الدواء الأخضر… باحثة سعودية تقود مشروعاً بحثياً دولياً

الذكاء الاصطناعي… يذيب الحواجز بين الكيمياء والرحمة

الدواء الأخضر… باحثة سعودية تقود مشروعاً بحثياً دولياً
TT

الدواء الأخضر… باحثة سعودية تقود مشروعاً بحثياً دولياً

الدواء الأخضر… باحثة سعودية تقود مشروعاً بحثياً دولياً

في زحمة الابتكارات الصيدلانية المتسارعة، هناك معضلة قد تبدو «تقنية» لكنها تمس جوهر العلاج: أن تكتشف دواءً فعالاً في المختبر، لكنه يفشل في جسد المريض لأنه لا يذوب بما يكفي. إنها مشكلة قديمة–جديدة تُعرف باسم ضعف الذوبانية الحيوية (Low Bioavailability)، أي عدم قدرة الدواء على الذوبان والوصول إلى مجرى الدم بالكفاءة المطلوبة.

هذا التحدي الصامت يقف وراء فشل كثير من الأدوية الحديثة، فالمركب الكيميائي قد يكون مثالياً من حيث الصيغة، لكنه يبقى عاجزاً إن لم يتجاوز الحاجز الأول: الذوبان.

تخيّل أن تمتلك تذكرة سفر إلى الشفاء... لكنها غير قابلة للقراءة. ولهذا السبب، أصبحت الذوبانية الحيوية في صميم تفكير شركات الأدوية الكبرى، من لحظة تصميم الجزيء إلى لحظة تعبئته. واليوم، تُطرح الأسئلة نفسها بصياغة مختلفة:

- هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا في فهم كيف تذوب الجزيئات؟

- هل يستطيع أن يطوّع قوانين الفيزياء والكيمياء ليصنع دواءً أكثر فاعلية... وأكثر خضرة؟

دراسة سعودية تقود التغيير

من هنا تبدأ القصة مع فريق سعودي قاد واحدة من أهم الدراسات العالمية في هذا المجال.

في سبتمبر (أيلول) 2025، أضاءت دراسة سعودية–دولية آفاقاً جديدة أمام صناعة الدواء، حين نُشرت في مجلة (Scientific Reports) التابعة لمجموعة «نيتشر»، كاشفة عن نقلة نوعية في التعامل مع أدوية منخفضة الذوبانية.

جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن الرائدة

هذه الدراسة تمثل لحظة مفصلية، حيث قادت السعودية، عبر جامعتها الوطنية النسائية الرائدة، جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، مشروعاً بحثياً عالمياً متعدد الجنسيات والتخصصات، يجعل من الذكاء الاصطناعي لاعباً أساسياً في تصنيع الدواء المستدام.

ترأست المشروع الدكتورة هديل بنت فارس العتيبي، الباحثة السعودية المتخصصة في علوم الدواء الأخضر، وشاركت فيه نخبة من العلماء من أبرز المؤسسات البحثية والطبية حول العالم، من بينها:

-جامعة ولاية أريزونا (Thunderbird School of Global Management–Arizona State University)–الولايات المتحدة.

-جامعة جلا (GLA University)-الهند.

- جامعة جاين (JAIN University)-بنغالور، الهند.

- مستشفى IMS & SUM-ولاية أوديشا، الهند.

- جامعة تشيتكارا (Chitkara University)-البنجاب، الهند.

- جامعة مامون (Mamun University)-خيفا، أوزبكستان.

- جامعة أورغينتش الحكومية (Urgench State University)-أوزبكستان.

- جامعة أوتارانشال (Uttaranchal University)-الهند.

ركز الفريق على دواء يعرفه الجميع: الباراسيتامول (Paracetamol)، (وفي أميركا يسمونه تايلينول Tylenol) أحد أكثر الأدوية استخداماً في العالم، لكن رغم ذلك، يواجه تحديات في الذوبان تحت ظروف معينة.

لكن المذهل في الدراسة لم تكن فقط التركيبة الدوائية، بل الوسيلة: فقد استخدم الفريق تقنية ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج (Supercritical CO₂)، وهي تقنية خضراء متقدمة تسمح بإذابة المواد في حالة وسطية بين السائل والغاز، ما يُتيح الوصول إلى أشكال دوائية نانوية عالية الذوبانية... ومن دون مذيبات سامة.

بهذا المشروع، لم تكن المملكة مجرّد مساهم... بل كانت قائدة لفريق عالمي أعاد تعريف الحدود الممكنة بين البيئة، والتقنية، والدواء.

خوارزميات تتعلّم... لتذيب

لم يكن هذا البحث مجرّد تمرين في الكيمياء الفيزيائية، بل كان درساً في كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتصرّف على أنه كيميائي افتراضي بارع لا يعمل في مختبر زجاجي، بل في فضاء من المعادلات، والنماذج، والاحتمالات.

