«الحرب المعرفية»... تتجاوز نطاق العمليات الحربية التقليدية

توظف علوم الأعصاب وتحليل البيانات والبرمجيات لتحقيق ميزة استراتيجية

«الحرب المعرفية»... تتجاوز نطاق العمليات الحربية التقليدية
TT

«الحرب المعرفية»... تتجاوز نطاق العمليات الحربية التقليدية

«الحرب المعرفية»... تتجاوز نطاق العمليات الحربية التقليدية

لقد تجاوزت الحرب نطاق العمليات العسكرية الحركية التقليدية بكثير، إذ إننا نواجه الآن عصراً يُطلق عليه الخبراء «الحرب المعرفية»، وهي شكلٌ خفيٌّ من الصراع يهدف إلى التأثير على طريقة تفكير الناس وتصرفاتهم، مما يُزعزع استقرار الأسس الراسخة للمؤسسات الديمقراطية والأمن القومي، كما كتب الدكتور جيك بيبر(*).

الحرب المعرفية وحرب المعلومات

وعلى عكس حرب المعلومات information warfare التي تتلاعب بأفكارنا، تُزعزع الحرب المعرفية cognitive warfare طريقة تفكيرنا - العقلانية نفسها. فهي تستخدم علم الأعصاب، وتحليلات البيانات، والاستراتيجيات القائمة على الخوارزميات لتحقيق ميزة استراتيجية.

إن تطوير إطار عمل لمواجهة هذا التهديد ليس ضرورياً فحسب، بل أمر مُلحّ. ويعمل الخصوم المحتملون جاهدين لتوسيع تفوقهم في هذا المجال الجديد نسبياً.

انتصارات دون صراع مباشر

يتحدث المفكرون العسكريون الصينيون بصراحة عن السعي وراء «الهيمنة البيولوجية» و«السيطرة المعرفية». إنهم ينشرون استراتيجيات متطورة تدمج عملياتهم المعلوماتية التقليدية مع قدرات الحرب المعرفية، وكلها تهدف إلى تحقيق انتصارات استراتيجية دون صراع مباشر.

إن استخدام الصينيين المتكامل للأدوات السيبرانية، وعلم الدماغ، والدعاية القائمة على الخوارزميات، يُنشئ مجموعة أدوات مُصممة لبثّ الشك، وتفتيت التماسك داخل المجتمعات والتحالفات، وتقويض الموقع الاستراتيجي للولايات المتحدة.

وفي الوقت نفسه، فإن لروسيا تاريخاً طويلاً في استخدام «التدابير الفعالة» والتضليل الإعلامي لتعطيل العمليات الديمقراطية، مُحسّنةً أساليبها لتشمل الأدوات والتكتيكات الرقمية للحرب المعرفية الحديثة.

لا تقتصر أدوات وأساليب الحرب المعرفية على ساحة المعركة. فالتقدم في علم الأعصاب يُثري التطبيقات التي تؤثر في كل شيء، من صنع القرار العسكري إلى قرارات الشراء والرأي العام.

وسائل التواصل الاجتماعي والاستقطاب والقلق

تربط الدراسات الآن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بتزايد الاستقطاب السياسي والقلق، لا سيما بين الشباب الذين غالباً ما يكونون أكثر تردداً في دعم سياسات الدفاع التقليدية. ولأن العديد من منصات التواصل الاجتماعي هذه خاضعة لسيطرة خصوم أجانب، فإن السكان أنفسهم الذين تعتمد عليهم النظم الديمقراطية للتواصل قد يُساهمون في زعزعة استقرارها.

وتُقر وزارة الدفاع وحلف شمال الأطلسي (الناتو) ودول حليفة مختلفة بأن للحرب المعرفية آثاراً عميقة على العمليات العسكرية والأمن القومي.

نهج لتشكيل السلوك العام

ومع ذلك، تفتقر السياسة الأميركية إلى نهج متماسك لكشف العمليات المعرفية ومواجهتها وتنفيذها.

من شأن هذا النهج أن ينظم: من، وماذا، وأين، وكيف تتعلق بالعمليات المعرفية. كما أنه سيربط - ويساعد في نهاية المطاف - على تسخير الإنجازات في علم الأعصاب والبيولوجيا التركيبية، والنمو الهائل للتقنيات ذات الاستخدام المزدوج، والدور المؤثر لتقنيات الأعمال والتسويق القائمة على الخوارزميات في تشكيل السلوك العام.

