جون ماهاما... الطامح إلى فرصة ثانية لـ«إنقاذ غانا»

الرئيس السابق قدّمته المعارضة لانتخابات 2024

جون ماهاما... الطامح إلى فرصة ثانية لـ«إنقاذ غانا»
TT

جون ماهاما... الطامح إلى فرصة ثانية لـ«إنقاذ غانا»

جون ماهاما... الطامح إلى فرصة ثانية لـ«إنقاذ غانا»

يراهن حزب «المؤتمر الوطني الديمقراطي» المعارض الرئيس في غانا، على خبرات الرئيس السابق والسياسي المخضرم جون ماهاما؛ من أجل الوصول للحكم، وذلك بتقديمه مرشحاً في الانتخابات الرئاسية المرتقبة نهاية العام المقبل. هذه ستغدو المرة الثالثة التي يترشح فيها ماهاما لأعلى منصب في غانا، إحدى أكثر الديمقراطيات استقراراً في غرب أفريقيا؛ إذ سبق لماهاما أن تولى رئاسة جمهورية غانا في يوليو (تموز) 2012، في أعقاب الوفاة المفاجئة للرئيس الراحل جون أتا ميلز، وكان نائب الرئيس آنذاك. وبعد ذلك فاز في الانتخابات في وقت لاحق من ذلك العام، ولطالما سعى إلى «فرصة ثانية»، تمكنه من تطبيق أفكاره، بيد أنه خسر مرتين متتاليتين أمام الرئيس الحالي نانا أكوفو أدو في انتخابات عامي 2016 و2020 بفارق ضئيل.

لم يسبق لأي حزب في غانا منذ نحو 30 سنة، أن فاز بأكثر من ولايتين متتاليتين. وراهناً تعوّل المعارضة على خبرة الرئيس السابق جون ماهاما في الفوز وتحقيق تطلعات الغانيين، خاصة ما يتعلق بالخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، كما يشير الدكتور عبد المنعم همّت، المحلل السياسي السوداني والخبير بالشأن الأفريقي.

يقول همّت لـ«الشرق الأوسط» شارحاً «تمرّ غانا، صاحبة الديمقراطية الراسخة والمستقرة، حالياً بأزمة اقتصادية معقدة جداً لم تشهدها منذ نحو 30 سنة، متمثلة في ديون اقتصادية وغلاء في المعيشة وانخفاض في قيمة العملة وتضاؤل للاحتياطي النقدي بشكل عام. هذا الوضع أثر سلباً بشكل كبير على الوضع الاقتصادي، وفرض على الحكومة اللجوء للاقتراض من الخارج؛ الأمر الذي سيكون له انعكاسات صعبة على فرص الحزب الحاكم في الانتخابات المقبلة». وأردف «في المقابل، فإن بإمكان المعارضة الاستفادة سياسياً من هذا الوضع، وخاصة مع تقديمها مرشحاً يتمتع بخبرات عالية ومتراكمة، بالنظر إلى تاريخه السياسي وممارسته العملية الانتخابية أكثر من مرة، ناهيك من خسارته في المرة الأخيرة بفارق قليل جداً عن الرئيس الحالي». ووفق همّت، فإن فرص فوز ماهاما بالرئاسة «مقدرة جداً وعالية».

السعي إلى القروض

تسعى غانا للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي لدعم اقتصادها المنهك. وفي هذا الصدد، قال وزير الدولة بوزارة المالية محمد أمين آدم إن «غانا تتوقع أن يوافق صندوق النقد الدولي على شريحة أولى من القروض بقيمة 600 مليون دولار». وهنا يرى همّت أن «الشروط الدولية التي تتبع الحصول على مثل هذه القروض، تتنافى مع الميل الاشتراكي للحزب الحاكم حالياً؛ الأمر الذي يتوقع أن يؤثر على شعبيته لصالح المعارضة».

للعلم، كان حزب «المؤتمر الوطني الديمقراطي»، قد اختار وبغالبية ساحقة ماهاما زعيماً له ومرشحاً عنه في الانتخابات الرئاسية المقرر أن تُجرى في ديسمبر (كانون الأول) 2024. ووفق بيان مفوضية الانتخابات في منتصف مايو (أيار) 2023، فإن ماهاما (64 سنة) حصل على 297603 صوتاً وهو ما يمثل 98.9 في المائة من الأصوات، في حين حصل منافسه عمدة مدينة كوماسي السابق كوجو بونسو على 1.1 في المائة فقط.

