التحكم في حموضة الخلايا قد يكون مفتاحاً لعلاج أمراض المناعة الذاتية

اكتشاف بروتين مساعد لمحفزات الالتهابات الشديدة

التحكم في حموضة الخلايا قد يكون مفتاحاً لعلاج أمراض المناعة الذاتية
TT

التحكم في حموضة الخلايا قد يكون مفتاحاً لعلاج أمراض المناعة الذاتية

التحكم في حموضة الخلايا قد يكون مفتاحاً لعلاج أمراض المناعة الذاتية

أظهرت دراسة رائدة أجراها باحثون في كلية بيرلمان للطب بجامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، أن التحكم في حموضة الخلايا قد يمهد الطريق لعلاجات جديدة لأمراض المناعة الذاتية. وتقدم الدراسة أدلة قوية على أن تنظيم تفاعل بروتيني محدد يمكن أن يقلل الالتهاب الشديد، وهو السمة المميزة لكثير من اضطرابات المناعة الذاتية.

خلل بروتين يحفز الالتهابات

وتركز البحث على بروتين يُعرف بـ«محفز جينات الإنترفيرون» (STING) Stimulator of interferon genes، ويلعب دوراً حاسماً في تحفيز الالتهاب اللازم للدفاع المناعي. ففي الظروف الطبيعية، يساعد هذا البروتين في حماية الجسم من العدوى، لكن عند حدوث طفرات جينية تؤدي إلى خلل في عمله، قد ينشط بشكل مفرط، ما يسبب استجابة التهابية غير طبيعية. ومن بين الآثار الخطيرة لهذا الخلل؛ وجود حالة اعتلال الأوعية الدموية المرتبطة بهذا البروتين التي تبدأ في مرحلة الطفولة، وتسبب التهابات شديدة في الجلد والرئتين وأعضاء حيوية أخرى. وقد شُخّص أكثر من 50 حالة من هذا الاعتلال منذ عام 1980، وغالباً ما يؤدي إلى وفاة المرضى في العشرينات الأولى من حياتهم.

وبالإضافة إلى دوره في تحفيز الالتهاب، يسهم بروتين محفز جينات الإنترفيرون في تنظيم حموضة جهاز «غولجي»، وهو الهيكل الخلوي المسؤول عن معالجة وتغليف ونقل البروتينات والدهون. ويُعدّ نقل السيتوكينات البروتينات المهمة لنمو ونشاط الجهاز المناعي، من الوظائف الحيوية التي يتأثر نظامها بتقلب مستويات الحموضة في جهاز «غولجي».

اكتشاف بروتين «مساعد» وإزالته لتقليل الالتهاب

قاد الدكتور جوناثان مينر وفريقه البحثي في جامعة بنسلفانيا بالدراسة التي نُشرت في مجلة «Cell» في 20 مارس (آذار) 2025، حيث سعى الفريق إلى كشف الآليات الدقيقة التي ينظم بها بروتين محفز جينات الإنترفيرون حموضة جهاز «غولجي» (Golgi apparatus). وكان معروفاً أن هذا البروتين يؤثر على الحموضة عبر نشاط قنوات البروتون، وهو النظام الذي يسمح لذرات الهيدروجين بالانتقال عبر أغشية الخلايا. إلا أن الطريقة التي يتحكم بها في الحموضة، لم تكن واضحة حتى الآن.

إلا أن مسار البحث تغير عندما أشارت نتائج الفحص الجيني لمريض مصاب بمتلازمة نقص المناعة الذاتية، إلى وجود بروتين آخر يُدعى «ArfGAP2». ويُوصف هذا البروتين بأنه «مساعد»، حيث يؤثر بشكل مباشر على نشاط قنوات البروتون في محفز جينات الإنترفيرون.

وأظهر البحث أن حذف هذا البروتين المساعد، وراثياً، في النماذج المختبرية، يؤدي إلى انخفاض ملحوظ في نشاط بروتين محفز جينات الإنترفيرون، ما يصاحبه تقليل في الالتهاب وتخفيف أعراض أمراض المناعة الذاتية. وعلق مينر قائلاً: «من اللافت للنظر أن شيئاً صغيراً كحموضة عضية صغيرة داخل الخلية، يمكن أن يُحدث فرقاً كبيراً كهذا».

علاج أمراض المناعة الذاتية

تمتد نتائج هذه الدراسة إلى ما هو أبعد من حالة اعتلال الأوعية الدموية النادرة المرتبطة بهذا البروتين. فبما أن بروتين محفز جينات الإنترفيرون يلعب دوراً في تنظيم المناعة بمئات الأمراض، بما في ذلك بعض أشكال الذئبة وأمراض أخرى، فإن استهداف التفاعل بين محفز جينات الإنترفيرون والبروتين المساعد، قد يوفر استراتيجية علاجية جديدة لإدارة مجموعة واسعة من اضطرابات المناعة الذاتية.

