إعادة التحليل الجيني تنجح في تشخيص مئات الأمراض النادرة «المجهولة»

رصدت سرطانات وراثية في الجهاز الهضمي وأمراضاً عصبية عضلية

إعادة التحليل الجيني تنجح في تشخيص مئات الأمراض النادرة «المجهولة»
TT

إعادة التحليل الجيني تنجح في تشخيص مئات الأمراض النادرة «المجهولة»

إعادة التحليل الجيني تنجح في تشخيص مئات الأمراض النادرة «المجهولة»

في تقدم ملحوظ في مجال أبحاث الأمراض النادرة حصل أكثر من 500 مريض أوروبي كانوا يعانون من حالات مجهولة، على تشخيصات دقيقة بفضل تعاون رائد بين مؤسسات علمية أوروبية متعددة. وقد ساعدت هذه الجهود في تقديم تفسير واضح للمرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية نادرة مثل الإعاقات الذهنية الشديدة والسرطانات الوراثية في الجهاز الهضمي وأمراض عصبية عضلية.

تحديات الأمراض النادرة

تُصنف الأمراض النادرة في الاتحاد الأوروبي على أنها تلك التي تصيب أقل من خمسة أفراد لكل 10 آلاف شخص. ويوجد أكثر من 7 آلاف مرض نادر معروف 70 في المائة منها لها أسباب جينية، حيث يعد تشخيص هذه الحالات تحدياً هائلاً. وغالباً ما تجعل ندرة هذه الأمراض التعرف على المتغيرات الجينية المسبِّبة أمراً معقداً حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.

وقدمت نتائج الأبحاث إجابات غيَّرت حياة المرضى وأسرهم، حسب الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Medicine» في 17 يناير(كانون ثاني) 2025. وقاد هذا المشروع باحثون من جامعة توبنغن بألمانيا، والمركز الطبي لجامعة رادبود بهولندا، والمركز الوطني لتحليل الجينوم في برشلونة بإسبانيا.

ومن خلال مبادرة «حل الأمراض النادرة التي لم يتم حلها Solve-RD - solving the unsolved rare diseases»، حلّل الباحثون بيانات الجينوم لستة آلاف و447 مريضاً وثلاثة آلاف و197 من أفراد الأسرة غير المصابين. وقد أسفر عملهم عن تشخيصات لـ506 مرضى. في 15 في المائة من هذه الحالات جرى تحديد مؤشرات قابلة للتنفيذ مثل العلاجات المحتملة فيما قدمت التشخيصات وضوحاً أساسياً لكثير من المرضى الآخرين.

إطار موحد للتشخيص

وقد اعتُمد نهج حل الأمراض النادرة بدعم من 300 خبير من 12 دولة أوروبية وكندا على نظام مراجعة خبراء من مستويين استغل خبرات متخصصين في علم الوراثة السريرية وعلوم البيانات وأبحاث الأمراض النادرة. ومن خلال توحيد المنهجيات التشخيصية عبر شبكات المراجع الأوروبية المعروف بـ«التحالف الأوروبي لأبحاث الأمراض النادرة» ، European Rare Disease Research Alliance (ERDERA)، تم إنشاء إطار موحد لتحليل البيانات الجينية بغضّ النظر عن مكان وجود المريض، مما يضمن حصول المرضى في مختلف الدول على نفس مستوى الرعاية والخبرة.

ويعدّ نجاح حل الأمراض النادرة نموذجاً لمبادرة التحالف الأوروبي لأبحاث الأمراض النادرة، وهي مبادرة جديدة تهدف إلى توسيع إطار التشخيص. وبمشاركة أكثر من 180 منظمة بقيادة المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية (French National Institute of Health and Medical Research INSERM) في فرنسا، يتم التخطيط لتوسيع نطاق إعادة تحليل البيانات الجينية ليشمل أكثر من 100 ألف مجموعة بيانات لأمراض نادرة.

تقنيات جينومية مبتكرة

تقود تقنيات مثل تسلسل الجينوم طويل القراءة لتحديد الطفرات الهيكلية والمركّبة، ورسم الخرائط الجينية البصرية، للحصول على عرض عالي الدقة لإعادة ترتيب الجينات وتسلسل الحامض النووي الريبي RNA لكشف التغيرات في مستويات التعبير المرتبطة بالأمراض. وهو ما يسرع من أداء التشخيصات للمرضى الذين لا يزالون دون تشخيص واستكشاف تدخلات علاجية مستهدفة.