ويتمتع ماهاما بتاريخ سياسي عريق، فبخلاف رئاسته السابقة للبلاد، شغل منصب نائب رئيس غانا من 2009 وحتى 2012، كما كان عضواً في البرلمان من 1997 حتى 2009، ووزير الاتصالات من 1998 إلى 2001. وهو يعدّ من السياسيين الناشطين على الساحة الأفريقية؛ إذ سبق أن عُيّن من قبل رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي «ممثلاً أعلى» في الصومال، واختير رئيساً لمجلس إدارة منتدى «تانا»، وغيرها من المناصب القيادية القارية.

هذا، بعد وقت قصير من إعلان النتيجة، قال ماهاما معلقاً على اختياره «أشعر بالتواضع من التصويت الساحق على الثقة الذي منحني إياه الحزب... دعونا نحافظ على أنظارنا الجماعية بحزم بشأن الهدف الأسمى لمؤتمر الحوار الوطني: إنقاذ غانا وإخراجها من الهاوية الحالية التي نجد بلادنا فيها». وما يجدر ذكره أنه من المقرر أن يختار الحزب الحاكم مرشحه في وقت لاحق من هذا العام.

صورة أفضل أفريقياً

على النقيض من الرئيس الحالي أنانا أكوفو أدو، الذي تسبب في «تشويه سمعة غانا التاريخية في أفريقيا بسبب وقوفه إلى جانب السياسات الغربية»، كما قال لـ«الشرق الأوسط» محمد الأمين سوادغو، المحلل البوركينابي والخبير بالشؤون الأفريقية، فإن ماهاما «قد يقدّم صورة أفضل لغانا في أفريقيا؛ فبرامجه السياسية طموحة وجيدة... وتتمتع باستقلالية تامة عن السياسية الغربية والمشروع الاستعماري الحديث في أفريقيا».

ويعتقد سوادغو أن أكوفو أدو «خيّب ظن كثرة من الأفارقة بإحجامه عن دعم الحركات الثورية الصاعدة ضد السياسات الغربية الاستغلالية في غرب أفريقيا؛ وهي منطقة تعاني من مختلف التشكيلات المسلحة الإرهابية، بل سبق أن أطلق تصريحات مستفزة ضد السلطة في مالي وبوركينا فاسو خدمة للتوجه الغربي في هذَين البلدَين».

وقال أكوفو أدو خلال «قمة الولايات المتحدة وأفريقيا» في ديسمبر 2022 «إن بوركينا فاسو توصّلت إلى اتفاق مع مرتزقة (فاغنر) لمحاربة الجماعات المسلحة (في منطقة الساحل والصحراء) مقابل تشغيل منجم»، وهو كلام أثار أزمة سياسية كبيرة بين البلدين، ونفت حكومة بوركينا فاسو الأمر واستدعت سفير غانا لديها لتقديم شكوى له؛ لأنه لا وجود لمسلحي «فاغنر» الروس حالياً في بوركينا فاسو، فاعتذرت غانا على الأثر لبوركينا فاسو عن هذه المسالة.

وحقاً، يرى بعض الشباب في غانا وبوركينا فاسو ومالي أن اكوفو أدو «لا يعمل لاستقلال غانا وعموم أفريقيا بقدر ما يسعى لخدمة مصالحه الشخصية وترسيخ الجبهة الغربية في أفريقيا على بناء وتقدم أفريقيا»، كما يقول سوادغو.

نشأة سياسيةجون ماهاما، الذي يرفع شاعر «التغيير» في حملته الانتخابية، على أساس أن «العالم يتغير بسرعة كبيرة... ولا يمكن أن تستمر غانا في البقاء على حالها»، نشأ في بيئة سياسية مميزة، أهّلته لما أصبح فيه الآن. فقد ولد يوم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 في بلدة دامونغو، التي كانت آنذاك عاصمة منطقة غرب غونجا في المنطقة الشمالية من غانا. وكان والده إيمانويل أداما ماهاما، مزارع أرز وعضواً بارزاً في البرلمان عن دائرة غرب غونجا، وأول مفوض إقليمي للمنطقة الشمالية تحت قيادة أول زعيم لغانا الرئيس السابق والزعيم الاستقلالي كوامي نكروما.

أمضى ماهاما السنوات الأولى من حياته مع والدته، أبيبا نابا، في دامونغو، قبل أن ينتقل إلى العاصمة أكرا للعيش مع والده، الذي أشبعه بشغف قوي بالتعليم. وبالفعل تلقى تعليمه الأساسي في مدرسة أشيموتا الأساسية، وهنا يقول عن نفسه إنه اعتاد آنذاك على «الدفاع عن الأطفال الآخرين من المتنمّرين عليهم»، قبل أن ينتقل لاحقاً إلى مدرسة غانا الثانوية في مدينة تامالي.