فبدلاً من الاعتماد على التجريب اليدوي المتكرّر، اعتمد الفريق على خوارزميات تعلم آلي (Machine Learning Algorithms) قادرة على التنبؤ بذوبان جزيئات الباراسيتامول في بيئة ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج، وتحت ظروف متنوعة من الضغط والحرارة.

وقد شملت هذه الخوارزميات أربعة نماذج متقدمة تُعد من أقوى أدوات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ ومعالجة البيانات المعقدة:

-خوارزمية الغابة العشوائية (Random Forest).

- خوارزمية الأشجار الفائقة (Extra Trees).

- خوارزمية التعزيز التدريجي (Gradient Boosting).

- خوارزمية التعزيز الكمي للتدرج (Quantile Gradient Boosting)، وهي خوارزمية متقدمة تتميز بقدرتها على التنبؤ بدقة، مع تقديم تقديرات لمستوى عدم اليقين، وهي سمة بالغة الأهمية في التجارب الدوائية.

ولم يكتف الفريق بذلك، بل استخدم أيضاً أداة ضبط ذكية تُعرف بـخوارزمية الحوت (Whale Optimization Algorithm) المستوحاة من أسلوب الصيد الدائري لدى الحيتان الحدباء، حيث تُحاصر فريستها بفقاعات دقيقة في نمط حلقي يشبه التعلّم التكيفي.

هكذا لم تعد الخوارزميات أدوات لحساب البيانات فقط، بل أدوات للتأمل والتجريب... وكأن الحاسوب بدأ يتعلّم كيف يذيب، ويفهم، ويتوقع، لا بل ويبتكر، في رحلة تشبه الفن أكثر من المعادلات.

نتائج دقيقة... من بيانات قليلة

النتائج لم تكن فقط مبشّرة، بل مدهشة بمقاييس البحث العلمي. فباستخدام خوارزمية التعزيز الكمي للتدرج تمكن النموذج من التنبؤ بذوبان الباراسيتامول بدقة بلغت 0.985 (R²)، وهي نتيجة تكاد تلامس الكمال في التجارب الحاسوبية.

أما نموذج الأشجار الفائقة فقد تفوّق في التنبؤ بكثافة المذيب، محققاً دقة غير مسبوقة وصلت إلى 0.997 (R²).

لكن المفارقة الأجمل أن هذه الدقة العالية لم تعتمد على آلاف العينات، بل على 40 نقطة بيانات فقط، ما يكشف عن قوة الذكاء الاصطناعي في استنباط الأنماط الخفية حتى من داخل مجموعات بيانات صغيرة ومحدودة.

وهنا تبرز قيمة الذكاء الاصطناعي ليس فقط بوصفه أداة حاسبة، بل على أنه بوصلة تقودنا نحو الحقيقة حين تعجز الأدوات التقليدية عن رؤيتها.

نحو تصنيع مستمر وصديق للبيئة

تكمن أهمية هذا البحث في أنه لا يكتفي بتحسين ذوبان دواء واحد، بل يفتح الباب أمام ثورة في طريقة تصنيع الأدوية نفسها. فبدلاً من الأسلوب التقليدي المعتمد على «الدفعات» (Batch Processing)، يطرح الباحثون بديلاً أكثر مرونة واستدامة: التصنيع المستمر (Continuous Manufacturing) باستخدام تقنيات فوق حرجة.

هذا التحول لا يعني فقط تحديث خطوط الإنتاج، بل إعادة تعريفها بالكامل. فالتصنيع المستمر يُمكّن من التحكم الدقيق في ظروف التفاعل، ويُتيح مراقبة لحظية للجودة، ويقلّل بشكل كبير من الفاقدين الزمني والمادي.

أما استخدام ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج بوصف أنه مذيب صديق للبيئة، فيوفّر بديلاً حقيقياً للمذيبات العضوية السامة التي طالما شكّلت عبئاً بيئياً وصحياً على مصانع الأدوية.

إننا أمام ثلاثية واعدة في آنٍ واحد:

-زمن تصنيع أقصر.

- تكلفة إنتاج أقل.

- دواء أنظف، وأكثر أماناً للبيئة.

وبهذا لا يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة تحسين، بل إلى محفّز لإعادة هيكلة فلسفة التصنيع الدوائي من الجذور.

جسيمات نانوية لفعالية أكبر

ولعلّ الأهم من الذوبان نفسه، هو كيف نُعيد تصميم الجزيء الدوائي ليذوب بشكل أفضل. وهنا تظهر تقنية تحويل الدواء إلى جسيمات نانوية (Nanoparticles) باعتبارها واحدة من أكثر الحلول فعالية في التغلب على مشكلة انخفاض الذوبانية.