وقال هولم غراسنر، من معهد علم الوراثة الطبية وعلم الجينوم التطبيقي بجامعة توبنغن بألمانيا والمشارك في الدراسة، إن نجاح الفريق في تشخيص أكثر من 500 مريض يمثل خطوة بارزة في أبحاث الأمراض النادرة. وسيجري توسيع هذا النهج مع المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية لمساعدة مزيد من المرضى والأسر في جميع أنحاء أوروبا. ومن بين الإنجازات البارزة كان تشخيص مريض عاش مع حالة غير مشخصة لمدة 20 عاماً.

وأشارت ليسينكا فيسرز، من قسم علم الوراثة البشرية بالمركز الطبي لجامعة رادبود بهولندا والمشاركة في الدراسة، إلى أهمية إعادة تحليل مجموعات البيانات الضخمة وقالت إن إعادة تحليل بيانات المرضى أتاحت لهم العثور على أنماط وتقديم تشخيصات للمرضى الذين ظلوا بلا تشخيص لفترات طويلة، وهو ما يبرز قوة دمج البيانات والتعاون.

واكد ألكساندرهويسن، أستاذ تقنيات الجينوم في جامعة رادبود بهولندا والمشارك الرئيسي في الدراسة، أن «هذا الجهد يُظهر الإمكانات الهائلة للتعاون الأوروبي. ورغم أننا اعتمدنا على بيانات موجودة فإننا نأمل في تحقيق اكتشافات جديدة وتقديم حلول علاجية في المستقبل».

ويمثل نجاح «حل الأمراض النادرة التي لم يتم حلها»، (Solve-RD)، لحظة تحوّل في دراسة الاضطرابات الجينية النادرة. وقد أثبت الباحثون من خلال استغلال الخبرات التعاونية والتقنيات الجينومية المتطورة إمكانات «الطب الدقيق» في تقديم الوضوح والحلول القابلة للتنفيذ للمرضى المصابين بأمراض نادرة. ومن خلال مبادرات «التحالف الأوروبي لأبحاث الأمراض النادرة» يتجه الباحثون نحو تحقيق تقدم كبير مما يوفر الأمل لعدد لا يُحصى من الأفراد والعائلات المتأثرين بهذه الحالات الصعبة التي يمكن أن تغير الحياة.


مقالات ذات صلة

«أطباء بلا حدود» تعلن استئناف أنشطتها بمستشفى «بشائر» في جنوب الخرطوم بالسودان

العالم العربي حركة مواطنين في أحد شوارع العاصمة الخرطوم (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أطباء بلا حدود» تعلن استئناف أنشطتها بمستشفى «بشائر» في جنوب الخرطوم بالسودان

أعلنت منظمة «أطباء بلا حدود»، الأحد، أنها ستستأنف أنشطتها في مستشفى «بشائر» التعليمي الواقع في جنوب الخرطوم بعد توقف استمر 4 أشهر.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
صحتك أظهر بحث حديث أن الغسالات المنزلية غالباً ما تفشل في تعقيم الملابس (موقع بيكسلز)

باحثون: غسل الملابس في المنزل لا يعقِّم ملابس الأطباء

حذَّر باحثون من أن العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يغسلون ملابس العمل في المنزل، ربما يساهمون دون قصد في انتشار حالات العدوى المقاومة للمضادات الحيوية.

يوميات الشرق الحبّ بمرتبة النُبل (أ.ب)

أمٌ تتبرَّع بكليتها... وابنتها تردّ الجميل بالعباءة البيضاء

اضطُرَّت أمبريال براون لسنوات إلى تعليق أحلامها بأن تصبح ممرضة، بسبب مرض في الكلى هدَّد حياتها وجعلها عاجزة مؤقتاً... إليكم قصتها.