وفي ظل هذه المخططات التنظيمية، يُمكن لممارسي الحرب المعرفية في البنتاغون تصميم أدوات تحليلية لتحديد الجهات الفاعلة والعمليات والفضاءات والنتائج الرئيسية. ويمكن لصانعي القرار تطوير استراتيجيات مُضادة تُحيّد التهديدات وتستكشف فرص تحقيق ميزة استراتيجية.

ويجب أن يشمل هذا الإطار العمليات الهجومية والدفاعية على حد سواء، مع الأخذ في الاعتبار أن التطورات العلمية نفسها المستخدمة في الدفاع يمكن استغلالها أيضاً في العدوان المعرفي.

ينبغي على البنتاغون أن يستلهم نهجه من النهج المستخدم في العلوم السلوكية لتطوير الإطار، بقيادة مجلس علوم الدفاع أو هيئة مماثلة. ويبدأ تطوير الإطار ببناء «حالات استخدام»، أو سيناريوهات سردية توضح كيفية تفاعل الأفراد مع نظام ما لتحقيق الأهداف. وتُبنى حالات الاستخدام حول خمسة معايير: الجهات الفاعلة، والسياق، والموارد، والنتائج المتوقعة، وأصحاب المصلحة.

تعاون دولي حليف

سيتطلب هذا المجال تعاوناً دولياً. يُشكل هذا البُعد الجديد الطابع المستقبلي للحرب وكيفية فهمنا لنطاق الصراع. يتأثر أصدقاؤنا وشركاؤنا وحلفاؤنا بنفس القدر الذي نتأثر به. تنخرط الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية والقطاع التجاري جميعاً في سباق للتكيف والابتكار، حيث تُطوّر وتُجرّب مفاهيم عملياتية جديدة.

كما سيتطلب من صانعي السياسات التعامل مع الآثار الأخلاقية لنشر استراتيجيات معرفية تُؤثّر على السلوك.

حدود لتأمين خصوصية الأفراد

كيف يُمكن للولايات المتحدة حماية خصوصية الأفراد واستقلاليتهم في بيئة يتواصل فيها التلاعب المعرفي؟ ما هي الحدود القانونية للحرب المعرفية، وكيف يُمكن للتعاون الدولي مُعالجة هذه المُشكلة المُتطورة؟ علاوةً على ذلك، مع تزايد تعقيد التهديدات المعرفية، كيف يُمكننا تحصين البنى التحتية الحيوية ضد الهجمات التي تمزج بين العناصر الملموسة وغير الملموسة في الفضاء المعرفي؟

وكما تكيفت الولايات المتحدة مع وصول الأسلحة النووية، علينا أيضاً إعادة النظر في نهجنا تجاه الأمن القومي في هذا العصر الجديد. وهذا يعني دمج خبرات علم النفس وعلم الأعصاب وعلوم البيانات والأخلاقيات مع القدرات العسكرية والاستخباراتية التقليدية. ويعني أيضاً الاستفادة من رؤى جهات لا ترتبط عادةً بالدفاع، مثل مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي ووكالات الإعلان وكتاب الروايات ومنتجي الترفيه، وغيرهم.

* ضابط في البحرية الأميركية، باحث في مؤسسة أندرو دبليو مارشال ومعهد هدسون. مجلة «ديفنس وان»، خدمات «تريبيون ميديا».


مقالات ذات صلة

السعودية وأميركا تبحثان تعزيز شراكتهما في الذكاء الاصطناعي

الاقتصاد وزير الاتصالات وتقنية المعلومات السعودي عبد الله السواحه وكبير مستشاري البيت الأبيض للذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية ديفيد ساكس (وزارة الاتصالات)

السعودية وأميركا تبحثان تعزيز شراكتهما في الذكاء الاصطناعي

بحث وزير الاتصالات وتقنية المعلومات السعودي عبد الله السواحه مع كبير مستشاري البيت الأبيض للذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية ديفيد ساكس، سبل تعزيز الشراكة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
خاص رجل يقف تحت علمَي الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية في ساحة بمدينة جدة بالسعودية (أ.ب)

خاص بين «رؤية 2030» و«ستار غيت»... الذكاء الاصطناعي محور تحالف سعودي - أميركي جديد

تدخل السعودية وأميركا مرحلة تعاون استراتيجي جديدة تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي، بين «رؤية 2030» السعودية ومشروع «ستار غيت» الأميركي العملاق.

