في زحمة الابتكارات الصيدلانية المتسارعة، هناك معضلة قد تبدو «تقنية» لكنها تمس جوهر العلاج: أن تكتشف دواءً فعالاً في المختبر، لكنه يفشل في جسد المريض لأنه لا يذوب بما يكفي. إنها مشكلة قديمة–جديدة تُعرف باسم ضعف الذوبانية الحيوية (Low Bioavailability)، أي عدم قدرة الدواء على الذوبان والوصول إلى مجرى الدم بالكفاءة المطلوبة.
هذا التحدي الصامت يقف وراء فشل كثير من الأدوية الحديثة، فالمركب الكيميائي قد يكون مثالياً من حيث الصيغة، لكنه يبقى عاجزاً إن لم يتجاوز الحاجز الأول: الذوبان.
تخيّل أن تمتلك تذكرة سفر إلى الشفاء... لكنها غير قابلة للقراءة. ولهذا السبب، أصبحت الذوبانية الحيوية في صميم تفكير شركات الأدوية الكبرى، من لحظة تصميم الجزيء إلى لحظة تعبئته. واليوم، تُطرح الأسئلة نفسها بصياغة مختلفة:
- هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا في فهم كيف تذوب الجزيئات؟
- هل يستطيع أن يطوّع قوانين الفيزياء والكيمياء ليصنع دواءً أكثر فاعلية... وأكثر خضرة؟
دراسة سعودية تقود التغيير
من هنا تبدأ القصة مع فريق سعودي قاد واحدة من أهم الدراسات العالمية في هذا المجال.
في سبتمبر (أيلول) 2025، أضاءت دراسة سعودية–دولية آفاقاً جديدة أمام صناعة الدواء، حين نُشرت في مجلة (Scientific Reports) التابعة لمجموعة «نيتشر»، كاشفة عن نقلة نوعية في التعامل مع أدوية منخفضة الذوبانية.

جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن الرائدة
هذه الدراسة تمثل لحظة مفصلية، حيث قادت السعودية، عبر جامعتها الوطنية النسائية الرائدة، جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، مشروعاً بحثياً عالمياً متعدد الجنسيات والتخصصات، يجعل من الذكاء الاصطناعي لاعباً أساسياً في تصنيع الدواء المستدام.
ترأست المشروع الدكتورة هديل بنت فارس العتيبي، الباحثة السعودية المتخصصة في علوم الدواء الأخضر، وشاركت فيه نخبة من العلماء من أبرز المؤسسات البحثية والطبية حول العالم، من بينها:
-جامعة ولاية أريزونا (Thunderbird School of Global Management–Arizona State University)–الولايات المتحدة.
-جامعة جلا (GLA University)-الهند.
- جامعة جاين (JAIN University)-بنغالور، الهند.
- مستشفى IMS & SUM-ولاية أوديشا، الهند.
- جامعة تشيتكارا (Chitkara University)-البنجاب، الهند.
- جامعة مامون (Mamun University)-خيفا، أوزبكستان.
- جامعة أورغينتش الحكومية (Urgench State University)-أوزبكستان.
- جامعة أوتارانشال (Uttaranchal University)-الهند.
ركز الفريق على دواء يعرفه الجميع: الباراسيتامول (Paracetamol)، (وفي أميركا يسمونه تايلينول Tylenol) أحد أكثر الأدوية استخداماً في العالم، لكن رغم ذلك، يواجه تحديات في الذوبان تحت ظروف معينة.
لكن المذهل في الدراسة لم تكن فقط التركيبة الدوائية، بل الوسيلة: فقد استخدم الفريق تقنية ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج (Supercritical CO₂)، وهي تقنية خضراء متقدمة تسمح بإذابة المواد في حالة وسطية بين السائل والغاز، ما يُتيح الوصول إلى أشكال دوائية نانوية عالية الذوبانية... ومن دون مذيبات سامة.
بهذا المشروع، لم تكن المملكة مجرّد مساهم... بل كانت قائدة لفريق عالمي أعاد تعريف الحدود الممكنة بين البيئة، والتقنية، والدواء.
خوارزميات تتعلّم... لتذيب
لم يكن هذا البحث مجرّد تمرين في الكيمياء الفيزيائية، بل كان درساً في كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتصرّف على أنه كيميائي افتراضي بارع لا يعمل في مختبر زجاجي، بل في فضاء من المعادلات، والنماذج، والاحتمالات.
فبدلاً من الاعتماد على التجريب اليدوي المتكرّر، اعتمد الفريق على خوارزميات تعلم آلي (Machine Learning Algorithms) قادرة على التنبؤ بذوبان جزيئات الباراسيتامول في بيئة ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج، وتحت ظروف متنوعة من الضغط والحرارة.
وقد شملت هذه الخوارزميات أربعة نماذج متقدمة تُعد من أقوى أدوات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ ومعالجة البيانات المعقدة:
-خوارزمية الغابة العشوائية (Random Forest).
- خوارزمية الأشجار الفائقة (Extra Trees).
- خوارزمية التعزيز التدريجي (Gradient Boosting).
- خوارزمية التعزيز الكمي للتدرج (Quantile Gradient Boosting)، وهي خوارزمية متقدمة تتميز بقدرتها على التنبؤ بدقة، مع تقديم تقديرات لمستوى عدم اليقين، وهي سمة بالغة الأهمية في التجارب الدوائية.
ولم يكتف الفريق بذلك، بل استخدم أيضاً أداة ضبط ذكية تُعرف بـخوارزمية الحوت (Whale Optimization Algorithm) المستوحاة من أسلوب الصيد الدائري لدى الحيتان الحدباء، حيث تُحاصر فريستها بفقاعات دقيقة في نمط حلقي يشبه التعلّم التكيفي.
