حين تُشعل الطاقة سباق العقول: «هل حسمت الصين معركة الذكاء الاصطناعي قبل بدايتها؟»

واشنطن تُصارع الانقطاعات… وبكين تُخزّن المستقبل في محطات الكهرباء

حين تُشعل الطاقة سباق العقول: «هل حسمت الصين معركة الذكاء الاصطناعي قبل بدايتها؟»
TT

حين تُشعل الطاقة سباق العقول: «هل حسمت الصين معركة الذكاء الاصطناعي قبل بدايتها؟»

حين تُشعل الطاقة سباق العقول: «هل حسمت الصين معركة الذكاء الاصطناعي قبل بدايتها؟»

لم يعد سباق الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين مجرد مواجهة على مستوى الخوارزميات أو حجم الاستثمارات، بل تجاوز ذلك ليصل إلى قلب البنية التحتية التي تُغذّي هذه الثورة: شبكات الطاقة الكهربائية.

نقص أميركي في الطاقة وفائض صيني منها

وفي تحليل نشرته منصة «Evolving AI»، منصة تطور الذكاء الاصطناعي في أغسطس (آب) 2025 بعنوان: «هل انتهى سباق الولايات المتحدة والصين قبل أن يبدأ؟» (U.S. vs. China race may already be over)، يتضح أن واشنطن تواجه مأزقاً استراتيجياً بفعل هشاشة شبكتها الكهربائية، في حين أن بكين تتمتع بفائض هائل من الطاقة يمكّنها من التوسّع السريع في تشغيل مراكز البيانات العملاقة، الأمر الذي قد يجعل التقدم التكنولوجي الفاصل يُسجَّل لصالحها قبل أن تبدأ المنافسة فعلياً.

منصة دراسات أكاديمية وجيوسياسية

لكن ما منصة «Evolving AI» التي قدّمت هذا التحليل اللافت؟ إنها منصة بحثية وتحليلية متخصصة في متابعة الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة، أسسها خبراء بارزون في المجال، من بينهم العالم الأميركي غاري ماركوس (Gary Marcus)، أستاذ علم النفس العصبي السابق في جامعة «نيويورك»، وأحد أبرز الأصوات الناقدة للتفاؤل المفرط في قدرات الذكاء الاصطناعي.

تتميّز المنصة بأنها تجمع بين الرؤية الأكاديمية الدقيقة والقراءة الجيوسياسية العميقة، حيث تستند مقالاتها إلى أبحاث علمية ومداولات مؤتمرات دولية وتجارب عملية، ما جعلها مرجعاً لوسائل الإعلام وصناع القرار والباحثين على حد سواء.

فوارق جوهرية

ولخصت منصة «Evolving AI» هذه الفوارق في مجموعة من النقاط الجوهرية، يمكن عدّها مفاتيح لفهم لماذا تميل الكفة اليوم نحو الصين أكثر من الولايات المتحدة.

* أولاً: وصف الشبكة الكهربائية – بين الأمن والحالة الحرجة. يُشير التقرير إلى ملاحظة لافتة نقلها خبراء أميركيون زاروا مراكز الذكاء الاصطناعي في الصين، حيث لمسوا أن الطاقة هناك متاحة بشكل مضمون ومستقر، في حين أن الشبكات الأميركية تُعاني من ضغوط متكررة تجعلها أقرب إلى حالة هشاشة مزمنة.

ففي الصين، تُمنح مراكز البيانات أولوية تلقائية في الحصول على الطاقة الكهربائية دون أي تعقيدات، ما يضمن استمرارية عملها بكفاءة. أما في الولايات المتحدة، فإن أي زيادة مفاجئة في الطلب على الشبكة قد تؤدي إلى انهيار جزئي أو تعطّل الخدمة، وهو تهديد مباشر لاستقرار البنية التحتية اللازمة لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي العملاقة.

* ثانياً: احتياطيات طاقة ضخمة تُعزّز التفوّق الصيني. تخيل أن لديك خزّاناً احتياطياً من الطاقة يمكن الاعتماد عليه في أي لحظة، مهما ارتفع الاستهلاك أو ازدادت الضغوط. هذا هو واقع الصين اليوم. فبحسب ما كشفته منصة «Evolving AI»، تحتفظ بكين بهوامش احتياطية للطاقة تتراوح بين 80 في المائة و100 في المائة، وهو رقم هائل يتيح لها تغذية مراكز الذكاء الاصطناعي العملاقة دون أدنى قلق من انقطاع أو انحسار في الإمدادات.

في المقابل، تبدو الصورة في الولايات المتحدة مختلفة تماماً؛ إذ تعمل شبكتها غالباً باحتياطيات لا تتجاوز 15 في المائة، ما يجعلها هشة أمام أي زيادة مفاجئة في الطلب. وهذه الهشاشة لا تعني فقط انقطاعاً محتملاً في الخدمة، بل تعني أيضاً إبطاء وتيرة توسع مراكز البيانات، وبالتالي تعطيل طموحات واشنطن في اللحاق بالسباق الصيني.