ويشير موقعه الانتخابي، إلى حصوله لاحقاً على القبول في جامعة غانا، الجامعة الأولى في البلاد، حيث حصل على شهادة بكالوريوس الآداب في التاريخ عام 1981. وبعد حصوله على البكالوريوس، عاد ماهاما إلى تامالي، حيث عمل في تدريس التاريخ في مدرسة غانا الثانوية، إلى أن أجبره الوضع السياسي والاقتصادي في غانا على الفرار إلى نيجيريا، حيث عاد إلى والده الذي كان في المنفى.

وفي عام 1983 عاد برغبة قوية في بناء جسور بين الناس من خلال التواصل؛ لذلك التحق ببرنامج الدراسات العليا في دراسات الاتصالات في جامعة غانا. وعقب تخرجه عام 1986 ذهب ماهاما إلى موسكو، عاصمة الاتحاد السوفياتي السابق، ودرس هناك في «معهد العلوم الاجتماعية» المرموق، وفيه حصل على دبلوم الدراسات العليا في علم النفس الاجتماعي في العام 1988. وأثناء وجوده في موسكو، بدأ في الانقلاب على «الفكر الاشتراكي» وأخذت أفكاره تدعو إلى التحول بعيداً عن العقائد الأيديولوجية.

تدرج وظيفي... ونجاحات لافتة

كان العام 1996 هو موعد دخول جون ماهاما السياسة الغانية، حين انضم إلى حزب «المؤتمر الوطني الديمقراطي» (NDC)، المحسوب على يسار الوسط. ونظراً لنشاطه الحزبي وخبرته انتُخب نائباً في البرلمان الغاني لتمثيل دائرة بول - بامبوي الانتخابية لمدة أربع سنوات. وأعيد انتخابه في انتخابات عامي 2000 و2004.

خلال هذه الفترة، عُيّن نائباً لوزير الاتصالات عام 1997، وأصبح وزيراً للاتصالات من عام 1998 حتى عام 2001. وأثناء عمله وزيراً للاتصالات، تولّى ماهاما أيضاً رئاسة الهيئة الوطنية للاتصالات، ولعب دوراً رئيسياً في استقرار وتحويل قطاع الاتصالات في غانا.

في يوليو (تموز) 2012، وعندما كان ماهاما نائباً للرئيس، خلف رئيسه الذي وافته المنية يوم 24 يوليو من ذلك العام، وانتخب في ديسمبر 2012 رئيساً للجمهورية لأول فترة مدتها أربع سنوات. وهكذا صنع التاريخ السياسي من خلال أن يصبح أول رئيس دولة غاني يولد بعد إعلان استقلال غانا في 6 مارس (آذار) 1957.

ووفق بيانات رسمية، نشرتها الرئاسة الغانية، شهدت خلال فترة رئاسته تحولات مهمة، كان أهمها بناء ديمقراطية أكثر حيوية. فعام 2012، كانت درجة غانا في مؤشر الديمقراطية 6.02، وتحتل المرتبة الـ78 في العالم. ولكن في عام 2016، عندما ترك منصبه، كانت نتيجة غانا 6.75؛ ما وضعها في المرتبة الـ54 في العالم - وجعلها خامس أكثر دولة ديمقراطية في أفريقيا.

ومن ناحية ثانية، يشير برنامج ماهاما الانتخابي إلى أنه لطالما كان «موحّداً، متجاوزاً للسياسة القبلية، ومؤيداً قوياً للتعليم العام للجميع، كما أنه صاحب رؤية، يسعى إلى تطوير غانا».

لقد رفعت رئاسة ماهاما ترتيب غانا في المؤشر المتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة من المركز الـ71 في العالم في عام 2012 إلى المرتبة الـ59 في العالم في عام 2016. وبالقدر نفسه من الأهمية، ارتفع ترتيب غانا في عهده على صعيد حرية الصحافة من المرتبة الـ41 في عام 2012 إلى المرتبة الـ26 في عام 2016؛ ما جعل غانا بطلة عالمية للصحافة الحرة.

وفي تالمقابل، انخفض معدل البطالة من 3.6 في المائة عام 2012 إلى 2.3 في المائة خلال عام 2016. وانخفض معدل اللامساواة البشرية من 31.9 في عام 2012 إلى 28.8 في عام 2016. وانخفض معدل اللاالمساواة في التعليم من 40.9 في المائة في عام 2012 إلى 34.9 في المائة في عام 2016.