وتشير النتائج إلى أن تعطيل هذا التفاعل قد يسهم في تعديل نشاط قنوات البروتون، وبالتالي تحسين حموضة جهاز «غولجي»، مما ينعكس إيجاباً على تنظيم السيتوكينات وخفض مستويات الالتهاب. ومن هنا، يُمكن أن يؤدي هذا التعديل إلى تخفيف أعراض الأمراض المناعية، وتحسين جودة حياة المرضى.

آفاق لتطوير أدوية مستقبلية

يعمل الباحثون الآن على ترجمة نتائجهم المختبرية إلى تطبيقات علاجية عملية، ومن بين الاستراتيجيات الواعدة؛ تطوير أدوية صغيرة تُعطى عن طريق الفم لتعطيل وظيفة البروتين المساعد (ArfGAP2). هذه الأدوية قد توفر خياراً علاجياً أقل تدخلاً وأسهل استخداماً، مقارنةً بالعلاجات التقليدية التي غالباً ما تكون مصحوبة بآثار جانبية خطيرة.

ويختتم الدكتور مينر حديثه قائلاً: «لا يقتصر بحثنا على تسليط الضوء على الأسس الجينية للمناعة الذاتية فحسب؛ بل يفتح أيضاً آفاقاً جديدة لعلاجات ثورية تهدف إلى تحسين حياة الملايين». ومع استمرار الأبحاث والتجارب السريرية، يقترب الأمل في إيجاد حلول فعالة ومبتكرة لإدارة الأمراض المناعية الذاتية من التحقيق.

ويمثل التحكم في حموضة الخلايا تقدماً علمياً مهماً قد يغير مستقبل علاج أمراض المناعة الذاتية. وبينما يظل البحث في مراحله الأولية، توفر النتائج الأولية أملاً جديداً للمرضى الذين يعانون من التهابات مزمنة واضطرابات مناعية محدودة الخيارات العلاجية. ومع الجهود المستمرة لتطوير هذه الاستراتيجيات، قد نشهد قريباً تحولاً جذرياً في كيفية إدارة وعلاج أمراض المناعة الذاتية.


مقالات ذات صلة

كيف تتسبب الجينات في الإصابة بالوسواس القهري؟ دراسة تجيب

صحتك يعاني مرضى الوسواس القهري مستويات عالية من القلق (رويترز)

كيف تتسبب الجينات في الإصابة بالوسواس القهري؟ دراسة تجيب

كشفت دراسة جديدة عن أن الوسواس القهري قد ينتج عن مئات الجينات التي يلعب كل منها دوراً صغيراً في خطر الإصابة بالاضطراب.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

صحة الإنسان تعتمد على «رقصة تكافلية مع السكان الميكروبيين»

د. وفا جاسم الرجب (لندن)
علوم علماء صينيون يكتشفون 64 جيناً مرتبطاً بشيخوخة الدماغ

علماء صينيون يكتشفون 64 جيناً مرتبطاً بشيخوخة الدماغ

«فجوة عمر الدماغ»، مقياس لتقدير «عمر الدماغ» الفعلي وليس الزمني.

د. وفا جاسم الرجب (لندن)
علوم صلة وراثية بين تدخين الأم وأثره على الأبناء الذكور مدى الحياة

صلة وراثية بين تدخين الأم وأثره على الأبناء الذكور مدى الحياة

في أول تحليل جيني واسع النطاق

د. وفا جاسم الرجب (لندن)
صحتك الطريقة الجديدة تستخدم تقنية حقن «النانو» لإدخال مواد جينية مستهدفة في بيض البعوض مما يعطل قدرته على حمل الأمراض (رويترز)

علماء يطوّرون طريقة رائدة للقضاء على أمراض قاتلة محتملة

طوّر علماء تقنيةً ثوريةً لتعديل الجينات تهدف إلى منع البعوض من نقل الأمراض القاتلة مثل الملاريا، التي تقتل نحو 600 ألف شخص سنوياً، معظمهم أطفال دون الخامسة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

تجربة «الاقتراب من الموت» الاستثنائية... «طاقة رائعة وسلام مبهج» للروح

تجربة «الاقتراب من الموت» الاستثنائية... «طاقة رائعة وسلام مبهج» للروح
TT

تجربة «الاقتراب من الموت» الاستثنائية... «طاقة رائعة وسلام مبهج» للروح

تجربة «الاقتراب من الموت» الاستثنائية... «طاقة رائعة وسلام مبهج» للروح

قبل أكثر من عامين بقليل، صدمت كاسحة ثلوج وزنها سبعة أطنان الممثل جيريمي رينر. وفي مذكراته الجديدة، كتب أنه بينما كان على وشك الموت، شهد تجربة استثنائية، كما كتبت ماغي أستور(*).

