في اكتشاف أثري وعلمي يفتح نافذة جديدة على تاريخ بريطانيا، كشف تحليل الحمض النووي لهياكل عظمية مدفونة منذ القرن السابع الميلادي على الساحل الجنوبي لإنجلترا، عن أصول غير متوقعة تعود إلى غرب أفريقيا.
وتؤكد هذه النتائج أن بريطانيا لم تكن منعزلة بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، بل كانت جزءاً من شبكة عالمية من الهجرة والتبادل الثقافي تفوق ما كنا نتصوره.
أدلة من مقابر قديمة
وحلل فريق من علماء الآثار وعلماء الوراثة بقايا هيكلين عظميين عُثر عليهما في مقبرتين تعودان إلى أوائل العصور الوسطى هما مقبرة «أبداون» في مقاطعة كينت، ومقبرة «وورث ماترافيرز» في دورست. ورغم أن المدفونين لا تجمعهما أي صلة قرابة مباشرة، لكن الحمض النووي الخاص بهما كشف عن رابط مشترك غير مألوف، إذ إن كليهما كان لهما جدّ من غرب أفريقيا.
ويمثل هذا الاكتشاف، الذي نُشر في مجلة «Antiquity»، في 13 أغسطس (آب) 2025، أحد أندر الأدلة الجينية المباشرة على الهجرة لمسافات طويلة إلى بريطانيا، خلال تلك الحقبة.
• هجرات وأنماط معيشية متغيرة. وقد شهدت أوائل العصور الوسطى تحولات كبيرة في بريطانيا. فمع انهيار الحكم الروماني، وصلت موجات من المهاجرين من شمال أوروبا مثل الأنجلز والساكسون والجوت لتعيد تشكيل الهوية واللغة والثقافة المحلية. لكن العثور على أدلة ملموسة حول وصول أشخاص من مناطق أبعد مثل أفريقيا ظل صعباً جداً.
وتقول الدكتورة سيريدوين إدواردز، المتخصصة في علم الوراثة الأثرية من جامعة هدرسفيلد بالمملكة المتحدة، التي شاركت في الدراسة: «كانت لدينا مؤشرات أثرية على وجود تبادل ثقافي وتجاري واسع، لكن الحمض النووي القديم هو الذي يقدم لنا الدليل الحاسم على وجود مهاجرين من أصول بعيدة فعلاً».
• مَن أصحاب الأصول الأفريقية؟ وأظهر التحليل أن فتاة مراهقة مدفونة في مقبرة «أبداون» كانت تحمل حمضاً نووياً يجمع بين أصول أوروبية تقليدية عبر خط الأم، وروابط وراثية قوية بمجموعات غرب أفريقيا المعاصرة مثل اليوروبا والميندي والماندينكا.
أما في «وورث ماترافيرز» فقد عُثر على شاب مدفون في قبر مزدوج بجانب رجل محلي أكبر سناً، لم تكن هناك قرابة بينهما، لكن دفنهما معاً يشير إلى مكانة اجتماعية واحترام متبادل. وقد أظهر الحمض النووي للشاب أيضاً أصولاً من غرب أفريقيا.
ويقول البروفسور دنكان ساير، المؤرخ الأثري من جامعة لانكشاير بالمملكة المتحدة: «كان ما يثير الاهتمام هو أن هذين الفردين لم يُعامَلا على أنهما غريبان، فقد دُفنا بالطريقة نفسها التي دُفن بها أفراد المجتمع المحلي، ما يعني أنهما كانا جزءاً من النسيج الاجتماعي».
شواهد الدفن تكشف الانتماء
وقد احتوت مقبرة الفتاة في «أبداون» على قِطع أثرية مميزة كانت قد دُفن معها سِكين ومشط عظمي وإناء مستورد من بلاد الغال (فرنسا الحالية)، بالإضافة إلى ملعقة يُعتقد أنها مرتبطة بالطقوس المسيحية. وتشير الأدلة الجينية إلى أنها كانت مرتبطة بأشخاص آخرين في المقبرة نفسها، ما يؤكد اندماجها العائلي في المجتمع.
أما في «وورث ماترافيرز» فقد وُضع بجانب الشاب ذي الأصول الأفريقية مرساة حجرية (وهو ثِقْل يلقى في الماء فيمسك السَّفينة ويمنعها عن الحركة) محلية الصنع؛ رمزاً ربما يعكس مهنته أو ارتباطه بالمجتمع الساحلي.
وترتبط هذه النتائج بتحولات سياسية وجغرافية أكبر في تلك الفترة، فقد شهد القرن السادس استعادة البيزنطيين شمال أفريقيا، الأمر الذي أدى إلى اضطرابات في المجتمعات المحلية وشبكات التجارة. ويرجّح الباحثون أن هذه التغيرات أسهمت في حركة أشخاص من أفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط ووصولهم، في نهاية المطاف، إلى بريطانيا.
وتُعلق الباحثة ليليان لادل، التي قادت حفريات «وورث ماترافيرز»، بأن ما يجعل هذا الاكتشاف مميزاً هو أنه نتاج مشروع ميداني اعتمد على متطوعين محليين، إذ لم نتوقع أن تكشف عيّنات الحمض النووي عن قصة بهذا العمق والاتساع العالمي.
إن وجود أفراد من أصول أفريقية في قلب إنجلترا الأنجلوساكسونية يقوّض الفكرة القديمة التي ترى أن المجتمعات في تلك الحقبة كانت متجانسة أو معزولة، بل على العكس، يبدو أن بريطانيا في أوائل العصور الوسطى كانت موطناً لمزيج متنوع من الأصول يتعايش ويندمج ضمن الحياة اليومية.
وتقول الدكتورة إدواردز إن النتائج تُظهر أن الهويات في العصور الوسطى لم تكن محصورة في قوالب عِرقية أو جغرافية ضيقة، بل كان هناك انفتاح واندماج يتجاوز ما اعتقدناه.
ويُعد هذا الاكتشاف خطوة مهمة لفهم تاريخ بريطانيا كجزء من تاريخ عالمي مشترك. فعبر تتبُّع جينات مراهِقة وشاب عاشا قبل أكثر من 1300 عام أصبح لدينا دليل ملموس على أن التنوع والاختلاط الثقافي كانا جزءاً أصيلاً من الماضي البريطاني.
وهو تذكير بأن حركة البشر عبر القارات ليست أمراً جديداً، بل ظاهرة متجذرة في تاريخنا الطويل، وأن القصص المخفية داخل الحمض النووي يمكن أن تُعيد تشكيل فهمنا لهوياتنا المشتركة.
وكما قال البروفسور ساير، فإنه، ومن خلال هذا الدليل الجيني النادر، يمكننا أن نرى كيف كانت بريطانيا، بالفعل، جزءاً من عالم مترابط، حتى في القرون المظلمة التي كنا نظنها معزولة.