هكذا لم تعد الخوارزميات أدوات لحساب البيانات فقط، بل أدوات للتأمل والتجريب... وكأن الحاسوب بدأ يتعلّم كيف يذيب، ويفهم، ويتوقع، لا بل ويبتكر، في رحلة تشبه الفن أكثر من المعادلات.

نتائج دقيقة... من بيانات قليلة
النتائج لم تكن فقط مبشّرة، بل مدهشة بمقاييس البحث العلمي. فباستخدام خوارزمية التعزيز الكمي للتدرج تمكن النموذج من التنبؤ بذوبان الباراسيتامول بدقة بلغت 0.985 (R²)، وهي نتيجة تكاد تلامس الكمال في التجارب الحاسوبية.
أما نموذج الأشجار الفائقة فقد تفوّق في التنبؤ بكثافة المذيب، محققاً دقة غير مسبوقة وصلت إلى 0.997 (R²).
لكن المفارقة الأجمل أن هذه الدقة العالية لم تعتمد على آلاف العينات، بل على 40 نقطة بيانات فقط، ما يكشف عن قوة الذكاء الاصطناعي في استنباط الأنماط الخفية حتى من داخل مجموعات بيانات صغيرة ومحدودة.
وهنا تبرز قيمة الذكاء الاصطناعي ليس فقط بوصفه أداة حاسبة، بل على أنه بوصلة تقودنا نحو الحقيقة حين تعجز الأدوات التقليدية عن رؤيتها.
نحو تصنيع مستمر وصديق للبيئة
تكمن أهمية هذا البحث في أنه لا يكتفي بتحسين ذوبان دواء واحد، بل يفتح الباب أمام ثورة في طريقة تصنيع الأدوية نفسها. فبدلاً من الأسلوب التقليدي المعتمد على «الدفعات» (Batch Processing)، يطرح الباحثون بديلاً أكثر مرونة واستدامة: التصنيع المستمر (Continuous Manufacturing) باستخدام تقنيات فوق حرجة.
هذا التحول لا يعني فقط تحديث خطوط الإنتاج، بل إعادة تعريفها بالكامل. فالتصنيع المستمر يُمكّن من التحكم الدقيق في ظروف التفاعل، ويُتيح مراقبة لحظية للجودة، ويقلّل بشكل كبير من الفاقدين الزمني والمادي.
أما استخدام ثاني أكسيد الكربون فوق الحرج بوصف أنه مذيب صديق للبيئة، فيوفّر بديلاً حقيقياً للمذيبات العضوية السامة التي طالما شكّلت عبئاً بيئياً وصحياً على مصانع الأدوية.
إننا أمام ثلاثية واعدة في آنٍ واحد:
-زمن تصنيع أقصر.
- تكلفة إنتاج أقل.
- دواء أنظف، وأكثر أماناً للبيئة.
وبهذا لا يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة تحسين، بل إلى محفّز لإعادة هيكلة فلسفة التصنيع الدوائي من الجذور.
جسيمات نانوية لفعالية أكبر
ولعلّ الأهم من الذوبان نفسه، هو كيف نُعيد تصميم الجزيء الدوائي ليذوب بشكل أفضل. وهنا تظهر تقنية تحويل الدواء إلى جسيمات نانوية (Nanoparticles) باعتبارها واحدة من أكثر الحلول فعالية في التغلب على مشكلة انخفاض الذوبانية.
حين يتحوّل المركّب إلى جسيمات نانوية، وتزداد مساحته السطحية بشكل كبير، ما يُعزز ذوبانه في سوائل الجسم، ويرفع من امتصاصه الحيوي (Bioavailability) عبر الأمعاء، أو الجلد، أو حتى الأغشية المخاطية.
هذا التحسين ليس ترفاً تقنياً، بل ضرورة عملية، لأن ما يقارب 40 في المائة من الأدوية الحديثة تعاني من ضعف في الذوبانية، وهو ما يؤدي إلى تقليل تأثيرها العلاجي رغم فعالية مكوناتها الكيميائية.
في هذا السياق، يقدّم الذكاء الاصطناعي دوراً مزدوجاً:
-في التنبؤ بأفضل الطرق لتحويل الدواء إلى شكل نانوي.
-وفي اختيار الظروف المثالية (ضغط، حرارة، زمن) لإنتاج جسيمات مستقرة وفعالة.
وهكذا يتحول الابتكار إلى فعالية، وتتحوّل الخوارزمية إلى جسيم نانوي... يذوب أسرع، يعمل أفضل، ويخدم الإنسان بصمت ودقة.
الذكاء الاصطناعي... بين الطبيعة والعقل
قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مسألة ضغط وحرارة ومذيب وجزيئات، لكن جوهر الابتكار يتجاوز هذه التفاصيل التقنية: نحن أمام مثال حي على كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح أبواباً لم تكن مرئية من قبل، لا في الطبيعة وحدها، ولا في الرياضيات وحدها، بل في لحظة التقاء العقل بالتجريب.
هذه الخوارزميات لا تذيب فقط جزيئات «الباراسيتامول»، بل تذيب الحواجز بين الإنسان والعلاج، بين التقنية والرحمة، وتفتح الطريق نحو دواءٍ أكثر كفاءة... وأكثر خضرة.
وكما قال جابر بن حيان منذ قرون بعيدة: «علينا أن نعلم أن العلم يُؤخذ من التجربة، والعقل هو الدليل عليها». واليوم نرى كيف يتحالف العقل الإنساني مع الخوارزمية، ليفتحا معاً فصلاً جديداً من الكيمياء... أكثر إنسانية، وأكثر استدامة.