جيريمي رينر

على وشك الموت

تمكن رينر من رؤية حياته بأكملها دفعة واحدة، وشعر بـ«سلام مُبهج» وارتباط بالعالم. كما رأى عائلته وأصدقاءه مصطفين أمامه، يُلحّون عليه ألا يتخلى عنهم. وكتب: «ما شعرت به هو طاقة، طاقة دائمة باستمرار، جميلة ورائعة. لم يكن هناك زمان ولا مكان ولا فضاء، ولا شيء يُرى، سوى نوع من الرؤية الكهربائية ثنائية الاتجاه، مصنوعة من خيوط من تلك الطاقة التي لا تُصدّق، مثل خطوط المصابيح الخلفية للسيارات التي صُوّرت بكاميرا تصوير ذات فاصل زمني».

شعور بالسلام وغياب الزمن

وما وصفه رينر بأنه «تجربة كلاسيكية لتجارب الاقتراب من الموت»، وهو المصطلح الذي يستخدمه الباحثون لمثل هذه الأحداث، كما قال الدكتور جيفري لونغ، مؤسس مؤسسة أبحاث تجارب الاقتراب من الموت Near-Death Experience Research Foundation.

جمعت مؤسسة لونغ أكثر من 4 آلاف قصة مشابهة لقصة رينر. وقد روى بعض الأشخاص الذين اقتربوا من الموت شعوراً بالطاقة والسلام وغياب الزمن، كما فعل رينر. كما وصف البعض مشاهدة أجسادهم من الأعلى، والتحرك عبر نفق نحو نور، بل وحتى لقاء الرب.

وربما يكون عموم الجمهور على دراية بهذه الأحداث من خلال نوع من المذكرات التي تقدم تجارب الاقتراب من الموت كدليل على وجود حياة بعد الموت في الأديان السماوية. ولكن تم الإبلاغ عنها في مختلف البلدان والفئات السكانية والأديان، وكذلك من قبل الملحدين. وكانت موضوعاً للبحث العلمي لعقود.

تقدير للحياة أكثر بعد تجربة اقتراب الموت

لا يوجد إجماع علمي حول أسباب تجارب الاقتراب من الموت. ولكن مهما كان سببها، فإنها يمكن أن تغير حياة الناس. يفقد البعض كل خوف من الموت؛ ويغير آخرون مساراتهم المهنية أو يتركون علاقاتهم. يبدو أن ردود الفعل تجاه تجارب الاقتراب من الموت تفوق ما لاحظه الباحثون لدى الأشخاص الذين كادوا يموتون دون أن يمروا بهذه التجربة.

بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، «عادةً ما يكون الأمر أشبه بـ: نعم، لقد كدتَ تموت، لذا تصبح أكثر تقديراً للحياة»، كما قالت مارييتا بيليفانوفا، الأستاذة المساعدة في الطب النفسي وعلوم السلوك العصبي بكلية الطب بجامعة فيرجينيا، قسم الدراسات الإدراكية، والتي تبحث في تجارب الاقتراب من الموت.

لكن بيليفانوفا أضافت: «التغيرات التي نراها لدى هؤلاء الأشخاص الذين كادوا يموتون دون أن يمروا بتجربة الاقتراب من الموت تكون أكثر دقة، ولا تستمر لفترة طويلة».

لماذا تحدث هذه التجارب؟

تصعب دراسة تجارب الاقتراب من الموت لأن الإصابات والأمراض الكارثية التي قد تؤدي إليها لا تُخضع لتجارب مُحكمة. لكن علماء الأعصاب طرحوا مجموعة من النظريات حول أسبابها، ويعتقد الكثيرون أن هذه التجارب تنبع من سلسلة معقدة من العمليات العصبية والفسيولوجية.

تدفق النواقل العصبية

في ورقة بحثية نُشرت في مارس (آذار) الماضي، اقترح سبعة باحثين تفسيراً يربط تجارب الاقتراب من الموت بتدفق مواد كيميائية في الدماغ تُسمى النواقل العصبية، وتنشيط مستقبلات محددة في الدماغ تُنتج شعوراً بالهدوء والصور الحية. كما تفترض الورقة البحثية أن تجارب الاقتراب من الموت قد تحدث عندما يمر الأشخاص شبه الواعين بجوانب من نوم حركة العين السريعة، وهي الفترة التي تحدث فيها الأحلام الأكثر قوة وتعقيداً.