إنه مشهد يوضح بجلاء أن الفارق في احتياطي الطاقة ليس مجرد رقم، بل ميزة استراتيجية تُترجم إلى سرعة في التوسع، وثقة في المستقبل لصالح بكين.

تخطيط مركزي وسوق متذبذبة

* ثالثاً: نموذج التخطيط – مركزية صينية طويلة المدى مقابل سوق أميركية متذبذبة.حين نتأمل الطريقة التي تُدار بها الطاقة في الصين، ندرك أن الأمر يتجاوز مجرد توفير الكهرباء، بل يُجسّد فلسفة سياسية - اقتصادية متكاملة. فالصين تعتمد على نموذج مركزي طويل المدى، تُخطط فيه الحكومة لعقود مقبلة، وتربط بين سياسات الطاقة، والتكنولوجيا، والتنمية الصناعية في استراتيجية واحدة. هذا التخطيط الصارم يتيح لبكين ضبط التوازن بين الإنتاج والطلب بدقة، ويوفر بنية تحتية مرنة تستجيب سريعاً لمتطلبات توسّع مراكز الذكاء الاصطناعي.

في المقابل، تُظهر الولايات المتحدة نموذجاً مختلفاً تماماً، يقوم على الاستثمار الخاص قصير الأجل، حيث تتحكم الشركات ومصالح السوق في بناء وتوسيع البنية التحتية. وهذا النموذج، رغم مرونته في الابتكار، يصطدم بجدار البيروقراطية التنظيمية، وتضارب المصالح بين الولايات والحكومة الفيدرالية، إضافة إلى بطء التنسيق بين القطاعين العام والخاص. والنتيجة هي أن أي مشروع لتوسيع الشبكة أو إضافة محطات جديدة قد يتأخر لسنوات بسبب الموافقات والإجراءات، ما يُعرّض البنية التحتية الأميركية إلى تباطؤ مزمن في مواجهة النمو المتسارع لطلب مراكز البيانات.

وهنا يبرز الفارق: فبينما ترى الصين في الطاقة أداة استراتيجية قومية تُدار بقرارات مركزية طويلة المدى، تتعامل أميركا معها كأنها سلعة تخضع لقوانين السوق. وهذا الفارق قد يكون حاسماً في سباق الذكاء الاصطناعي، إذ إن النماذج العملاقة لا تحتاج فقط إلى علماء وخوارزميات، بل إلى دولة تخطّط وتوفّر الطاقة كما لو كانت جزءاً من الأمن القومي.

التهام الذكاء الاصطناعي للكهرباء

* رابعاً: التبعات المستقبلية – حين يلتهم الذكاء الاصطناعي الكهرباء. تكشف منصة «Evolving AI» عن أرقام صادمة تحمل معها ملامح المستقبل القريب: ففي الولايات المتحدة، يُتوقع أن تستهلك مراكز البيانات ما بين 6.7 في المائة إلى 12 في المائة من إجمالي الطاقة الكهربائية بحلول عام 2028. هذه النسبة، رغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى مجرد رقم، تعني عملياً أن جزءاً كبيراً من كهرباء البلاد سيُعاد توجيهه لتغذية الخوادم العملاقة والنماذج الذكية، على حساب قطاعات أخرى من الاقتصاد والمجتمع. النتيجة المحتملة: ارتفاع التكاليف، وضغط زائد على الشبكات، واحتمال حدوث انقطاعات أو أزمات طاقة محلية، وهو ما قد يقوّض طموحات أميركا في الحفاظ على ريادتها التكنولوجية.

أما الصين، فتبدو في موقع مختلف تماماً. فهي لا ترى في فائض الطاقة عبئاً، بل فرصة استراتيجية. فكل ميغاواط إضافي من الكهرباء يمكن تحويله مباشرة إلى قوة حاسوبية جديدة تخدم توسّع مراكز الذكاء الاصطناعي. وبهذا النهج، تبني بكين ميزة تنافسية طويلة المدى، تجعل من بنيتها التحتية للطاقة بمثابة خزان استراتيجي لتغذية مستقبلها الرقمي.

بكلمات أخرى، بينما تُصارع الولايات المتحدة لإيجاد توازن هش بين الطلب الزائد والقدرات المحدودة لشبكتها، تعمل الصين على تسخير الطاقة الفائضة لتثبيت أقدامها في عرش الذكاء الاصطناعي العالمي. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن يتحوّل استهلاك الكهرباء نفسه إلى معيار للتفوق الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين

* خامساً: السياق – مؤتمر جنيف وتأثيره الإعلامي والعلمي. لا يمكن قراءة مقال منصة «Evolving AI» بمعزل عن المناخ الدولي الذي أحاط بنشره. فقد جاء متزامناً مع انعقاد قمة جنيف للذكاء الاصطناعي (AI for Good Global Summit)، التي نظّمها الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) بالشراكة مع حكومة سويسرا، بين 8 و11 يوليو (تموز) 2025، في قاعات «Palexpo» الضخمة بجنيف.

