني البالغ 86 نائباً في الدورة الثانية من جلسة انتخاب الرئيس.

* مرشح المعارضة

لكن خلال الأسبوعين الأخيرين، تفعّلت الاتصالات بين قوى المعارضة من جهة، وبين المعارضة و«التيار الوطني الحر» من جهة أخرى، للوصول إلى مرشح رئاسي يستطيع أن ينافس فرنجية المدعوم من ثنائي «أمل» و«حزب الله». وتبحث المعارضة في الملف مع «التيار الوطني الحر» من خلال لجنة مصغرة تضم رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» النائب سامي الجميل والنواب غسان حاصباني عن «القوات اللبنانية»، وميشال معوض عن كتلة «تجدد»، ووضاح الصادق ومارك ضو وميشال الدويهي عن قوى «التغيير». وكانت قد اجتمعت أخيراً وتداولت في عدد من أسماء المرشحين من دون أن تتوقف حول اسم معين منهم. ومن الأسماء التي تداولتها اللجنة جهاد أزعور والوزير السابق زياد بارود والنائب نعمة أفرام وقائد الجيش العماد جوزيف عون والنائب السابق صلاح حنين، علماً أن «التيار الوطني» يعارض وصول العماد عون، ويضع «حزب الله» فيتو على صلاح حنين.

وعليه، تقلصت قائمة الأسماء لدى المعارضة إلى أسماء قليلة يتصدرها أزعور الذي بات خلال الأيام الأخيرة، الأوفر حظاً بين المعارضين، بالتزامن مع أن أياً من الأطراف الدولية لم يضع «فيتو» عليه، ولا يعارض وصوله، أو وصول أي مرشح آخر، إذا اتفق اللبنانيون عليه.

وبانتظار موقف باسيل، تقول مصادر نيابية معارضة، إن باسيل لم يبدِ اعتراضاً على اسم أزعور... وبلّغ المعارضة بذلك، لكنه لم يحسم خياره بشكل نهائي بعد، ولم يقدم إجابة كاملة حول السير بدعم أزعور. وتردّ المصادر ذلك إلى أن باسيل ينتظر جواباً من حليفه «حزب الله». وفي حال حُسم موقف باسيل، فإن أزعور سيحظى بتأييد يرفع حظوظه للوصول إلى القصر الجمهوري.

باسيل الذي انقطعت اتصالاته بـ«حزب الله» خلال الشهر الأخير، كان تعهّد ألا يسير بمرشح يعتبره «حزب الله» مرشح تحدٍ، حسبما تقول مصادر قريبة من «التيار الوطني الحر»، ولذا يسعى «لطمأنة» الحزب من خلال دعم ترشيح اسم لا يستفزه. في المقابل، يقف التزام «حزب الله» و«حركة أمل» بدعم فرنجية، حجر عثرة في وجه ترشيح أزعور، وسط تأكيد الفريقين أن لا خلاف شخصياً مع أزعور، وقد التقاه رئيس البرلمان نبيه برّي غير مرة، لكن التزامه بترشيح فرنجية لم يكن مناورة، بل ذهاب بالترشيح إلى النهاية.

في ظل هذا الانقسام والحسابات السياسية الدقيقة، لم يصدر عن أزعور أي تصريح متصل بتلك المباحثات، ولم يتسرّب عنه كذلك أي موقف، وإن كان ما يُجمع عليه عارفوه أنه يرفض أن يكون مرشح تحدّ لأحد.

وعليه، حتى ظهور أي مؤشرات متصلة بحظوظه الرئاسية، لا يزال أزعور على رأس عمله. وكان من أبرز الدعاة لتعاون لبنان مع صندوق النقد الدولي للنهوض من أزمته، ويرى أن الإجراءات التي أقرها لبنان للحصول على برنامج مع صندوق النقد، تحتاج لأن تُستكمل بإجراءات أخرى لا تزال قيد الإقرار، وهي ضرورية لإخراج البلاد من أزمتها الراهنة. وبالفعل، خلال لقاء أزعور برئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان في واشنطن في أبريل (نيسان) الماضي، جرى تأكيد أن انتخاب رئيس هو مدخل كل الحلول على أن تستمر المفاوضات بين لبنان والصندوق إلى ذلك الحين، والتعاون لإتمام الاتفاق الذي يحتاجه لبنان.

 

حقائق

جهاد أزعور... بطاقة تعريف

> من مواليد 1966، ويتحدّر من بلدة سير - الضنية في شمال لبنان

> متزوج من رولا رزق وأب لولدين هما جاد وكريم.

> يتولى الآن منصب مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي

> شغل منصب وزير المال اللبناني من عام 2005 وحتى 2008

> تولى عدة مناصب في القطاع الخاص، منها عمله في شركة ماكينزي وبوز آند كومباني وبرنامج التنمية الأممي UNDP في بيروت

> كان مديراً شريكاً في شركة «إنفنتيس بارتنرز» للاستشارات والاستثمار

> تلقى تعليمه العالي في فرنسا حيث نال الماجستير في الاقتصاد من جامعة باريس – دوفين، والدكتوراه بالعلوم المالية والاقتصاد من معهد الدراسات السياسية في باريس. وعمل زميلاً باحثاً في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.