عبير حمدي (الرياض)
خاص جناح «آي بي إم» خلال «مؤتمر ليب 2025» في الرياض (الشركة)

خاص «آي بي إم»: السعودية مؤهلة لقيادة التحول الرقمي في الشرق الأوسط

بينما تستعد الرياض لاستقبال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعود الحديث مجدداً عن التحولات الجذرية التي تشهدها السعودية في المشهد الاقتصادي والتقني.

زينب علي (الرياض)
يوميات الشرق الجهاز يستخدم مادة خشبية شبيهة بالإسفنج لامتصاص الماء من الهواء وإطلاقه في كوب (المعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن)

جهاز «إسفنجي» يحوّل الهواء إلى ماء في دقائق

طوّر مهندسون من المعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن بأستراليا، بالتعاون مع باحثين صينيين، جهازاً قادراً على جمع الماء من الهواء.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
تكنولوجيا النظام الجديد يمكن توسيعه ليشمل نحو 100 لغة (جامعة ماكاو)

سمّاعات ذكية تترجم لعدة متحدثين في وقت واحد

طوّر باحثون من جامعة واشنطن الأميركية نظام سماعات رأس ذكية يمكنها ترجمة حديث عدة أشخاص في الوقت نفسه.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان
TT

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

لمدة قرنين تقريباً، حيَّر البيليروبين -وهو صبغة صفراء تنتج عندما تتحلل خلايا الدم الحمراء- العلماء. وبينما يتسبب تراكمه في حدوث اليرقان، مما يحوِّل الجلد والعينين إلى اللون الأصفر، ظل الإنزيم المسؤول عن تحلله لغزاً. والآن، حددت دراسة بارزة نُشرت في مجلة «Nature Microbiology» هذا الإنزيم المراوغ وهو: إنزيم اختزال البيليروبين (BilR)، الذي تُنتجه بكتيريا الأمعاء.

لغز البيليروبين

لا يحل هذا الاكتشاف لغزاً بيولوجياً طويل الأمد فحسب، بل يكشف أيضاً عن كيفية مساهمة الاضطرابات في ميكروبيوم أمعائنا في أمراض مثل مرض التهاب الأمعاء (IBD) واليرقان عند حديثي الولادة.

والبيليروبين هو منتج نفايات يتم إنتاجه في أثناء إعادة تدوير الهيموغلوبين من خلايا الدم الحمراء المتقدمة في العمر. وفي العادة تجري معالجة البيليروبين بواسطة الكبد، ثم يتم إفرازه في الأمعاء، ثم يتم تكسيره بواسطة البكتيريا أو إعادة امتصاصه. ويؤدي الإفراط في إعادة الامتصاص إلى فرط بيليروبين الدم، مما يسبب اليرقان. وفي الحالات الشديدة قد يسبب تلف الأعصاب.

بحلول سبعينات القرن العشرين اشتبه الباحثون في أن البشر يفتقرون إلى الإنزيم اللازم لتحلل البيليروبين داخلياً واعتمدوا بدلاً من ذلك على ميكروبات الأمعاء. ومع ذلك فقد ثبت أن تحديد اللاعبين البكتيريين الدقيقين -وآلياتهم الجينية- غير مجدٍ لعقود من الزمن.

فك الشفرة

تعاون شياوفانغ جيانغ، عالم الأحياء الحاسوبية في المعاهد الوطنية للصحة، وبرانتلي هول، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة «ماريلاند»، للعمل على فرضية بسيطة: مقارنة الجينات في البكتيريا التي تهضم البيليروبين بتلك التي لا تعالج هذه الصبغة. ولكن مع وجود عدد قليل فقط من البكتيريا الهاضمة المعروفة، كان عليهم أولاً توسيع قائمة المشتبه بها.

وباستخدام اختبار جديد قائم على الفلورسنت، عرّض الفريق مزارع بكتيرية للبيليروبين واليود. وعندما يتحلل البيليروبين تتفاعل منتجاته الثانوية مع اليود لإصدار الضوء. وقد كشفت هذه الطريقة عن تسعة أنواع جديدة كلها ضمن البكتيريا المؤتلفة Firmicutes phylum (هي شعبة من البكتيريا معظمها يحتوي على جدران خلوية من النوع موجبة الجرام) قادرة على هضم الصبغة.