في هذا السياق الدولي المشحون بالأفكار والتصورات، جاء مقال «Evolving AI» ليشكّل قراءة موازية وسريعة لجزء من النقاش الذي لم يُطرح بوضوح على المنصة الرسمية للقمة: البنية التحتية للطاقة بصفتها نقطة الحسم في سباق الذكاء الاصطناعي. وبذلك، لا يُقدَّم المقال كأنه دراسة أكاديمية جافة، بل كأنه تحليل إعلامي نابض، يتغذى من حضور المشاركين في القمة ومتابعة تفاصيلها، ليمنح القراء – ولا سيما في الأوساط الصحافية – زاوية إضافية لفهم انعكاسات الطاقة على التنافس الدولي.

الخاتمة

في النهاية، يتضح أن سباق الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين لا يُحسم بعدد الخوارزميات ولا بحجم الاستثمارات فقط، بل بعمق البنية التحتية التي تقف خلف هذه الثورة. فمن شبكة كهرباء هشّة في أميركا، إلى احتياط طاقة هائل في الصين، ومن تخطيط مركزي طويل المدى في بكين، إلى سوق متذبذبة قصيرة الأجل في واشنطن، يبدو أن ملامح المستقبل ترسم نفسها على لوح الطاقة قبل أن تُكتب في مختبرات الذكاء الاصطناعي.

وجاءت قمة جنيف للذكاء الاصطناعي لتؤكد أن هذا النقاش لم يعد محلياً أو تقنياً بحتاً، بل أصبح قضية إنسانية واستراتيجية تتعلق بمصير التنمية العالمية. وهنا يبرز سؤال جوهري: إذا كانت الطاقة هي الوقود الحقيقي لعصر الذكاء، فمن سيمتلك مفاتيحها في العقد المقبل؟

حقائق

ما بين 6.7% إلى 12%

من إجمالي الطاقة الكهربائية سوف نستهلكها حسب توقعات مراكز البيانات بحلول عام 2028


مقالات ذات صلة

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً

تكنولوجيا نصف الموظفين في السعودية فقط تلقّوا تدريباً سيبرانياً ما يخلق فجوة خطرة في الوعي الأمني داخل المؤسسات (غيتي)

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً

ذكرت دراسة «كاسبرسكي» أن نصف موظفي السعودية تلقوا تدريباً سيبرانياً ما يجعل الأخطاء البشرية مدخلاً رئيسياً للهجمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» (أ.ب)

تقرير: مؤسس «أوبن إيه آي» يتطلع إلى تأسيس شركة صواريخ لمنافسة ماسك في الفضاء

كشف تقرير جديدة عن أن سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، يتطلع إلى بناء أو تمويل أو شراء شركة صواريخ لمنافسة الملياردير إيلون ماسك في سباق الفضاء.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد شعار شركة «إس كيه هاينكس» ولوحة أم للكمبيوتر تظهر في هذا الرسم التوضيحي (رويترز)

رئيس «إس كيه» الكورية: صناعة الذكاء الاصطناعي ليست في فقاعة

قال رئيس مجموعة «إس كيه» الكورية الجنوبية، المالكة لشركة «إس كيه هاينكس» الرائدة في تصنيع رقائق الذاكرة، إن أسهم الذكاء الاصطناعي قد تتعرض لضغوط.

«الشرق الأوسط» (سيول)
تكنولوجيا شكل تسارع التحول الرقمي واتساع تأثير الذكاء الاصطناعي ملامح المشهد العربي في عام 2025 (شاترستوك)

بين «غوغل» و«يوتيوب»... كيف بدا المشهد الرقمي العربي في 2025؟

شهد عام 2025 تحوّلًا رقميًا واسعًا في العالم العربي، مع هيمنة الذكاء الاصطناعي على بحث غوغل وصعود صنّاع المحتوى على يوتيوب، وتقدّم السعودية في الخدمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
الاقتصاد هاتف ذكي وشاشة كمبيوتر يعرضان شعارَي «واتساب» والشركة الأم «ميتا» في غرب فرنسا (أ.ف.ب)

تحقيق أوروبي في قيود «ميتا» على منافسي الذكاء الاصطناعي عبر «واتساب»

خضعَت شركة «ميتا بلاتفورمز» لتحقيق جديد من جانب الاتحاد الأوروبي لمكافحة الاحتكار، على خلفية خطتها لإطلاق ميزات ذكاء اصطناعي داخل تطبيق «واتساب».

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.