في خطوة ثورية لعلم الأحياء طوّر باحثون في الحاسوب في المعهد الاتحادي السويسري محرك بحث جديداً يُعرف باسم «ميتا غراف» قادراً على التنقيب بسرعة هائلة في كميات ضخمة من البيانات الجينية المخزّنة في قواعد بيانات عامة حول العالم. ويجمع النظام بين دقة علمية مذهلة وسرعة بحث تشبه «غوغل»، لكنه لا يبحث في مواقع الإنترنت، بل في الحمض النووي الذي يشكّل أساس الحياة.
تسريع الاكتشافات في أبحاث السرطان والأوبئةوتُعد الخطوة عملاقة في مجالي التكنولوجيا الحيوية وعلوم البيانات مع إمكانات هائلة لتسريع الاكتشافات في أبحاث السرطان والأوبئة وغيرها من المجالات الطبية.
* تصفح بيولوجي في ثوانٍ. وكما أن الإنترنت لديها «غوغل»، أصبح لعلم الأحياء الآن «ميتا غراف» «MetaGraph»، فقد نشرت مجلة Nature بتاريخ 8 أكتوبر (تشرين الأول) لعام 2025 تفاصيل أداة البحث الجديدة التي تتيح للعلماء تصفح كميات هائلة من البيانات البيولوجية في ثوانٍ فقط، وهي بيانات كان تحليلها يستغرق أسابيع أو حتى أشهر سابقاً.
وبناءً على ما يقوله ريان شيكي الباحث في الحوسبة الحيوية بمعهد باستور في باريس غير المشارك بالدراسة إنه إنجاز ضخم، فقد وضع الباحثون معياراً جديداً لتحليل البيانات البيولوجية الخام.وتتضمن هذه البيانات تسلسلات من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA والحمض النووي الريبي (آر إن إيه) RNA والبروتينات المخزّنة في قواعد بيانات ضخمة على الإنترنت. إذ تحتوي هذه القواعد على «بيتابايتات» من المعلومات أي ملايين المليارات من الحروف الجينية أكثر مما تحتويه جميع صفحات الويب التي فهرسها «غوغل». وحتى وقت قريب كان من شبه المستحيل البحث بفعالية داخل هذا الكم الهائل من البيانات.
> محرك بحث للحياة. ورغم أن البعض يصف «ميتا غراف» بأنه «غوغل الحمض النووي» فإن ريان شيكي يرى أنه أشبه بمحرك بحث «يوتيوب» ولكن للجينات. فكما يمكن لـ«يوتيوب» العثور على كل مقطع فيديو يظهر فيه بالون أحمر حتى لو لم تُذكر هذه الكلمة في العنوان أو الوصف فإن «ميتا غراف» يستطيع اكتشاف أنماط جينية مخفية في عمق البيانات الخام كما يوضح شيكي.
وبفضل هذه التقنية أصبح بإمكان الباحثين اكتشاف العلاقات بين الجينات والطفرات والأمراض التي كانت غير مرئية سابقاً دون الحاجة إلى أن تكون البيانات مُحددة أو مشروحة مسبقاً.
> حل لمشكلة البيانات الضخمة في علم الأحياء. وقد أدت تطورات تقنيات تسلسل الحمض النووي على مدى العقدين الماضيين إلى تكديس كميات هائلة من المعلومات الجينية في قواعد البيانات العامة. لكن ضخامة هذه البيانات جعلت استخدامها أمراً معقداً. وكما يقول آرتيم بابايان عالم الأحياء الحاسوبية في جامعة تورونتوغير المشارك بالدراسة المفارقة أن ازدياد كمية البيانات جعل الوصول إليها وفهمها أكثر صعوبة.
ووفقاً للدكتور أندريه كاهليس أحد مطوري «ميتا غراف» في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ سويسرا (ETH Zurich) والباحث الرئيسي في الابتكار كان الهدف هو تسهيل تصفح هذه المكتبة الجينية الضخمة.
ويوضح كاهليس: «أردنا أن نتيح للعلماء طرح أسئلة بيولوجية مباشرة على قواعد البيانات نفسها».
حيث يستخدم «ميتا غراف» هياكل رياضية معقدة تُعرف بالرسوم البيانية لربط أجزاء الحمض النووي المتداخلة بطريقة تشبه فهرسة الكلمات المشتركة في كتاب. وبذلك يمكن ضغط وتنظيم مجموعات البيانات الضخمة مع الحفاظ على قابليتها للبحث الفوري.
مكتبة الحياة في متناول يديك
وجمع الباحثون بيانات «ميتا غراف» من سبع قواعد بيانات عامة كبرى تضم نحو 19 مليون مجموعة من تسلسلات الحمض النووي والحمض النووي الريبي وأكثر من 200 مليار تسلسل بروتيني من مختلف أشكال الحياة من الفيروسات والبكتيريا إلى النباتات والحيوانات والبشر.ويقول كاهليس إنها طريقة جديدة كلياً للتفاعل مع البيانات البيولوجية. ورغم أنها مضغوطة لكنها متاحة في اللحظة نفسه، إذ يتيح هذا النظام للمستخدمين إدخال تسلسل جيني أو بروتيني مثل «كلمة بحث» جينية ليعثروا فوراً على أماكن ظهوره في الأرشيفات العالمية.
* من مقاومة المضادات الحيوية إلى الصحة العالمية. ولاختبار قوة «ميتا غراف» قام الباحثون بمسح أكثر من 240 ألف عينة من ميكروبات الأمعاء البشرية بحثاً عن مؤشرات على وجود جينات مقاومة للمضادات الحيوية حول العالم. وتم إنجاز تحليل ضخم كهذا في نحو ساعة واحدة فقط باستخدام حاسوب قوي.
وقد استُخدم إصدار سابق من «ميتا غراف» لتعقب جينات مقاومة الأدوية في بكتيريا تعيش في أنظمة مترو المدن الكبرى، مما ساعد العلماء على فهم كيفية انتشار المقاومة في البيئات الحضرية.
ويمكن لهذه القدرات أن تفتح الباب أمام تطبيقات واسعة من تتبع مسببات الأمراض الجديدة أثناء الأوبئة إلى تحديد أهداف دوائية جديدة أو دراسة الجينات المعقدة المرتبطة بأمراض مثل السرطان وألزهايمر.> مفتاح لاكتشافات المستقبل. يتميّز «ميتا غراف» بأنه مفتوح المصدر، مما يعني أن العلماء والمؤسسات حول العالم يمكنهم استخدامه وتطويره بحرية. ومع مزيد من التطوير قد يساعد شركات الأدوية في تحليل بياناتها الخاصة الضخمة أو حتى يصبح أداة أساسية في التشخيص الطبي.
ويقوم «ميتا غراف» بتحويل بيانات العالم البيولوجية إلى مكتبة قابلة للبحث. ويضيف كاهليس: «نحن نجعل المعلومات الجينية متاحة وسهلة كما هو البحث على الإنترنت».
ومع دخول علم الأحياء عصر الرقمنة الكامل قد تكون أدوات مثل «ميتا غراف» هي ما يُعيد تعريف كيفية دراستنا للحياة بحثاً واحداً في كل مرة.