بعد ذلك، كشفت المقارنات الجينومية عن جين مشترك بين هذه الأنواع: «إنزيم من نوع أوكسيدوردوكتاز» يستهدف على الأرجح الروابط المزدوجة الأربعة للبيليروبين بين ذرات الكربون. وللتأكد من ذلك نقل الباحثون الجين إلى بكتيريا غير قادرة على الهضم. ومن المثير للدهشة أن هذه الميكروبات المعدلة وراثياً اكتسبت قدرات كاملة على إجراء تحلل البيليروبين.

وقال هول: «افترضت النظريات السابقة أن هناك حاجة إلى أربعة إنزيمات منفصلة. لكن إنزيم اختزال البيليروبين وحده يتعامل مع الروابط الأربعة. إنه (سكين الجيش السويسري) في الكيمياء الحيوية».

ثم قام الفريق بتحليل 1801 ميكروبيوم أمعاء بالغ سليم، ووجدوا إنزيم اختزال البيليروبين في 99.9 في المائة من الأفراد، على الرغم من الاختلافات الشاسعة في التركيب الميكروبي. قال جيانغ: «هذا الإنزيم هو حماية بشرية عالمية». ومع ذلك، تتغير الصورة في حالات المرض: أكثر من 30 في المائة من مرضى التهاب الأمعاء، و70 في المائة من الأطفال حديثي الولادة الذين تقل أعمارهم عن شهر واحد يفتقرون إلى البكتيريا المنتجة إنزيم اختزال البيليروبين.

قد يفسر هذا الغياب سبب الإصابة باليرقان عند الأطفال حديثي الولادة بنسبة 60 في المائة من الرضع. وأشار هول إلى أن «ميكروبيوم الأمعاء لم يتم تأسيسه بالكامل عند الولادة، ومن دون إنزيم اختزال البيليروبين، ترتفع إعادة امتصاص البيليروبين، مما يتسبب في الاصفرار الذي نراه». وبالمثل، يمكن أن يؤدي خلل التوازن المعوي المرتبط بالتهاب الأمعاء إلى تفاقم تراكم البيليروبين، مما قد يؤدي إلى تفاقم الالتهاب.

من الاكتشاف إلى العلاج

وقد وصف زاكاري كيب، وهو عالم عقاقير في جامعة كنتاكي غير مشارك في الدراسة، تحديد إنزيم اختزال البيليروبين بأنه «علامة فارقة تفتح الأبواب لاستهداف البيليروبين في أمراض مثل تليف الكبد أو الاضطرابات الوراثية». ومن جهته سلَّط تيري هيندز، وهو باحث مستقل آخر، الضوء على الاحتمالات الانتقالية: «هل يمكننا إنشاء البروبيوتيك باستخدام إنزيم اختزال البيليروبين لعلاج اليرقان؟ أو هندسة نماذج الفئران لدراسة آثاره؟».

ويتطلع جيانغ وهول بالفعل إلى ما هو أبعد من إنزيم اختزال البيليروبين. وأعلنا: «هذا جزء واحد من لغز أكبر. تشفِّر بكتيريا الأمعاء عدداً لا يُحصى من الإنزيمات غير المعروفة المهمة لصحة الإنسان. يمكن أن تساعدنا المعلوماتية الحيوية في العثور عليها».

وتؤكد الدراسة الإدراك المتزايد: تعتمد صحة الإنسان على رقصة تكافلية مع سكاننا الميكروبيين. ويوضح دور إنزيم اختزال البيليروبين في استقلاب البيليروبين كيف تعوِّض بكتيريا الأمعاء «الفجوات» الجينية البشرية. ومع ذلك، وكما أكد هول، «فإن فهم هذا الحوار بين المضيف والميكروبيوم هو المفتاح لاكتشاف علاجات جديدة».

وفي حين أن اكتشاف إنزيم اختزال البيليروبين يعد نوعاً من التحول، فإن الأسئلة لا تزال قائمة. لماذا يفتقر بعض البالغين إلى هذه البكتيريا على الرغم من عدم وجود مرض واضح؟ هل يمكن لمكملات إنزيم اختزال البيليروبين تقليل البيليروبين في الفئات المعرَّضة للخطر؟ وهل يمكن لاستعادة الميكروبات المنتجة لإنزيم اختزال البيليروبين أن تخفِّف من حالات مثل مرض التهاب الأمعاء؟

في الوقت الحالي، جعلَ الفريقُ التسلسلَ الجيني لإنزيم اختزال البيليروبين متاحاً للجمهور، وحثّوا الباحثين العالميين على البناء على نتائج عملهم.