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
صحتك مكعبات من الثلج تظهر داخل كوب (د.ب.أ)

هل من الآمن استخدام الثلج لعلاج الحروق؟

قبل ظهور الطب الحديث، كانت العلاجات المنزلية للحروق تتطلب استخدام منتجات موجودة عادة في المطبخ، بما في ذلك الزبدة أو الزيت، وبياض البيض والثلج.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك آزاد نجار يعمل على تطوير قلب اصطناعي في السويد (الشرق الأوسط)

آزاد النجار... الطبيب الذي طمح لقلب لا يُخطئ النبض

صمّم الطبيب آزاد نجار أن يبدأ محاولةً لتطوير قلب اصطناعي شبيه بالقلب الطبيعي. وشجَّعه على ذلك تخصصه الطبي وإلمامه بفسلجة القلب وشغفه بهذا العضو المهم في الجسم.

«الشرق الأوسط» (باريس)

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان
TT

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

اكتشاف إنزيم في بكتيريا الأمعاء يمنع اليرقان

لمدة قرنين تقريباً، حيَّر البيليروبين -وهو صبغة صفراء تنتج عندما تتحلل خلايا الدم الحمراء- العلماء. وبينما يتسبب تراكمه في حدوث اليرقان، مما يحوِّل الجلد والعينين إلى اللون الأصفر، ظل الإنزيم المسؤول عن تحلله لغزاً. والآن، حددت دراسة بارزة نُشرت في مجلة «Nature Microbiology» هذا الإنزيم المراوغ وهو: إنزيم اختزال البيليروبين (BilR)، الذي تُنتجه بكتيريا الأمعاء.

لغز البيليروبين

لا يحل هذا الاكتشاف لغزاً بيولوجياً طويل الأمد فحسب، بل يكشف أيضاً عن كيفية مساهمة الاضطرابات في ميكروبيوم أمعائنا في أمراض مثل مرض التهاب الأمعاء (IBD) واليرقان عند حديثي الولادة.

والبيليروبين هو منتج نفايات يتم إنتاجه في أثناء إعادة تدوير الهيموغلوبين من خلايا الدم الحمراء المتقدمة في العمر. وفي العادة تجري معالجة البيليروبين بواسطة الكبد، ثم يتم إفرازه في الأمعاء، ثم يتم تكسيره بواسطة البكتيريا أو إعادة امتصاصه. ويؤدي الإفراط في إعادة الامتصاص إلى فرط بيليروبين الدم، مما يسبب اليرقان. وفي الحالات الشديدة قد يسبب تلف الأعصاب.

بحلول سبعينات القرن العشرين اشتبه الباحثون في أن البشر يفتقرون إلى الإنزيم اللازم لتحلل البيليروبين داخلياً واعتمدوا بدلاً من ذلك على ميكروبات الأمعاء. ومع ذلك فقد ثبت أن تحديد اللاعبين البكتيريين الدقيقين -وآلياتهم الجينية- غير مجدٍ لعقود من الزمن.

فك الشفرة

تعاون شياوفانغ جيانغ، عالم الأحياء الحاسوبية في المعاهد الوطنية للصحة، وبرانتلي هول، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة «ماريلاند»، للعمل على فرضية بسيطة: مقارنة الجينات في البكتيريا التي تهضم البيليروبين بتلك التي لا تعالج هذه الصبغة. ولكن مع وجود عدد قليل فقط من البكتيريا الهاضمة المعروفة، كان عليهم أولاً توسيع قائمة المشتبه بها.

وباستخدام اختبار جديد قائم على الفلورسنت، عرّض الفريق مزارع بكتيرية للبيليروبين واليود. وعندما يتحلل البيليروبين تتفاعل منتجاته الثانوية مع اليود لإصدار الضوء. وقد كشفت هذه الطريقة عن تسعة أنواع جديدة كلها ضمن البكتيريا المؤتلفة Firmicutes phylum (هي شعبة من البكتيريا معظمها يحتوي على جدران خلوية من النوع موجبة الجرام) قادرة على هضم الصبغة.

بعد ذلك، كشفت المقارنات الجينومية عن جين مشترك بين هذه الأنواع: «إنزيم من نوع أوكسيدوردوكتاز» يستهدف على الأرجح الروابط المزدوجة الأربعة للبيليروبين بين ذرات الكربون. وللتأكد من ذلك نقل الباحثون الجين إلى بكتيريا غير قادرة على الهضم. ومن المثير للدهشة أن هذه الميكروبات المعدلة وراثياً اكتسبت قدرات كاملة على إجراء تحلل البيليروبين.