وراهناً، يهتم المرشح الرئاسي الغاني بموضوع تلوث البيئة، وتحديداً التلوث بالبلاستيك في أفريقيا، وقد ساهم في معالجة هذه المشكلة عندما كان نائب لرئيس الجمهورية. وفي كتابه الأول، الذي صدر يوم 3 يوليو 2012، بعنوان «أول انقلاباتي وقصص صادقة أخرى من العقود الضائعة في أفريقيا»، يتذكر ماهاما في فصله الأول ذلك اليوم من عام 1966 عندما علم بإطاحة كوامي نكروما، الرئيس الاستقلالي المؤسس لغانا، في انقلاب عسكري: يقول ماهاما «عندما ألقي نظرة على حياتي، من الواضح لي أن هذه اللحظة كانت بمثابة إيقاظ وعيي... لقد غيّرت حياتي وأثرت في كل اللحظات التي تلت ذلك».

معارك رئاسية سابقة

في انتخابات عام 2012، فاز جون ماهاما بنسبة 50.70 في المائة من إجمالي الأصوات الصحيحة المُدلى بها، بهامش فوز 3 في المائة على أقرب منافسيه نانا أكوفو أدو من حزب المعارضة (يمين الوسط) الرئيس آنذاك، الذي حصل على 47.74 في المائة تقريباً. كان هذا بالكاد يكفي للفوز بالرئاسة دون الحاجة إلى جولة الإعادة.

عقب ذلك سعى ماهاما لولاية ثانية كاملة في الانتخابات العامة خلال ديسمبر 2016. وكان مؤهلاً لولاية ثانية كاملة منذ أن صعد إلى الرئاسة مع بقاء ستة أشهر فقط خلال ولاية أتا ميلز. وبموجب الدستور الغاني يُسمح لنائب الرئيس الذي يصعد إلى الرئاسة بالترشح لفترتين كاملتين. لكنه هُزم أمام الرئيس الحالي أكوفو أدو بعد حصوله على 44.4 في المائة من الأصوات فقط.

بعدها، في 4 ديسمبر 2020، وقع ماهاما أكوفو أدو، الذي واجهه في الانتخابات الرئاسية الغانية عامي 2012 و2016 «اتفاق سلام» لضمان السلام قبل وأثناء وبعد انتخابات 7 ديسمبر، وبالفعل فاز أكوفو أدو في الانتخابات بنسبة 51.6 في المائة من الأصوات.

وتعبيراً عن «روحه الرياضية» وتقبله الهزيمة، أجرى ماهاما جولة أطلق عليها اسم «جولة الشكر» في أغسطس (آب) 2021، لشكر الغانيين على التصويت في الانتخابات الرئاسية لعام 2020.

نشاط أفريقي

استمراراً لتوسيع اهتمام ماهاما ومشاركته في الشؤون الدولية، أصبح عام 2003 عضواً في برلمان عموم أفريقيا، حيث شغل منصب رئيس تجمع غرب أفريقيا حتى عام 2011. وكان أيضاً عضواً في البرلمانات الأوروبية والبرلمانات الإفريقية المخصصة ولجنة التعاون. وفي عام 2005، عُيّن، بالإضافة إلى ذلك، الناطق باسم الأقليات للشؤون الخارجية. وهو اليوم عضو في اللجنة الاستشارية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بشأن حل النزاعات في غانا.

كذلك في 30 مارس 2014، انتخب ماهاما لرئاسة الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وفي 26 يونيو 2014، انتخب رئيساً للجنة التجارة الأفريقية رفيعة المستوى التابعة للاتحاد الأفريقي. وفي 21 يناير 2016 بمناسبة «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس، أصبح ماهاما الرئيس المشارك لمجموعة مناصري أهداف التنمية المستدامة التي تتكون من 17 شخصية بارزة تساعد الأمين العام للأمم المتحدة في حملة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي اعتمدها قادة العالم بالإجماع في سبتمبر 2015. وبتفويض لدعم الأمين العام في جهوده لتوليد الزخم والالتزام بتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030.

أخيراً، في ديسمبر 2016، كان ماهاما جزءاً من فريق الوساطة التابع لـ«المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» لحل المأزق السياسي الذي أعقب الانتخابات في غامبيا بين الرئيس المهزوم يحيى جامح ومنافسه الفائز المعلن آدم بارو. ثم في فبراير 2017 ، حصل ماهاما على جائزة «القائد السياسي الأفريقي لعام 2016» من مجلة القيادة الأفريقية في جنوب أفريقيا.



ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».