حين يتحوّل المركّب إلى جسيمات نانوية، وتزداد مساحته السطحية بشكل كبير، ما يُعزز ذوبانه في سوائل الجسم، ويرفع من امتصاصه الحيوي (Bioavailability) عبر الأمعاء، أو الجلد، أو حتى الأغشية المخاطية.

هذا التحسين ليس ترفاً تقنياً، بل ضرورة عملية، لأن ما يقارب 40 في المائة من الأدوية الحديثة تعاني من ضعف في الذوبانية، وهو ما يؤدي إلى تقليل تأثيرها العلاجي رغم فعالية مكوناتها الكيميائية.

في هذا السياق، يقدّم الذكاء الاصطناعي دوراً مزدوجاً:

-في التنبؤ بأفضل الطرق لتحويل الدواء إلى شكل نانوي.

-وفي اختيار الظروف المثالية (ضغط، حرارة، زمن) لإنتاج جسيمات مستقرة وفعالة.

وهكذا يتحول الابتكار إلى فعالية، وتتحوّل الخوارزمية إلى جسيم نانوي... يذوب أسرع، يعمل أفضل، ويخدم الإنسان بصمت ودقة.

الذكاء الاصطناعي... بين الطبيعة والعقل

قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مسألة ضغط وحرارة ومذيب وجزيئات، لكن جوهر الابتكار يتجاوز هذه التفاصيل التقنية: نحن أمام مثال حي على كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح أبواباً لم تكن مرئية من قبل، لا في الطبيعة وحدها، ولا في الرياضيات وحدها، بل في لحظة التقاء العقل بالتجريب.

هذه الخوارزميات لا تذيب فقط جزيئات «الباراسيتامول»، بل تذيب الحواجز بين الإنسان والعلاج، بين التقنية والرحمة، وتفتح الطريق نحو دواءٍ أكثر كفاءة... وأكثر خضرة.

وكما قال جابر بن حيان منذ قرون بعيدة: «علينا أن نعلم أن العلم يُؤخذ من التجربة، والعقل هو الدليل عليها». واليوم نرى كيف يتحالف العقل الإنساني مع الخوارزمية، ليفتحا معاً فصلاً جديداً من الكيمياء... أكثر إنسانية، وأكثر استدامة.


مقالات ذات صلة

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً رغم ارتفاع الأخطاء البشرية

تكنولوجيا نصف الموظفين في السعودية فقط تلقّوا تدريباً سيبرانياً ما يخلق فجوة خطرة في الوعي الأمني داخل المؤسسات (غيتي)

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً رغم ارتفاع الأخطاء البشرية

تكشف دراسة «كاسبرسكي» فجوة كبيرة في الوعي الأمني لدى موظفي السعودية؛ إذ تلقى نصفهم فقط تدريباً سيبرانياً ما يجعل الأخطاء البشرية مدخلاً رئيسياً للهجمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» (أ.ب)

تقرير: مؤسس «أوبن إيه آي» يتطلع إلى تأسيس شركة صواريخ لمنافسة ماسك في الفضاء

كشف تقرير جديدة عن أن سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، يتطلع إلى بناء أو تمويل أو شراء شركة صواريخ لمنافسة الملياردير إيلون ماسك في سباق الفضاء.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد شعار شركة «إس كيه هاينكس» ولوحة أم للكمبيوتر تظهر في هذا الرسم التوضيحي (رويترز)

رئيس «إس كيه» الكورية: صناعة الذكاء الاصطناعي ليست في فقاعة

قال رئيس مجموعة «إس كيه» الكورية الجنوبية، المالكة لشركة «إس كيه هاينكس» الرائدة في تصنيع رقائق الذاكرة، إن أسهم الذكاء الاصطناعي قد تتعرض لضغوط.

«الشرق الأوسط» (سيول)
تكنولوجيا شكل تسارع التحول الرقمي واتساع تأثير الذكاء الاصطناعي ملامح المشهد العربي في عام 2025 (شاترستوك)

بين «غوغل» و«يوتيوب»... كيف بدا المشهد الرقمي العربي في 2025؟

شهد عام 2025 تحوّلًا رقميًا واسعًا في العالم العربي، مع هيمنة الذكاء الاصطناعي على بحث غوغل وصعود صنّاع المحتوى على يوتيوب، وتقدّم السعودية في الخدمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
الاقتصاد هاتف ذكي وشاشة كمبيوتر يعرضان شعارَي «واتساب» والشركة الأم «ميتا» في غرب فرنسا (أ.ف.ب)

تحقيق أوروبي في قيود «ميتا» على منافسي الذكاء الاصطناعي عبر «واتساب»

خضعَت شركة «ميتا بلاتفورمز» لتحقيق جديد من جانب الاتحاد الأوروبي لمكافحة الاحتكار، على خلفية خطتها لإطلاق ميزات ذكاء اصطناعي داخل تطبيق «واتساب».

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.