وقال هول: «افترضت النظريات السابقة أن هناك حاجة إلى أربعة إنزيمات منفصلة. لكن إنزيم اختزال البيليروبين وحده يتعامل مع الروابط الأربعة. إنه (سكين الجيش السويسري) في الكيمياء الحيوية».

ثم قام الفريق بتحليل 1801 ميكروبيوم أمعاء بالغ سليم، ووجدوا إنزيم اختزال البيليروبين في 99.9 في المائة من الأفراد، على الرغم من الاختلافات الشاسعة في التركيب الميكروبي. قال جيانغ: «هذا الإنزيم هو حماية بشرية عالمية». ومع ذلك، تتغير الصورة في حالات المرض: أكثر من 30 في المائة من مرضى التهاب الأمعاء، و70 في المائة من الأطفال حديثي الولادة الذين تقل أعمارهم عن شهر واحد يفتقرون إلى البكتيريا المنتجة إنزيم اختزال البيليروبين.

قد يفسر هذا الغياب سبب الإصابة باليرقان عند الأطفال حديثي الولادة بنسبة 60 في المائة من الرضع. وأشار هول إلى أن «ميكروبيوم الأمعاء لم يتم تأسيسه بالكامل عند الولادة، ومن دون إنزيم اختزال البيليروبين، ترتفع إعادة امتصاص البيليروبين، مما يتسبب في الاصفرار الذي نراه». وبالمثل، يمكن أن يؤدي خلل التوازن المعوي المرتبط بالتهاب الأمعاء إلى تفاقم تراكم البيليروبين، مما قد يؤدي إلى تفاقم الالتهاب.

من الاكتشاف إلى العلاج

وقد وصف زاكاري كيب، وهو عالم عقاقير في جامعة كنتاكي غير مشارك في الدراسة، تحديد إنزيم اختزال البيليروبين بأنه «علامة فارقة تفتح الأبواب لاستهداف البيليروبين في أمراض مثل تليف الكبد أو الاضطرابات الوراثية». ومن جهته سلَّط تيري هيندز، وهو باحث مستقل آخر، الضوء على الاحتمالات الانتقالية: «هل يمكننا إنشاء البروبيوتيك باستخدام إنزيم اختزال البيليروبين لعلاج اليرقان؟ أو هندسة نماذج الفئران لدراسة آثاره؟».

ويتطلع جيانغ وهول بالفعل إلى ما هو أبعد من إنزيم اختزال البيليروبين. وأعلنا: «هذا جزء واحد من لغز أكبر. تشفِّر بكتيريا الأمعاء عدداً لا يُحصى من الإنزيمات غير المعروفة المهمة لصحة الإنسان. يمكن أن تساعدنا المعلوماتية الحيوية في العثور عليها».

وتؤكد الدراسة الإدراك المتزايد: تعتمد صحة الإنسان على رقصة تكافلية مع سكاننا الميكروبيين. ويوضح دور إنزيم اختزال البيليروبين في استقلاب البيليروبين كيف تعوِّض بكتيريا الأمعاء «الفجوات» الجينية البشرية. ومع ذلك، وكما أكد هول، «فإن فهم هذا الحوار بين المضيف والميكروبيوم هو المفتاح لاكتشاف علاجات جديدة».

وفي حين أن اكتشاف إنزيم اختزال البيليروبين يعد نوعاً من التحول، فإن الأسئلة لا تزال قائمة. لماذا يفتقر بعض البالغين إلى هذه البكتيريا على الرغم من عدم وجود مرض واضح؟ هل يمكن لمكملات إنزيم اختزال البيليروبين تقليل البيليروبين في الفئات المعرَّضة للخطر؟ وهل يمكن لاستعادة الميكروبات المنتجة لإنزيم اختزال البيليروبين أن تخفِّف من حالات مثل مرض التهاب الأمعاء؟

في الوقت الحالي، جعلَ الفريقُ التسلسلَ الجيني لإنزيم اختزال البيليروبين متاحاً للجمهور، وحثّوا الباحثين العالميين على البناء على نتائج عملهم.