تتضمن نظريات علماء آخرين نظرية تتعلق بنفس المستقبلات العصبية التي تُسهّل تأثيرات الكيتامين. (دواء مخدر). وتشير أخرى إلى أن جوانب من تجارب الاقتراب من الموت قد تنشأ من خلل في منطقة الدماغ المسؤولة عن دمج المشاهد والأصوات والحركة وإحساسنا الفطري بمكان وجودنا في تجربة حسية واحدة.

رؤية الجسد من منظور أعلى

وقد يفسر هذا أحد أكثر جوانب تجارب الاقتراب من الموت غرابة: إذ يقول بعض الناس لاحقاً إنهم راقبوا أجسادهم من الأعلى، وإنهم قادرون على وصف تفاصيل ما كان يحدث حولهم، والتي يبدو أنهم لا ينبغي أن يكونوا قادرين على معرفتها.

وأشار الدكتور كيفن نيلسون، أستاذ علم الأعصاب بجامعة كنتاكي ومؤلف الدراسة الجديدة، إلى أن الناس قد يكونون قادرين على السمع حتى في حالة عدم الاستجابة ظاهرياً، وأن عيون المرضى غالباً ما تكون مفتوحة أثناء جهود الإنعاش (الطبي).

لذا، قد يستقبلون الرؤية والصوت في الوقت الفعلي، ولكن نظراً لاضطراب أدمغتهم بسبب نقص تدفق الدم، فإنهم يتذكرونها على أنها قادمة من منظور أعلى من أجسادهم.

كل تجربة إنسانية لا تحدث خارج الدماغ

يعتقد بعض الباحثين - وعدد كبير ممن خاضوا تجارب الاقتراب من الموت - أن أياً من التفسيرات العلمية المقترحة لا يُمكنه تفسير جميع العناصر، وأن هذه التجارب هي لقاءات حقيقية مع الحياة الآخرة.

وتُعتبر هذه الفكرة غير محبذة لكثير من علماء الأعصاب الذين يؤمنون بأن الوعي ينبع من الدماغ.

وقال نيلسون: «كثيراً ما يختلط الأمر بين الإيمان والعلم حول هذا الموضوع، ويرجع ذلك جزئياً إلى قيمته العاطفية العميقة». لكنه أضاف: «لا يوجد دليل علمي على إمكانية خوض تجربة إنسانية خارج الدماغ».

لكن لونغ، الذي تدرب ومارس الطب في مجال علاج الأورام بالإشعاع، يعتقد أن وعي الناس يغادر أجسادهم أثناء تجارب الاقتراب من الموت بطريقة لا يستطيع علم الأعصاب تفسيرها. وهو مُقتنع تماماً بأن العلم لا يستطيع تفسير دقة وتفاصيل ما يتذكره المرضى من رؤيتهم وسماعهم من خارج أجسادهم.

وتعتقد بيهليفانوفا وزملاؤها في معهد جامعة فرجينيا أيضاً أن هذه التجارب قد تنطوي على فصل حقيقي بين الوعي والدماغ، مع أنها لم تستبعد إمكانية وجود تفسيرات عصبية أو فسيولوجية.

عدم الاستخفاف بتجارب الاقتراب من الموت

درس الدكتور بروس جريسون، الأستاذ الفخري في الطب النفسي وعلوم السلوك العصبي في ذلك المعهد، تجارب الاقتراب من الموت لمدة 50 عاماً. وفي الوقت الحالي، يركز بشكل رئيسي ليس على الأسباب، بل على كيفية مساعدة الأطباء بشكل أفضل الأشخاص الذين يمرون بهذه التجارب على استيعاب ما مروا به.

قال جريسون إن الأطباء والممرضين يميلون إلى أن يكونوا أول من يصف لهم المرضى تجاربهم، على أمل «فهمها من منظور مختلف». وفي بعض الأحيان، يستجيب هؤلاء الأطباء باستخفاف.

وقال: «بالنسبة لجميع من مروا بتجارب الاقتراب من الموت تقريباً، يعتبرون هذا الأمر من أهم الأمور، إن لم يكن أهمها، التي حدثت في حياتهم على الإطلاق. وبينما قد يبدو الأمر غير ذي أهمية للعاملين في مجال الرعاية الصحية، فإنه ليس كذلك على الإطلاق بالنسبة للشخص الذي مر بهذه التجارب».

* خدمة «نيويورك تايمز».